أُغنية الفِرِّو، تَيرابُ البِنَيَّة، بُوشَاي، وأَشْيَاء أُخْرى
ذات صباحٍ باكر، أرسلت لي ألم قِشي وَد أَمُّونة برسالة شفهية، فهمت منها أنها تريد مقابلتي في بيت أَدِّي الآن، المسافة ما بين بيت أَدِّي ومنزل مختار علي حيث أقيم وصاحبي قريبة جدًّا وبعيدة جدًّا، يتوقف الأمر حسب العلاقات الاجتماعية مع الجيران والوقت ليلًا أم نهارًا؛ حيث يمكن استغلال ما يسمونه بباب الجيران؛ لاختصار مسافة كيلو متر من الهرولة عبر الأزقة والطرق الجانبية، إلى ما لا يتعدى العشرين مترًا، وشخص مثلي غالبًا ما تكون علاقته جيدة مع الجيران؛ لذا دخلت منزل أول جارة وهي سُعاد، تبادلت التحايا وزوجها، ثم عبرت عرض المنزل إلى بيت الداية بِت البرون، وهي امرأة عجوز طيبة بوجهها شُلوخٌ عريضة وابتسامة دائمة، ليس لها زوج، ليس لها أطفال، بنت أختها التي تقيم معها كانت نائمة في تلك اللحظة، تبادلنا التحايا، وعَبْر باب الشارع كان عليَّ أن أعبر منزل الدينكاوية الحسناء أداليا دانيال ولم تكن بالمنزل، عَبَرتُ بيتها، لأجد نفسي وجهًا لوجه مع باب مُجمَّع أَدِّي السكني، وجدتُ وَد أَمُّونة قد سَبَقَنِي لبيت أَدِّي وكي لا أموت دهشة، قال لي إنه ركب موتر مع الحاج البوليس الذي وجده مصادفة يمر بطريق منزل مختار علي، وذلك بعد أن أخبرني برسالة ألم قِشي مباشرة، أومأتُ برأسي أن فهمت، بادرتني ألم قِشي معاتبة: إنت ما سألت مني تاني؟ دا أسبوع كامل.
أضاف وَد أَمُّونة، بأسلوبه الخاص: وحات ربي، ألم قِشي مما نامت مَعاك، تاني رجلها دي ما رفعتها لزول.
قالت ألم قِشي بصورة مباغتة وهي تنظر في أم عيني: أنا ما عجبتك ولا شنو؟
أضاف وَد أَمُّونة: في زول ما بتعجبوا ألم قِشي؟
قالت ألم قِشي بغنج وهي تحرك صدرها بما يشبه الرقص: مزاج ناس المُدن صعب يا وَد أَمُّونة، ديل متعودين على البَنات اللِّي في التلفزيون يمكن، أضاف وَد أَمُّونة مخاطبًا ألم قِشي برقة خبيثة فاجرة: أنتِ مَا أدخنتِ ليهُ ولا شُنُو؟
ادعت ألم قِشي الخجل، أما أنا فكنت محرجًا من كل شيء، مع وعيي التام بالشَّرك الذي أُصْطَادُ بِه، قُلتُ: العفو، العفو، ألم قِشي جميلة، ونظيفة، كل في الكل.
أضاف وَد أَمُّونة: أنا ح أدخِنها ليك الليلة، وأدلِكها وأبقيها ليك عروس عديل كدا، قصرت معاك؟
قلت له مجاملًا: إنت ما بتقصر، ولو إنها كدا كويسة معاي.
قالت ألم قِشي: كويس، عايزاك في موضوع تاني، موضوع الشُّغُل مع ناس شركة الاتصالات.
– يعني خلاص وافقتِ على الشُّغُل؟
قالت دون مبالاة وهي تهزُّ صدرها بتلك الصورة المُدهشة: قلت أجرِّب، يمكن ربنا كاتب لي رزق في مكان تاني.
