الفصل الرابع
كان حامد أفندي عبد الكريم يقيم مع أمه الست مريم وأخته دولت في شقة متواضعة على رغم أنفها في الدرَّاسة، أمَّا أبوه فقد تركهم لا يرد جوعهم إلا معاش ضئيل، استطاع حامد أن يزيده بعض الشيء بوظيفة حصل عليها كان يعمل بها بعد الظهر. واستطاع أن يجمع بين الوظيفة والمدرسة حتى يحصل على دبلوم المعلمين، وأصبح مُدرِّسًا للغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ بمدرسة المنيرة الابتدائية. وقد كان حامد مثابرًا في المذاكرة، حتى لقد استطاع أن يحصل على مكانٍ كريم بين زملائه المتخرجين في دفعته، ولكنه كان بلا وساطة؛ فلم يستطع أن ينال إلا هذا المكان بمدرسة المنيرة. وهكذا ما كاد يعرف أن لأهل يسري صلة بذوي السلطان حتى بذل غاية جهده أن تتصل أسبابه بيسري. وقد نجح جهده وأصبح المدرس الخصوصي ليسري ولخيري أيضًا. ولم يُضع وقتًا كثيرًا، فإنه ما لبث أن طلب إلى خيري أن يكون شفيعه إلى عزت بك، ليشفع له في الوزارة، وقد اتسعت الآمال أمام عينيه منذ ذلك اليوم وأصبح يحلم بالترقية إلى المدارس الثانوية، حتى لقد قصد في يومه هذا إلى الوزارة ليعرف الأمكنة الخالية بمدارس القاهرة الثانوية، ولكن أبحاثه قادته إلى سبيل آخر لم يكن ليفكر فيه؛ فلقد أبلغه زميل له بالديوان العام أن الوزارة في سبيلها إلى إرسال بعثة إلى إنجلترا في العلوم الاجتماعية، وأن المرشحين لهذه البعثة من المتقدمين في دفعته. وقد أبلغه زميله أيضًا أنه يستطيع أن يسافر في هذه البعثة إذا هو عثر على وساطة كبيرة ذات نفوذ في الوزارة. وهكذا عاد حامد إلى بيته والآمال تزحم نفسه أن يفوز بهذه البعثة، أربع سنوات قابلة للزيادة في إنجلترا، ومن هناك يستطيع أن يدور بالعالم أجمع. إنجلترا، أي أمل ضخم هذا، وأي مستقبل عريض ينتظره عند عودته، وما له لا يسعى وأي ضير في ذلك؟ ليجعل هدف البعثة بديلًا عن هدفه القديم من ترقيته إلى المدارس الثانوية. قد تعترض أمه، ولكن أي أم لا تعترض على غياب ابنها أربع سنوات عنها؟ ولو أطاع الناس جميعًا أمهاتهم لما نال أحد دكتوراه ولظلوا قابعين بجانب أمهاتهم فلا يصيبون من العلم إلا هذه الدرجة التي نالوها. وقد يضيق الحال بأمه بعض الشيء، ولكنها تعودت أن تكتفي بالمعاش، فلتعتمد عليه هذه السنوات. ولكن دولت كبرت وكثرت طلباتها، ولكن ما البأس بأمه وأخته أن تحتملا الضيق هذه السنوات القلائل ثم يعوضهما عنها بالعيش الرغيد؟ وماذا عليه لو قبل زواج دولت من فهمي الفهلوي، ولكن كيف؟!
وكان حامد قد بلغ منزله حينئذٍ وانتبه إلى السلم؛ فقد عوَّده حرصه على الحياة أن ينتبه إلى السلم كلما أوشك أن يصعد، فجميع الباقي من درجاته متآكل لا يسمح إلا بأطراف القدم أن تستقر عليه. كما تعود ألا يعتمد على الدرابزين. وكم عوَّد الفقر حامد من عادات؛ فقد عوَّدته ملابسه القديمة مثلًا أن يتأنى في مشيته وحركاته حتى لا يشتد الاحتكاك بها فتبلى البقية الباقية منها. وقد ظن كثير من الناس أن هذا البطء في المشي والحركة وليد كِبْر يعتمل بنفسه، ويعلم الله، ويعلم حامد، أنه لولا الفقر لتحرك مثل سائر الناس. وهكذا كان حامد دقيقًا في تفكيره حريصًا كل الحرص على ماله ونفسه.
