الجنقو يدخلون البنك
أرجو ملاحظة أنني تجنبت تمامًا كل التفاصيل التي ذكرها صديقي لي شخصيًّا عما وقع بينه والصافية؛ ما عدا تلك التي وافقت ما تحدث به الآخرون عنه وعن ود فور، ولكن اعتمادي الأكبر كان على المعلومات التي تدفقت في بيت أداليا دانيال يوم مريستها في سبت مضى، عندما أقامت ما يشبه سيمنارًا أكاديميًّا حول ما اصطُلح على تسميته في تلك النواحي بحكاية الصافية، وسيُلاحَظ تأثري بالوقائع التي اعتبرها الفكي علي حقائق ثابتة؛ أولها وأهمها أن الصافية تمتلك عضوين تناسليين، واحد يخص الرجال والآخر يخص النساء، والذي يخص الرجال مكتمل وكبير الحجم، ويختفي تحت شعر عانة كثيف وشائك، أما الحقيقة الثانية التي لا يتسامح في شأنها فكي علي هي أنَّ الصافية فعلت بالرجلين فِعلَ الذكر بالأنثى، وأن ذلك مؤكد ولديه دليلان لن يُذكرا هنا، هنالك أيضًا حقيقة يشك الفكي علي قليلًا في صحتها، ولكنه لا ينفيها، ورغم ذلك فقد حلف بجده لأبيه سليمان الزغرات السناري أن يزهق روحه في الحين والآن أن للصافية بنتًا وولدًا من امرأة بازاوية تسكن الآن في مشروع دُوم، واسمها نِعْمَة مَشَاكِل، وهو يعرفها ويعرف أمها وأباها، وقد رأى البنت والولد بعينيه الكائنتين الآن في رأسه ووجهه.
أما فيما يخص تحول الصافية إلى مرفعين أو أسد أو ما شابه ذلك من حيوان فهو جائز، والمسألة عنده تتمحور حول اللبن، والمؤكد عنده أن تَيَراب البِنَيَّة يُورث عن طريق لبن الأم المُرضع ثم قاس على ذلك، إذا نظرنا بدقة إلى حقائق وجوائز وتشككات الفكي علي، ثم قرأناها في إطارها الصحيح الذي هو مجموع قوالات، وإفادات، ومداخلات وما دار همسًا فيما يشبه الندوة في يوم مريسة أداليا دانيال ببيتها، وما تطابق من شهادتي الرجلين اللذين خاضا تجربة واقعية وفعلية مع الصافية مع قوالات، وحكايات، وحقائق، وجوائز، وتشكُّكات الناس، والفكي علي، وحذفنا من حكايتيهما كل ما شذَّ عن ذلك، مع الإهمال التام والمتعمد لمحكيات الصافية عن نفسها؛ لأنها لا يُتوقع منها أن تقول سوى الجانب المشرِّف من الحكاية، أي الجانب الذي يجعلها تبدو كضحية لقوى خارقة خارجة عن إرادتها وضحية لبني الإنسان، وأنها كما يُقال اعتمدت على بعض القوالات الدائرة في الحِلَّة واعتبرتها حقيقة؛ ما شوش تفكيرها وخلط عليها الواقع بالمتخيل مما صاغ الأهالي سهوًا، وأنها كما قال الفكي علي الزغراد واصفًا حالها: «تشابه عليها البقر»، قبل أن أحكي حكاية الصافية بالصورة النهائية التي أعتبرها الحقيقة الكاملة فاجأتني أداليا دانيال باعتراف خطير، حدث قبل أكثر من ثلاث سنوات، يوم كان الناس في عز الخريف والعمال مشغولون بكديب العيش وفحواه، مع بعض التصرف من جانبي.
