الفصل الثالث والعشرون
غادر يسري البيت ساخطًا، الثورة تمور في نفسه فكأنه ما أفرج عنها. وراح يسير الطريق يعلو صدره ويهبط لا يفعل ذهنه شيئًا إلا أن يستعيد ما كان يقوله لأخيه، ولا تبدو على وجهه إلا بقايا ابتسامة ساخرة تطفر إلى فمه كلما دار بذهنه ما يفكر فيه أخوه من شرف وكرامة وأخلاق، وغير هذا من الأوهام التي يسبح فيها خيري، والتي لا تساوي عنده إلا هذه الابتسامة. وإنه اليوم يزيد ابتسامته تثبيتًا وإن كانت قد بدأت تتخذ لونًا آخر إلى جانب السخرية التي تتسم بها، فلقد راح يستعيد في ذهنه شكل أخيه وهو يسمع منه هذا الهجوم الذي شنه على العوالم التي يعيش في هيكلها.
نعم إن أخي ما كان يفكر يومًا أنه سيسمع هذا الحديث، ولا شك أن دهشته زادت إن صدر هذا الحديث عني أنا، أخوه الذي عاش معه هذه السنوات الطوال لا يسمع منه حديثًا إلا هذا الحديث عن ماضينا وبيتنا وأسرتنا وكرامتنا، كرامتنا؟! كلام، كلام، في أي عصر يعيش أخي خيري، إنه يغلف نفسه بستار سميك من سنوات الماضي وخرافاته، مع أنه شاب، شاب ودائر وقطع السمكة وذيلها. ولكنه من أفكاره في غرفة أقفل ما بينها وبين الحياة، فهي المعزل البعيد المطمور في خرافات الماضي وأوهام السنين، ألم ير إلى الحياة اليوم؟ لعله لا يعرف ما نعرفه نحن، نعم أظن أنه لم يتعمق الحياة كما أتعمقها أنا، طبعًا ثقافته محدودة ولم يدخل إلى التعليم العالي، ويكتفي بقراءة هذه المكتبة التي ورثها عن المرحوم والدنا. ولكن ماذا تجدي هذه الكتب الأدبية في فهم الحياة على حقيقتها والوصول إلى جذورها؟ العالم يحترق أمامه وهو يقرأ في شعر المتنبي وشوقي وأيام طه حسين ومجدولين المنفلوطي وفلسفة العقاد ومساخر المازني. مصائب، إنه لا يريد أن ينزل إلى الحياة الحقيقية، إلى الواقع، كم دهش حين حدثه الدكتور حامد عن مبادئه، كم دهش حين رأى الدكتور حامد يقول إن كل العواطف ضعف، وإن الحياة لا تقبل إلا على الذين يلقونها بقلوب خالية من كل عاطفة إلا عاطفة المصلحة، وبعزم لا يعرف إلا بلوغ القصد بلا نظر إلى الوسيلة ولا مشاعر الغير، كم جزع أخي، كم جزع، لم يجد شيئًا بقوله إلا أن العواطف لا تُعرف وإنما تُحس، وأنه لا يستطيع أن يناقش إنسانًا هذا رأيه؛ لأنه لن يستطيع أن يقنعه، وقال شيئًا آخر، قال في حدة: لولا العاطفة، عاطفة الصداقة والأخوة بينه وبين الدكتور … ثم لم يكمل، وحين استحثه الدكتور حامد أن يكمل احمرَّ وجهه وصمت ولم يكمل، ماذا كان يريد أن يقول؟ أتراه كان يريد أن يذكر الفضل الذي ناله الدكتور حامد عن طريقه؟ أم تراه يقصد إلى شيء آخر؟ لا أدري. أظن أن الدكتور حامد فهم هذا الفهم، أم تراه لم يفهمه فهو رجل حريص ألا يبدي وجهه شيئًا مما يعتمل في نفسه، كم أعجب بالدكتور حامد، لقد استطاع أن يفهم الدنيا ويتعمق حقائقها، كيف استطاع ذلك؟ أترى سفره إلى الخارج أم تراها طبيعة؟ أم تراه مجرد ذكاء وهبه الله له؟ إنه يختلف كل الاختلاف عن أخي وصديقيه نجيب ومحسن، ولكن أي مقارنة تلك؟ إنه يسبقهم في السن ويختلف عنهم في الثقافة. لا شك أنه يملك مواهب وثقافة وصدفة في أيضًا، فهو لا شك يسبق جيله فهو ثائر على جيله المقيد بالماضي والتقاليد. لا أنسى ما فعله معي في الامتحان.