بلغ حامد السلم وصعده في تأنٍ وفي تفكير يبذله كلما ترك درجة إلى أخرى. وحين بلغ شقته فتح الباب فوجد أمه جالسة في البهو، ويجلس إلى جانبها فهمي الفهلوي وقد انهمك كل منهما في حديث أخذ بمجامع تفكيرهما كل مأخذ. وكانت الجملة التي بلغت أذن حامد عند فتحه الباب: أنا أعجبك جِدًّا يا ست أم حامد.
وأنقذ حامد أمه من الإجابة وهو يقول: أهلًا وسهلًا، كيف حالك يا أسطى فهمي؟
– معدن يا حامد أفندي، معدن والحمد لله، ماشية، الدكان يكسب خمسين قرشًا يوميًّا على الأقل.
– ربنا يزيد ويبارك.
– أنا والله لا أعرف ما الذي لا يعجبك فيَّ.
– لماذا يا أخي — لا قدر الله — أنت تعجب السلطان.
– يا أخي العفو، كل مناي أن أعجبك أنت فقط.
– ربنا يهيئ الخير يا أسطى حامد.
– الخير بيدك أنت يا سي حامد أفندي.
– شربت القهوة؟
– شربناها والحمد لله، أستأذن أنا.
– ولماذا العجلة؟
– الدكان وحده، البركة فيك يا ست أم حامد، فقد يرضى علينا الأستاذ، سلام عليكم.
وشيَّعته همهمة من حامد وأمه أشبه ما تكون برد لتحيته، وما كاد فهمي يغلق الباب حتى قالت الست مريم: والله إنه ابن حلال.
فقال حامد محاولًا أن يغير الحديث: وهل قلت إنه ابن حرام؟
– فما عيبه؟
– يا ستي اتركي هذا الموضوع.
– ولماذا أتركه؟ رجل يا بني ويستر على أختك.
– وهل هي بائرة؟
– لا قَدَّر الله، ولكني لا أرى فيه عيبًا.
– كيف هذا يا أمه؟ أين هو مِنَّا؟
– يا ابني العظمة لله، أليس هو فهمي ابن الحاج سيد الفهلوي الذي كان صديق أبيك العمر كله؟
– يا أمه الدنيا تتغير.
– ولكن النفوس يا بني لا تتغير.
– كل شيء يتغير.
– إلا النفوس الحلوة يا ابني، لم تكن هكذا أبدًا، يا ابني، فهمي ابن حلال ونعرفه، نعرفه وهو طفل صغير، وسيكون لدولت كأخيها، لماذا ترفض؟
– أنا لا أزوج أختي من عامل!
– وإذا كانت هي تقبله؟
– أنا لا أقبل.
– وماذا يُنْتَظر لها؟
– واحد متعلم.
– وماذا يفعل بها المتعلم؟ هل تراها نالت الشهادات.
– إنها تقرأ وتكتب، وعلى كل حال لا يهم، فالمتعلم سيطلبها من أجلي أنا.
– وهل سيتزوجك أنت هذا المتعلم، المتعلم يريد المتعلمة مثله أو الغنية، ونحن والحمد لله لا علم ولا مال، اقبل فهمي يا حامد يا ابني، من يعرف؟ لعله أحسن من غيره.
– لا يا ستي، أنا لا أقبل أن يعيرني زملائي بأني زوَّجت أختي من شخص جاهل، عامل.
– يا ابني مصلحة أختك أهم من أقوال زملائك.
– أنا أدرى بمصلحتها، وعلى كل حال هي ما زالت صغيرة، صغيرة جدًّا.
– يا ابني هذا حرام، في أيامنا كانت البنت لا تصل الحادية عشرة إلا وهي متزوجة.
– اسمعي، فعندي خبر مهم.