قالت أداليا: جاء التاجر فلان الفلاني، صاحب أحد المشاريع الكبيرة في تخوم زهانة، ولم يكن اليوم يوم مريستي، يوم أحد، طلبتْ مني الصافية أن أحضر لهما عرقي وعسلية من الحِلَّة، مشيت لبيت أَدِّي وأحضرت لهما كل شيء، وكانا قد أحضرا لحمة من السوق، إلَّا أنني اعتذرت لعدم تمكني من طبخها؛ لأنني ذاهبة إلى الكنيسة وقد سبقني زوجي وولدي وابنتي إلى هناك، تركتهما يشربان ويطبخان في الراكوبة الكبيرة قُرب اللالوبة، بعد أداء الصلاة عدتُ تاركة زوجي؛ حيث إنه يعمل على خدمة بيت ربنا إلى ما بعد المغرب، أما ابنتي والولد الذي يصغرها بسنتين، هي في الرابعة عشرة، فتركتهما مع الشباب الذين في عمرهما؛ حيث إنهم غالبًا ما يبتكرون برامج شائقةً تبقيهم مع بعضهم البعض إلى أن تغيب الشمس، كان بين بيتنا وبين الجيران باب صغير غالبًا ما نتركه مفتوحًا، ولأن بيت الجيران هو الأقرب للكنيسة؛ دخلتُ عَبْره، ثم إلى الراكوبة مباشرة، حيث وجدت الصافية تعلو جسد الجلابي الأسمر المستلذِّ المستكين تحتها منكفئًا على وجهه، صرخت أداليا في دهشة: سَجَمي، حينها فقط تنبَّها، فانتزعت الصافية شيئها من لحم الجلابي الذي بوغت حتى أحدث، وبدا عليهما خليط من القلق، الحزن، العرم، والخوف الشديد، وأخذا في الاعتذار وطلب السُّترة. وعلى الرغم من أن أداليا، حسب إفادتها، رفضت المنحة المالية الكبيرة التي عرضها عليها الجلابي، إلَّا أنه أصر وأقسم وحلف بالطلاق وترك لها المال.
قالت أداليا: مشوا بيت الأم، الوقت داك ما كانت الصافية عندها بيت، وأنا من اليوم داك عرفت إنه الصافية دا راجل ومرا في نفس الوقت، وعملت حسابي منها.
ولم تخبر أداليا أحدًا بهذه القصة غير الفكي علي الزغراد، وهو بكل سرِّية وتحفُّظ حدَّث بها الجميع، أكدت لي أداليا أن شيئها لم يكن طويلًا، ولكنه قصير، وسمين، وأسود، ومحشور وسط الصوف، أما الفكي علي فقد وصفه مستخدمًا كلمة واحدة فقط: كبير!
بالرغم من أنني لا أميل إلى نشر ادعاء صديقي الذي تبجح أمامي ومختار علي بالقول بأنه أجبر الصافية على حلق شعرها فوجدها امرأة كاملة، بل وعذراء، وأنه أول رجل في حياتها، فإن ذِكر تلك الحكاية يفتح أمام الجميع نافذة للفهم والولوج إلى عين الحقيقة، وذلك إذا أضفنا جملته القاطعة: أنا نجمتها «جعلتها ترى نجوم الظهر»، مُش هي الْنَجَّمتنِي.
ربما أربك مشروع الصافية هذه مشروع دراسة الجدوى؛ لأن هَمَّ الناس الآن وقضية ساعتهم هي إدراك حقيقة الصافية، والبنك ملحوق، فما زلنا في شهر يناير، ولكن هناك دائمًا من يشذ عن القاعدة، وعلى رأس هؤلاء الصافية ذاتها، جاءت في وفد من ثلاثة رجال تسأل عن دراسة الجدوى، قلت لهم: معليش أنا آسف، ما قدرت أكملها، كنت مشغول شوية.
قالت الصافية في جرأة: في موضوع صاحبك؟
قلت مراوغًا: في هموم كتيرة، ولكن بكرة الصباح بكون خلصتها.
قالت بصورة حادة وجادة أخافتني، وهي تحملق في أم عيني بمقلتين حمراوين شرستين: أحسن تشوف المواضيع اللِّي فيها فايدة، وتسيب القُوالات، والصُّواطات، للشراميط، واللوايطة، والمُعَرَّصين.
وقالتها بطريقة تعني تمامًا أنني من هذه الفئات الثلاث، والأخيرة بالأخص.