أي أستاذ غيره يمكن أن يملي الإجابة على تلميذ في اللجنة؟ جرأة عجيبة، أظن إن كان أخي خيري مكانه لقتلني لو طلبت إليه هذا، أمَّا الدكتور حامد فجريء، ألم يقل لي يومها: «أنت أحق بالنجاح من الأغنياء الذين يذاكرون ولا يفهمون شيئًا، وإنما يحفظون ويرمون بما يحفظون على أوراق الإجابة.» رجل مقتنع أنني ذكي وأنني أستحق النجاح والتفوق.
كانت أقدام يسري قد بلغت به إلى موقف الترام، وما لبث أن رأى الترام الذي يبلغ به بيت الدكتور حامد قادمًا فركبه، فقد جعله هذا الحديث الذي دار بنفسه يشتاق إلى رؤيته، كما تذكر أنه يريد أن يسأله في بعض مواضع عرضت له أثناء المذاكرة. وقد تعود يسري أن يزور أستاذه في غير حرج، فقد قاربت الكلية بينهما كما قاربت بينهما روابط الماضي. ولم يكن ببيت حامد إلا خادم هرم قليل المئونة هين الأجر، فلم يكن يسري يرى حرجًا في أن ينتظر أستاذه بالبيت حتى يعود إذا تصادف وذهب على غير موعد أو ذهب على موعد فلم يجد أستاذه بالبيت، فقد كانت الصلة بينهما تتيح للأستاذ ألا ينتظر تلميذه مكتفيًا بترك ورقة يطلب إليه فيها أن يعود في موعد آخر أو يطلب أن ينتظره حتى يعود، كما كانت تتيح ليسري ألا يغضب.
وبلغ يسري البيت ودق الجرس، وفُتح الباب عن دولت. أخذ يسري بعض الشيء وعاجلته هي قائلةً: أهلًا.
فيها ترحيب وفيها شوق. وقال يسري: أهلًا بكِ.
– أين أنت؟ من زمان لم نرك.
– في الدنيا، خير ماذا جاء بكِ؟
– ماذا، غريبة؟
– نعم.
– بيت أخي.
– أعرف، ولكني أجيء إليه كل يوم تقريبًا ولا أراكِ.
– أنا أجيء إليه من حين لآخر، أرى ملابسه وأنظم بيته وأعود.
– آه، أهو هنا؟
– لا، ادخل.
ودخل يسري وهو يقول: أين ذهب؟
– لا أعلم! جئت فلم أجده.
– وأين عم إدريس؟
– لا أدري أيضًا، فإنه ما كاد يراني حتى قال الحمد لله أنك جئت، انتظري أنت أخاك وسأنزل أنا أشرب فنجان شاي لأن عندي صداعًا، وأريد أن أشم الهواء. ونزل السلم يجري كأنه ابن العشرين.
– هيه، طيب.
– اقعد، ما لك واقفًا؟ ألا تنتظر أخي؟
ولم يتردد يسري إلا بكلمة عابرة أطلقها وهو يقتعد الأريكة في البهو: قد يغيب.
وقالت دولت في دلال: وماله؟ لنا زمان لم نرك.
هي دولت كما هي، لم تغير منها السنون، ولم تمر بها الحرب. عفيفة رغم أنفها، عاهرة لو استطاعت إلى ذلك سبيلًا، الرجل يملأ تفكيرها وحسها، ولولا بعض حياء ما امتنعت على الخدم في بيت الباشا. ولكنها لم تستطع أن تنسى مكانها في البيت، وأخاها الذي أصبح أستاذًا كبيرًا، فعفت عن الخدم ولم تجد في حياتها غيرهم، فعاشت شريفة بواقع أمرها، غير شريفة بآمالها وتفكيرها وأحلامها وأمسياتها المنفردة الباردة.
لم تجد زوجًا، فأخوها يأبى لها الجاهل ولا يجد لها المتعلم. وهي في وسط بعيد عن الرجال الذين قد يقبل أخوها أن يزوِّجها بأحدهم. وقد جعلتها إقامتها في بيت الباشا تقتنع برأي أخيها، فإنها لم تعد تطيق أن تنزل من هذا العز الذي رفلت في أطوائه إلى حياة جافة مع صانع أو مثيل له.