– خير، اترقيت؟
– لا، لا.
– خطبت؟!
– أليس في ذهنك إلا الزواج؟
– وماذا أهم من الترقية إلا الزواج؟
– بعثة.
وضربت أم حامد على صدرها في ذعر: ماذا؟
بعثة.
لمن؟
لك!
أجننت؟
– سؤالك عجيب، لمن تكون البعثة إن لم تكن لي؟
– وتتركني أنا وأختك يا حامد؟
– كم سنة فقط، وأعود الدكتور حامد عبد الكريم.
– دكتور؟! ألست مدرِّسًا؟
– نعم، دكتور في التدريس.
– وتتركنا يا حامد؟
– أليست مصلحتي هي أهم شيء عندك؟
– طبعًا.
– هذه هي مصلحتي.
وتطرق الأم وبوادر دمعات تبدو في عينيها وتفيض، وتجاهد لسانها كل جهد لتقول: ما تراه يا ابني.
وما تكاد تقول هذا حتى يقول حامد محاولًا أن يبعث إلى نفسها بقية من أمل: على كل حال المسألة لم تتأكد بعد.
– ربنا يعمل ما فيه الخير يا ابني.
– أين دولت؟
– ذهبت عند خالتك وصفية لتساعدها في خياطة بعض الملابس.
- خالتي؟ منذ متى كانت وصفية خالتي؟
– ماذا جرى يا حامد؟ كلامي لم يعد يعجبك، طول عمرك تنادي وصفية بيا خالتي.
– كلام فارغ! ولماذا تذهب إليها دولت؟ ألم تجد إلا دولت لتساعدها؟
– وماله يا ابني؟
– النهاية، الغداء جاهز؟
– جاهز يا ابني، دقيقة واحدة حتى أعده لك.
ويدخل حامد إلى حجرته، وما تلبث دولت أن تجيء. فتاة تخطو نحو شبابها الأوَّل، سمحة الملامح، بريئة الوجه، ملفوفة القوم، ريانة العود غضة، ساذجة النظرات ساجية، ذات عينَين سوداوين، فيهما حلاوة الشباب الباكر المتطلع إلى المستقبل في تعجل لا ريث فيه ولا مهل، رشيقة الحركة عن طبيعة مواتية في غير كلفة ولا افتعال. وكان وجهها في إشراقه أشبه بالمرآة الصافية لا يخفي نأمة عن نفسها إلا بدت آثارها عليه في وضوح أبين من الكلام. ذات شعر كث غزير ناعم، ولكنها كانت تقيد كثرته العارمة في ضفيرة كبيرة تلفها في إحكام، ثم تغطيه بوشاح تربط عقدته خلف ذقنها، فيزيد ذقنها وضوحًا وجمالًا. لم يكن في وجه دولت من عيب إلا هذه الأرنبة النافرة في أنفها، ولعل بعض الناس يرون فيها جمالًا، أو بلورة لجمال دولت. وقد كانت دولت تحب أخاها حُبًّا عارمًا، فيه إجلال يستره أن يبين، فقد كان يمثل أمامها العلم والمال والسيطرة، وهي أمور تفقدها جميعًا فقدانًا تامًّا. وقد كان كذلك يمثل أمامها حياتها التي تحياها، فقد كانت بغيره خليقة أن تضيع في الزحام وهي بلا سلاح إلا هذه الصبابة الضئيلة التي تصيبها أمها كل شعر كمعاش لأبيها. وهكذا كانت دولت تجد في أخيها كل شيء تفقده كما كانت تجد فيه نفسه كل شيء تملكه.
دلفت دولت إلى البهو فوجدت أمها تضع الأطباق على المائدة، فهمست وكأنها تخفي جُرمًا: هل جاء حامد؟
فأجابتها أمها في صوت متردد بين الهمس والجهر: من زمان.
وعادت دولت تسأل هامسة: أسأل عني؟
– نعم.
– وماذا قلت له؟
– الله! ألا ينتهي هذا التحقيق؟ وماذا يمكن أن أقول؟! قلت المكان الذي ذهبت إليه.
