الفصل السادس
لم يكن همام بك ينتظر زائرًا في يومه هذا، ولا كان مرتبطًا بموعد، ولا كان راغبًا في الذهاب إلى المقهى. وتذكر أنه منذ زمن بعيد لم يخرج مع زوجته إلى مكانهما المفضل بجانب الأهرام، فقد كانا يريان في الذهاب إلى ذلك المكان نزهتَين لا واحدة، نزهة الطريق ونزهة الجلسة.
وظلت سميرة هانم تعين زوجها في ارتداء ملابسه حتى أتمها، وخرج إلى غرفة الجلوس ينتظر زوجته أن ترتدي ملابسها هي الأخرى. ولم ينسَ قبل أن يتركها أن يطلب إليها أن تعجل حتى لا يفاجئهما زائر غير منتظر. لم يكد همام بك يستقر في كرسيه حتى قدمت إليه الخادم تنبئه أن فواز بك في الطابق الأسفل ينتظره.
وقام همام بك من فوره وذهب إلى زوجته ينبئها بقدوم الزائر، وكأنه خشي أن تكره قدوم صديقه أو تكره صديقه، فطمأنها أنه سيصحبها إلى النزهة الموعودة عند خروج فواز. ولم تكن سميرة هانم في حاجة إلى هذا الوعد لتخفي غضبها عن زوجها، فإنها لم تتعوَّد أن تظهره على غضبها، وإن كانت لا تحب في حياتها شيئًا قدر حبها للخروج مع زوجها، وما أندر ما كانت تخرج مع زوجها.
فواز بك نافع، صديق همام بك منذ كانا طفلين، ورثا الصداقة عن أبويهما اللذين كانا صديقَين أيضًا. وقد جمعت الأعمال المشتركة بين الصديقَين فتوطدت بينهما الصلات، ثم جمعت بينهما الأزمات فوقفا دونها يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا، يخشى كل منهما على صاحبه ما يخشى على نفسه. وقد ضاربا معًا في البورصة وخسرا فيها كل شيء. ثم جاهدا حتى استردا ما خسرا. وحينئذٍ توقف همام عن المضاربة ناظرًا إلى أولاده مشفقًا أن تلتهم المضاربة ما لم يصبح حقًّا له وأصبح حقًّا لأولاده. أمَّا فواز فقد صمم على المضي في المضاربة فصارت حياته سلسلة من الصعود والهبوط، فهو إمَّا في قمة الجبل أو في حضيض الهاوية. ولم يستطِع يومًا وهو في قمة الجبل أن ينظر إلى الحضيض في خشية فيكف، فقد أصبحت المضاربة تسري مع دمه لا يستغني عنها، أو يستغني عن دمه نفسه.
ولم يمنع توقف همام عن المضاربة ومُضي فواز فيها صداقتهما أن تظل كما هي. وكثيرًا ما حاول فواز أن يُغري صديقه بصفقة يراها رابحة، ولكن همام كان قد أقلع وما كان ليعيده إلى البورصة إغراء مهما يكن جامحًا. بل لم تكن تغريه تلك الذكريات التي كان يستعيدها صديقه أمامه، أيام كانا والفقر يطل عليهما بوجهه الكالح الشاحب الكئيب، ثم ينشب فيهما أظفاره الضاربة المرنة فما تند عن واحد منهما أنة أو آهة، وإنما يلقيان الفقر والغنى معًا بذلك الوجه الجامد تعوَّد الأحداث سعيدها وشقيها، فسيان عندهما فقر أو غنى. هكذا كانا يبدوان للناس وإن أحرقت الخسارة كبدَيهما، وإن زلزلت قلَبيهما، ولكنهما لا يظهران أحدًا على ما تنطوي عليه جوانحهما من حريق أو زلزال، كِبرًا منهما وتعاليًا على الأحداث. لقد كانا نوعًا من الرجال ينشب أظفاره في الزمن فلا يطيق الزمان أن يطيح به.