تعرف ألم قِشي أن العلاقة بيني وبين موظفي شركة الاتصالات الوافدة حديثًا للمنطقة هي عبر صديقي، فهو تربطه علاقة شخصية بالمدير، وقد طرح عليَّ فكرة أن تعمل ألم قِشي طبَّاخة في مَيس الشركة؛ إذْ إن الموظفين لم يحضروا زوجاتهم بعد، في انتظار اكتمال البرج والتوصيلات الأرضية، وإحضار الأجهزة الإلكترونية، وغيرها من الأشياء التي تؤكد استقرار العمل، قلت لها: كويس، ح أكلمهُ أقول ليه: ألم قِشي وافقت.
طلبا مني أن أشرب معهما قهوة الصباح، إلَّا أنني تعللت بارتباطي بمختار علي وصديقي في البيت، وأننا سوف نذهب معًا كما اعتدنا أن نفعل في الأيام الأخيرة إلى العجوز؛ حيث نحتسي عندها القهوة، وأنا أخرج من المنزل سألني وَد أَمُّونة إذا ما كنت سأحضر في المساء، أكدت له ذلك، فغمز لي بعينه اليسرى بما يعني ما يعني، ابتسمتُ أومأت برأسي مباركًا مساعيه وشاكرًا.
يبدأ صباحي كالعادة بكسل يتسم به العاطلون عن العمل ولديهم مصدر رزق يحول دونهم والموت جوعًا، وليست عليهم مسئوليات أُسرية، عبارة عن مَطَالِيق مثلي يبحثون عن متعة المشاهدة لا أكثر، لدينا زبونة واحدة فقط نشرب عندها قهوة الصباح، شَمطاء، تستغل راكوبة بيتها لتقدم الشاي والقهوة للعابرين من الجنقو، والعمال الآخرين، بيتها في أقصى الشرق على طريق همدائييت، حيث يعمل عدد من العمال على تأسيس طلمبة الوقود، ذهبتُ إليها وحدي إذ إن صديقي فضَّل دُخُول الحِلَّة، أما مختار علي فلبى دعوة جارة حبشية كريمة، طلبت منه أن يشرب معهما هي وزوجها قهوة الصباح، وكما هو معروف لا يَرفض عيِّنة هذه الدعوة إلَّا شخصٌ أهبل، فالناس يؤمنون هنا أن لا أحد يصنع القهوة بمهارة تفوق الحبشيات، أعدت لي العجوز قهوة وعليها كمية أكبر من الزنجبيل، وهي علامة أنني من مدينة كسلا، بينما أنا من مدينة القضارف، مرَّ أمامنا شرطيان يتبعهما شيخ الحِلَّة، وبعض أعضاء اللجنة الشعبية، رموا علينا السلام ومضوا في عجلة نحو الطلمبة. قالت لي العجوز: إمبارح «بالأمس» واحد من عمال الطرمبة ديل طعنوه.
– طعنه منو؟
قالت وهي تحرك جَمرة صغيرة بملعقة السكر: أولاد من المعسكر، معسكر اللاجئين القريب دا، كانوا بيلعبوا القُمار مع بعض واختلفوا، كلهم كانوا سكرانين لَط.
قلتُ لها: إن شاء الله ما اتعوق شديد؟
قالت بحسرة: مات قبل شُوية في مستشفى الشجراب، شالوه بلوري عثمان عيسى لخشم القربة، لكنُّهُ مات في السكة.
ثم أضافت: إنت ذاتك بتعرفُهُ.
وأخذت تصفه لي، ولكنني، وهي عادة سيئة عندي، عندما يموت شخص أعرفه معرفة غير عميقة، أقصد معرفة عابرة، فإنني أنسى ملامحه، بل قد لا أتذكر أنني قابلته من قبل، الأمر الذي يكون سهلًا إذا ما زال على قيد الحياة، لا أعرف ماذا وراء ذلك.
