الفصل الأربعون
كان خيري جالسًا في مكتبه بالوزارة منكبًّا على بعض أوراق حين أحس ظلًّا يلقى على الورق أمامه، فرفع رأسه ليرى وجهًا حاول أن يتذكر صاحبه، ولكن صاحب الوجه لم يمهله: خيري بك، أنا سكرتير يسري بك.
وقام خيري ليحيي ضيفه ويسأله: نعم، هل هناك خدمة؟
فنظر السكرتير إلى الموظفين الجالسين مع خيري في الحجرة ثم قال: تسمح، كلمة على انفراد.
ويخرج خيري من مكتبه إلى الردهة الخارجية ويريد أن يقف، ولكن السكرتير يمضي به تاركًا الردهة ومبنى الوزارة جميعًا، حتى إذا آنس من الطريق مكانًا منعزلًا وقف وقال لخيري: أرجوك أن تسمع ما سأقوله لك في هدوء، كما أرجو أن تتصرف بحكمة، فالوقت أشد ما يكون حاجة إلى الحكمة.
– قل، ماذا هناك؟
– النيابة قبضت اليوم على يسري بك وقد أرسلني إليك.
– ماذا؟
– مجلس الإدارة وجه إليهما التهمة بعد فصلهما من الشركة.
– وهل عرف بيت يسري شيئًا؟
– أمرني أن أجيء إليك.
– وما رأيك؟!
– لا علم لي بالعقود موضوع الاتهام، ولكني أعرف أن يسري بك لم يكن يقبل مليمًا حرامًا منذ دخل الشركة. وقد رفت السكرتير الذي كان يعمل معه قبلي لأنه قدم إليه عميلًا يريد أن يرشوه.
– أنت واثق؟!
– من أمانته؟ نعم، ولكن الدكتور حامد دخل في صفقات كثيرة، وأخشى أن يكون قد أرغمه على الاشتراك فيها.
– طيب، أشكرك.
وركب خيري سيارة أجرى إلى منزله وصعد إلى أمه وقال لها وقد اصطنع الهدوء: نينا! الدكتور حامد مُتهم في اختلاس، وقد قُبض عليه!
وفغرت سميرة هانم فاها وقد أوشكت أن تستنج الخبر التالي: ماذا؟
– وبالطبع قُبض على يسري معه.
ونظرت سميرة هانم إليه مليًا وقالت: خيري، هل سرق يسري؟
– لا أظن!
– وماذا تنوي أن تفعل؟
– أريد جزءًا من حليك لأرهنه وأدفع أتعاب المحامي.
– هاك المفتاح.
وقصد خيري إلى لطفي بك محمد أستاذ القانون الجنائي، واصطحبه إلى مقر النيابة، فوجد التحقيق جاريًا مع حامد، ووجد يسري جالسًا خارج غرفة التحقيق، وحين اقترب منه وجد في عينَيه دمعات تبدو وتغيض، وقال يسري في حزم وإباء: أنا لم أسرق يا آبيه خيري.
وأنعم خيري فيه النظر ثم قال: نعم، أعرف.
وجلس المحامي إلى جانب يسري وراح يسأله عن الاتهام، وما هي إلا لحظات حتى رأى يسري زوجته فايزة قادمة يصحبها عزت باشا ووفية وعبد السلام بك هنداوي المحامي الكبير.
وتقدمت منه فايزة لم تسأله شيئًا ولم تهتم بشيء إلا أن تقول: لا تخف يا يسري.
وانضم المحامي الكبير إلى زميله الذي جاء مع خيري، وراح ثلاثتهم يتحدثون، وابتعد عنهم رهط الأقارب. وكتب خيري لفايزة: «ما كان لك أن تأتي يا فايزة.»
وفهمت فايزة ما يعنيه، لكنها قالت: فمن يأتي؟ لماذا لم تقل لي؟
وكتب: «خشيت أن أتعبك.»
وقال عزت باشا وقد قرأ الورقة: لا تخشَ شيئًا يا خيري، ولا تخجل من شيء، فقد أديت أنت واجبك كاملًا وللشباب طيشه.
وقالت وفية: يسري لا يسرق.
وسكت أربعتهم، ولاحظت وفية أن خيري ينظر إليها نظرات فيها سؤال لا يريد أن يبوح به، فقالت: جميل مشغول مع الوزير، لم يستطع أن يجيء.
وفهم خيري أن جميل خشي على منصبه وهيبة السلك السياسي، فمهد له في نفسه العذر وانطوى على خجله وصمت.
لم يمضِ وقت طويل حتى استُدعي يسري إلى التحقيق، وصحبه المحاميان الكبيران.
