الفصل الثاني والثلاثون
نَعِمَ يسري بحياته الجديدة، واستطاع أن يُنسي فايزة مخاوفها، فكان يُقبل عليها مشرقًا وينصرف عنها ملاطفًا، واستكانت هي إلى هذه الحياة الجديدة مقبلة عليها في سعادة لم تعرفها منذ كانت طفلة لاهية، وأوشكت أن تنسى ما بها. وشهد أبوها وأمها وأختها هذا الإشراق الجديد الذي أصبح يشيع في أجوائها، وكان خيري لا يني عن الزيارة وكان يشهد هذه السعادة التي استطاع أخوه أن يهيئها لزوجته، وكان يرى آثارها على العائلة جميعها، ولكنه لم يطمئن كما اطمأنت عائلة عزت باشا، فقد كانت معرفته لأخيه أعمق، ولم يشأ أن يكدر هذا الصفو فهو يظهر لهم فرحه، ويخفي خوفه، يخفيه عن وفيه التي ما تكاد تختلس خلوة به حتى تظهر رضاها غاية الرضا عن أخيه ومعاملته لزوجته، وكان خيري يلاقي فرحها بفرح يصطنعه متكلفًا في اصطناعه غاية الجهد.
ومرت الأيام بيسري وهو بها هانئ، وكان عزت باشا لبقًا كيِّسًا، فاستطاع أن يمد عونه ليسري دون أن يجرح كبرياءه، فقد طلب إليه أن يشرف على حسابات الزراعة، وحدد له لقاء هذا أجرًا كبيرًا قبله يسري في صمت كحق مفروض له، وهكذا أصبح هذا الأجر وما يناله كمرتب من وزارة المالية مالًا خالصًا له هو غير مطالب منه بشيء إلا هدايا قليلة يقدمها لأخته نادية أو لأمه، وحين حاولت أمه الرفض غضب وكاد يقاطع البيت فقبلت مرغمة. وأراد يسري أن يقدم لأخيه خيري بعض هذه الهدايا فأقنعه خيري ألا يفعل، ولكن دون أن يغضب ودون أن يتيح له فرصة للغضب، مشيرًا إليه أن واجبه يقضي عليه بأن يقدم الهدايا لزوجته، ففرح يسري بهذه الإشارة ونفذ مضمونها في إقبال وغدق.
ولم تطل أيام يسري الهانئة، فإن نفسه لم تعفه من الضيق.
ها هو ذا المال يجري بين يدي، وها أنا ذا لا أشتهي شيئًا، فما لي ضيِّق النفس لا أستقر على حال من القلق والملل؟ إني أعمل … ماذا أعمل؟ ألا أذهب كل يوم إلى الوزارة؟ وماذا أفعل بها؟ إنني هناك كما أنا في البيت زوج بنت عزت باشا ولا عمل، ألم يكن المال هو كل ما أشتهي؟ ألم أكن أحسد الجزار وبائع اللبن وعزت باشا على غناهم؟ وها أنا ذا أكثر غنًى منهم، فإن المال يأتيني ثم أنا غير مطالب بشيء، دفتر حساباتي فيه الوارد وليس فيه الصادر، ربح خالص بلا رأس مال، وعزت باشا يشقى ويكدح طول عامه، يسافر إلى العزبة مرات في الأسبوع، ويتابع أمواله في كل مناحيها، وأنا ما عليَّ إلا أن آكل من شقائه وأسعد ابنته، وإن إسعادها هين يسير. ولكني أرى عزت باشا سعيدًا في سفره سعيدًا في شراء الأسهم وبيعها ولا أرى نفسي سعيدًا، يبدو لي أن السعادة ليست في المال ذاته، وإنما في بذل الجهد للحصول عليه، فأي جهد أستطيع أن أبذله؟ آه لو شهد أخي خيري هذا الضيق الذي يزحم نفسي لأحس الانتصار عليَّ مرة أخرى، وكيف له أن يشهد؟! إنني لا أبدو أمامه إلا سعيدًا هانئًا فمن له بما يركد في نفسي من ضيق وملل؟ ولو أنني حكَّمت منطقي وحده لوجدت هذا الضيق سخفًا خالصًا، لقد طلبت الغنى فنلته، والسلطان فتحقق لي بفضل عزت باشا، فما هذا الضيق؟ وما حيلتي فيه وأنا أحسه يملأ كياني، ويهصر سعادتي، ويدمر أيامي تدميرًا؟
حتى دولت لم أعد أجد بين أحضانها ما كنت أجد، حتى الويسكي لم يعد يمدني بهذه النشوة التي كنت أحسها منه حين كنت أشربه مع عبد الوهاب وصبحي، ترى أيحس عبد الوهاب ما أحسه أنا؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ ما لي أظن الناس جميعهم سعداء إلا أنا؟ فيمَ يختلف عني عبد الوهاب؟ حاله كحالي ولعله يظهر الرضى ويخفى الضيق الذي أخفيه، ألا يحس عبد الوهاب حاجة إلى السعي؟ ألا يحس بشوق عارم للعمل؟ ألا ينظر لما يدخل في جيبه من مال نظرة باردة لا حرارة فيها؟ ألم يفقد سروره بهذا المال؟ ألا تهدر في نفسه عواصف من رغبة العمل؟ ألا يريد أن يمسك مالًا كسبه عن عمل لا عن وساطة؟ وبعد، ماذا لي من أمل في الحياة بعد هذا؟ إلى أي مدى أتشوف للمستقبل؟ ماذا أريد من هذا المستقبل؟ وما لذة اليوم الجديد؟ ماذا لي في طوايا الغيب؟ سكون راكد كالمستنقع. إن لي مالًا، وإنني آمن من الفقر. ولكن ماذا بعد أن يزيد مالي؟ وماذا أفعل به؟ وما لذته وأنا لم أجهد للحصول عليه؟ ماذا أفعل بشبابي جميعه؟ طلبت الغنى فها أنا ذا أناله في أول خطواتي من الحياة، ثم ها هي ذي الحياة بكاملها تمتد أمام ناظري بيضاء باهتة بلا حياة فيها ولا أمل ولا عمل، ألمثل هذا كانت ثورتي؟ وا خيبتاه! لا حياة لي، لا حياة.