– هو واحد من زبايني، أنت شفتو هنا في راكوبتي ذاتها.
قلتُ: الود البرناوي؟
قالت ضاحكة: يشبه البرنو، ولكنه مُولد.
وشرحتْ لي أن تسعة وتسعين في المائة من سُكان الحِلَّة ليست لهم أجناس، ليست لهم قبائل، كلهم مُولدون، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس، وآباؤهم في الغالب إما غرابة: مساليت، بِلالة، زغاوة، فُور، فلاتة، تاما، أو حُمران وشكرية، أو شلك ونوبة ونوير، وفي قِلة من الشَّوايقة والجعليين، وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا، ولا جنس ولا خشم بيت، قلت لها متحديًا: كويس أداليا دانيال؟
قالت: أداليا دانيال أمها دينكاوية، أبوها أشولي، وراجلها لكويا.
قلت: إنتِ؟
قالت: أنا أمي بازاوية، وأبوي أمو حبشية وأبوه مسلاتي، وولدي متزوج من الحُباب من أسرة الكنتباي ذاتها، وأنت عارف الحُباب ديل ناس سَمحين، وكل الأجناس القلتها ليك دي هي مجرد أسماء، ولكن في الحقيقة انمحوا في بعض، بس الواحد فيهم بيتمسك بقبيلة الأب، وطبعًا دا كلام ساي، الدم كلهُ من الأم، والروح من الأم، والأبو دا عنده شُنو غير المُوية؟ ثم أخذت تعدد لي الأشخاص وكيف خُلِطوا، وختمت حديثها بما يعتبر من المسلمات: أهلنا ديل يموتوا في الحبشيات، وحكت لي قصة الحاج الذي ألهاه الشيطان عن اللِّحَاق بركب الحج، حيث تمثل له في شكل فرج أنثى على فرع من شجرة لالوب شائكة استظل تحتها بمصوع في طريقه إلى مكة، حيث أخذ الحاج يرمي العُضو بالحجارة لكي يسقط في الأرض، يهتز العضو، ويكاد يَسقُط ولكنه يبقى في مكانه، وهكذا ظَلَّ الحاج يرمي الحجارة إلى انتهى موسم الحج، ولم يَحْظَ بالعضو الجَيِّد، ولم يَحْظَ بالحج.
قلت لها: الصافية دي شنو؟
– جدها مسلاتي، أمها من الأمهرا من جهة الأم، فوراوية من جهة الأب، وبيتهم فيهُ البازاوي، والحبابوي، والقمراوي، والإنقريابي، والرباطابي، وحتى الحلفاوي، والمحسي، والدنقلاوي.
قلت لها: كويس الجِنس البينقلب مرفعين دا شنو؟
قالت بطمأنينة العالم العارف: الحكاية كُلها في اللبن.
صبت لي فنجانًا آخر من القهوة، وهي تكمل حديثها: الحكاية كُلها في اللبن، من جهة الأم، وخلط اللبن باللبن ما كُويس، الواحدة تخلي أطفالها يرضعوا هنا وهناك، وهي لافَّة من بيت لبيت وما عارفة الناس، فيهم تيراب البِنية البعاتي، وفيهم الْبِنْقِلِب غُراب، وفيهم الْبِنْقِلِب أسد، أو مرفعين، أو برطَّا برطَّا، وفيهم البياكل الناس عديل كِدا، وفيهم السَّحَّار، والبلد ملانة بالجن، تلقاهم في شَكل نُسوان، ورجال، وحمير، وكَدَايِس، وشَجَر، وربنا يكون في العُون، وحتى البُومة دي لو لقت طفل وحدهُ بِتْرَضِّعُهُ، وربنا يكرم السامعين، دا هو تيراب السَّحَّارين، اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين.