أبرهيت، الصافية، مختار علي، لام دينق زوج أداليا دانيال، الفكي علي ود الزغراد وأنا، حملنا دراسة الجدوى مكتوبة على ورق فلوسكاب نظيف، استبدلناه أكثر من ثلاث مرات حتى يليق بمكانة البنك الراقية ومضينا، كان البنك مبنًى فخمًا متعاليًا ومنتفخًا مثل فيل مغرور، على كلٍّ كلنا كنا نراه جميلًا وغريبًا، كان مطليًّا بالدهان الأخضر الداكن، وهو المبنى الوحيد في تلك النواحي الذي بُنِيَ من طابقين كاملين، وأخذ الناس يتجادلون في كيفية الصعود للمدير وماهية السلالم أو المصاعد، وكيف أنهم سوف يستخدمونها، وحسم التكهنات وَد أَمُّونة الذي عمل مراسلة منذ أيام بالبنك، وانتهز فرصة أنه خالٍ من مرسالٍ ما لدقائق، وأخذ يثرثر مع الجنقو خارج البنك عن البلاط المزايكو، والسلالم الإفرنجية، ومعطر الهواء، والمكيفات التي تعمل بالكهرباء، والماء، وحذَّرهم بأنهم قد ينزلقون فتنكسر أيديهم أو أرجلهم ولا يُسْتَبعَد أن يدقوا أعناقهم أيضًا، كانوا يبتسمون إليه في حذر، ثم دخل إلى البنك، ثم خرج ليطلب منا دخول الاستقبال، كان كل شيء نظيفًا ولامعًا ما عدا الجنقو، رغم أنهم كانوا قد عملوا المستطاع كي يأتوا في أبهى ما يُمكن، هم الآن الأكثر اتساخًا في المكان الذي عمل على نظافته منذ الساعات الأولى من صباح اليوم وَد أَمُّونة ومعه امرأتان غريبتان أتى بهما البنك خصيصًا للنظافة من مدينة الخرطوم، ولأن غريزة موظف البنك تعمل بنشاط عندما يحوم خطر على المال، انتهرنا الكاشير: هي، في شنو، ديل عايزين شنو يا وَد أَمُّونة؟ أنا مُش قلت ليك ما تدخِّل الناس سَاي؟ قلت له وقد تقدمت نحوه قليلًا: نحن عايزين نقابل مدير البنك.
قال بذات اللهجة الجافة: عايزين مِنُّو شنو؟
قلت له: عندنا موضوع معه.
قال في بجاحة: عندكم مواعيد ولَّا لا؟
قلت: لا.
قال: هل ممكن نعرف الموضوع دا شنو؟
قلت له بصورة قاطعة: لأ، ما عدا مدير البنك.
قال بخبث: المدير عنده اجتماع، انتظروه بره في البراندة، أو تحت الشجرة لمَّا ينتهي من الاجتماع وَد أَمُّونة حيجي يناديكم.
ونظر إلينا محملقًا في وجوهنا منتظرًا رد فعل ما، وعندما خرجنا أحسست به يتنفسُ الصُّعداء، ولم نكن قد مضينا بعيدًا عن الباب سمعنا صوته ينتهر وَد أَمُّونة في قسوة، ولكن انتظارنا لم يدم طويلًا في البراندة حتى جاء وَد أَمُّونة مرة أخرى، ليقول لنا: موضوعكم لو مكتوب في ورقة؛ المدير قال ح يقرأه ويرد عليكم.
قال له الفكي علي: إذا عايز يقابلنا أهلًا وسهلًا، وإذا ما عايز يقابلنا برضو أهلًا وسهلًا، نحن عايزين نأكله؟ نحن عايزنه في شُغل، امشي قول له الكلام دا يا وَد أَمُّونة.
لوى وَد أَمُّونة شفتيه في حركة تعني: أمركم، بالإضافة إلى: وأنا مالي، ولكنا فهمنا منها: إنتو ما قدر المكان دا.
وقرأ الفكي ود الزغراد جهرًا تعاويذ، وأدعية، وطواطم، بالإضافة إلى سورة قرآنية قصيرة، ولم تقف شفتاه ولسانه عن التمتمة إلى أن جاء وَد أَمُّونة، وفي فمه ابتسامة كبيرة جعلت خديه الأملسين يلمعان، وقال: اتفضلوا، سيادة المدير عايزكم.
