الفصل الخامس عشر
كانت سميرة هانم تجلس إلى ولدَيها وابنتها نادية في حجرتها التي اتخذوها مكانًا يقضون به يومهم إن لم يكن لديهم زائر، وتنقلت سميرة هانم بعينَيها على وجوه أبنائها ثم قالت في نفسها: «نحمدك يا رب ونشكر فضلك، أخذت المال والعائل وتركت البنين، أكمل كرمك يا رب وبارك فيهم.» ومست فؤادها نفحة من راحة لا تلبث تهفو إلى القلوب الحزينة فتمنحها إشراقًا وأملًا. وفي غمرة من هذا الإشراق قالت الأم لخيري: هيه يا معلم، ألم تنته من مكتبتك؟
وضحك يسري ونادية، وارتج على خيري لحظات، فقد كان غارقًا في تلك الآونة يفكر في شأنه وشأن وفية، وقد أخذت بمجامع نفسه أفكار تتأرجح بين اليأس القاتل والأمل الواهن لا يكاد يبين. وأدركت الأم بحاستها ما يفكر فيه. أدركته بهذه الضحكة المضطربة التي أطلقها تعليقًا على سؤالها. وأرادت أن تتأكد مما أدركت، فالتفتت إلى يسري تسأله: هيه يا يسري، ألم تذهب اليوم إلى بيت عمك عزت؟
وكانت عيناها ترقبان خيري، فرأته يفيق تمامًا إلى اسم البيت الذي ذُكر أمامه.
وقالت نادية وكأنما تذكرت شيئًا: قل لي يا يسري، لماذا تذهب وحدك إلى بيت عمي عزت؟ لمَ لا تأخذني معك لألعب مع فايزة؟
وقال يسري: يا عبيطة، وهل ألعب معها؟ إني ألاعبها، أرسم لها وأصنع لها البيوت. أتعرفين أنت كيف تلاعبينها؟ إنك ستتكلمين وتتكلمين وتجعلينها تبكي لأنها لا تسمعك.
وقال خيري: والله فيك الخير يا يسري. وماذا تصنع لها أيضًا؟
– ألاعبها، أظل أنا ودولت نلاعبها، وأحيانًا تطلب دولت إليَّ أن أبقى معها وتتركنا هي لتستريح.
وقال خيري في خُبث: هيه؟
– هيه ماذا؟!
– أهي دولت؟!
وقال يسري في لعثمة وسرعة: مالها دولت؟
– لا، لا شيء، ولكنك قلت لي إنها حلوة ولطيفة.
واحمر وجهه خجلًا وهو يقول: وماله؟
وأغرقت سميرة هانم في الضحك وهي تقول: وكيف عرفت أنها حلوة ولطيفة يا سي يسري؟!
وقال يسري في غضب: وهل أنا عيل؟!
– لا، العفو.
– والله لأتركنكم، لن أقعد معكم.
وقال خيري: وأين تذهب؟ إلى دولت، أقصد إلى فايزة.
وأسرعت نادية تقول في براءة: خذني معك.
ولحقت بأخيها الذي كان قد غادر الحجرة تاركًا خلفه ضحكًا يملأ أرجاءها. ملأ الضحك الغرفة هنيهات، ثم أعقبه ذلك الجو الذي تعود أن يواكب الضحك أنى يكون. والتفتت الأم إلى ولدها تقول له: خيري!
– نعم يا نينا.
– ألا تعرف أن عندي مجوهرات كثيرة؟
– أعرف يا نينا.
– لماذا لم تسألني عنها؟
– ولماذا أسألك؟
– كان من الطبيعي أن تسأل، لعلها تنفعك الآن!
– بل ستنفعنا غدًا حين تزوجين نادية، وحين يتخرج يسري ويريد الزواج وتكون الأحوال قد تعدلت. وتنفعنا إذا — لا قدر الله — صادفتنا عقبات في حياتنا هذه الجديدة.
– أبقاك الله يا خيري، أتدري لماذا أكلمك عنها الآن؟
– لا والله لا أدري!