قلت لها: أسرة الصافية هي أول أسرة في البلد هنا، مُش كِدا؟
قالت، وقد بدا عليها الارتباك قليلًا: منو القال ليك أسرة الصافية، الصافية السكرانة دي ربيناها نحنا في أسرتنا تربية، أمها ولدتها ورمتها لينا هنا، وفاتت ما في زول يعلم وين، وأنا السميتها الصافية على جدتي، الأسرة الكانت هنا هي أسرتي أنا، ثم حكتَ لي الحكاية الحقيقية، وما عداها اعتبرته تشويهًا دافعه سوء النِّيَّة، والجهل، والحَسَد، عندما جاء أهلها إلى هذا المكان، لم يكن به سُوى الثعالب، المرافعين، القرود، الحَلُّوف، أبو القدح، الأرانب، والصقور، والحُبار، وأحيانًا يرى الناس بعض النُّمور، كانت هناك غابات كثيفة من شجر الكتر، واللالوب، والهشاب، وبعض السَّيَّال، وعند الخيران، وبرك المياه، تنمو أشجار السُّنُط، أما في الكَرَب وعلى شاطئ النهر فالعرديب والتبلدي، ولكن البلد مشهور بالجن وأبي لمبة، منذ أن تغرب الشمس يخرج أبو لمبة، كانت أسرتها في طريقها إلى مدينة القضارف، بعد أداء شعيرة الحج، حيث إنهم قَدِموا عن طريق اليمن، باب المندب، مصوع، الحبشة ثم إلى هنا، وقد داهمهم الخريف في هذا المكان، فأقاموا وبنوا أول منزل، قطع جدها وأبناؤه الأشجار، نظفوا الأرض، وزرعوا محصول الذرة والدخن والسمسم، قالت: دا قبل أكثر من مية، مية وخمسين سنة، حكت لها بذلك جدتها عن جدتها عن جدتها، قالت: جدنا الأكبر اسمو عبد الرازق وله توأم اسمو عبد الرزَّاق، حبوبتي قالت، حبوبتها قالت ليها: كانا يعملان في تجارة الحطب، والمحاصيل الزراعية التي ينتجانها، حيث يقومان ببيعها إلى الحبش في الحُمرة، وبحر دار، وحتى نواحي قُندر، قد يسافران لأيام تطول، بينما يبقى أبواهما في المنزل مع أختهما الصغيرة وهي التي تسمى الصافية، حكت لها جدة عن جدة عن الصافية، كان عُمرها لا يتجاوز السنوات العشر في ذلك الوقت، ولكنها تتذكر إلى الآن اللحظة التي جاء فيها أخوها عبد الرازق التوم على رأسه طُوق من الحديد، مربوط بشكل محكم، عيناه محمرتان وبارزتان إلى الخارج ولسانه خارج فمه مثل لسان الكلب، ورغم ذلك كان صامتًا، فقط يصدر صوتًا من صدره مثل نداء البوم، فهب إليه أبوها وأمها وأخوها عبد الرزَّاق، الذي خرج من السجن قبل يومين فقط، تذكر إلى الآن جملة واحدة وهي: أنا ممكون بالفرو.
وكان جسده كله يتصبب عرقًا، أخذ أبي يقرأ على رأسه آيات من القرآن، ولكن عبد الرازق قال له: المُبرد، المُبرد يا حاج.
وفعلًا أتى أخي عبد الرزَّاق بالمبرد، وقاما بقطع الفرو، وكانت لحظة عجيبة جدًّا، كلنا أحسسنا بالراحة، وكأنما هو وُلِدَ من جديد في تلك اللحظة، ولم يهتم أحد من الأسرة إطلاقًا بالهواء العظيم الذي اندفع من دُبر أخيها عبد الرازق، في شكل دوي هائلٍ مدهشًا سكون هواء الخريف الثقيل، ناثرًا عُفُونة إسهال حبيس بئيس، ثم استفرغ، ثم نام، أيقظه أبوه في منتصف الليل، حيث أُطعم، ثم نام مرة أخرى تاركًا الأسرة كلها قابعة قرب رأسه ينظرون إليه مندهشين، وكان عبد الرزَّاق بين حين وآخر يردد: أنا السبب، دا كله عشاني أنا.