لم يكن إغراء الذكريات ليجدي في جذب همام إلى المضاربة ثانية. وقد كان يجهد في دفع الإغراء الذي ينتابه من ذكريات الفقر جهدًا أشد عنفًا مما يبذله في دفع إغراء فواز إياه بالربح الوفير. فقد تجد الذكريات مسارب إلى النفوس يعجز عن العثور عليها المال بجلاله وسلطانه.
حتى لقد همَّ همام يومًا أن يعود إلى المضاربة فما وقف به إلا ابن عمه عزت الذي يرى في البورصة مقبرة لأموال الكرام ولكرامتهم معًا. وقد ألح على همام حتى ثناه عن هذه المحاولة فلم يعد إليها ثانية.
أمَّا فواز فقد كان يرى في المضاربة عملًا طبيعيًّا له، فهو يقامر فيها بأمواله جميعًا، فإن لم تكفِ عمد إلى صاحبه وطلب إليه أن يضمنه لدى من يقرضه مالًا. وما كان همام يتردد لحظة إذا قصده صديقه. ولم يكن فواز في هذا جائرًا على صديقه، فقد كان يرى فيما يفعله أمرًا طبيعيًّا لا يفكر في غيره. ولم يكن همام يضيق بطلب صديقه وإن ساورته الخشية، إلا أنها خشية لا تزيد في خاطره على همسة، ما تلبث أن تزول في دوامة الصداقة والأخوة والنجدة التي تزخر بها نفسه.
كان فواز جالسًا في مكتب صديقه ينتظر نزوله، ولم يطل به الانتظار، فسرعان ما بدا على باب الحجرة محيِّيًا تحية الأخ الهينة العميقة.
كان التناقض بين الصديقَين في الشكل عجيبًا. فأمَّا همام فطويل القامة عريض المنكبَين يضع طربوشه معتدلًا على رأسه، ويضع على فمه ابتسامة مطمئنة لا تبارحه، يرى فيه الرائي بشرًا وثقةً وهدوءًا، وقد كان وجهه مستديرًا في غير امتلاء، ذا شارب متقن الصبغة، وكانت سوالفه كثة سوداء أيضًا كشاربه، وكانت عيناه عميقتَين فيهما ذكاء وفيهما كوجهه اطمئنان وهدوء. أمَّا فواز فقد كان قصير القامة مليء الجسم والوجه، حليق اللحية والشارب والرأس أيضًا، وإن تكن الأيام هي التي تولت عنه نزع شعر رأسه، ولم يكن ضاحكًا كصديقه، وإنما هو متجهم الوجه إلا حين يسمع نكتة، فإنه يخف إلى الضحك لها خفة الذكي اللماح، وقد كان هو نفسه مرح العبارة سريع اللفتة ضاحك الحديث. شيء واحد اتفق فيه الصديقان، هو ذلك الاطمئنان الذي يشيع في وجه كل منهما.
التقى الصديقان، ولم يمهل فواز صديقه أن يجلس، بل سارع قائلًا: أمَّا صفقة يا همام!
وازدادت الابتسامة اتِّساعًا على وجه همام وهو يقول: ألم تيأس مني بعد؟
– بل ألم تعقل أنت بعد؟
– وأي جديد يدعوني إلى العقل الذي تحسبه أنت عقلًا؟
– أرباحي، مكاسبي، انظر، أنا أغنى منك اليوم عشرات المرات.
– المهم أن تظل كذلك.
– ولماذا لم تسمع كلامي؟ كسبت من الصفقة الأخيرة ثروة، ثروة طائلة، ودعوتك لتربح معي فرفضت.
– الحمد لله، كل رجائي أن أترك ما جمعت للأولاد.
– أليس لي أولاد أنا الآخر، ممَّ تخاف؟
– ألا تعرف؟
– الفقر؟
– أهو قليل؟
– لم تخفه أبدًا.
– كنت أخافه دائمًا كما تخافه أنت دائمًا. ولكننا كُنَّا نخفي خوفنا.
