الفصل العشرون
لم يستطع خيري أن ينجح في عامه هذا، واستطاع نجيب.
ويئس خيري من المذاكرة يأسًا تامًّا، ولم يحاول أن يعيد إلى ذهنه فكرة المذاكرة مرة أخرى، وطمأن نفسه أن مستقبله معلق بمستقبل يسري ونادية. ولم يخذل يسري أخاه، فقد كان يسير في تعليمه سيرًا طيبًا، فلم يرسب، وكانت نادية أيضًا تسير في تعليمها سيرًا مرضيًا، ولم يخف عن سميرة هانم ولا على خيري ما جد على الطفلين من تغيير، فيسري قد أصبح ذا وجه اختفى صفاؤه تحت نثار من الحبوب الحمراء، يخرج صوته خشنًا لا نعومة فيه ولا براءة، تتقلب عيناه عابرة الرجال مستقرة على النساء، أي نساء، ذاهلًا أغلب الأحيان، حائرًا عجلًا إلى كل أمر، لا يستقر به من القلق حال.
ونادية أيضًا لم يعفها الزمان من بوادر أنوثة، فوجهها يسارع إلى الاحمرار، وتتخفى عن أخويها إذا بدلت ملابسها، ولكنها لم تكن بعد قد وصلت إلى السن التي تشغلها فيها محاسنها، بوادر لا أكثر.
لم تنقطع الصلة بين خيري ونجيب، بل استمرت دون تظاهر بالمذاكرة، فعرفا الحانات معًا، وعرفا الكثيرات من مثيلات ليلى ويسرية، وأصبحت هذه الأمور بالنسبة إليهما جزءًا من حياتهما. ولم يفقدا من متعتهما الأولى إلا الدهشة التي كانت تداخلهما كلما التقيا بجديد، فقد أصبحا لا يلتقيان بالجديد إلا نادرًا، يندر كلما مرت الأيام، وكان خيري يعمل في إصرار على ألا يشاركهما محسن في هذه الجولات، فما كان يجب أن ينفق أكثر مما يستطيع أن ينفق، وما كان يحب أن يصحبهما محسن في أمكنة قد لا يراها جديرة بغناه أو قد يرى نفسه متواضعًا حين يرودها. فالتواضع صفة لا يرضى خيري أن يصطنعها له أحد. مكان واحد كان يرافقه إليه محسن، هو المسرح، فثمن التذكرة واحد بالنسبة لكليهما، وجميعهم يهوى المسرح ويرى فيه متعة روحية ينعم بها فترات من الوقت طويلة، تطول إلى ما بعد مشاهدة الرواية بأيام، وقد تصل إلى أسابيع، ثم تظل ذكرى الرواية ما وعت الذاكرة.
وهكذا أبقى صلته مع محسن مقصورة على الزيارات المنزلية، ولم تكن زياراته قليلة، ولا كانت زيارات محسن، وعلى زيارات المسرح، ولم تكن هي أيضًا قليلة، فما كانوا يشاهدون الرواية مرة واحدة ولا اثنتين.
وظلت دولت تعمل في بيت عزت باشا، وظلت على رغم أنفها عفيفة، فمحسن يصدف عنها إكرامًا لمكانها في البيت، وهي لا تبذل في سبيل اجتذابه إليها أية محاولة، فقد كانت تدرك الفارق بينهما، وكان إدراكها هذا يمحو مطامعها، ويقضي عليها قبل أن تحاول الظهور.
وماتت أمها، فلم يبقَ لها إلا هذا البيت، وعدل عزت باشا نهائيًّا عن فكرة إبعادها، واطمأن لما كشف بعينه الواعية انعدام الصلة بينها وبين محسن. ولم يحضر حامد وفاة أمه، فقام عنه خيري ومحسن بكل الأعباء وأرسلا يعزيانه، واكتفى هو بخطاب أرسله إلى أخته، وبعض خطابات أخرى أرسلها إلى الباشا ومحسن وخيري، ولم ينسَ يسري، فقد كان دائمًا يقدر أنه هو صاح بالفضل الأوَّل عليه، وأنه عن طريقه استطاع أن يصل إلى عزت بك الذي أصبح باشا، ثم إلى هذه البعثة وإلى ذلك المستقبل الذي ينتظر عودته.
وقد حصل حامد على الدكتوراه، ولكن وفاة أمه واطمئنانه على مكان دولت جعلاه يطلب مد البعثة لينال شهادات أخرى. وكان عزت باشا وزيرًا فأجيب طلبه.
