الفصل الثاني
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة الخديوي إسماعيل، وخرج التلاميذ. وكان خيري مع جماعة من إخوانه يعرفون أن عليه أن يذهب إلى مدرسة المنيرة لينتظر أخاه يسري ويصحبه إلى البيت، فرافقوه الطريق، ولكن محسن عزت لم يشأ أن يصحبهم وقال لخيري: لا بد لي أن أذهب إلى البيت، فقد تركت أختي الصغيرة مريضة، وأريد أن أطمئن عليها.
وقال خيري في لهفة شفوق: مَنْ؟ فايزة؟
– نعم.
– مسكينة! وهل تتحمل المرض؟ طيب اذهب أنت وسألحق بك.
وانفصل محسن عن الجماعة، فساروا إلى مدرسة المنيرة، ولما بلغوا بابها كان لا يزال أمام انصراف تلاميذها بضع دقائق، وظل خيري ورفاقه أمام الباب يتحدثون، ولكن نجيب كامل صديق خيري المقرب أحس الجزع الذي يعانيه خيري، فقال له في صفاء: إن شئت فاذهب أنت إلى محسن، وسأصحب أنا يسري إلى البيت.
– أترى ذلك؟
– وما البأس؟
– أخشى أن يجزع يسري لغيابي، سأنتظره حتى يخرج ثم أذهب أنا إلى محسن. ولكن وحياة والدك يا نجيب احرص على يسري في الطريق؛ فهو كثير الحركة لا يهدأ.
– ألا أعرف يسري؟ لا تخَفْ يا أخي.
– واحذر أن تدخل به في مظاهرة.
– مظاهرة؟ آه، أظنها الآن بلغت عابدين.
وقال صلاح الفولي: بهذه المناسبة ألا تعرف ماهية هذه المظاهرة يا خيري؟
– هل يمر يوم من غير مظاهرة؟ حزب الوفد وحده كان يقيم المظاهرات كل يوم في وزارة محمد محمود، فما بالك والوفد اليوم مع الأحرار الدستوريين، المظاهرات كل ساعة، هل مر علينا يوم في وزارة صدقي من غير مظاهرات؟
– يا أخي، وكأن الرجل معجون من حديد، صلب، كأن المظاهرات تخرج لتحيته.
– المهم أن تحافظ على يسري يا نجيب، احذر منه.
– لا تخَفْ.
وتدخَّل صلاح الفولي في الحديث سائلًا خيري: قل لي يا خيري، هل محسن ابن عمك مباشرة؟
– تقريبًا.
– لا أفهم، ما معنى تقريبًا؟
فقطع نجيب الحديث قائلًا: هل تمَّت شجرة عائلة خيري عندك ولم يَعُدْ ينقصها إلا صلة خيري بمحسن؟!
واغتاظ صلاح فقال في حدة: يا أخي ما شأنك أنت، هل سألك أحد؟
وقبل أن يجيب نجيب دق الجرس، وما هي إلا بضع دقائق حتى انفرج باب المدرسة عن أفواج التلاميذ، وقد تباينت جسومهم وأعمارهم تباينًا شديدًا؛ فهذا طويل فارع الطول، وهذا نحيل ضئيل لا يكاد يبين في الحشد الذي يجاهد للخروج من الباب، وآخر سمين مفرط السِّمَن. وبينهم من يتعهد شاربه في اعتزاز، وبينهم من يتعهد طربوشه في تأنق، ومنهم من لا يعتز بشيء أو يهتم بشيء إلا أن يخرج من المدرسة وينفتل إلى بيته، أو إلى الرفاق الذين ينتظرونه عند بيته. وبين التلاميذ من ينتظره خادمه، وبينهم من ينتظره ذووه، ومنهم من لا ينتظره أحد، ولا فارق ثمة عندهم بين هذا وذاك، فكلهم في هذا الرحاب سواء.