لكن أمه كانت تخفف عنه بالقول: في النهاية أخوك، تكررها في قلق، قالت لي العجوز وهي تحكي باستمتاع وقد نسينا فنجانًا من القهوة يقبع في صمت فتساقط عليه الذباب: كان المساجين في الحبشة وإلى وقت قريب لا يطعمهم السجن، يربطونهم ليشحدوا في السوق والاندايات، وأثناء ما كان عبد الرازق يتناول طعامًا في سُوقِ الحُمرة مع أصحابه التجار إذا به يرى توأمه عبد الرزَّاق مربوطًا ضمن عدد من المسجونين يسأل الناس طعامًا، كاد يقف قلب عبد الرازق من المفاجأة: تومي عبد الرزَّاق؟ أطعمه وأعطاه مالًا، وقال له بلغة المساليت إنه سوف يأتي إليه يوم الجمعة في السجن، الجمعة التي بعد جمعتين كاملتين، يرتدي نفس الملابس التي يرتديها توأمه الآن، نفس الحذاء، ونفس الطاقية، وسوف يطلب مقابلته وهنالك في السجن يتبادلان المواقع، وأضاف: أنا بعرف بتعامل مع الجماعة ديل كويس، أنا بعرف ليهم، أنا عشت مع الشِّفته والفالول سنة كاملة، وبالفعل تبادلا المواقع في التاريخ المتفق عليه، ولكن في اليوم الثالث بلَّغ عنه المساجين الذين اكتشفوا الخدعة منذ اليوم الأول، بالرغم من أن عبد الرازق عبارة عن نُسخة أخرى من عبد الرزَّاق، كأنما الأول صورة للآخر في المرآة، ولكن طبيعة عبد الرازق تختلف بصورة جوهرية عن توأمه؛ حيث إن عبد الرازق كان يميل لنوع من الحياة لا يحبذها أخوه، حيث إنه كثيرًا ما يختفي لشهور كثيرة باحثًا عن المغامرة والمتعة، الخمرة والنساء، مع قُطَّاع الطُّرق الأحباش في أحراش إثيوبيا، كان ملولًا سريع الغضب، وعنيفًا ويتعاطى كل ما حرم الله، ولم يُصلِّ أو يَصُمْ إلَّا في صغره، عكس عبد الرزَّاق تمامًا؛ حيث كان طيبًا مسالمًا، ولو أنه ما كان ميالًا للعبادة، إلَّا أنه كان لا يتعاطى المُسْكِرات، ولا حتى الصعوط والسجائر.
– قدر ما قلت أقلد أخوي عبد الرزَّاق؛ ما قِدرت خالص خالص، ما قدرت؛ فالطبيعة جبل كما يقول الناس.
وأخبر عنه المسجونون إدارة السجن علَّهم يجدون وضعًا مميزًا، أو على الأقل يتجنبون المساءلة إذا اكتشف أمره السجَّانون بأنفسهم، فقامت إدارة السجن بضربه ضربًا مُبَرِّحًا، ثم خيروه ما بين الخازوق أو الفرو، وكلاهما يعني الموت ببطء وألم شديد، فاختار الفرو، فَرُبِطَ في رأسه بأقصى درجة ممكنة وقالوا له: لو ما جبت أخوك خلال نصف ساعة ح تموت، ومفتاح الفرو عندنا هنا في السجن يللا «قَلْتِفْ»، وتعني بلغة التجرنة التي يعرفها جيِّدًا: أسرِع.
