الفصل الثامن والثلاثون
لم يكن فرح دولت كبيرًا، فقد حرص الدكتور حامد أن يكون في أضيق الحدود الممكنة، وقد حضر عزت باشا الفرح وفاءً منه لدولت كما شهدته وفية ومحسن ونادية وإجلال هانم وسميرة هانم، إلا أن فايزة استطاعت أن تجعل من حملها سببًا قويًّا للاعتذار، فلم تحضر، كما استطاع خيري أن يجد عذرًا فلم يشهده هو الآخر، فهو لا يعرف صبحي ولا يحب أن تقوم بينه وبين دولت صلة من بعد، ولم ينتبه أحد إلى غياب الاثنين غير يسري، إلا أنه سرعان ما نفض عن ذهنه أن زوجته تعرف شيئًا، وكان العروسان قد استأجرا شقة صغيرة بالغة الصغر، فما إن انتهت الليلة حتى انتقلا إليها وانفض السامر الصغير في شقة الدكتور حامد الفاخرة.
•••
كان يسري في مكتبه صبيحة الزواج حين اقتحم صبحي عليه الباب وهو يقول في غضب وسخرية: صباح الخير يا أستاذ.
ووقف يسري محاولًا أن يتجاهل ما كان واضحًا في الاقتحام والصوت من معانٍ مخيفة: أهلًا وسهلًا، أهلًا بالعريس.
وقال صبحي دون أن يهدأ غضبه أو تخف سخريته: أهلًا بك، من العريس، أنا؟
وقصد يسري إلى الباب فأقفلته، والتفت إلى صبحي قائلًا: ماذا بك يا صبحي؟ اجلس.
– لن أجلس، أريد مقابلة عضو مجلس الإدارة المنتدب.
– لماذا؟ خير؟
– خير طبعًا، وأي خير، أخبره عن أخته وعن الحاجَّة توحة والعملية الفاشلة التي أراد لها الله أن تفشل حتى أفتح عيني ولا أصبح ما أردت لي أن أكون.
وأدرك يسري كل شيء، ولكنه سرعان ما تمالك أمر نفسه وقال: اجلس، اجلس أوَّلًا.
قال صبحي: ولماذا أجلس؟ أنا نسيب البك عضو مجلس الإدارة، أريد أن أقابله، أنا أقرب منك وهو أقرب إليَّ منك، أنا نسيب البك، لا بد أن أقابله.
وقال يسري في جرأة: اجلس يا أخي، ماذا تريد أن تقول له؟
– ماذا أريد أن أقول له، ألا تعرف؟
– وماذا تنتظر أن يفعل لك؟ أتظنه سيحتضنك ويشكرك ويقدم إليك الوظيفة التي تريدها؟!
وحين سمع صبحي لفظة الوظيفة جلس وصمت، وقال يسري: اهدأ هكذا ولنتفاهم، إن أمورًا مثل هذه التفاهم فيها مهم ومفيد.
– مفيد، مفيد؟!
– نعم مفيد.
– أهكذا، أرني يا سيدي كيف يكون التفاهم مفيدًا، فمنك نستفيد.
– نعم مني تستفيد، وما المانع؟
– تفضل قل.
– المشكلة أنك وجدت عروسك ليست فتاة، أليس كذلك؟
– ها أنت ذا تعرف!
– كيف يمكن أن تصبح فتاة؟
– حاولت الحاجَّة توحة فلم تفلح.
– قد يفلح غيرها.
– لا أفهم شيئًا.
– ألا تفهم؟
– أفصح.
– ألا تستطيع أنت؟
– أنا، أنا.
– نعم، من سيعلم بالحقيقة، هذه مسألة بينك وبين زوجتك لا يعرف بها غيركما. وأنت لم تتزوجها حُبًّا فيها وإنما حُبًّا في الوظيفة، والوظيفة مضمونة ما دام بينكما الزواج.
– وأسكت؟!
