الفصل السابع عشر
إنه ابن أبيه، كان لا بد لي أن أتوقع منه هذا. كنت أريد أن أجعل منه أخًا لمحسن، وكنت آمل أن أعينه على العيش، فلا يحتاج إلى الوظيفة ويتفرغ للدرس، وكنت أؤدي واجبي نحو صديقي وابن عمي وأخي، وكنت أيضًا أضحي بابنتي وألقي بها إلى بيت يقوم على مالها وحده، آملًا — والأمل ضعيف — أن يكبر زوجها على الأيام، بل على السنين، والكثير الكثير من السنين. إنها تريده، وأعلم ذاك، ولكن منذ متى استطاعت فتاة في هذه السن الباكرة أن تتبين الطريق الأقوم لتسير فيه. إني أحب خيري وأقدره وما زال تقديري له يزداد منذ مات أبوه، ولكن حبي وتقديري لا يمنعان أن أرى الحقيقة واضحة جلية، إنه فقير بلا شهادة، وعليه لأسرته واجبات يصر على القيام به، وهو محق في إصراره. فإن كان خير وفية وحده هو ما أستهدفه فزواجها من جميل أجدى، ومستقبلها في ظله أثبت، وقد أديت واجبي وأدى خيري واجبه. وأنا بعد سأظل راعيًا لهم لا أتركهم، ولعل إكباري لخيري يجعل مكانه مني مكان الصهر القريب. لقد جعلني موقفه أكثر اطمئنانًا على مستقبل ابنتي، وهو لهذا جدير مني بالشكر، وسيكون شكري أن أجعل من نفسي أبًا له.
مسكينة وفية، لا شك أنها ستتألم، ولكن ألم الشباب سريع الزوال. مسكينة! لقد شبت وهمس صويحباتها والسيدات من حولها لا يني يذكرها أنها عروس خيري. لقد كان فتى آمالها، عاشت ترى فيه زوج المستقبل، أعرف هذا وهي تدري أنني أعرفه. وقد حاولت، بل لقد بذلت في محاولتي ما لم يبذله أب آخر، لقد خطبت أنا لابنتي ورُفضت خطبتي. لا أستطيع أن ألوم نفسي في يوم إذا رأيتها حزينة أن لم يتم زواجها من خيري.
وبعد، فما دامت لم تتزوج خيري فالكل عندها سواء، وجميل خير من يصلح لها، وهو في السلك السياسي، فهي لن تقيم في مصر وتستطيع البلاد التي تزورها أن تنسيها ما كان في مصر من آمال محترقة، لعلهما يسافران إلى أوروبا، فأجد بيتًا حين أسافر هناك وأستغني عن الفنادق وما ألاقيه فيها من متاعب. نعم إن بيت ابنتي سيكلفني أجرًا أغلى، ولكنه خير من الفنادق على أي حال؟ وعون ابنتي أمر لا بد منه، سواء أنزلت بفندق أم نزلت ببيتها. ونظمي باشا السيد من كبراء رجال الحزب، وأستطيع بهذا الزواج أن أضمه إلى جانبي كلما اقتضى الأمر عونًا إلى جانبي. وها أنا ذا مرشح للوزارة في التعديل القادم القريب. لو كنت رفضت هذا الزواج، لعارض هو ترشيحي للوزارة. أمَّا الآن فلا بد أن يؤيدني. عجيبة؟! لقد كنت ناسيًا مسألة الوزارة هذه، أما كنت أقدر أن رفض جميل كان سيطيح بكرسي الوزارة؟ لا لم أكن ناسيًا. لقد خطرت هذه الخاطرة بذهني، ولكن وفائي لهمام كان يحتم عليَّ أن أفعل ما فعلت، أحمد الله أني لم أصغر أمام نفسي، وشاء الله الكريم وشاء خيري — حفظه الله — أن يرد إليَّ وفائي بالخير العميم.