نظر يسري إلى دولت مليًّا، جمال أخاذ، إنه يعرف ذلك منذ زمن بعيد، ولكن كيف كان يمكن أن يصل إليها؟ لقد انقطع عن بيت عزت باشا في الوقت الذي كان يمكن أن يستغل فيه علمه بجمالها.
أحست دولت نظرته وعرفتها والتذتها، فأقامت مكانها ترنو إليه وتنتظر أن ينتهي من النظر بحديث. ولم يطل انتظارها. قال: ازددت جمالًا يا دولت.
وضحكت دولت في تمايل وهي تقول: أما تزال تراني جميلة؟
– أجمل مما كنت أراكِ.
وازدادت ضحكًا وقالت: أنت أيضًا ازددت جمالًا، فقد أصبحت تعتني بشعرك وتمشطه، وخلعت الطربوش الذي كان لا يفارقك على الرغم من خوصته الكسرة، وأصبحت تهتم بملابسك، وازدادت عيناك بريقًا، ولو أن الخبث حل فيهما محل البراءة، وأصبحت ذا عينَين جريئتَين حتى لأستحي أن أقف أمامك، فإنه يخيل إليَّ أنك توشك أن تخلع عني ثيابي.
وقال يسري في لهو: يا ليت!
وضحكت دولت ضحكة عالية وهي تقول: لا، لقد أصبحت بلوى كبيرة.
وأمسك يسري بيدها وأجلسها إلى جانبه.
وتحققت أمنية دولت آخر الأمر، واستطاعت أن تجد رجلًا، واستطاعت أيضًا أن تترك عهد العذارى غير آسفة ولا قلقة، فقد كانت تحس أن لا أحد هناك سيأسف على ما فقدته، فهي لا أحد لها إلا أخوها، وأخوها لا يهمه من أمرها إلا أن تكفيه مئونتها ولا تطلب منه مالًا، ثم هو مشغول بعد ذلك بالكلية وبالمجد الذي يمهده لنفسه في الحياة، فماذا تخشى؟
وهكذا وبهذا الاطمئنان المستقر في نفس دولت استطاع يسري أن يطمئن هو الآخر، فما دامت هي غير آسفة ولا قلقة ولا خائفة، فماذا يدعوه هو إلى الأسف أو القلق أو الخوف؟! لا شيء.
قالت له: أين نلتقي بعد ذلك؟
قال يسري: لا أدري!
– لماذا لا تأتي إلى البيت؟
– وما الفائدة؟
– صحيح.
ثم قال وكأنما أشرقت في ذهنه فكرة رائعة: لماذا لا نلتقي هنا؟
ونظرت دولت إليه في دهشة: هنا؟!
– نعم، لمَ لا؟
– وأخي؟
– سأعرف مواعيد خروجه وأخبرك بها بالتليفون.
وظلت دولت تحملق في وجهه بدهشة وهي تقول مرددة وراءه بلا تفكير: بالتليفون.
– نعم، سأظل أطلب البيت ولا أجيب حتى أسمع صوتك، فإذا سمعته أخبرك بالميعاد ولا تجيبي أنت.
وبدا على دولت أنها اقتنعت، ولكنها ما لبثت أن قالت: وعم إدريس؟
– لا شأن لك به، سأسبقك وأجعله ينزل بأي حجة أو تسبقيني أنت، وهو ما أحب أن ينال إجازة بمجيئك.
– نجرب.
– ليس أصلح من هنا.
– أترى ذلك؟
– لا شك.
وما هي إلا دقائق حتى كان يسري بالطريق يفكر فيما كان من أمره وأمر دولت، فرحًا هادئ النفس، يسير على الأرض ولا يكاد يلمسها من مرح ونشوة، حتى إذا هفت إلى ذهنه فكرة أنها أخت أستاذه وصديقه الذي يحبه حُبًّا يكاد يصل إلى حبه لأخيه خيري طمأن نفسه، إن حامد واسع الأفق ثائر على التقاليد ذكي، ما تلبث نفسه أن تطمئن ويعود إلى سيره يكاد لا يلمس الأرض من مرح ونشوة.