– فإذا أضفنا إلى الوظيفة مبلغًا صغيرًا من المال يكون رأس مال لكما ولأبنائكما، ألا يعوضك هذا عن زوجة فتاة؟
وسكت صبحي وأطرق، وانهلت من عينيه دمعتان، وكأنما تسربت فيهما سخريته التي صحبها، فأخرج المنديل الأنيق الذي أهداه إليه يسري وأزال دمعتَيه، وأزال معهما البقية الباقية من غضبه وقال: لا بد أن يكون التعويض كبيرًا.
– سيكون مجزيًا.
– خمسمائة جنيه.
– فإن كان مائتين.
– اجعله ثلاثة.
– مائتان، ولا ترد المائة جنيه التي اقترضتها مني.
وأطرق صبحي وصمت، وأخرج يسري دفتر الشيكات وكتب شيكًا جعله لحامله وأعطاه صبحي الذي وضعه في جيبه وهو يقول: ومتى أتسلم الوظيفة؟
– ألا ترى أن تنتظر بضعة أسابيع حتى لا تُحرج الدكتور حامد؟
– على ألا تصل إلى شهور.
– توكل على الله، فترة أسبوعين أو ثلاثة وأكتب قرارًا بتعيينك وأجعله يوقعه.
– وهو كذلك.
وخرج صبحي غير غاضب ولا ثائر ولا حائر أيضًا، فقد علَّمته أيام الشظف التي عاشها مع أبيه وأمه ألا يغالي في غضبه، كما علَّمته أن الطريق وعر على رواده، كما علَّمته النقود أن يكون هادئًا ما وسعه الجهد.
وحين خلا يسري بنفسه راح يفكر في هذه الوظيفة التي وعد بها صبحي. لم تعد هينة المأخذ كما كان يظن حين وعده بها أول الأمر، فقد كثرت الصفقات المريبة التي عقدها الدكتور منذ ذلك الحين، وأصبح مجلس الإدارة كثير التشكك، وكثر التساؤل بين أعضاء المجلس، والدكتور حامد لا يريد أن يكف عن صفقاته، ولا يريد أن يستمع إلى تحذيره، بل هو ماضٍ في سبيله لا يكترث بأحد ولا بشيء، فكيف يستطيع اليوم أن يعين زوج أخته، وكيف يوافق المجلس على هذا التعيين؟
•••
مرت شهور بعد الأسبوعين والثلاثة، وصبحي يقدم في كل حين يستنجز يسري وعده، ويسري يستمهله، ويلجأ إلى حامد فيستمهله أيضًا مدركًا ما يحيط به من حرج. وكان صبحي لا يستطيع أن يطلب مالًا من حامد، وما كان ليعطيه لو هو طلب، فقد كان يجهل كل شيء، ولكن صبحي كان يلجأ إلى يسري فيعطيه عشرة ثم خمسة ثم جنيهين، ثم جاء يومًا إليه وهو يقول: وبعدين يا يسري؟
– وبعد فيمَ؟
– الوظيفة؟
– نحن في موقف غاية في الدقة، وما إن نخرج منه حتى تُعيَّن على الفور!
– وأنا ماذا أفعل؟
– وأنا ماذا أفعل؟
– لقد طال الوقت وطال.
– ألا أعطيك ما تطلب؟
– أتمُنَّ عليَّ بما تعطي؟ إنك مضطر لذلك.
– وما يضطرني؟
– ألا تعرف؟
– آه! هذه الحكاية القديمة؟
– ماذا! أأصبحت قديمة؟
– ألم تعرف هذا؟ ألم يمر على زواجك شهور؟ أتريد بعد هذه الشهور أن تقول؟
وأدرك صبحي الموقف على حقيقته، وقال يسري: أتظن أنني مضطر لإعطائك، لا يا أخي، أنا أعطيك لله، لا لأني مرغم!
وأطرق صبحي، وقام صامتًا وخرج.