– هل غضب؟
– وما شأنك أنت ما دمت أنا التي أمرتك أن تذهبي؟ ادخلي هاتي الأكل، بلا مسخرة.
وامتثلت دولت لأمر أمها، وأقبلت الأسرة تأكل صامتة أفواهها، صاخبة عقولها، يضج في داخل كل منهم زحام من الآمال والمخاوف والظنون. فأمَّا رب الأسرة فمفكر في هذا الباب الجديد الذي أومأ إليه صديقه بالديوان العام، يكبر الأمل في نفسه حتى ليكاد يصبح حقيقةً مجسمةً يعيشها بكاملها، فهو يتخيل نفسه في لندن ذاتها، ويمتد به الخيال ويمتد حتى ليرى نفسه أستاذًا في الجامعة يرتدي روبها ويحاضر طلبتها في سمته المترفع ويده في جيبه. وبلا وعي يضع يده في جيبه فتهوى إلى الفضاء، فقد ارتدى الجلباب، ولم يكن للجلباب جيب، فيصحو وقد اضمحل الأمل وذوى حتى ليكاد يضرب عنه صفحًا، مكتفيًا بأن يصبح مدرِّسًا في المدارس الثانوية. ولكن لماذا يضيع الفرصة؟ ولا يزال بآماله يتأرجح بينها حائرًا راغبًا حينًا في الأمل الكبير من الدكتوراه، راغبًا عنه حينًا آخر خشية أن يخذله الديوان، وهو مع تفكيره العميق يطحن الأكل طحنًا غير شاعر بما يأكل، وإنما هو يحرك فكيه حركة وانية واثقة، وعيناه في شرود، وذهنه يتجول بين لندن والمدارس الثانوية بالقاهرة.
وأمَّا أمه فمفكرة هي أيضًا في هذه المشكلة الجديدة التي أضافها ابنها إلى مشكلة زواج دولت، فهي تفكر فيما سيئول إليه حالهما إن سافر ابنها، وكيف تدبر أمرها بالمعاش الضئيل الذي تركه لها زوجها. وحين تضيق بها السبل يذهب بها التفكير إلى ما قد يستدعيه الحال عندئذٍ من أن تعمل، ثم ما يلبث أن يردها عن هذا التفكير علمها بكبر سنها وجهلها بالعمل خارج بيتها جهلًا تامًّا. وما تلبث أن تدير بذهنها فكرة أخرى، لماذا لا تعمل دولت؟ وتنظر إلى دولت فتجدها ذاهلة هي الأخرى تقلب النظر بين أمها وأخيها وقد ران عليهما هذا الصمت المطبق.
كانت دولت حائرة لا تدري ماذا تقول، فهي إن نظرت إلى أخيها طالعتها منه هذه النظرة الذاهلة تنبعث من عينَيه العميقتَين وقد ازدادت ملامح وجهه الدقيقة صرامة وقوة. ثم ما تلبث أن تجد أساريره قد استرخت هونًا ولكن إلى حين، فما هي إلا خلجة عين حتى تعود إليه الصرامة والإصرار. وهي إن نظرت إلى وجه أمها الذي كسته الأيام ترهلًا وطيبةً، والذي عرفت فيه الرضا المذعن والاستسلام الهادئ وجدته وقد غشيته كآبة وتفكير، فهي ذاهلة عما حولها، لا تكاد تحس بأحد ولا بشيء. ويصخب عقل دولت حائرًا بين الظنون والتخمين، فهي تفكر في أمر وتكاد تؤكد أنه سبب هذا الصمت الذاهل الحيران، ثم ما تلبث أن تنفيه لتفكر في سبب آخر ما يلبث أن يتداعى كسابقه، وهي حائرة لا تدري ماذا تقول أو تفعل إلا أن تلوك الطعام كما يفعل أخوها وكما تفعل أمها، غير دارية من أمرهما أمرًا. ولا يزال ثلاثتهم في شرودهم هذا الذاهل حتى ينتهوا من طعامهم صامتين. ويقوم حامد إلى حجرته شأنه كل يوم، وإن كان في يومه هذا قد عزم على أن يستبدل بالنوم كتابة مذكرة بحالته لتقدم إلى مراقبة البعثات.
