الفصل الثاني والعشرون
فرغت سميرة هانم من صلاة الظهر، ولم تقم عن السجادة بل ظلت في مكانها تسبح بعض الوقت، ثم نظرت إلى نادية التي كانت جالسة إلى جانب السجادة على الأريكة التي ظلت عمرها في حجرة سميرة هانم، وصحبتها من بيتهم القديم إلى شقتهم. وقالت سميرة هانم: لماذا لم تلبسي يا نادية؟
– سألبس حالًا يا نينا.
– قومي يا بنتي لنذهب ونعود قبل الليل والغارات.
– حالًا. آبيه خيري سيذهب معنا؟
– طبعًا، ألم يلبس هو أيضًا؟
– إنه لابس لم يخلع.
– ويسري؟
– لا يريد الذهاب.
– لماذا؟
– لا أدري.
– ناديه، واذهبي أنت لتلبسي.
وخرجت نادية وعندما تركت الباب نادت: يسري.
وأجاب خيري ظانًّا أنه هو المطلوب: نعم.
– نينا تريدك.
وقصدت نادية إلى حجرتها تبدل ملابسها، وقصد خيري إلى حجرة أمه يسألها: تريدينني يا نينا؟
– لا يا ابني نادِ لي يسري.
– أتريدينه في شيء؟
– نادِه وابقَ معنا.
وحين جاء يسري بدأته أمه: ماذا يا يسري؟!
– ماذا يا نينا؟!
– ما معنى مقاطعتك لبيت عمك عزت؟
– لا شيء.
– لا بد من شيء. يا ابني منذ مات أبوك لم نجد أحدًا مثل عزت باشا، وقف إلى جانبنا في أيام الشدة، وما من طلب طلبناه منه إلا سارع ينفذه، فهل أقل من أن نزوره ونسأل عنه؟
وقال يسري في بوادر غضب: أنا لا أعرف لأحد فضلًا علينا.
وضاق خيري بهذه الإجابة ولكنه كظم ضيقه، وقالت الأم: أبدًا؟
وقال يسري في إصرار: أبدًا.
وقال خيري: يا أخي لا تنسَ فضل الله على الأقل.
وقال يسري في ثورة: ولا الله.
وهبت الأم قائلةً: ماذا؟ ماذا قلت؟
وقال خيري: لا تخافي يا نينا، لا تخافي، إنها موجة في هذه الأيام، ولكنها كلام لا يدل على ما في القلب.
وقالت الأم: إنه كافر يا خيري، كافر!
وسكت يسري مأخوذًا من ثورتها، وقال خيري محاولًا أن يهدئ أمه: أبدًا يا نينا، أبدًا، إنه لا يقصد.
واتجهت الأم إلى يسري قائلةً: أتنسى فضل الله، الله الذي جعل لك هذا الأخ الذي قام بأمرك وحرم نفسه من التعليم لأجلك، تنسى فضله. إلى أي مصير كنت تلقى بغير أخيك؟ أليس له فضل عليك؟
واستأنف يسري صمته في تخاذل، وقال خيري محاولًا أن يخرج أخاه مما أوقع نفسه فيه: يا أخي، ما لهذا جميعه ولذهابك إلى بيت عزت باشا؟
وكأنما أثار هذا الاسم ثائرًا في نفس يسري كان قد أوشك أن يهدأ.
– يا أخي لا أريد، أهو مفروض عليَّ أن أذهب؟ هل أنا أسير عندكم؟ لا أريد، لا أريد.
وقالت الأم في حدة: ولد، ما هذه اللهجة التي تتكلم بها؟ أجننت؟
وقال خيري مصطنعًا الهدوء لا يزال: أليس لإحجامك هذا سبب؟
وقالت الأم: عظمة، واحد عظيم ليس لأحد فضل عليه.
وقال يسري دون أن يلتفت إلى سخرية أمه مستأنفًا ثورته موجِّهًا حديثه إلى أخيه: أتريد أن تعرف لماذا؟ أتريد أن تعرف؟
وأسندت الأم ذقنها إلى يدها ونظرت إلى ابنها الثائر نظرة ثابتة دهشة، وقال خيري: إن كان لا يضيرك أن تقول.
– لا يا أخي لا يضيرني، لا يا سيدي، أقول لك لماذا لا أذهب، لا أريد أن أرى غناهم وفقري، لا أريد أن أرى السراية وأعود إلى الشقة، لا أريد أن أرى محسن يلبس أفخم قماش وأفخم كرافتة ويستبدل كل يوم حلة بأخرى وأعود لأجد حلتي الوحيدة في الصوان، واحدة في الصوان لا تزيد، إن خرجت فإلى جسمي، ولتحل التي ألبسها مكانها واحدة في الصوان وواحدة عليَّ، لا أريد أن أذهب حتى لا أرى فايزة الصماء تلبس أفخم الملابس، بل إن دولت تلبس أفخم الملابس، ونادية وهي تستقبل الشباب في ملابس … ملابس …
وقاطعه خيري: على مهلك، على مهلك، نحن نعرف تمامًا إلى أي مدى هم أغنياء ونعرف أيضًا مقدار ما نملكه، ولكننا متساوون في أشياء أخرى، نحن وهم شرفاء، ونحن وهم أولاد عم لم نمد أيديهم يدًا تستجدي ولا هم أشعرونا بفارق المال بيننا، والمساواة بيننا في …
وقاطع يسري أخاه في حدة: في المركز العائلي والشرف والكرامة. ها، ها، هذه النكت التي لا تعرف غيرها، لم تعد تساوي شيئًا، لا أستطيع أن أشتري بها بيت عزت باشا، تعالَ معي إلى المذبح، تعالَ إلى سوق الخضر، تعالَ إلى تجار الدقيق واللبن ومتعهدي الجيوش، تعالَ انظر إلى المجد الذي بلغوه بلا شرف ولا عائلة ولا كرامة، بلا شيء إلا الذكاء وفهم الدنيا كما يجب أن تفهم، تعالَ انظر إليهم الآن، الأموال مكدسة تجري بين أيديهم كما تجري على لسانك ألفاظ الكرامة والشرف والمركز العائلي. ولكن الفلوس تجري فتأتي بفلوس، وكلامك يجري فلا يأتي إلا بالفقر الأصلي. نحن لم نصل إلى بائع الخضر ولا إلى الجزار، لا ولا إلى حتى بائع اللبن، ولكننا مع هذا نتشدق بالبيت الكبير الذي كان لنا، وبقرابتنا القريبة من عزت باشا. وتصر أمي وتصر حضرتك على أن أذهب لزيارتهم، وتغضب أمي وتغضب حضرتك إذا قلت إني لا أريد الذهاب، لا يا أخي، لن أذهب، لن أذهب إلا حين أحس أنني أصبحت في غنى عزت باشا أو في غنى قريب من غناه، أعرفت الآن لماذا لا أريد الذهاب؟ هل اقتنعت؟ لن أذهب، ولن أنتظر حتى لأسمع رأيك، فإني أعرفه.
وفي حركة سريعة اتجه يسري إلى الباب وعبره إلى باب الشقة الخارجي، وما هي إلا هنيهة حتى سمعت سميرة هانم وسمع خيري الباب ينصفق صفقة عنيفة، ولم تزد الأم عن أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال خيري: لا تخافي، شدة وتزول، لا تخافي، سوف يعرف قريبًا أيهما أكثر قيمة: الكلام الذي يجري على لساني أم المال الذي يجري في يد الجزار وبائع الخضر.