الفصل الخامس والعشرون
أفاق يسري إفاقة تامة، وواجه أخاه الذي طالعه وجهه من ثنايا الظلام الأغبر مبتسمًا حانيًا صافحًا مدركًا، وظل يسري صامتًا مستخزيًّا.
وقال خيري: هل أصابك شيء؟
– لا، بسيطة.
– أتستطيع المشي؟
– نعم، أظن ذلك.
– اعتمد على ذراعي وامشِ.
– أين تريد الذهاب؟
– إلى البيت.
– خذني إلى مكان آخر.
– تعالَ.
– إلى أين؟
– تعالَ.
ومشى الأخوان يعتمد يسري على ذراع أخيه. تعثرت خطواته في أول الأمر بعض الحين، ثم ما لبث أن استقام به المسير. وبلغا شارع قصر العيني، ولم يمل أخوه إلى المنيرة، بل حاد يمنة إلى النيل، وحين بلغا الحجارة البيضاء المشرفة على النهر العريق جلس خيري وساعد أخاه فأجلسه إلى جانبه، ثم قال: هل فكرت يومًا أن تجلس جلسة كهذه؟
وقال يسري في سخرية تتردد بين الظهور والاستخفاء: جلسة شاعرية تعني؟
فقال خيري مغضيًا عن رنة السخرية في صوت أخيه: مثلًا.
– لا يا سيدي، أنا لست من غواة الشعر.
– هل لا بد أن تكون من غواة الشعر حتى تتمتع بالطبيعة، يُخيَّلُ لي يا يسري أنك لا تتمتع بالطبيعة أبدًا.
– هذه متعة لا أعرفها، إنما أعرف متعات أخرى.
– حتى هذه المتعات تحتاج إلى شيء من الجمال في نفسك لتتغلغل إلى كيانك، تستطيع أن تسكب على حياتك لونًا من الجمال، من الإحساس، من المشاعر.
– إحساس! مشاعر! الشعر أتلف الدنيا معك.
وقال خيري في بساطة: قل لي يا يسري، ألم تحس في لحظة، في لحظة عابرة أنك تحب هذه الدنيا، الدنيا كلها بكل ما فيها ومَنْ فيها؟ تحب الظلام والنور، تحب العدو والصديق، تحب الدنيا لأنك فيها، وتحب الله لأنه صنع لك هذه الدنيا، والدنيا كلها بجمالها، بل بقبحها وقسوتها. ألم تحس في لحظة — ولو لحظة — أن قلبك استطاع أن يحتوي العالم جميعه واستطاع أن يحنو عليه ويعطفه بما فيه من جمال، بل ما فيه أيضًا من بؤس؟
قال يسري في نفس البساطة: لا.
– أبدًا؟
– أبدًا، ولا أظن أنني سأفعل، أي دنيا هذه التي أحبها؟ هذه الدنيا التي جعلتنا فقراء وجعلتك تترك تعليمك لتعلمنا أنا وأختي، وجعلت خيرنا أغنياء لا يدرون ما يفعلون بمالهم؟
– أليس جميلًا أن تجد في الحياة أخًا مثلي ترك تعليمه لتعليمك أنت وأختك؟ أليست جميلة هذه الصلات القوية الرقيقة التي تصل الأخ بأخيه والصديق بصديقه؟
– ليست جميلة أبدًا، ماذا كسبت؟ إنك تفلسف حياتك فتقبلها مع أنها حرمتك من العلم والطموح والغنى، أمَّا أنا فلا أستطيع.
– لقد حرمتني الحياة مما قلت، ولكنها وهبت لي الأصدقاء والحب والدفء والطمأنينة، وإني أرى في هذه الأشياء غِنًى عن الطموح والغنى.
– ألم أقل إنك تفلسف حياتك وتقبلها؟ أنا لا أفلسفها، أنا أنظر إلى الواقع الملموس فيها، فأرانا فقراء وغيرنا أغنياء، لماذا؟ ماذا يفيد الدفء في حل هذه المعضلة؟
– طيب اسمع، أترضى أن تكون فردًا من عائلة عزت باشا بدل أن تكون فردًا من أسرتنا هذه؟
– أرضى! أرضى يا أخي، بل أتوق وأتمنى.
– ترضى أن تكون أختك … صماء؟
وأخذ يسري هنيهة وقال: صماء؟!
– نعم.
– لماذا … ما معنى سؤالك؟
– معناه أن لكل أسرة متاعبها، أسرة عمك عزت باشا نعرف المصيبة التي تكمن ببيتها، أمَّا الآخرون فلا نعرف مصائبهم. دع الخلق للخالق يا يسري، واحمد الله على الصحة.
