الفصل الثامن
كانت دولت تجلس إلى أمها في سكون، وقد أمسكت بيدها قميصًا لأخيها ترتق فتوقه، والأم تنظر إليها بين الحين والحين تريد أن تحادثها في أمر يأخذ عليها تفكيرها، ولكنها ما تلبث أن تعيد الكلام إلى داخلها في تردد حائر.
وكانت دولت تحس عينَي أمها كلما صوبتا إليها وتحس رغبتها العارمة في الحديث، بل كانت تحس حيرتها وجهادها لنفسها أن تكتم هذا الحديث. الأمر الذي كانت تغباه ولا تعرفه هو موضوع هذا الحديث، وإن كانت تظن ظنًّا يكاد يبلغ اليقين أنه حديث يدور حول سفر أخيها حامد الذي أصبح وشيكًا. ولكن أي شأن لدولت بهذا السفر؟ لقد عاشت عمرها في البيت آلة، آلة لغسل الأطباق ولغسل الملابس ولغسل الأرض وللمعاونة في المطبخ ولشراء الحاجات ولكل ما يتصل بأعمال البيت، ولكنها آلة بلا رأي ولا رغبة تبديها ولا معارضة، آلة لها كل ما للآلة من حقوق وعليها كل ما على الآلة من واجبات، فعلى الآلة أن تقوم بعملها وعلى صاحبها أن يحميها من الطبيعة فيكسوها إذا كان الكساء يحفظ عليها انتظام سيرها، ويئويها إلى سقف إذا كان لا بد لها من سقف، وعليه أن يلقي فيها الوقود حتى تعمل، وكانت دولت تثور في بعض الأحيان كلما هفت نفسها إلى شيء وعجزت عن إبداء رغبتها، ولكنها ثورة تذوب من فورها في غمار أعمالها وفي غمار الأحلام التي ترسمها لنفسها عن مستقبل لها في ظل رجل، أي رجل، فقد كان حديث الرجال يطربها، فكانت تتلقفه من أفواه النسوان اللواتي يكبرنها في السن، واللواتي لا حديث لهن يدور إلا عن الرجال، وكانت دولت تقول لنفسها إذا مال حديث أولئك النسوة إلى الأطفال، ومن أين يأتي الأطفال؟! وهكذا كانت تلتذ هذا الحديث عن الرجال، فإن انحرف حوَّرته في ذهنها إلى الوجهة التي ترضيها. فإن خلت إلى نفسها خلت وفي نفسها ذخيرة وافرة من الأحلام والآمال، في ظل رجل، أي رجل.
وهكذا وجدت دولت نفسها حائرة في أمر هذا الحديث الذي تريد أمها أن تلقيه ثم تكتمه. فهي تعلم أن لا شأن لها بأي شأن مهما يكن متصلًا بحياتها، فهي لم تعوَّد أن تتدبر حياتها، آلة، ومهما تكن لهذه الآلة من أحلام وأفكار وآمال وهواجس إلا أنها تعلم أنها أمام أمها وأخيها بلا أحلام ولا أفكار ولا آمال ولا هواجس. وقد تبدي رأيًا أو تطلب شيئًا، ولكن هذا لا يعني أن يأخذ أحد منهما برأيها، بل إنها تعلم أنهما في الغالب سيهملان هذا الرأي، ولعلهما يهملانه عن عمد لأنه صدر عنها، وتعلم أيضًا أن الطلب الذي قد تهفو إليه قلما يتحقق، بل إنه لن يتحقق إلا إذا أيدتها أمها فيه.
فماذا إذن يدور في ذهن أمها ولا تستطيع أن تصارحها به؟! لم تطق السكوت طويلًا، فألقت سؤالًا تعرف جوابه ولكن كان لا بد منه.
– ألم يقل أخي متى يسافر؟
– لم يحدد الميعاد بعد، ولكن يهيأ لي أنه سيسافر قريبًا، قول لي يا دولت.
