الفصل الثامن عشر
كانت أنباء الزواج تبلغ بيت خيري من كل سبيل، فيسري ونادية لا يسكت لسانهما عن ذكر ما اشترته أبلتهم وفية، ودولت رائحة كل يوم غادية تبلغ خيري في خلوة قصيرة مختلسة أو تبلغه على مرأى من الجميع ما يتم في البيت الكبير من خطوات، وكأنما تريد بذلك أن تنسيه وفيه نسيانًا تامًّا، مدركة أن هذا التذكير في أغلب أمره مجلبة للنسيان أو اليأس، وأي يأس بعد الخطبة وشراء الجهاز وتحديد موعد الزواج وما يعقب الزواج من سفر لشهر العسل. ولم تكن كلمة تلسع خيري قدر ما تلسعه كلمة العسل في هذا الموضع.
وقد كانت سميرة هانم سيدة كريمة كشأنها، فما إن علمت بالخطبة حتى قصدت إلى إجلال هانم فهنَّأتها في هدوء ووقار وإخلاص، وأدركت إجلال ما يدور في نفس صديقتها فتقبلت التهنئة في صمت. ثم حاولت سميرة هانم أن تقطع زياراتها بعد ذلك، ولكن إجلال أبت عليها هذا وراحت هي تزورها وترسل لها دولت بالسيارة أغلب أيام الأسبوع، فإذا التقتا فلا حديث عن الخطبة ولا حديث عن الجهاز.
كانتا كلتاهما تدركان الموقف كل الإدراك، فلم تحاول واحدة منهما أن تزيد الأمر حرجًا.
ولما رأى خيري أن بيته أصبح ولا حديث به إلا الزواج، ولما رأى أمه تحاول جهدها ألا تتعرف شيئًا من أنباء هذا الزواج على مرأى منه أو مسمع، رأى أن خير سبيل له هو أن يترك البيت أطول فترة ممكنة من اليوم. وحبب إليه نجيب هذا الرأي فقد التقى هناك بالغسالة، والتقى بزوجة صاحب البيت، وحمد اللقاءين وأصبح لا يكاد يترك بيت صديقه. وإن سألته أمه عن المذاكرة جمجم بعض الألفاظ لا يدرك لها معنى، وانتقل بها إلى موضوع آخر أو انتقل هو بنفسه إلى مكان آخر.
وقد كان خيري حريصًا ألا يدور الحديث عن مذاكرته أمام يسري، فقد خشي ألا يصيب النجاح فيجعل من نفسه قدوة غير طيبة أمام أخيه. وقد كان في يومه هذا على موعد أن يذهب إلى نجيب في السادسة من بعد الظهر، فلقد أنبأه نجيب أنه لن يعود إلى البيت قبل هذا الميعاد، ولم يجد ما يفعله من الظهيرة حتى حلول الموعد إلا أن يستلقي على فراشه ويقرأ، وكانت ضجة إخوته تملأ البيت، ولكنه كان قد تعود ألا يضيق بها.
لم يطل انفراد خيري بنفسه فقد فتحت أمه الباب تسأله: أتريد شيئًا يا خيري؟
– لا يا نينا شكرًا، ما المناسبة؟
– أنا خارجة أنا ويسري ونادية.
– إلى أين؟
– إلى بيت عمك عزت. مسكينة إجلال من يوم سفر وفية وحزنها حزنان، حزن على المقيمة معها التي لا تسمع، وحزن على الغائبة التي لا تعرف كيف تسير حياتها مع زوجها الغريب الذي لم يرها ولم تره إلا عند الزواج.
ولم يشأ خيري أن يعلق على هذا الحديث وإن ملأ نفسه حزنًا، فقال في ألم كبير حازم: طيب يا نينا مع السلامة، أتأخذين معك بشير أغا؟
– نعم، وأنت لماذا لا تذهب إلى عمك عزت يا خيري؟
– والله يا نينا لا أدري، تقصير، مجرد تقصير.
– لا، لا حق لك، إنه يا بني يستحق منك كل خير.
– أنا لا أنسى فضله.
– إنه دائم السؤال عنك.
– سأذهب إليه.
– لماذا لا تأتي معي؟
– لا ليس اليوم، أنا على موعد، قد أذهب غدًا إن شاء الله.
– طيب يا بني كما تحب، فُتك بعافية.
– الله يعافيك يا نينا.
وخرجت الأم وأقفلت الباب، ولم يعد خيري إلى القراءة وإنما نَحَّى الكتاب جانبًا وراح يفكر، والتذ التفكير، والتذ الألم، والتذ التضحية التي قام بها، الجراح تملأ نفسه، ولكنه كان حين يتحسسها يجد في قلبه راحةً وهدوءًا، ليس يدري أهو هدوء البركان الثائر من الحب أتت عليه الخطوب فاستقر ثائره وهدأ مضطربه وأصبح لا شيء إلا ذكرى؟ كان خيري إذا التقى بجراحه في خلوة بنفسه أحس في داخله أنه كبير، واطمأن خاطره أنه رجل أدى ما يحب أن يؤديه الرجل من أمانة نحو نفسه ونحو كبريائه ونحو أهله ونحو من يحب.
طال التفكير بخيري ولم يقف عنه إلا حين فوجئ بالباب يُفتح. وبدولت تبدو منه هنيهة اطمأنت فيها أنه وحده. ثم أقفلت الباب وسعت إليه وهو نائم لا يزال دهشًا لدخولها على غير توقع.
