فَوائدُ مَا بَعد الحفل
تأقلمتْ ألم قِشي على الحياة الجديدة بسرعة فائقة، أحبت عملها ولو أن المبلغ الذي تتقاضاه مقابل القيام بإعداد الطعام، وترتيب الميس لا يساوي نصف ما كانت تحصل عليه في العمل في بيت أَدِّي كفتاة مبيت، إلَّا أنها كانت كل مرة توجد لنفسها مصدرًا آخر للدخل، مثلًا؛ طلبت من الموظفين ألَّا يأخذوا ملابسهم إلى الغسال، هي ستقوم بذلك وبصورة أفضل؛ لأنها لن تخلط الملابس مع بعضها، ستغسل لكل فرد على حدة؛ وذلك حتى لا يختلط عرق شخص مريض بشخص سليم، فتنتقل العدوى: وح تشوفوا الفرق، ثم ابتكرت فكرة بيع الملابس والمصنوعات القطنية الحبشية المتميزة بالتقسيط المريح لعمال وموظفي الشركة وأصدقائهم، حتى يتمكنوا من أخذها إلى أسرهم عند عودتهم الشهرية إلى مدنهم ومواطنهم الأصلية، ثم أخذت تبيع أشرطة الكاسيت الحبشية، والزائيرية، والأحزمة الجلدية الأصلية، والجزم الإيطالية المهربة من إثيوبيا، ثم الجِن، البراندي، الأنشا، الكونياك، ثم الكوندوم، والفياجرا، وعقاقير فتح الشهية.
ثم زاد دخلها بصورة ملحوظة عندما استضافت في بيتِ أَدِّي، في خَميس بُنِي، كل العاملين في شركة الاتصالات وأصدقائهم من العاملين في تشييد البنك؛ ضباط المحلية، بعض قادة الجيش والشرطة، ثم نفرًا من أعيان البلدة، ووفرت لهم ما لذَّ وطاب من شواء بالسمن والعسل، وشيشة معطون تمباكها بالاستيم، الذي يحل محل الماء كذلك، ثم فاجأتهم بالمغني العجوز آدم بلالة في صُحبة الأم كيكي، ورفقة أجمل سبع بنات في الحي الشرقي؛ صفية إدريس الملقبة بصفية ناسات، سنايت، وليس هناك أفضل من ساقي سنايت إذا رقصت، أميرة الدبابة وهي خِلاسية نجلاء ردفاء، مناهل سعيد، شهيرة بمناهل النوباوية، وهي فتاة تتصف بعنق طويل ناعم مصقول، أمها يمانية، وأبوها من المحس، أمونة بت خدوم، وهي امرأة قَدِمَتْ من مدينة القضارف مؤخرًا في صحبة أمها الجنقوجوراية، ولكن لِما تتصف به من جمال وفصاحة وثقافة؛ أخذت موقعًا متميزًا بين نساء الحلة، ولا يمكن أن تنسى في مثل هذا الحفل التاريخي أستيرا كيداني بشير، وهي أيضًا من الذين قدموا حديثًا للحلة من الحُمرة، حيث إنها كانت تسكن فريق قرش، تمامًا جوار شجرة الموت، وهي تعمل بارستيا في البار الخارجي على شاطئ نهر سيتيت المقابل لهمدائييت، ولكنها اتهمت بقتل إحدى زميلاتها في العمل، فهربت إلى الحِلَّة، جميلة صريحة وواضحة، لا تتحدث اللغة العربية إلَّا بصعوبة، بوشاي شول، أبوها من الشُّلك، أمها من الحُمران، وهي مغنية لا تقوم لحفل قائمة إذا لم يصدح فيه صوتها العذب، وقد قال فيها أحد صعاليك الحلة أغنية:
وكي يكتمل الحفل كان لا بدَّ لوَد أَمُّونة من أن يكون حاضرًا، نظيفًا، ظريفًا، رشيقًا، تراه في كل مكان، لا ينجو أحدٌ من خدماته السريعة المتقنة، ولا من عطره القوي، أو صوته الخفيض الهادئ، رقص، غنى، دوبى، مدح، وعقد صفقاتٍ سِرِّيَّةً سَرِيعةً مع من شاء فيما يشاء، بدءًا بالخمور المستوردة، انتهاءً بالبنيات، وكل له سعره، الفتاة، العزباء، المتزوجة، الأرملة، المحافظة، الشرموطة، الجن، الويسكي، الأحَجِبَة والتَّمَائِم، المِحَايَة، الأنشا، البيرة، الكونياك وحتى عرقي البلح، المريسة والعسلية مع خدمة توصيل الطلبات إلى الموقع، نسبة لما يتميز به الموظفون من عِفَّة وتأفف، وكثير من الخجل والحرص يمنعهم من الحصول على الخدمات في مواقع إنتاجها، ولكن الله يخلي وَد أَمُّونة، حلَّال الكرب، لم يضايقه سوى طلب همس به أحدهم إليه في أذنه، وأكده بقرصة مباغتة في أليته، غمزة بعينه اليسرى وحركة لسان: أنا عايزك إنت يا وَد أَمُّونة إنت، في رُوحك دي يا وَد أَمُّونة.
