الْجَنقُوجُورَاي
يوم الخميس هنا يوم عيد، يقضيه الجنقوجوراي تحت شعار محفوظ ومعروف وهو: خميسك ولو تبيع قميصك. يهبطون إليه من المشاريع والتايات البعيدة والقريبة، عابرين مزارع الذرة والسمسم، أو غابات الكتر والطلح الصغيرة المتفرقة بين هنا وهناك، مثيرين الرعب في الأرانب البرية والفئران والسحليات، عن طريق دق أرجلهم الخشنة على الأرض الطينية السوداء، عن طريق أصواتهم التي تطلق أغنيات حصاد بائدة قديمة نشاز، في سماوات الفلوات الشاسعة، على ظهورهم القوقو متخمًا بعروق الشجر، ووصفات لعلاج مرض الصعيد، ولدغات الثعابين والعقارب، وحتى خادم العقرب الصغيرة السوداء المؤذية، وما استطاعوا جمعه من زينة إلى تلك اللحظة، وعندما يصفو لهم الجو، أو يبلغ بهم التعب أشده، يجلسون تحت شجرة لالوب أو طلحة رءوم، ويحكون عن أرباب العمل والنساء وحي قرش، وهم غالبًا ما يتجنبون الحديث عن المال، هذا المخلوق الغريب اللَّزج، الذي لا يستقر في جيب، ولا كف، ولا قوقو، الذي يأتي بالمريسة والعرقي، يأتي بالشيَّة والمرس والكجيك وما لا يحلمون به من طعام، يأتي بالنساء في لمح البصر، يعرف كيف يهين الرجال ويمرِّغ أنوفهم في التراب، وينهي رحلة حياتهم بشجرة الموت في فريق قرش بالحُمرة، ولكنه في هذا الشهر.
وطالما كان الجنقوجوراي في كامل صحته، وفي تمام مقدرته على العمل، ومواقعة النساء، فإن المال مهم لإكمال الزينة، وهي جزمة أديداس، أو كموش، بنطلون جديد، ويفضل الجينز البُوقِي بجيوب كبيرة وأحزمة، قميص أو قمصان جديدة ذات ياقات كبيرة لها ألوان زاهية، أو حارة، عطر البخور، أو المنتخب، بطارية جديدة ماركة رأس النمر الإنجليزية الأصلية، سويتر، منديل كبير مصنوع من القطن، علبة فازلين كبيرة تستخدم كحُقة للصعوط فيما بعد، مسجل كبير بسماعتين ملحقتين، والأجمل والأكثر إثارة والذي يعطي وضعية اجتماعية أفضل للرجل هو ماركة سانيو بالذات، أو إنترناشونال المكتوبة بالفضي بارزة ما فوق علبة التشغيل، شنطة هاندباج كبيرة، وهي ما يطلقون عليها تدليلًا: قُوقُو، نظارة شمسية سوداء اللون، أو عاكسة للضوء كبيرة تغطي نصف الوجه العلوي، تحب البنات رؤيتها هناك، ساعة يد كاسيو طالما لا توجد سَيكو أصلية ولا ستيزن أو جوفيال، والبعض وهم قلة يحتفظون بقلم بِك ونوتة صغيرة، وهما طالما يدُلان على معرفة بالكتابة والقراءة والثقافة، ويحددان موقع الشخص في منظومة العمل؛ حيث إنه غالبًا ما يكون قد حظي بوظيفة وكيل مشروع، وهي غاية ما يحلم به الجنقوجوراي، وتلك هي فائدة العلم ودخول المدارس، ويستطيع أي جنقوجوراي مع بعض الاجتهاد أن يكمل زينته في فصل الدَّرَت، في شهر ديسمبر هذا، ففي كل خميس يحاول العامل جهده أن يشتري بعضًا من هذه الأشياء، وأن يستمتع فوق ذلك بخميس جيِّد متميز يرفع من قدره وهو يحكيه في العودة، عند التاية وكنتوش اللقمة على النار، والأصدقاء التعابى يفترشون جوالات الخيش على الأرض، يطلقون عضلاتهم وأخيلتهم لسحرة الراحة يعبثون بها ما شاءوا، لا يميل الجنقوجوراي كثيرًا للنساء، بل هم زاهدون في شأنهن، ولا يبطئون في إطلاق لقب هَوَان على كل من فضَّل مصاحبة النساء على معاقرة الخمر، المريسة هي المعشوقة النهارية الأمتع الأفضل، العرقي يشربونه بالليل، حيث يبرد الجو وتتبخر سكرة المريسة، ويحتاج الذهن إلى مسكن يجعل العضلات المرهقة التعبة تسترخي وتنام، إنهم الآن في شهور الكسل، التي تبدأ منذ الخامس عشر من ديسمبر؛ شهور ما بعد الحصاد، وهي عبارة عن استراحة محارب إجبارية، نزقة بليدة مُرَّة طيعة حلوة شقية مراوغة، تنبهنا لكل ذلك عندما أتى لمسامعنا الحوار الذي انسرق عبر صريف القصب من بيت خميسة النوباوية، بينها وأحد الجنقو، عرفنا أن اسمه عبدارامان.