وبدأت أسئلة النيابة تنهمر على يسري وهو يجيبها في حذر، محاولًا ما وسعه الجهد أن يحمي نفسه ويحمي الدكتور حامد ما أمكنته الوقائع من حمايته. وراح ممثل النيابة يستدرجه ويحيط به بما مرن عليه من مهارة وخبرة، حتى إذا وجده صلبًا في دفاعه عن نفسه وفي دفاعه عن رئيسه فاجأه قائلًا: وما قولك في التهمة التي يوجهها إليك عضو مجلس الإدارة المنتدب، من أنك وحدك المسئول عن كل العمليات محل الاتهام، ومن أنه لم يوقع ورقة واحدة منها إلا بعد توقيعك؟
ورُوِّع يسري وخُيِّلَ إليه أن ممثل النيابة يحاول أن يوقع بينه وبين الدكتور حامد ليعترف كلاهما، ونظر يسري إلى حامد نظرات متسائلة أشاح عنها حامد غير عابئ، فقال يسري: هو قال ذلك؟!
وقال ممثل النيابة للكاتب دون أن ينظر إلى يسري: أعطه المحضر ليطلع عليه.
وقرأ الاتهام صريحًا واضحًا، بل قرأ سؤال النيابة للدكتور حامد: «هل تشك في ذمة سكرتير الشركة؟» وقرأ إجابته: «لم أكن أشك فيها ولكنني بعد أن تبينت الآن ما كان في هذه الصفقات من تلاعب أصبحت على يقين أن ذمته تقبل أي شيء.»
وأعاد يسري الأوراق للكاتب مفجوعًا حريصًا ألا ينظر إلى حامد ثانيةً، مجاهدًا نفسه ألا تتحول عيناه إلى حيث يجلس. أطرق يسري وسكت، إذن فهذه هي الحياة التي يعرفها الدكتور حامد ولا يعرف غيرها، النجاح عن أي طريق، والكسب من أي سبيل، فإن اعترض طريقه عارض فيده إلى أقرب شخص تصل إليه يده ويضعه تحت قدميه ليعبر هو، وإن انهدم المعبر بعد ذلك، نعم وإن انهدم وانهار وأصبح لا شيء إلى ذرًّا من الغبار. تلك هي مُثُلُه، وتلك هي العقلية الناضجة المتحررة من تقاليد الماضي المتوثبة إلى آفاق المستقبل الثائرة على القيم والأخلاق وكل الخرافات التي يقول بها خيري، أهي خرافات؟ أم تراني أنا الذي كنت أعيش في خرافة يقودني ويقدم خطاي فارس من فرسان اللاأخلاق واللاقيم واللامُثُل واللاشيء على الإطلاق إلا اهتبال الفرص السانحة وتحطيم كل ما يعترضني ومَنْ يعترضني لبلوغها؟ أم آن لخيري أن يسخر؟ وأحبب بسخريته إن فعل، ولكنه في نبله لن يسخر، بل ها هو ذا خارج الغرفة يصحب أكبر المحامين، وحده يعلم كيف دفع له أتعابه، ومعه الرجل الذي سكب عليَّ فضله فلم يرَ مني إلا استغلال اسمه واستغلال منصبه، ومعهما الزوجة التي تزوجتها لمالها وخنتها، أتعلم بخيانتي لها؟ لا ما كانت لتجيء لو كانت تعلم، لا فلا يمكن أن تصل بها الملائكية إلى هذا المدى، فقد يكون بين الناس من وصلت أرضيتهم إلى ما وصلت إليه، ولكن ليس بين الناس من تصل بهم الملائكية إلى الحد الذي تصوره، لا يمكن أن تكون قد علمت بما كان بيني وبين دولت ثم تجيء، ولكن أليست رائعة في مجيئها إليَّ هي وأختها وأبوها؟ وأبوها من هو اسمًا وقدرًا، وهي وأختها من هما شرفًا، لم يقل الرجل ولم تقل واحدة منهما: بعيدًا عن العفن، بعيدًا عن المستنقع الذي تردى فيه هذا الذي غال حمانا، ودنس اسمنا، وهوى بما كافحنا في بنيانه من شرف ومجد ورفعة، لم يقل واحد من ثلاثتهم هذا، وإنما جاءوا ليقفوا إلى جانبي ولأراهم لي ركنًا، في حين أرى من سعيت به إلى مكانته، أرى ذلك الذي أحاول أن أحميه، أرى ذلك المثل الذي جعلته أمامي وتتبعت خطاه يرمي بي إلى الوحل محاولًا أن يدوسني ليمر هو وأموت أنا في الطين.
حرص يسري مرة أخرى ألا ينظر إلى حامد، فقد تمثل له شيطانًا من ماضيه قائمًا أمامه، فهو يريد أن ينساه أو يعمى فلا يراه.