قال لي وَد أَمُّونة فيما بعد، إنه أحسَّ أن الدُّنيا أظلمت في وجهه، بالرغم من أنه ليس هذا هو الطلب الأول الذي يقدم له في شأن نفسه، وليست هي القرصة الأولى، ولا الغمزة الأولى، ولا هي أول حركة لسان داعرة يُلوَّح بها إليه، ولكن لا يدري لماذا أدهشه هذا أكثر، قال: قلت ليهو تعال بُكرة في بيت أَدِّي هنا، تلقاني قاعد، ولكنه لم يحضر.
فسألت وَد أَمُّونة: ماذا كان سيفعل به إذا حضر؟ قال لي وهو يضحك بطريقته الملتوية، التي تجعله دائمًا في موطن التشكك والظن: بصراحة بصراحة، الزُّول دا عجبني، والحمد لله إنهُ ما جاء.
كان حفلًا جميلًا مرَّ بهدوء، استمتع به الجميع، حضرناه مع غيرنا من مواطني المدينة، حيث إن من لم يُدعَ رسميًّا هنا، فهو مدعو عُرفيًّا وعن طريق العادة، خسرت ألم قِشي لإقامة هذا الحفل مالًا كثيرًا، ولكن فوائد ما بعد الحفل كانت أجدى.
قلت لألم قِشي ونحن في بيت الأم، حيث اعتدنا أن نلتقي: تجارتك بقت كبيرة، وبقيتي غنية.
قالت مدعية البراءة: ناس المدينة يحبوا الملابس الحبشية.
قلت بمكر: وتاني؟
قالت في مَكر: الأشرطة الحبشية والزائيرية.
قلت: وتاني؟ قالت بتحدٍّ: تقصد شنو؟
قلت لها بوضوح: البنات، ما بيحبوا البنات؟
قالت في بجاحة: أنا وسيط ما أكثر، وإنت عارف إنو أنا ما عندي ذنب، إنت ذاتك لو عايز واحدة ح أجيبها ليك.
ولأول مرة في حياتي يصل بي الغيظ حد أن أتهور وأضربها في وجهها إلى أن سقطت على الأرض، عندما نهضتْ أخذتْ زجاجة جِن فارغة ورمتني بها، ولكني خفضت رأسي قليلًا، فانكسرت على الباب محدثة دويًّا مرعبًا حضرتْ على إثره أَدِّي، ووَد أَمُّونة، في لمح البصر، وحضر ما يمكن أن أسميه نِصْف سُكان الحي، أو جميع سكان الحي المستيقظين في تلك الساعة من الليل، هذا بالتأكيد كان من حسن حظي؛ حيث إن وَد أَمُّونة وأَدِّي لم يستطيعا أن يرفعا ألم قِشي عن صدري، أو يطلقا حنجرتي من كفيها القويتين، وصف لي وَد أَمُّونة فيما بعد حالتي بأنني: قرَّبت أطلع الروح، ولكن ألم قِشي قالت لي إنها ما كانت لتقتلني، ولكنها فقط كانت عايزة تهازر معاي شوية، ولكنني على كلٍّ وعيتُ الدرس واعتبرتُ الحادثة أيضًا من فوائد ما بعد الحفل، اكتفى الناس بفض المشاجرة، لم يلمني أحدٌ، ولم يلمها أحدٌ، الملام في كل هذا هو الشيطان الرجيم، العنوا الشيطان، الناس هنا يفعلون المستحيل حتى لا يخسروا بعضهم، وتعجبهم اللمَّة، فالناس بالناس والكل لرب العالمين.
يا دوب ألم قِشي ح تحبك بالجد بالجد؛ لأنها ضاقت إيدك، وعرفت إنك بتحبها؛ لأنك بتغير عليها.
ثم سألني سؤالًا مباغتًا: إنت بتحبها يا ولد؟
كنت مرهقًا، نمت، تركتهما يتحدثان عن باص همدائييت، الذي نهبه الفالول بعد ظهر اليوم، عند غابة زهانة، نمت يملؤني العجب، كيف يصل الخبر عن الباص الذي نُهِب في غابة زهانة بعد الحادثة بما لا يزيد على نصف الساعة، والباص نفسه، كأسرع دابة في تلك البقاع، يحتاج إلى ساعة كاملة كي يصل إلى هناك من الحلة؟ أليس صحيحًا أن الجن وحده هو المسئول عن نقل الأخبار في هذه البلاد؟