– نعم يا أم.
ثم سكتت الأم ولم تقل شيئًا، ولكن دولت لم تسكت بل عادت تقول: نعم؟
– يا بنتي …
– ماذا يا أم؟
وأجمعت الأم أمرها أخيرًا وقالت: ماذا نفعل حين يسافر أخوك؟
– ماذا نفعل يا أم؟
– أنبقى هكذا بلا رجل، وأنت يا بنتي كبرت وأخاف عليك أولاد الحرام؟
– ممَّ تخافين؟
– هيه، ماذا أقول؟ النهاية، ألا تعرفين ممَّ أخاف؟
– يا أم، لا تخافي، بنتك ناصحة ولا تفوتها الفايتة.
وخالطت صوت الأم نبرة من السخرية وهي تقول: صحيح، لم أكن أعرف.
– صحيح والنبي يا أم، لا تخافي أبدًا.
وقالت الأم في صوت يائس ساخر: طيب.
ثم سكتت قليلًا ولكنها لم تطق، فقصدت إلى ما تريد دون لف أو دوران.
– وماله فهمي الفهلوي! أليس رجلًا يستر عليك؟ واسمه على كل حال رجل في البيت بدل أن نبقى امرأتَين وحيدتَين!
– وما شأني أنا يا أم؟
وفي سخرية مريرة قالت الأم: أخوك يريد لك رجلًا متعلمًا.
– وماله يا أم؟
– وماذا يفعل بكِ المتعلم؟
– وما عيبي؟
طيب يا أختي، يا فرحتي بكِ وبأخيك وبالمتعلمين الذين يرتمون تحت أقدامك وأقدام بسلامته حامد.
– الله يا أم، وأنا ما ذنبي حتى تسخري مني، لم تقدري على الحمار قدرت على البردعة، الأمر أمر أخي، وهل خرجت عن طوعه؟
– يا بنتي نريد الستر، الستر يا بنتي، ربنا يستر.
– أنا طوع أمركما، افعلا ما تريانه، ولو أني أريد أن أعمل في غياب أخي.
– وماذا تعملين؟ هل معك الشهادة؟
– أي شيء، أليس لي يدان وأعرف القراءة والكتابة، سأعمل حتى أساعدك في المصاريف.
– وهذه أيضًا لا أدري كيف أدبرها، ليس لنا إلا المعاش، هيه، النهاية.
– ألا ينوي أخي أن يرسل لك شيئًا من أوروبا؟
– وكيف؟ إن ما سيناله يكفيه بالكاد، أمر الله، هو العالم.
وقبل أن تجيب دولت يدخل حامد، وقد أعد نفسه للتجهم الذي تلقاه به أمه في هذه الأيام حتى عوَّده. ويجلس حامد بعد أن يطلب إلى أخته أن تعد له فنجان قهوة. وتقوم أخته وهي تسمع أمها تقول له: بسلامتها تريد أن تعمل.
وتسمع أخاها يقول: وماذا تعمل؟
وتقول دولت وهي تغادر البهو: أي عمل؟
وتمص الأم شفتَيها وهي تقول: حكم!
– لو كان معها شهادة!
ويسكت الاثنان، فقد استنفدا في هذه الأيام كل نقاش يمكن أن يدور حول سفره، أو زواج أخته من فهمي، أو إرسال نقود من الخارج، لم يبقَ لهما موضوع يمكن أن يتناقشا فيه، لم يعد أمامهما إلا الصمت.
وعادت دولت بالقهوة وهي تقول: وأي عيب في أن أعمل يا أخي؟
– لا عيب، ولكن ماذا تعملين وأنت بلا شهادة؟
– ممرضة، مربية، أي عمل، وعلى كل حال أنا أقرأ وأكتب.
– نعم أعرف.
– اسمع والنبي يا حامد، لماذا لا تكلم تلميذك خيري، لعله يجد لي عملًا؟
– سأفكر في الموضوع يا دولت، أشوف.