لم يعد أمامي الآن مشكلة إلا إقناع وفية. ولكن ليست هذه مشكلتي، إنها مشكلة إجلال. مسكينة إجلال، مصيبتها في فايزة تكبر مع الأيام، فأنا أخرج وأعمل ولا أقيم في البيت إلا قليل وقت، أمَّا هي فلا تبارحه ولا تبارح فايزة أو هي لا تكاد. لعل دولت ترفع عنها بعض العبء فهي تلاعب فايزة وتصاحبها أغلب الوقت. ولكن من للعبء الذي تحمله إجلال في نفسها! من لهذا العبء! ودولت إلى متى تقيم هنا! أرى محسن كثير النظر إليها، ترى هل بينهما شيء؟ لكم أخشى، ولكن إجلال يقظة، ولعل محسن يقدر الظروف التي جاءت بدولت فلا يعدو عليها ويكتفي بالنقود الكثيرة التي يصيبها مني، والتي يدَّعي أنه يأخذها للكتب، يا له من أبله؟ أيظنني لا أعرف أين ينفقها؟ لو شئت لكشفت حيله ولذكرت له الأمكنة التي يرودها، ولكن ما شأني أنا؟ إنه شاب فليعش كشاب ما دام ينجح آخر العام وما دام يحسب أنني أجهل أمره ويبذل كل جهده أن يظل أمره خافيًا عني، فلأظل أمامه جاهلًا لعل في جهلي ما يجعله رزينًا في تصرفاته. لقد كنت مثله، وإن كانت النسوة اليوم أكثر تحرُّرًا وأقرب منالًا، ولكن أيستطيع أن يتمتع مثلما تمتعت؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ المتعة مسألة نسبية، ولعله يحس بها أكثر مما كنت أحس، أحاول أن أطمئن نفسي أن متعتي أكبر من متعته. ماذا يهم أن تكون أكبر أو أصغر ما دمت أنا تمتعت وملأت المتعة نفسي في أيام الشباب؟ ما لي تركت هذه الأجواء جميعًا منذ تزوجت؟ أما كان هذا طبيعيًّا؟ في الأمر نظر. بعضهم يراه طبيعيًّا وبعضهم لا يراه. نعم الناس يعرفونني، والشهرة تقيد العربدة. ولكن أكان لا بد لي من العربدة العلنية؟ إنني لم أكلف بها في يوم من الأيام. فيمَ أفكر؟ أريد أن أعيد الشباب. هيهات، لتكن متعتي اليوم في أولادي، ولكن، سبحانك يا رب، أمرك. نرضى بحكمك، فايزة صماء، ووفية أمامها أيام طويلة من مصارعة اليأس، ومحسن. اللهم احفظه من كل سوء يا رب. من يدري لعل وفية تسعد بزوجها. ومن يدري لعل أحدًا يحب فايزة ويتزوجها، هيهات، ولكن ما البأس بالأمل؟ مصرعه مر، ولكنه على كل حال أمل لن يصرع في يوم وليلة، وإنما سيصرعه مر السنين الطوال، فلنأمل الخير في وجه الله، ولتمر الأيام والسنون، ولننتظر، وهل نملك في هذه الدنيا إلا أن ننتظر ونسعى حتى لا نشعر بثقل الانتظار؟
وقام عزت بك إلى زوجته إجلال يضع في عنقها هذه المهمة الجديدة من أخبار وفية، وسؤالها عن رأيها في جميل، وما زال طنين هذا التفكير يدور بذهنه أقرب إلى الارتياح لهذا الزواج، وإن كانت غصة لا تزال تراوحه وتغاديه من ذلك الحزن الذي يعلم أنه سيلم بابنته.
•••
جلست إجلال هانم إلى ابنتها تحس الحرج فيما هي مقدمة عليه، ولا تجد عن الإقدام مناصًا، فتجمع أمرها آخر الأمر وتقول: يا بنتي، أنا وأبوك كُنَّا نريد أن تتزوجي من خيري، وقد استقدمه أبوك وعرض عليه الزواج بك.
وندت عن وفية صرخة عجب أطلقتها كالملسوع: ماذا؟!
– ورفض.
وندت عنها صرخة أخرى: ماذا؟
– لماذا تعجبين؟ أنت تعرفين موقفه. فقد كان نبيلًا.
وقالت وفية في نفسها: أيبلغ كبره هذا المدى؟
ولم تجد جوابًا على تساؤلها، وإنما غرقت في دوامة حزن كبير، بينما راحت الأم تنفض لها بقية الخبر من خطبة جميل لها وموافقة أبيها وانتظاره لموافقتها، ووفية صامتة تسمع بعض ما تقول أمها ولا تسمع أكثره، حتى انتهت الأم من حديثها قائلةً: وعلى كل حال يا بنتي جميل في السلك السياسي وستسافران، ولعلك في الخارج تنسين. تنسين كل شيء.