ويظهر يسري وعينه إلى المكان الذي تعوَّد أخوه أن ينتظره فيه. فيقصد إليه في غير ترحيب ولا ضيق، غير ملتفت إلى هذه الابتسامة التي أشرقت على وجه خيري حين رآه. فما كان يفهم لها معنًى، إلا أنه كان فرحًا على أية حال أن خرج من المدرسة ليستقبل البقية الباقية من يومه في لعب ومرح.
وطلب خيري إلى أخيه أن يسير مع نجيب حتى البيت، وطلب إليه أيضًا أن يكلمه في التليفون عند عمه عزت بك ليطمئنه على وصوله، فوعده يسري بالطاعة. وانصرف هو ونجيب وبقية الرفاق وعين خيري تصاحبهم حتى حاد بهم الطريق، فانصرف هو إلى بيت صديقه وقريبه محسن.
كانت فايزة طفلة في سنتها السادسة، ضحكة البيت المرحة الطروب. إليها يلجأ الأب إن ضاق بالسياسة التي يعمل في ميدانها، وإليها تلجأ الأم كلما وجدت من بيتها فراغًا، وحولها يجلس محسن وخيري كلما ضاقا بالمذاكرة. كانت فايزة عند محسن أخته الحبيبة الضاحكة، وكانت عند خيري كل هذا وشيئًا آخر أكثر من هذا وأعز، كانت وسيلته إلى وفية؛ فحَوْلَها كانوا يجلسون كلما عنَّ لهم أن يتركوا المذاكرة حينًا، وحولها كانت تصاحبهم وفية تلهو معهم وتفتح لأختها الصغيرة موضوعات الأحاديث التي تُظهر لثغتها، وبين الضحكات الصاخبة تلتقي عيون صافية، وقلوب شغفها الحب الطاهر، ومنعها الحياء أن تبين عن حب بها زاخر موارٍ.
هي وفية أملُ الصبا والشباب، كانت الطفولة تجمعهما في الملعب، ثم استقبلا الشباب معًا فنزَّل بينهما ستارًا رقيقًا دقيقًا عنيفًا لا يلين؛ فالخلوة بينهما لا تتاح، واللقاء بينهما بمقدار، والعيون حولهما رواصد، والرقيب عليهما عتيد، يحسانه في دعوة الأم لوفية إن طال بقاؤها في الغرفة، ويحسانه في نظرة محسن العاتية إذا علت ضحكة لها، ويحسانه أول ما يحسانه في نفسيهما التي تحول بينهما وبين الانطلاق الذي كانا يمرحان فيه حين كانت الطفولة تظلهما. وهما مع ذلك يحمدان الشباب، ذلك الوافد الجديد؛ ففي بريقه عرفا معنى هذا الخفق العنيف الذي كان يزحم صدريهما ولا يدريان له سببًا، وفي هذا الخفق عرفا الحياة، وفي هذا الستار الذي أسدله الشباب عرفا الحب، وفي هذا الرقيب الذي حل بهما عرفا لذة ناره. إنهما يحمدان الشباب ويحمدان ما فرضه عليهما من قيود، فهي قيود لم تستطع على شدتها أن تمنع العين أن تلتقي بالعين، والابتسامة أن تلاقيها ابتسامة، والإشراقة أن تستقبلها إشراقة. وحول فايزة كانت تلتقي العيون والابتسامات والإشراقات.
وهكذا جزع خيري لمرض فايزة جزعًا شديدًا، فذهب إلى منزلها يريد أن يطمئن عليها، ويرجو من صميم قلبه ألا يطول هذا المرض. واستقبله البيت في وجوم صاخب؛ فالخدم مشغولون بتنفيذ الأوامر التي لا ينقطع لها سيل، والجميع حول سرير فايزة يحيطون بها في إشفاق وخوف، ينتظرون الطبيب أن يفرغ من فحصه. وصعد خيري إلى الطابق العلوي، وحين عرف بوجود الطبيب مكث خارج الغرفة ينتظر. ولم يَطُل به الانتظار وإن أحسه هو طويلًا، وخرج الطبيب ومعه وفية، وسارع خيري إلى وفية يسألها عما قال، فطمأنته في ابتسامة تكاد تشرق. وهدأت نفسه بعض الشيء، ودخل الغرفة وراح يُضحك فايزة مقلدًا طريقة نطقها للحديث، وهي تضحك في ابتسامة واهنة، وعمه عزت بك يحاول أن يضحك ليهون على زوجته إجلال ما كانت تنوء به من خوف شديد من هذه الحرارة المرتفعة التي تعانيها ابنتها.