– أتذكر؟
– أذكر، وهل يمكن أن ننسى؟
– أتذكر يوم خسرنا كل أموالنا وخرج كل مِنَّا مدينًا بعشرين ألف جنيه؟
– وهل يُنسى ذلك اليوم؟ جلسنا في المقهى نلعب النرد، وجاء صديقنا محمد باشا يوسف يهمس في أذني أنه يريدني لأمر جليل.
– نعم، كان محتاجًا لألف جنيه سلفة.
– يرحمه الله، كان رجلًا.
– لا أنسى ضيقك وألمك، يومذاك لم تهزك الكارثة وهزك أن صديقًا لك قصدك وليس معك ما تجيب به طلبه، والله إنك رجل يا همام، اقترضت المبلغ بفائدة بشعة وذهبت به إلى صديقك.
– وهل كان يمكن إلا هذا؟
– رجل والله.
– الله يرحم محمد باشا. رد المبلغ وتوفى ولم يعلم أني كنت أشد منه إفلاسًا.
– ومع ذلك تخاف؟
– الأولاد يا فواز، الأولاد.
– اسمع، لماذا لا تكتب الأرض باسم زوجتك؟
فقال همام جازعًا: أتعني أهرب أموالي؟
– وما البأس!
– أخون ثقة الناس، أسرق يا همام، أترضى لي ذلك؟ أتفعلها أنت؟
– يا أخي والله …
– ماذا؟
– لقد اضطررت أن أفعل هذا.
– ماذا؟!
– أليس لي الحق أن أخاف أنا أيضًا؟
– هذه سرقة يا فواز!
– وماذا أفعل؟
– توقف عن المضاربة.
– لا أستطيع، وأنا لم أبتدع شيئًا جديدًا.
– لا يا فواز، صداقتي بك في كفة وبقاء أموالك باسم زوجتك في كفة.
– على مهلك يا همام.
– أبدًا، غدًا، غدًا يا فواز، غدًا وليس بعد غد.
– أترى هذا!
– ولا صداقة بيننا حتى أرى أموالك باسمك، إلا هذا يا فواز، إلا هذا.
– أمرك، لم يكن ضميري مستريحًا أنا أيضًا.
– بل كان يجب على ضميرك ألا يقبل هذا من أول الأمر.
– طيب يا سيدي، أمرك.
– بل أمر الأخلاق يا رجل، غدًا يا فواز.
– غدًا يا همام، غدًا إن شاء الله.
– وسأنسى لك هذه الحكاية وكأنها لم تكن.
– لهذه الدرجة أنت غاضب؟!
– أنت تعرف إلى أي مدى أنا غاضب.
– والله لقد جئت إليك من أجل هذا، فمنذ نقلت أموالي وأنا أحس شيئًا يخزني فلا أستطيع النوم أو الاستقرار.
– أتنسى ما فعلناه مع حمدي الأسواني لأنه هرَّب أمواله؟ ألم أشتمه في وجهه وأيدتني أنت؟
– انظر إليه الآن، خسر مائة ألف جنيه ولم تُمس أمواله بسوء.
– ولكنه بلا كرامة.
– أي كرامة تقصد؟ الناس جميعًا يحترمونه!
– يحترمونه في وجهه، ويحتقرونه إذا ابتعد عنهم.
– يا أخي أنت مبالغ، انظر إلى سيد باشا الحديدي، أكل أموال أخيه وخرجوا إلى المقاهي يسألون الصدقة، وقد ترك لهم أبوهم ألف فدان، ومع ذلك يحترم الناس سيد باشا ويحتقرون أولاد أخيه. الناس لهم الغنى، لا يهمهم من أين أو كيف أصبح غنيًّا. المهم عندهم أنه غني.
– أتحترم أنت سيد باشا؟
– والله … والله …
– أتفكر؟ إن كنت تحترمه، فأنت لست صديقي!
– ماذا؟ أأصبحت صداقتي هينة عليك إلى هذا الحد؟
– إنما أنت عزيز عليَّ؟ وهذا الذي تقوله كبير وليس هيِّنًا كما تظن.
– طيب يا سيدي وهو كذلك، أعود إليك غدًا إن شاء الله ومعي ما يرضيك.
– وإني منتظر.