فقال يسري ساخرًا: الصحة، نحمده، أهذه كل ما نملك؟
– أهي قليلة؟ على أنك تملك أيضًا الستر وإخوة يحبونك وأمًّا ترعاك.
– يا سلام على الأملاك، يا سيدي على الشفالك.
– ليست الدنيا كلها أملاكًا وشفالك يا يسري.
– آه، صحيح، الدنيا ذكريات الماضي التي لا تزال تجترها حتى تتماوج الدموع في عينَيك، والدنيا شعر وخيال والنيل الهادئ والأحلام، لا يا آبيه خيري، الدنيا تغيرت، تغيرت كثيرًا عن هذا، أصبحت واقعًا مجرَّدًا، أصبحت قيمتك تُحدَّد بما تملك. إن كان ما تملكه يحويه جيبك فأنت لا تساوي أكثر من حجم الجيب الذي يحوي مالك، وإن كانت أملاكك في الأرض فقيمتك على قدر الأرض أو العمارة، وإن كانت في البنك فعلى …
وقاطعه خيري: قدر رصيدي في البنك، أهذه هي الدنيا كما تراها؟ أترى أنها تغيرت فأصبحت كذلك؟
– لا شك.
– بل إن هناك شكًّا، بل إن هناك يقينًا أنها ليست كذلك، هذه غمرة حرب يا يسري ثم تنجلي وتعود الدنيا مرة أخرى إلى معانٍ أخرى وقيم غير هذه القيم.
– معانٍ وقيم؟ لم تعد الدنيا تحتمل هذه الخرافات يا آبيه خيري.
– بل هي الحقائق يا يسري وأنت لا تدري. الحياة كلها في الصلات الدقيقة غير المرئية التي تربط الإنسان إلى الإنسان، في الحب، في العطف، في الإحساس بالجمال، في الإشفاق على البائس، في إيثار الصديق على النفس، في هذه التيارات الهينة العنيفة التي تسري وتعصف في طوايا الإنسانية، دائمًا وفي كل جيل وفي كل زمن. العملات تتغير، والمذاهب الاقتصادية تتبدل، والعواطف ثابتة منذ عُرفت حتى الآن، لم تتغير ولم تتبدل، وهي هي في جميع أنحاء العالم، وهي هي منذ الأزل وإلى الأبد، الناس تضحك إذا فرحت وتبكي إذا حزنت، وتحتقر الحقير وتعجب بالنبيل، لا يختلف في هذا قوم عن قوم ولا دين عن دين. هذا الإجماع العالمي هو الذي يرسي للعواطف والمعاني الكريمة خلودها، فهي خالدة باقية.
– أين هي اليوم؟
– في النفوس، ظاهرة في بعضها خافية في البعض الآخر، ولكنها موجودة عميقة راسخة في الأغوار البعيدة من نفس الإنسانية، وستظل هناك وإن طغت عليها موجة عاتية من سعار الحرب ومادية الحياة، إلا أنها لا بد ستظهر.
– ما أسعدك! تعيش في أحلامك سعيدًا بها.
– وما يمنعك يا أخي أن تخلق لنفسك أحلامها وتعيش فيها؟
– الحياة، واقع الحياة وأنا أبصره أكاد أمسك به، الحياة، الحقيقة؟!
– ما أملك في الحياة؟!
– الغنى.
– عن أي طريق؟
– عن أي طريق! ألا ترجو الغنى أنت أيضًا؟
– بل أرجوه، ولكن ليس عن أي طريق.
– فعن أي طريق تريده؟
– أريد أن أجهد وأحصل على المال، لا أحب هذا المال الذي يجيء سهلًا، لا أحب المال الذي يعجبك في يد الجزار الذي اغتصبه غصبًا من الإنسانية منتهزًا فرصة الحرب والقتل والدمار ليغنى ويثرى، ولا هذا الذي اغتصبه اللبان، لا، لا أحب هذا ولا أريده.
– طيب، وما رأيك في مال يأتيك عن زوجة غنية؟
ووجم خيري وطالت وجمته بعض الحين، ثم قال: ألا تعرف رأيي؟ ألم تعرفه؟
– صحيح، هذا نوع من المال لم يعجبك.
وألحت الذكريات على خيري فظل صامتًا، حتى قال أخوه أخيرًا: هيا بنا.
وأفاق خيري من وجومه ليقول في ذهول: نعم، هيا بنا.