– أنا غلطان يا أمي، سامحيني.
– يا عبدارامان، إنتِ لسانِك حُلو، ولكن عملك شين زي الخرا.
ثم دار حديث خفيض فلم أتبينه، ولكن عندما طلب منها عبدارامان غرضه كان الصوت واضحًا: كويس، خلي قميصي الجديد دا معاكي وأديني نُصِّية واحدة، وبكرة لو ما جبت القروش ما تديني القميص.
ضحكت خميسة ضحكة مجلجلة: نفس حكاية المسجل، شربت خمسة شهور؛ عرقي، مريسة، عسلية، كاني مورو، بقنية لمَّان شبعتِ تب، وبعدين جيت قلعت المسجل، لا قرش ولا تعريفة، حتى البِت القُلت عايز تعرسها غشيتيها، عروسي، عروسي، ولكن اليوم البدا الكديب، تاني عين تشوفك تنقد، إلَّا الليلة، لمَّان الدرت جاء وبقيت عاطل ما عندك شُغل.
قال في سرعة: البَت! البَت يا أمي حَسِع نعرسيها، شوفي فكي علي الزغراد وين، حَسِع يشيل لينا الفاتحة.
قالت بصوت قوي وصارم: منافقة ود أم تيظ.
– وحَياة جِدي بَرمبَجِيل! والله يا أمي ما نكضب، جَد جَد، وحَياة رأس أبوي جد جدْ، أتى صوت رقيق من مكان قصي في بيت خميسة: يا أمي أنا ما عايزاو، ما عايزاو، ما عايزاو، وتاني ما عايزاو، الجنقوجوراي يا أمي في الدَّرَت يحنن وَفِي الخَرِيف يجنن.
قال عبدارامان ضاحكًا في انتشاء بيِّن: هييه كلتومة، أمسكي عليك لسانك، لمَّن نعرسيك نوريك أدب المدايح.
دخل الحوار شخص آخر، تحدث عن بيت الحلال، وحلف بالطلاق والحرام، أن يأتي المأذون الآن ويتم العقد الآن، ويدخل عبدارامان على كلتومة: حَسِع دِي.
يأتي صوت كلتومة من عمق قصيٍّ في بيت خميسة النوباوية: ما عايزاو، ما عايزاو، ما عايزاو، يجيني لمَّان يفلس، إنت وين لمَّان القروش في إيدك زي التُّراب في موسم السِّمسِم، إنت وين بعد قطع العيش؟ ما عايزاو، ما عايزاو يا أمي، ما عايزاو.
قال بهدوء: والله السنة دي معانا سنة كبيسة، أنا بعت فيها مُسجلي، ونظارتي الاشتريتها من القضارف ويا دوب دا شهر! شهر واحد دخل علينا، ما عارف يجي شهر ستة كِيف؟ قالت خميسة النوباوية: البِت قالت ما عايزاك.
