الفصل السادس والعشرون
نجح يسري في عامه هذا وحصل على شهادة البكالوريوس، وقد استقبل البيت الصغير النبأ في فرحة غامرة، فهي أول شهادة عالية يحصل عليها بيت همام. وقد أحس خيري أنه أدى واجبه، ورأى في شهادة أخيه ثمار سعيه، وكانت نادية فرحة بأخيها، فقد أصبحت ترى في كل نجاح تصيبه العائلة خطوة تدنو بها إلى الآمال المنضورة التي بدأ الشباب يهيئها لها.
ومرت أيام قليلة على نجاح يسري، ثم كان يوم اجتمعت فيه الأسرة حول مائدة الغداء يديرون الحديث بينهم رهوًا فيه تكاسل السعادة وهدوء الأمن، ودق الجرس فشخصت إلى الباب الحاجة زينب، وانفرج الباب عن عزت باشا يحمل في يديه هو لا يدي السائق لفافة ضخمة، ودخل عزت باشا ومن ورائه إجلال هانم، ثم محسن يتبعهم السائق يحمل لفافة واحدة، وقد خلت يده الأخرى.
وقامت سميرة هانم من جلستها في فرح وشكر دون أن تطغى الفرحة أو يطغى الشكر على كبرياء طبعت به حركاتها ومخارج ألفاظها، وقالت: أنت يا باشا تحمل اللفافة، ألا تتركها للأسطى عبده يحملها عنك؟
وقال عزت باشا في فرح صادق عميق: إن لم أحمل تورتة نجاح يسري فماذا أحمل؟ جئنا نشارككم في الغداء فهل لنا متسع؟
وكان يسري وخيري ونادية قد خفوا إلى عمهم وأسرته، وقد أدهشتهم المفاجأة، والتقت في قلوبهم بخفقة شكر أحسها يسري نفسه الذي طالما كفر بالعواطف. كانت المائدة هي مائدة همام وهي مائدة تعودت أن تمتد ولا تضيق بوافد، فامتدت ووسعت القادمين ووسعت ما حملوه معهم من هدايا، وانتهى الطعام وقاموا إلى غرفة الجلوس، وقال عزت باشا في صفاء: مبروك ثانية يا يسري.
– بارك الله فيك يا عمي.
– أتظن أنني لم أعرف إلا اليوم؟
– أظن ذلك.
– إني أعرف بنجاحك في نفس اليوم الذي عرفت فيه أنت، ولكنني تأخرت عامدًا متعمدًا.
وضحكت سميرة هانم وهي تقول: لماذا يا باشا كفى الله الشر؟!
وقال الباشا: لم أرد أن أقول مبروك واحدة، لا بد من مبروكين.
فقال خيري: فأمَّا واحدة فنعرف أمرها، وأمَّا الثانية …
فقال عزت باشا: فأمَّا الثانية فلأنني حصلت ليسري اليوم على وظيفة في وزارة المالية، ما رأيك يا أستاذ يسري؟
وأحس يسري دفء العطف ينهل عليه من هذا الرجل الكبير، وقال دون أن يفكر فيما يقول: أشكرك يا عمي، أشكرك غاية الشكر.
وقال عزت باشا: هذه كلمة لا أحب أن أسمعها منكم يا يسري يا ابني، أبوك كان أخي، وقد حاولت أن أؤدي واجبي نحوه فمنعني خيري، منعني مرتين. وأعجبت به في المرتين، وغضبت منه في المرتين، فأنا مهما أفعل الآن لا أحس أنني أديت واجبي نحوكم، أنتم أولادي.
وشاعت في الحجرة موجة صامتة، فيها شكر وفيها حنان وفيها مودة جمعت قلوبًا على معانٍ كريمة عميقة. وأحس خيري أنه لا يستطيع أن يقول شكرًا، وأحس يسري أن آراءه ليست جميعها سديدة، وأن من الناس مَنْ يستطيع أن يكون ذا قلب كبير، وأحس أيضًا أن شكره إن حاول أن يقدمه فسينزل في غير مكانه، وقد يقطع هذه الموجة الحنون التي أظلت القوم فتركوا نفوسهم تلتذها وتنغمر في أسلوبها.