الفصل الثالث والثلاثون
كان الدكتور حامد عبد الكريم جالسًا بين رهط من إخوانه الأساتذة في جروبي، وكان الحديث يدور بينهم هيِّنًا لا يمس إلا أمورًا تكرر تناولهم لها مرات ومرات، ولكنهم لا يجدون غيرها ليديروها بينهم، وأقبل عليهم في جلستهم زميل لهم هو الدكتور أنيس عوض، وما إن حيَّاهم وجلس حتى سأله صديقه الدكتور فهمي صدقي: خير يا أنيس؟
– خير إن شاء الله.
– هل تمت المسألة؟
– أعتقد أنها ستتم قريبًا.
وسأل حامد: ماذا يا أنيس؟
وقال الدكتور أنيس محاولًا أن يغير موضوع الحديث: لا، لا شيء، مسألة بسيطة.
وقال حامد في ثقة مدركًا ما هدف إليه صديقه من محاولة البُعد عن هذه المسألة: هي سر إذن.
وقال الدكتور فهمي محاولًا أن ينقذ صديقه مما أوقعه فيه: يا أخي ألا تترك شيئًا إلا وتحاول معرفته؟ هل انتهيت من طبع كتابك؟
ولم يجب حامد، بل فكر قليلًا محاولًا أن يعرف ما يخفيه صديقه، ولكن فهمي لم يتركه يفرغ لتفكيره، بل أعاد سؤاله مرة أخرى في صوت أقوى، فانتبه حامد من سرحته ليقول: آه، ماذا؟ آه، نعم، كدت أنتهي من طبعه.
وضحك الزملاء من إجابة صديقهم المترددة، وعادوا إلى حديثهم الذي قطعه عليهم مجيء الدكتور أنيس. ولم تطل بهم الجلسة وبدءوا ينصرفون الواحد بعد الآخر، وكان حامد يعرف أن زميلهم الدكتور محمد وحيد صديق للدكتور فهمي صداقة وطيدة، فحرص أن يكون انصرافه في رفقة الدكتور محمد، فما كاد هذا يستأذن في الانصراف حتى استأذن حامد معه وخرجا إلى شارع المناخ معًا. وسأله حامد: أذاهب إلى البيت؟
– نعم.
– خذني معك، إني أريد أن أزور صديقًا في جهتكم.
– أهلًا.
وهكذا أتاح حامد لنفسه فترة طويلة يحاول فيها أن يستخلص هذا السر الذي أخفاه عنه أنيس وفهمي. ولم يكن الوصول إلى هذا السر يحتاج إلى كثير مداورة ولا كبير عناء، فما أسرع ما عرفه، وما أعظم الفائدة التي توقعها لنفسه من معرفته.
قصد الدكتور حامد من فوره إلى بيت تلميذه السابق وصديقه الدائم يسري، وكان هو نفسه بيت عزت باشا. وكان يسري بالبيت فدعاه حامد أن يخرجا معًا ليجلسا في سان سوسي، وما إن استقر بهما المكان حتى قال حامد: مسألة يا يسري لو تمت نلنا بها السعادة والغنى والجاه.
وكأنما كان حامد يعلم ما بنفسه من شوق إلى العمل، وما أسرع ما قال يسري في فرح: صحيح.
– صحيح جدًّا، اسمع. المسألة تحتاج إلى عناية ومثابرة واهتمام، وأنا واثق أنها ستتم.
– ماذا؟
– منصب عضو مجلس الإدارة المنتدب لشركة التأمين الوطنية.
– ما له؟
– خالٍ، ويريدون أن يعينوا فيه أستاذًا جامعيًّا.
– ما المناسبة؟
– المناسبة أنهم يريدون أن يضفوا ثقة على الشركة، أو أي سبب آخر، المهم أن زميلًا لي مرشح وتجري معه مفاوضات.
– من زميلك؟
– الدكتور أنيس عوض.
– ولماذا اختاروه؟
– له قريب في مجلس الإدارة.
– وماذا تريد مني؟
– لو أن الباشا كلم وزير المالية فرشحني لأصبحت أنت سكرتيرًا عامًّا للشركة بمرتب تحدده أنت.
– ولكن الباشا لو عرف أنني سأعمل بالشركة لاعتبر هذا رشوة.
– ومن الذي سيخبره؟
– ألست سأُعيَّن؟
– بعد أن أعين أنا، وحينئذٍ لن يكون للباشا عندنا كلام.
– معقول.
– خدمة يقدمها لي الباشا كما تعوَّد أن يقدم من خدمات.
– توكل على الله.
– وعليك.
– إن شاء الله.
•••
عاد يسري إلى البيت والأمل يداعب نفسه عن هذا المنصب الجديد. ووجد الباشا جالسًا وحده في المكتب فألقى إليه رجاء الدكتور حامد في لهجة خلت مما يخالط نفسه من آماله يعلقها به، ووجد عند الباشا قبولًا كشأنه دائمًا كلما سنحت له فرصة لخير يقدمه إلى حامد، واطمأن يسري وظل مع عمه يدور بينهما الحديث في شتى مناحيه. ثم قام العم لينام وصعد معه يسري.
وكان جناح يسري وفايزة مستقلًّا عن البيت لا يشركهما فيه إلا دولت في حجرة مقابلة لحجرتهما. وحين بلغ يسري جناحه وجد حجرة نومه مظلمة وبابها مقفلًا، ووجد باب دولت منفرجًا ورأى ضوءًا خافتًا ينبعث منه، فدلف من الباب المنفرج إلى الضوء الخافت.