طال الصمت في غرفة التحقيق، وترك ممثل النيابة يسري لصمته لم يقطعه مقدِّرًا ما أصابه من التهمة التي وجهها إليه حامد، يمنعه العطف أن يلحَّ عليه بالأسئلة في غمرته هذه، مرتئيًا أن التفكير الذي يتجه له الصمت قد يهديه إلى الاعتراف.
وقال ممثل النيابة آخر الأمر: ما أقوالك؟
وانتبه يسري إلى واقعه، وصمت هنيهات أخرى ثم قال: أرجو تأجيل التحقيق إذا كان ذلك ممكنًا.
– إذا تأجل التحقيق فسيستمر حبسك حتى نواصل التحقيق.
وقال الأستاذ عبد السلام: ألا تستطيع الإجابة الآن؟
وقال يسري في انهيار: أفضل أن يتأجل التحقيق، لا أستطيع الإجابة، حالتي لا تسمح.
وأصدر ممثل النيابة أمره بالقبض على يسري وحامد على ذمة التحقيق.
واقتيد يسري إلى الحبس وفايزة والهة لا تدري ماذا تم في أمره، لا تجد أحدًا يكتب لها ما انتهى إليه التحقيق حتى سارع إليها خيري ينبئها، وانصرف الجميع تحيط بهم أشجان وحيرة.
وفي الصباح الباكر كان خيري وفايزة أول من حضر إلى دار النيابة وتبعهما المحاميان، وجيء بيسري وحامد من الحُبُوس. وحين حاول حامد أن يقول شيئًا ليسري أشاح عنه بوجهه، فكأنه لم يعرفه يومًا، أو كأنه يريد ألا يذكر أنه عرفه يومًا.
كان يسري قد استقر على رأي، وحين ابتدأ التحقيق معه أصر على خطته من الدفاع عن نفسه وعن حامد معًا، ولم تجد النيابة أدلة قوية تسمح لها أن تأمر باستمرار الحبس، فأفرجت عن المتهمين بكفالة قدرها خمسون جنيهًا لكل منهما، وخرجا، وأراد حامد أن يحادث يسري ثانيةً فلم يلتفت إليه، بل سارع إلى السيارة يريد ألا يلقاه، فكأنما يهرب من ماضيه كله ومن آرائه ومن الأيام التي عاشها في ظلال هذا الرجل.
وفي السيارة جلست فايزة وإلى جانبها يسري وإلى جانبه خيري، ولم يملك يسري أن يسكت، ولم يأبه بالسائق الذي يقود بل التفت إلى أخيه يسأله: آبيه خيري، هل تعلم فايزة شيئًا عن …
ثم نظر إلى السائق ومال على أذنه يسأله: عن دولت؟
ودهش خيري من السؤال، وعجب أن يكون هذا هو أول سؤال يلقيه عليه بعد هذه المحنة التي مرت به، فسأل: ما المناسبة؟
– أريد أن أعرف.
– لست في حلٍّ أن أقول.
– فهي إذن تعلم.
وصمت خيري فقال يسري: فهي التي أنبأتك.
ولم يجد خيري محيدًا عن إفشاء السر فقال هامسًا: لقد رأتك في حجرتها في اللحظة التي أرادت أن تنبئك فيها أنها تحمل لك ابنك.
وانهمرت الدموع من عينَي يسري، ولم يجد شيئًا يفعله إلا أن يمسك بيد فايزة ويرفعها إلى فمه يقبِّلها قبلة المعترف بالفضل. وأحست فايزة بغريزتها نوع القبلة، وإن كانت لم تسمع من الحديث شيئًا، فأبعدت يدها عن فمه وربتت بها رأسه في حدب وقد انهمرت الدموع من عينَيها. ورأى خيري دموع يسري ورأى قبلته ليد زوجته، فانتظر حتى عاد يسري يرفع رأسه، فأمسك بيده وشد عليها في ابتهاج وقد تماوجت الدموع في عينَيه. وقال في فرح غامر: مبروك يا يسري.
– نعم يا آبيه خيري، إنني الآن أستحق التهنئة.
نزل يسري من السيارة حين بلغت البيت، وأحاط زوجته بذراعه وعبر بها البهو إلى الطابق الأعلى ودخلا حجرتهما، وأقفل يسري الباب، وكانت فايزة قد جلست على الكرسي ترنو إليه في إعزاز، فتقدم منها وركع على الأرض وانكب على قدمها يقبِّلها فصاحت: لماذا يا يسري؟ لماذا؟
وكتب لها: «اغفري لي.»
وأدركت أن خيري قد أباح سرها فقالت: لقد غفرت.
وكتب: «كنت في ظلام.»
فقالت: ثم تشرق الشمس.