واستطاعت فايزة أن تنتفع بهذه المعلومات القليلة التي كانت قد تعلمتها قبل أن تُصاب، فتمكنت أن تتغلب على البله بالقراءة، فقرأت ولم تكن تفعل شيئًا إلا أن تقرأ، وهل يمكن أن تفعل شيئًا؟ قراءة تستريح منها بالسينما، وتستعين هناك بالقراءة أيضًا، كانت تقرأ ترجمة الحوار التي كانت تكتب إلى جانب الشاشة على شاشة أخرى صغيرة، وكان رأسها يظل رائحًا غاديًا بين الشاشتين، ولكنها كانت تستمتع بما تشاهد. ولم تفكر بطبيعة الحال كما لم يفكر أهلوها أن تذهب إلى أفلام مصرية ناطقة، فما كانت هناك شاشة صغيرة تستعين بها. فإن كان لا بد من فيلم مصري فصامت، كحياتها، كآذانها، واستطاعت مع كل هذا أن تجد في هذه الحياة جمالًا واستطاعت أن تضحك من النكتة المكتوبة، واستطاعت أن تلقي إلى قلبها إشراقًا بريئًا صنعته لنفسها من ثقافتها ومن قلبها الغض ومن عطف المحيطين بها ومن حبهم.
•••
وجرت الحياة شبه رخاء لعزت باشا، فاشترك في الوزارة عدة مرات، وحصلت مصر على المعاهدة، وكان من الذين يرون فيها خطوة إلى الاستقلال وليست الاستقلال جميعًا. وحاول عزت باشا أن يصرف كثيرًا من جهده ووقته لإسعاد زوجته، وتقبلت إجلال محاولاته في شكر وتقدير، فكان لا يني عن طمأنتها على وفية، فقد كانت الأنباء تصل إليه دائمًا عنها، وكانت أنباء يرتاح لها فؤاده وفؤاد زوجته. وكانا يكتبان هذه الأنباء لفايزة فتفرح وتظهر فرحها في براءة حبيبة. وكانت وفية تأتي إليهما في كل عام، بل كانت تأتي إليهما خلال العام مرات، فقد كان لها من كياسة زوجها وغناه ما يهيئ لها هذا المجيء كلما شاءت.
وكان خيري يحرص على أن يراها مرة عند مجيئها ومرة قبل ذهابها، وكان اللقاء يثير بعض ذكريات ما تلبث أن تصطدم بالواقع، فتذوب مع الزمان الماضي الذي انبعثت منه.
وكان مُحسن يسير في طريقه المرسوم عابثًا جادًّا، ناجحًا في دروسه ناجحًا في مغامراته، وإن جد عليه شيء فهذا الاهتمام المفاجئ بأعمال أبيه السياسية، وبالحزب وبالصراع بينه وبين الأحزاب الأخرى. ولكن اهتمامه لم ينل من حق دراسته أو من الحقوق الأخرى التي يتيحها لشبابه، ولم يكن لهوه جميعًا نساءً وخمرًا، بل كان كإخوانه يمتع نفسه بكل شيء، ومناحي المتعة عنده كثيرة، فهو يحب المسرح، ويحب الأدب، ويطرب للشعر ويسعى إلى مجالسه، وينتشي للغناء ويهفو للنكتة، ويفطن إليها مهما تكن خافية. الحياة جميعها رقيقة الأستار أمام عينيه بأعبائها ولهوها، بجدها وهزلها، بوقارها الذي تفرضه عليه، وبعربدته التي يفرضها هو عليها، يحب من حوله ويبذل جهده ليحبوه، ويحب الحياة ويبذل جهده أن تحبه الحياة. وحين أقبلت بوادر الحرب استقبلوها في اهتمام ساخر، فقد عرفوا أين يقضون لياليهم. ولم يمنعهم النور المحبوس داخل الحجرات أن ينعموا وإن حرموا بعض المتع، فقد استطاعت نفوسهم المرتاحة الهادئة أن تقبل الحرمان في نكتة أو ضحكة أو تعبيسة واهنة ما تلبث أن تزول في متعة أخرى — مهما تكن هذه المتعة — هي النقاش حول تطورات الموقف الحربي، وحول أفضلية الألمان على الإنجليز أو أفضلية الإنجليز على الألمان. على أن النقاش لم يكن في يوم عنيفًا، فقد كان الساسة يكرهون الإنجليز، وكان كره المستعمر مغروسًا في النفوس شب معها وكبر، فكان الرأي العام يكاد يتجه بكله إلى رجاء هزيمة الإنجليز لمجرد الانتقام منهم لا بفكرة أخرى، لا يقف رجاؤهم هذا عند حد إلا إذا ذكر أحدهم الآخر بأن الألمان قد يكونون شرًّا في استعمارهم من الإنجليز، وأننا قد نبدأ عهدًا جديدًا من استعمار جديد يحتاج إلى بدء مفاوضات أخرى كانت قد وصلت إلى معاهدة الشرف والاستقلال. وما كانت شيئًا قليلًا. وعندما تبدو هذه الحجج في أثناء النقاش تتجه رغبة الانتقام المنطلقة عن العاطفة إلى التفكير، بعض التفكير، وينتهي النقاش على غير هزيمة أو انتصار.