– تسمعي كلام المرا؟ في مرا تابى الجواز! الشُّخل «الشيء» الحلو دا بينأبى؟ ثم أضاف: يا أمي خميسة كدا أدينا نُصِّية عرقي نشربها على بال ما مُوسى ود محجوب يجيب الفكي الزغراد، ويقرأ الفاتحة، ونَخُش على بِنيتك دي ونبقى لحم ودم.
– ما عايزاك، ما عايزاك، إن شاء الله نُصَّك للكلاب.
أكدت أصوات أخرى على أهمية أن تَنَزِّل الآن خميسة النوباوية نُصِّية إكرامًا لزوج ابنتها المرتقب، واحتفاءً بالمناسبة ومباركة للدُّخلة العاجلة، والخَمَرةُ — كما يقولون — زغاريت السرير، أبشري يا كلتومة، أكدت خميسة أنها لن تفعل، إذا أراد أن يتزوج من ابنتها عليه إحضار الرجال غدًا بعد الظهر، وإحضار ماله.
– الرجال ساهلين يا أمي بخيتة، ولكن المال في دَرَت سُخُن زي دا، الله يعلم.
ثم أضاف بصوت خفيض بعض الشيء، وكأنه يحدث نفسه: أنا لو عندي مال كنت اشتريت النُّصِّية شربتها، ونمت مُرتاح البال عزيز ومكرم، لا عرس ولا كلام فاضي، أنا حَسِع عايز أعرس ليه؟ مُش عشان ما عندي حَق النُّصِّية؟ قروش قُبَّال مَا يَجِي موسم قَطْع القصب، ولا أمْبَحَتَى ولا الفحم؟ والله إلَّا لو عندي جَان، ولا شُنو يا جماعة؟
– ما عايزاو، يا أمي أنا ما عايزاو، وتاني ما عايزاو، جنقوجوراي مُفلس أنا دايره بيهُ شنو؟ وعايز كمان يعرسني عشان نُصِّية؟ ما عايزاو ما عايزاو.
دار حوارٌ بعيدٌ عن مسامعنا، وكانت تصلنا منه همسات مشوشة ما يشبه الطنين، وحك الحناجر، يتخلله صوت كلتومة صارخة أو شاتمة، كانت ألفاظها المرَّة الساخنة تتسلل عبر صريف القصب؛ لتنتشر في المكان كله، تنخلط مع ثغاء السكارى، ووسوسة الوطاويط، هرجلة الكلاب، وحوحة القطط، وفحيح بعض الذين أووا لعناقريبهم يتجاسدون، وفجأة دوت الزغاريد شارخة ظلام الحي الشرقي الدامس من وسط حُوش خميسة النوباوية، في الثواني الأولى عرفت الحِلَّة كلها أن عبدارامان ود أبكر البلالاوي قد تزوج كلتومة بت خميسة النوباوية، في تلك الثواني ذاتها علَّق الناس أن عبدارامان يتزوج للمرة الرابعة في سنته الرابعة في الحِلَّة، وأنها لن تكون الأخيرة، إذا كان في العمر بقية، وأن كلتومة بت خميسة النوباوية قد تزوجت للمرة الرابعة كعذراء، حتى لا يسأل المأذون، ذات المأذون الذي عقد عليها في المرات السابقات، عن قسيمة الطلاق في كون أنها ثيب، وأكد الجميع للجميع أن عبدارامان ود أبكر لن يخرج من هذه الزيجة بأخوي وأخوك، سوف يحصل له ما حصل لأزواج كلتومة السابقين أو أسوأ؛ واحد منهم في السجن إلى الآن، ثانيهم مات مقتولًا في ذات البيت، ثالثهم طَفَشَ لا أحد غير الله يعلم أهو حي أم ميت، والسبب وراء ذلك أن خميسة لا ترضى الحقارة، وينتقم لها كُجور التِّيرا عاجلًا وليس آجلًا، والجنقو حقارين وعبدارامان يعرف، ولكن كما قال لنفسه: المَعَايِش جَبَّارَة.
الناس هنا لا يتنبئون ولكنهم يعرفون، يقرءون المستقبل دون لبس أو تشويش، بل يَرونَه.