وقالت دولت: أين الحاجة زينب؟
– لا أدري، ألم تفتح لك باب الشقة؟
– أبدًا، دققت الجرس مرات فلم يرد أحد، وكدت أعود، ولكني دفعت الباب فوجدته مفتوحًا.
وتلعثم خيري وهو يقول: لعلها ذهبت تشتري شيئًا وتعود.
ونظرت إليه دولت وأطالت النظر ثم قالت: لم نعد نراك.
وسكت خيري، وراح ينظر إليها، كم من الأحداث مرت به منذ التقيا في خلوة كامنة كهذه، وكم تعلم من أشياء منذ ذلك الحين، كم فقد وكم كسب، فقد أباه وفقد حبًّا وفقد مالًا، وكسب خبرةً وكسب جرأةً. وجلست دولت. لم تجلس إلى الكرسي الكبير بجانب الشباك، ولم تجلس إلى الأريكة الفخمة التي تصر على البقاء تحت المكتبة وكأنها تعيرها بالفارق بينهما، أو هي في الواقع تعيِّرها بعدم التناسب بينهما، وأين مكتبة أقامتها يد بضة لم تمسك بغير القلم من أريكة صيغت بباريس بناءً على تصميم خير المهندسين وأجملهم ذوقًا؟! لم تجلس دولت إلى شيء من هذا، وإنما اختارت السرير ذاته الذي ينام عليه خيري، وحين حاول أن يجلس دفعته بيدها فنام ثانية، كأنما أحست دولت أن الفارق الذي كان بينهما قد زال، كان المال يفصل بينهما وها هي ذي تراه قد أصبح قريب الفقر منها، وكانت وفية تفصل بينهما، ووفية اليوم في أوروبا في أحضان زوجها، أي شيء يمنعها عنه؟ لماذا لا يتزوجها ذلك الشاب الفتى الجميل؟ ولم تكن دولت ترى وسيلة أفعل في التعجيل بالزواج من هذه الجلسة ومما توقعت أن يتولها.
واستقبل خيري الدفعة في رضى ونشوة. ولم يفكر في فوارق كانت بينهما وزالت، ولم يفكر في الزواج، وإنما فكر في أشياء أخرى لا يستطيع أن يفكر في غيرها.
وقالت دولت: لماذا تريد أن تقوم؟ أنا لم أقصد إزعاجك.
كانت دولت تعلم الحديث الذي تريد أن تلقيه، وكانت قد أعدته فأحسنت إعداده، وكانت تجد فيه خير وسيلة تصل بها إلى ما تريد.
– عندي لك خبر يفرحك.
– خير.
– يسري.
– ماله؟
– أصبح يغار عليَّ منك، ويظل يقول لي لماذا تكلمين آبيه خيري وأنا لا؟!
ثم أطلقت ضحكة عربيدة، ولكن خيري قال: هيه، وماذا فعلت أنت؟
– وماذا يمكن أن أفعل؟ سكت طبعًا، فهو لم يقل شيئًا أستطيع أن ألومه عليه.
– وهل يسري فقط من يغار؟
– من تقصد؟
– محسن!
– آه!
وقلد خيري صوتها قائلًا: آه!
– لا، محسن طيب وابن حلال.
وقال خيري: أعلم أعلم، ولكن هل هذا يمنع؟
فقالت دولت محاولة أن تغير مجرى الحديث: أنا والله لا أكاد أراه، دائمًا في الخارج، ياه، ما للحجرة حارة هكذا؟
وكان فستانها ذا أزرار تمتد من أعلاه إلى أسفله، فما لبثت أن أعفت زرين من قيدهما فبان تحتهما قميص حريري وردي اللون تدور حول حافته قطعة من الدانتلا صنعتها يد لا بد أن تكون رقيقة حلوة، وأدرك خيري قيمة القميص، فقال وعينه لا تبارح ما انفرج من الفستان: حلو قميصك.
– إنه من …
ثم قطعت الجملة لم تكملها، وأدرك خيري أنه من وفية، وأدرك أنها لم ترد أن تذكر اسمها في لحظتهما تلك. وخافت هي أن يكون قد أدرك فأكملت بعد قليل وقالت: إنه من شيكوريل، أيعجبك؟
ثم أمسكت بحافة القميص ومالت عليه، ولم ينظر إلى القميص وإنما نظر إلى ما بداخله.
ولم يدرِ خيري من أمر نفسه إلا ذراعين تحيطان بها، وشفتَين تستقران على شفتَيها، وغابت دولت في نشوة القبلة هنيهات، ولكنها ما لبثت أن اعتدلت وهي تقول: أخاف أن تأتي الحاجة زينب.
وانتبه خيري إلى هذه الخاطرة فخشي مغبتها هو أيضًا، ثم ما لبث أن قال وقد أطلق يده: نعم أنت محقة، لقاؤنا هنا لا يجدي.
– أين إذن؟
– اسمعي، متى تستطيعين الخروج؟
– وقتما أشاء، أنت تدري أنهم يطلقون لي الحرية، وأستطيع في أي وقت أن أطلب رؤية نينا وأخرج.
فقال خيري في نشوة: وتبيتين في الخارج؟!
– وأبيت في الخارج!
– إذن سأعطيك عنوانًا ونلتقي هناك غدًا في الساعة الثامنة.