وسمعت وفية هذا الكلام الأخير فانتبهت إلى أمها تقول: نسافر إلى الخارج؟!
– نعم.
– إذن …
وأطرقت لم تكمل الجملة تدور في نفسها عاصفة من الأفكار، ولم تتركها أمها لأفكارها وإنما قالت: هيه، ماذا قلت يا وفية؟
وفي حزم واهن حزين قالت: ما يراه بابا.
– يعني موافقة؟
– أمركم.
•••
لم يكن جميل جميلًا، وإنما كان شديد العناية بملبسه ومظهره، يكسو قوامه النحيل الطويل بأفخر الثياب وأغلاها، وكان أبيض الوجه ناصعًا في لون الملابس البيضاء بعد غسلها، وكان وجهه باهتًا لا تعبير فيه. وكان معجبًا بهذه الصفة في نفسه فهي تهيئ له المظهر السياسي الذي يصبو إليه. وكان أنفه معقوفًا كبير الأذنين يحتفظ على فمه بابتسامة لا تحمل معنى، ابتسامة وجدت نفسها على فمه دون أن تدري لوجودها سببًا، وكأن صاحبها وضعها ونسيها في مكانها. وكانت عيناه جامدتَين، ولكنهما إن أنعمت فيهما النظر أدركت أنهما لا تخلوان من ذكاء. وكان جميل يكبر وفية بسنوات كثيرة، ولكنه فارق لا يعيب الزواج، فقد كان في الثلاثين من عمره ولم تكن هي قد أكملت العشرين. وهو طيب النفس سمح عذب في اختيار ألفاظه، عسير على من يعاشره أن يسيء إليه.
تمت الخطبة وجاء جميل ليرى عروسه ولتراه. أمَّا هو فقد حمد الرؤية وفرح بها، وإن كان قد ضاق بعض الشيء بتلك الحمرة التي تشوب بياض عينها اليسرى، وفكر أن يباحث أطباء أوروبا في شأنها، ولكنه سرعان ما أدرك أن لا فائدة ترجى من هذه المباحثة. وخشي ما قد يعلق به زملاؤه على هذا الاحمرار، فزوجة الموظف في السلك السياسي لا يكفي أن تعجبه هو، بل لا بد لها أن تعجب الآخرين، فهي تقابل في الاحتفالات الرسمية، وهي عنصر مهم في حياة زوجها العامة، بل لعلها أكثر أهمية في هذه الحياة منها في حياة زوجها الخاصة.
فكر جميل كثيرًا، ثم وجد المخرج أخيرًا في كلمة فرنسية طالما أراحت نفوسًا، وطالما أرضت كبرًا، وطالما أشاعت في قلوب الكثيرين الثقة والاطمئنان، إنها تيب، تيب. إنها طابع مستقل بذاته لا يماثل الأخريات، مَنْ مِنَ الأخريات لها زاوية حمراء في ركن عينها اليسرى؟ من غير خطيبته، زوجته وفية؟ تيب، تيب لا شك. وارتاح إلى هذا الرأي بل فرح به وانقلبت خشيته سعادة لا يشوبها إلا تفكيره في إبلاغ هذه الكلمة، تيب، إلى أذهان زملائه ممن سيعملون معه في سفارة فرنسا. لو قيلت مرة واحدة فسيلقفها زميل عن زميل ولا يصبح في حاجة أن يعيدها مرة أخرى، مرة واحدة تُقال ثم كفى، فأول حديث بين زملائه هو التعليق على زوجات بعضهم البعض، تعليق جاد وقور، ولكنه أيضًا ناقد متبصر لا يترك عيبًا إلا ذكره ولا حسنة إلا ناقشها، ولكنهم — كجميع الناس — يحبون اصطياد العيوب أكثر من حبهم لكشف المحاسن، تيب هي الكلمة. وإنه بعروسه راضٍ فرح مسرور. هذا عن المظهر، أمَّا عن المخبر فقد أدرك أنها تجيد الفرنسية، وهذا أيضًا شيء يسره كل السرور. وأدرك أنها قليلة الكلام وإن يكن بعض الشك قد شاب إدراكه هذا، فليس من المعقول أن يتوقع منها كثرة الحديث أمام خطيبها الذي تراه لأول مرة. ولم يكن في حاجة إلى البحث عن مقومات أخلاقها الأخرى، فهي ابنة عزت بك الأزميرلي، وحسبه هذا اطمئنانًا إلى أخلاقها، ذاكرًا أيضًا ما قاله أبوه أن عزت سيصبح وزيرًا عن قريب، وبالتالي سيصبح باشا. إنه بعروسه راضٍ فرح مسرور.