ومضى قدامنا يحرك ردفيه، ويديه بصورة بناتية غنجة، ولأننا جميعًا اعتدنا على ذلك؛ لم يثر انتباه أي منا، عندما دخلنا وجدنا شرطيين لم نرهما في المرة السابقة، ولا ندري كيف دخلا، وهما معروفان بالنسبة لنا جميعًا، نعرف اسميهما واسمي أبويهما، وأميهما، وإخوتهما، وجميع أقربائهما، باختصار: الشرطيان من الحِلَّة، تبادلنا التحايا باقتضاب، وبينما هما مندهشان قليلًا صعدنا نحو الأعلى إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة النقود، يتقدمنا وَد أَمُّونة مزهوًّا وهو يدندن بأغنية بنات شائعة، رحَّب بنا مدير البنك مدعيًا السعادة برؤيتنا، معتبرًا قدومنا إليه طبيعيًّا، ولكنَّا كنا نقرأ ما خلف ذلك بوضوح، كان يريد أن يعرف بسرعة ماذا نريد: اتفضلوا، مرحبًا، قدمتُ إليه المجموعة فردًا فردًا بتمهل، وقفتُ بعض الشيء عند الفكي علي، مشهود للفكي علي عمايل خير كثيرة، وألمحت إليه تلميحًا أن الفكي علي ود الزغراد بإمكانه أن يضرَّ ضررًا بالغًا بمن شاء، وقتما شاء، وكيفما شاء، تحدثت عن دور البنك كما يفهمه عامة الناس هنا في الحِلَّة، ثم شرحت له الهدف من الزيارة وأشرت إلى دراسة الجدوى التي أعددتها، ابتسم وهو يسرق النظرات إلى الصافية، وهي في ثوبها الجديد ماركة وصتني وصيتا، ربما كانت رئتاه تمتلئان الآن بعطرها الرخيص ماركة بت السودان، قال وهو يحاول أن يكون حاضرًا ومركزًا: ادوني دراسة الجدوى أقراها وأعرضها على مُدير الاستثمار بعد داك أديكم الرأي، وأنا سعيد بزيارتكم للبنك، وأتمنى أنكم تبقوا عملاء لنا دايمين.
قالها بطريقة تعني بوضوح: «والآن اتفضلوا بره!» قالت له الصافية التي يبدو أنها لم تفهم شيئًا مما قال، أو أنها الوحيدة التي فهمت: يعني حتدونا سَلفية تراكتور ودسك ولَّا لا؟
قال مبتسمًا: الموضوع يحتاج لدراسة، وتحليل مخاطر.
تطوَّع الفكي الزغراد بشرح ما يرمي إليه مدير البنك للصافية، قائلًا: يقصد نمشي، ونجيهم مرة تانية عشان يدونا رأيهم.
أضاف أبرهيت بعد أن أعلن عن نفسه بتنظيف حنجرته متنحنحًا مرتين: من الأحسن نمشي، اللِّي في القسمة نلقاه.
لم يقل المدير شيئًا، فقط ابتسم وهو يتسلم مني دراسة الجدوى، يقلبها قليلًا بصورة آلية، ثم يضعها على صينية الأوراق، ونحن نخرج همس الفكي علي في أذني: أنا لو عرفت اسم أمه، ح أعمل فيه عمايل، ثم أضاف بصوت أكثر وضوحًا: ود الحايل، يتنهد زي الزول اللي ما كويس، مرة يقول اعملوا دراسة جدوى، لمَّان نعملها يقول امشوا، وتعالوا.
كل مهارات الناس في اصطياد الإشاعات، وصنع الأخبار، وتقصي الحقائق فشلت في الحصول على معلومات عن مدير البنك، حتى وَد أَمُّونة لم يستطع معرفة اسم أمه، أو برجه، لولا فكرة أبرهيت ليئسوا: ألم قِشي.
– أيوا، ألم قِشي.
