الفصل التاسع
كان همام بك في حجرة مكتبه ينتظر ابن عمه عزت الذي أخبره بالتليفون أنه قادم إليه لأمر هام، وقد انتهز همام هذه الفرصة ليراجع حساب البنك الذي جاءه في هذا الصباح، وليراجع أيضًا حسابات مزارعه. وما كاد يجلس إلى مكتبه حتى فُتح باب الحجرة وبدا منه صديقه فواز جامد الوجه كعادته، وألقى تحيته في هدوء وجلس إلى الكرسي الذي تعوَّد الجلوس إليه، وقام همام من مكانه وجلس إلى الكرسي المقابل له وهو يقول في نبرة عادية يحاول أن يفتح أبواب الحديث: هيه كيف الحال؟
وقال فواز في نبرة طبيعية: الحمد لله.
– ماذا فعلت في الصفقة الأخيرة؟
– خسرت.
– كم؟
– كل شيء.
– ماذا؟!
– كل شيء، لم يبقَ لي شيء على الإطلاق.
– كل شيء؟
وأخرج فواز تصعيدة من أعماق قلبه وهو يقول: كل شيء.
– الأرض والعقارات والأسهم و…
– والمال السائل وكل شيء …
– وماذا تنوي أن تفعل؟
– سأضارب.
– يا فواز!
– ماذا؟ أتريد أن تنصحني الآن بعدم المضاربة، هل أمامي شيء آخر؟
– والله لا أدري، أنا لا أعرف حتى ماذا أقول، أصبحنا يا فواز في سن لا تحتمل هذه الهزات، السنوات تمر، والعمر له حكم.
– أعرف، ولكن ماذا أفعل؟
– هل أستطيع أن أفعل شيئًا؟
– طبعًا.
– تحت أمرك.
– ضمانة.
– متى؟
– غدًا.
– أين؟
– عند الخواجة بتشتو في الساعة العاشرة.
– سأكون هناك.
– أتشترك معي في هذه العملية؟
– شكرًا.
– هيه، أمرك، أتعرف مَنْ رأيت اليوم؟
ثم جرى الحديث بين الصديقَين وكأنما لم يحدث شيء، كأنما هو فواز الغني الذي لم يخسر أمواله جميعًا ولم يصبح فقيرًا يكاد لا يملك الملابس التي يرتديها، هو هو لم يتغير فيه شيء، يضحك إذا مر الكلام بما يُضحك، ويهتبل النكتة إن عرض لها الحديث، حتى إذا أقبل عزت ورآهما في حديثهما هذا ظن أن الأنباء التي بلغته عن إفلاس فواز غير صحيحة، وإن كان قد عرفها من مصادرها التي لا تخطئ، جلس عزت إلى الصديقَين وشاركهما في الحديث، ودار بهم الكلام في كل متجه. وحاذر عزت أن يذكر البورصة وما كان فيها، وكان الآخران بعيدين عن حديثهما أيضًا، فقد استنفدا عنها ما تستحق من حديث، وطالت الجلسة وهمَّ فواز بالانصراف، ولكن همام ألح عليه أن يقعد مصمِّمًا في دخيلة نفسه أن يجعل عزت ينصرف قبل فواز. فقد أدرك الأمر الهام الذي كان يريده فيه، إنه أراد أن يخبره بإفلاس فواز وأراد أن يحذره من ضمانته، وكان همام يعلم أن لا جدوى من هذا التحذير فأراد أن يتجنب المناقشة.
وأدرك عزت السياسي المداور ما بيَّته همام في نفسه، فعزم على البقاء حتى يخرج فواز، وأدرك همام أن لا محيد له عن هذه المناقشة بينه وبين عزت.
خلت الحجرة بهما، فبادر همام يسأل وعلى فمه ابتسامة: يا أخي، أليس لك بيت؟
– بلى لي بيت، وسيظل لي بيت.
واتسعت الابتسامة على وجهه وهو يقول: ماذا تقصد؟
– أقصد أنه سيظل لي بيت ما دمت لا أضمن الناس، وخاصةً الذين يضاربون بأموالهم جميعًا، ولا يكتفون بهذا بل يطلبون ضمانة أصدقائهم أيضًا.
– ماذا تنتظر مني أن أفعل؟
– يا أخي، ربنا خلق كلمة في اللغة العربية اسمها لا، وأخرى اسمها متأسف، ولا أستطيع، وعندي أولاد.
– عندي أيضًا أصدقاء، وعليَّ واجبات لهم.
– واجباتك نحو أولادك أوَّلًا.
– أتعرف يا عزت أنه كتب كل أمواله باسم زوجته؟
– عظيم، تضمنه زوجته.
– جعلته أنا يعيدها باسم نفسه، ألا تراني مسئولًا عن إفلاسه الآن إلى جانب مسئوليتي كصديق العمر؟
وارتج على عزت هونًا ثم قال: أتعرف المبلغ الذي ستضمنه فيه؟
– لا، لم أسأله.
– أراهن أنه مبلغ يزيد على أملاكك.
– لا أستطيع الرفض.
– يا همام، أرجوك.
– ماذا فعلت مع طبيب فايزة؟
وغامت عينا عزت بالدموع فجأة، ولكنها ما لبثت أن غاضت وقد تماسك قائلًا: لا فائدة.
– مطلقًا؟
– لن تسمع شيئًا بقية عمرها؟
– لا حول ولا قوة إلا بالله.
– المصيبة أنها صغيرة ولا أدري كيف يكون مصيرها؟ كيف تتعلم؟ كيف؟
ثم تماسك وصمت.
– ألا تذهب بها إلى أوروبا؟
– سأذهب، ولكن ليس للعلاج.
– لماذا؟
– أنت تعرف كما أعرف أنا أنه لا فائدة، حمى شوكية قضت على السمع، لا علاج لها في أي مكان.
– فلماذا تذهب؟
أوَّلًا لا أريد أن أفجع أمها في أمل قد يلازمها بضعة أشهر أخرى، وثانيًا أريد أن أبحث عن مدرسة لتعليم …
وعادت الدموع في عينَيه مرة أخرى، وأطرق همام. ولكن عزت أكمل جملته في صوت يختلط بالبكاء: الصم.