وتذهب الأم إلى الشباك تطل منه على الحارة، بينما تقوم دولت بتنظيف المائدة.
تظل الأم رانية إلى الحارة. الدكاكين مقفلة، والطريق خالٍ إلا من متأخر يروده منهوكًا عجلًا يريد أن يسارع بالعودة إلى داره فيعوقه تعب النهار، فالهمة بادية في عينه وإن قصرت قدماه عن همته، وتطول الجلسة بمريم، ويبدأ التجار والصناع في العودة إلى محالهم. وتكثر الأرجل الضاربة في الحارة، ويتجمع أصحاب المحال في أماكنهم التي تعودوا التجمع فيها، وترتفع أصوات بالتحايا وأخرى بالنكات وأخرى بالضحك وأخرى بالزجر يلقيه كل رئيس عمل إلى عماله مظهرًا سيطرته عليهم. وترتفع أعين إلى الشبابيك، وتتابع أعين أجسام المارات، وتعلو بين الحين والحين تكبيرة لله أُريد بها وجه الشيطان، أو مصمصة شفاه أريد بها إعلان غزل. ولا تعدم الحارة صوت حاج فيها يزع الغاوين وينصحهم بالاحتشام، فيلقونه بالصمت حينًا أو بالقول الرضي الخجلان حينًا آخر.
ويُخيَّلُ لمريم أن باب بيتها قد فُتح وأُقفل، ولكنها لا تعنى بالالتفات إلى الباب، فقد كانت بتفكيرها المضطرب في شغل شاغل. وما يلبث ابنها حامد أن يبدو في الطريق في مشيته البطيئة المليئة بالعظمة، تلك العظمة التي لا تتفق وجسمه القميء الضئيل أو وجهه الدقيق القسمات، يرين عليه الجد والعمل من طول ما تعود الجد والعمل، فعينان غائرتان عميقتان، ووجنتان لاصقتان بأسنانه، وفم مطبق لا ينفرج، وطربوش لاصق برأسه في ميل لا يختلف في يوم عن يوم حتى ليحسب من يراه أنه لا يخلعه في ليل أو نهار، فإنه من العسير أن يتأتى لأحد بالغة ما بلغت دقته، أن يظل طربوشه في وضع واحد لا ينحرف عنه قيد شعرة، إلا إذا كان لا يخلعه.
ويسير حامد في طريقه بطيئًا كما عهدته الحارة، عظيمًا كما عهده أهلها. وتراه أمه يرفع يده بالتحية للقوم الجلوس، وتسمع تحيته التي عهدتها وتعودت أذنها أن تلتقطها من بين الأصوات الصاخبة، تلك التحية الواهنة النغمة الأنيقة المخارج. ورأت مريم القوم يجيبون تحية ابنها، وتفيق على أصواتهم من سرحتها، فأصواتهم اليوم غيرها بالأمس، كانوا يحتفون بابنها إذا مر وحيا، ولكنهم اليوم يردون تحيته وكأنهم يقومون بواجب فرضه عليهم القرآن الكريم من رد التحية بأحسن منها. بل إنهم حتى لا يردونها بأحسن منها ولا بمثلها، إنما هي همهمة لا تكاد تبارح شفاههم إلا لتسقط في الطريق قبل أن تبلغ الأذن، فما تعي الأذن منها إلا طنينًا. وتدرك أم حامد أن فهمي قص على إخوانه من أهل الحارة إباء حامد أن يزوجه دولت، وتدرك الأم أن أهل الحارة أحسُّوا كبر حامد من رفضه هذا، فهم ساخطون يفرجون عن سخطهم في هذه النغمة المتخاذلة التي أجابوا بها تحية حامد. ويدرك حامد هذه المعاني ولكنه لا يعنى بها إلا هنيهة، ثم ينصرف بتفكيره وجسمه أيضًا إلى هذا الأمل الذي يسعى طريقه إليه.