في الثواني الأولى من ربط الفِرو، تمنى لو أنه وجد أخاه ليسلمه للسجانين؛ حتى يفكوا من رأسه الفرو، ثم أخذ بالفعل يبحث عنه دون تركيز، دون خطة، دون أمل، كان يصرخ في الطُّرقات وهو يجري في كل اتجاه باحثًا عن لا شيء، كان يهتف باسمه، لقد أُصِيب بهلع شديد، وحالة من التشتت، ولكنه كان يمضي بعيدًا عن السجن على أي حال، كانوا متأكدين من أنه سيعود، حتمًا سيعود أو يموت، ويعرفون أنه لن يموت بعيدًا عن السجن، يهمهم في الأمر الفِرو الذي لا بدَّ من إعادته للسجن، جثته سوف يرمون بها في البئر المهجورة عند سفح الجبل.
– بعد لحظات بقيت أوعى، حسيت بنفسي، وتذكرت كيف الفالول يتعاملوا مع الفرو. ادعى أن الذي يلتف حول رأسه ليس هو الفرو آلة الحديد القاسية المميتة؛ ولكن ثعبان، ثعبان قد يقتله بلدغة واحدة، وقد يتركه في حاله إذا تعامل معه برفق وكلمه بالحسنى، وأقنعه بالمنطق، ولأنه يريد أن يحيا ولا يرغب في الموت ملدوغًا من ثُعبان سام؛ عليه بسياسة النَّفس الطويل، طولة البال، وأن يربط مهمة أن يخرج من الحدود الحبشية بترضية الثعبان، وأخذ يتلو نشيدًا طويلًا بالتجرنة، كان نشيدًا طويلًا يتكون من كلمات بسيطة قليلة:
ويستمر النشيد في كلمتين هما سوف أحيا، ولن ينتهي إلى أن يطلق الثعبان رأسه، واتجه نحو الحدود السودانية، مهرولًا منشدًا في اتجاه الغرب متجنبًا طرق المشاة، السيارات، الحمَّارين، كل السكك المطروقة إلى همدائييت، اتجه جنوبًا، قليلًا جنوبًا، عبر غابة الطلح الصغيرة، الواقعة على أرض حجرية صَلْدة حمراء، بها خوران، وعران، وبعض شجيرات الكتر الشوكية، تنبت ما بين هنا وهناك، يعرف هذا المكان جيِّدًا، اشترى منه قبل عامين مائة قنطار من الصمغ العربي مقابل عشر جوالات من السمسم الأحمر النادر من برهاني كِداني الحبشي الممسوخ كما يحب أن يسميه، وهو أحد أكبر الفَالول في نواحي خور الحمرة وغابة زهانة الأكثر وعورة ورهبة، اشترى منه الصمغ على علمه التام أنه لا يمتلك ولا رطلًا واحدًا منه، ولا يفهم في طَق الصمغ ولا لقيطه، وللمبالغة يقولون عنه إنه لا يفرق بين الطَّلحة والكِترة، لكن ليس بإمكان المزارعين الفقراء البائسين أن يبيعوا صمغهم إلَّا من خلاله هو فقط، وبالسعر الذي يضعه، وكان غالبًا لا يظلمهم ودائمًا ما يحميهم من قُطاع الطُّرق واللصوص الآخرين، إذا التقى به هنا سوف يساعده دون شك في التخلص من الفرو، تبدو الشمس أمامه كبيرة حمراء مثل الدم، تغيب الآن، يمضي نحوها، يعرف أنهم أطلقوه في هذا الوقت بالذات؛ ليصعبوا أمامه خيارات النجاة؛ حيث إن الليل هنا عدو اللصوص أيضًا، في ذلك المغرب التقى فالول وشياطين، فروا منه، وقبل أن يكتمل الغروب استطاعت ساقه أن تسلمه إلى البيت.
عاد الشُّرَطِيان، توقفا قليلًا عند العجوز، سألاها عن فتى باسمه ولقبه، واسم أمه، مصحوبًا بكلمة الشَّرمُوطَة نِكايةً وغضبًا عليه، قالت لهما: مشى زهانة، معزوم مع أصحابه كلهم عيد القديس يُوهَنِس.