– أريد أن أختار منها شبكة لك، وأبيع واحدًا من العقود وأجعل ثمنه مهرًا لوفية.
ونظر خيري إلى أمه طويلًا ثم قال: أترضين لي ذلك يا نينا؟
– ما هو الذي أرضاه؟
– أترضين أن أتزوجها فتصبح هي الزوج وأنا الزوجة؟! لماذا تتزوج فقيرًا لا يحمل شهادة؟ وأين أسكنها؟ وماذا تفعلون أنتم؟
– وهل ستظل بلا شهادة، ألا تذاكر مع نجيب؟
– آمال يا نينا، أتظنين أن هذه المذاكرة تفيد؟ وعلى كل حال افرضي أني نلت الليسانس، وبعد؟
– كل شيء يمكن تدبيره.
– لا يا نينا، أنت تعرفين أن هذا لا يمكن تدبيره أبدًا، وأظنك لا تقبلين أن أتزوج منها وأعيش على نفقة أبيها، وأضطر لإجهاد نفسي حتى لا أضيع كرامتي كلها، فلا أستطيع أن أقوم بواجبي نحوكم.
– يا بني نخطبها وتتزوج حين تتخرج.
– وأترككم؟!
– يكون يسري كبر.
– أتريدين أن يترك يسري المدارس أيضًا ليقنع بوظيفة بالبكالوريا مثلي، لا يمكن. إن كانت الظروف حكمت ألا أنال أنا الشهادة العالية فلا بد أن ينالها يسري.
– ماذا أقول لك يا بني؟ أنا أعرف مكانها في نفسك، وأشفق عليك، ولكني أرى رأيك كاملًا، عوَّضَ الله صبرك خيرًا يا بني و…
ودق جرس الباب الخارجي، ومرت الحاجة زينب بهما لتفتحه، وما لبثت دولت أن دخلت عليهما الحجرة.
– إجلال هانم ترجوك أن تتفضلي بزيارتها لأنها متعبة، ولم تستطع المجيء معي.
– طيب يا بنتي، انتظريني حتى أتوضأ وأصلي المغرب.
– حاضر.
وقعدت دولت، وقامت سميرة هانم وتركت الحجرة تخلو بالاثنين، وما لبثت دولت أن قالت: ماذا … لماذا لا نراك؟ إن جئت لا تصعد، وإنما تكتفي بلقاء البك ثم تمضي … ماذا جرى؟ أليس لك أحد تسأل عنه؟
– والله …
– إن كنت لا تريد أن تسأل عن وفية فاسأل عن فايزة، أو عن التي أحضرتها لفايزة.
– أنا مطمئن على أخبارك من يسري.
وضحكت دولت ضحكة فيها دعابة وقالت: آه، أيكفي هذا؟ المهم، معي رسالة لك.
– ماذا؟
– فكرت ألا أعطيها لك، ولكن خشيت أن تعرف وفية أنني … المهم، لم أستطع حجزها، هذه هي الرسالة، اقرأها وقل الجواب.
وفتح خيري الرسالة، كانت سطرًا واحدًا: «أرجو أن أراك غدًا في الساعة السابعة بالسلاملك.»
ارتج على خيري لا يدري بماذا يجيب، لكم يهفو إلى الذهاب، ولكن كم من العراقيل تقف دونه. يريد أن يقول نعم فتمسك بلسانه آلاف الحجج التي أقامها في نفسه. ظل ينظر إلى الرسالة ثم ينظر إلى دولت فيرى على فمها ابتسامة فيها سرور، ويرى في عينَيها إشفاق أن يوافق، ثم يسمعها تقول: «هيه، ماذا أقول لها؟» وقبل أن يجيب تدخل أمه فتنقذه من هذه الحيرة التي ألقته إليها الرسالة. وتقيم الأم الصلاة ثم ما تلبث أن تخرج من الحجرة تتبعها دولت التي لم تشأ أن تنظر إليه منذ دخلت أمه؛ حتى لا تضطر أن ترى موافقته على الذهاب في إيماءة خافية.