أمَّا هي فلم يستطع خطيبها أن يرسل في نفسها شعورًا من الرضا أو السخط، لاحظت عنايته بملبسه ولم تعجب، فهي صفة تكاد تكون مشتركة بين رجال السلك السياسي. ولاحظت أنه غير جميل ولكنها لم تره أيضًا قبيحًا، وقد كانت من ذلك النوع من النساء اللواتي لا يحفلن كثيرًا بجمال الرجل. ولاحظت طول قامته ونحافتها ولم تعلق في نفسها على هذا. ولاحظت أدبه في الحديث ولم يدهشها ذلك، فهو أمر متوقع من ابن نظمي باشا ومتوقع أيضًا من موظف بهذا السلك. ولاحظت أنه يتكلف بعض التكلف في إخراج ألفاظه وفي بعض حركاته وبعض جمله التي يقحم فيها أحيانًا ألفاظًا فرنسية. لاحظت هذا ولم تحفل به، فقد توقعته أيضًا من شاب جاء يعرض نفسه على خطيبته ويقوم عمله على التمثيل، وإن يكن تمثيلًا سياسيًّا. وعزمت في نفسها على تنبيهه إلى هذا التكلف في مستقبل أيامها. ولم يخفَ عليها فارق السن، ولكنها غفرته أيضًا، فقد يجعله هذا يحتمل ما تعلم أنه سيلازمها من ألم. ألم كانت تقدر أنه لن يزايلها أبد الدهر.
كانت وفية خليقة أن تستقصي عيوب خطيبها جميعًا، وكانت خليقة أن تزيد يأسها مرارة. ولكنها عزمت في نفسها أن تقبله، فقد كانت تعلم أنه إن لم يكن هو فغيره على الأبواب، ولن يكون غيره هذا خيري بحال من الأحوال. وكانت تعلم أيضًا أن أباها راضٍ عن جميل، وكان موقف أبيها من خيري يملأ نفسها إكبارًا له. وقد أرادت أن ترضي أباها تعبيرًا عن شكرها وإكبارها، فأسلمت نفسها، وحاولت ما وسعها الجهد أن تغضي عن عيوب جميل عينًا كانت حَرِيَّة بمعرفة هذه العيوب، وأن ترضي نفسًا كانت حَرِيَّة أن تثور وترفض، ولكنها قبلت، فما دام خيري ليس الزوج فالجميع سواء، فليكن جميل زوجها ما دام في هذا إرضاء لأبيها، وما دام في هذا إبعاد لها عن مصر.
وأعلن نظمي باشا أن ابنه سيسافر بعد شهرين، ورجا عزت بك أن يُمكِّن ابنه من السفر بعروسه.
•••
انتهز عزت الفرصة ودفع بزوجه إجلال إلى دوامة العرس، يرجو أن تنسى في غمارها ما تكابده من حزن على فايزة.
واندفعت إجلال وكادت تنسى، لولا ما يطالعها من ابنتها وفية من ضيق لا يبارحها وعدم مبالاة بما تشتري لها. ولكن ذلك لم يمنعها أن تنصرف بكليتها إلى الجهاز. لا تكف عن القول في نفسها إنه أول فرح يدخل قلبي، ولا تكف نفسها عن الإجابة وآخر فرح، ولا تتركها نفسها هذه المتشائمة قبل أن تهمس ثانية: أهو فرح حقًّا؟ أترين هذا الفرح في عينَي ابنتك؟ ولكنها مع ذلك تزجر نفسها زجرًا ولا تني تلح عليها أنه فرح.
وينتهي الشهران وتتزوج وفية من جميل، ويتركان مصر.
وتفكر وفية ومشارف الإسكندرية تغيب عن ناظريها، أأستطيع أن أترك مع هذا الشاطئ ما في نفسي من حسرة وحزن وألم و… وحب؟! هيهات.