ولم يُطل خيري مقامه، بل سرعان ما طلب إلى محسن أن يؤجلا المذاكرة إلى الغد. وما أسرع ما ارتاح محسن لهذا الطلب! وخرج خيري من الغرفة، وقبل أن يصل إلى السلم التقى بوفية مرة أخرى، فطالعته منها ابتسامة عذبة. وسؤال هامس ناغم لم يَزد على كلمة واحدة حملت معها معانيَ نَعَم بها قلبه أي نعيم.
– خارج؟
وفي هناءة غامرة أجاب: أجَّلنا المذاكرة إلى الغد.
– وماله. ولماذا لا تبقى معنا قليلًا؟
– أنتم مشغولون بفايزة، وأنا أريد أن أذهب إلى البيت لأطمئن على يسري؛ لأني لم أوصله اليوم.
– لماذا؟
– كنت مشغولًا على فايزة فأرسلته مع أحد أصحابي، وطلبت إليه أن يكلمني هنا بالتليفون، ولكنه لم يتكلم، وأخاف أنا أن أتكلم ويكون حضرته في الشارع يلعب دون أن يُرِيَ وجهه لنينا فتُشغل لغيابه.
– طيب يا سيدي، نشكرك.
– علامَ الشكر؟
– على اهتمامك بفايزة.
– أنتِ لا تعرفين كم هي عزيزة عليَّ يا وفية، فايزة عندي مثل نادية تمامًا.
وأوشك أن يستطرد في حديث عن المكانة التي تشغلها فايزة في قلبه، بل أوشك أن يبين لها مكانة هذا البيت جميعًا في نفسه، ولعل أملًا متهافتًا داعبه أن يحدِّثها عما لها هي في نفسه، واهمًا أن عينيه ووجهه هذا المشرق وذلك الضياء الذي يشع من خلجاته جميعًا لم تروِ لها حديث نفسه كاملًا، لم تخْفَ منه خافية، أوشك خيري ثم وقف به إيشاكه عندما ارتفع صوت إجلال هانم من حجرة فايزة: يا وفية!
– نعم يا نينا.
وقبل أن يرتفع صوت إجلال هانم مرة أخرى ليدعو وفية، كان خيري قد استأذن وكانت هي قد همست في إعزاز: مع السلامة.
نزل خيري يثب السلم وثبًا عنيفًا، سريعًا متلاحقًا، ولكنه مع ذلك أهون من ذلك الوثب الذي أخذ قلبه يخفق به داخل ضلوعه فرحًا بهذا الحديث الصغير الكبير الذي مهَّدت له الصدفة. لقد كاشفته بحبها في طلبها إليه أن يبقى، وكاشفته بحبها في نظراتها الحالمة الوادعة الرضية، وكاشفته بحبها في نغمات صوتها الهامسة الحالمة، وكاشفها هو بحبه فيما رواه عن مكانة فايزة من قلبه، وفي إشفاقه عليها وفي مسارعته إلى بيتهم مرسلًا أخاه مع صديق. لقد تكاشفا بالعيون والوميض، والكلام يدور من بعيد كما يدور العابد حول معبوده المقدَّس ويكبره أن يلمسه. لم يقل أحبك وإن قالها ألف مرة، ولم تقل أحبك وإن كان قد سمعها منها ألف ألف مرة، لكم يحبها، ولكم يطيب له أن يقول في نفسه، ولكم تحبني.