الموظفون الأغراب يتقوقعون في كبسولة واحدة، يتحصنون بأسلوب وطرائق وأفكار وسبل معيشة رتيبة ومكرورة، ولكنها تصبح جيبًا مجتمعيًّا معزولًا عن المواطنين والأهالي، فهذا حصن لا بأس به ضد الإشاعات والقوالات، ولكنه أيضًا سيظل هشًّا في مقابل حكمة ومكر وجمال ورقة وإنسانية وألعاب أي فتاة تثق في نفسها، المغربون أضعف البشر، دائمًا ما يتملكهم حنين إلى البيت والأسرة، والمرأة أو البنت عندهم هي رمز لاستمرار الحياة ودفء المكان، القرويات بالحلة لا يعرفن ذلك، ولكنهن يتصرفن وفقًا لذات الرؤية، فإنهن حين يهَبْن، وحين يأخذن، وحين يدَّعِين، وحين يتواضعن، يفعلن ذلك بشرف وكرامة وقدر من الخصوصية لا يُستهان به، إنهن يقدِّمن أنموذج الأخت، والصديقة، والزوجة، والحبيبة، وليست الداعرة السوقية المستهلكة أو الانتهازية، إنهن بنات بيوت، ومشروعات صغيرة وحالمة لربات بيوت، يُجدن فن الحب والعلاقات، أميتهن هي ثروتهن الكبرى التي لا تقيَّم بثمن، ذات الأمية هي مشعل وعيهن الاجتماعي الكبير، ألم قِشي تعرف هؤلاء البُنيات حسنًا، تمطى الفكي علي، أصبحت الكرة الآن في ملعبه هو بالذات: اسمه بلال حسن التركي، أمه نفيسة بت عبد الله، جَمع أولًا الأرقام المقابلة لكل حرف مِن حروفِ الاسمين الأولين للابن والأم فقط، ثُمَّ حدد برج المدير، وباستحضاره للصفات الجسمانية من لون، وطول، ونوع الشعر، استطاع أن يتتبع نقاط ضعفه بين أبواب وأسطر كتاب شمس المعارف الكبرى، ثم زاوج ما بين علم الحَرف والفَلك والشجر، وما يُعرف بالسحر الأسود، ثم غمس قصبته في الدواية وكتب، لم يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ولكنه بدأ كهذا: «براءة من الله ورسوله»، كتبها سبعًا وسبعين مرة، لفَّها حول عرق يُسمى عرق الهدهد، ثم أدخلها في قطاع من ساق الخَرْوَع المنظف جيِّدًا، وجاوز الجميع بظفر طائر السِّمبِر الذكر، ثم طلب أن يأخذها رجل نَجِسٌ يقوم بحرقها، وذر رمادها في الهواء يوم الجمعة قبل أذان الفجر، ومن ثَمَّ يقوم الرجل النجس برسم خاتم سليمان مرة واحدة على الأرض.
عندما مرَّ أسبوعان على موعد الطمث الشهري لألم قِشي، تأكد لها بما لا يدع مجالًا للشك أنها حَبِلتْ، سُررنا لذلك وأخذنا نُعِدُّ العدة لاستقبال الطفل، ولم يكن همِّي أنا بالذات نوعه ذكرًا، أو أنثى، ولكني أريد مخلوقًا صغيرًا جميلًا يبقى معنا في البيت، ويؤصل لعلاقتي وألم قِشي، ولكن هذا لم يمنع من أن نختار اسمًا مسبقًا، فقد اتفقنا على أنه محمد إذا كان ولدًا، وأنها القنيش إذا كانت بنتًا، ولم نتفق على اسمي التوأم بعد؛ لأنها كانت تود أن تطلق عليهما اسمين أكسوميين معقدين، وكنت أريد أن أطلق عليهما اسمين عربيين، اختلفنا فأحلنا النقاش إلى حين، على كلٍّ ألم قِشي تفضل المولود بنتًا وهي ذات الرغبة التي تزوجنا من أجلها، وهي ذاتها التي تجعل لتواصلنا الجسدي معنًى ومتعة كبيرة، وكنت لا أستطيع مقاومة قولها: «عليك الله حَمِّلني، عايزة أحمل»، هذه الجملة تشحنني بدَفق من الحب والجِدية، وتجعلني ضحية بليدة لسلطة البقاء، فأحبها أكثر، لقد اكتشفت أن الجنس عندي مرتبط بالإنجاب، لا شيء آخر، المتعة تجيء مصحوبة بالفكرة، دائمًا ما يكون في مخيلتي طفل، وأنا على صدر ألم قِشي، كان صديقي يعتبر الجنس واجبًا إنسانيًّا، وهو ضروري كي يكون هناك إنسان كامل، وهو في حالة الصافية مسألة نفسية بحتة، بل مسألة إثبات ذات في المقام الأول، كنت أقول له دائمًا: إذا لم تكن هناك فكرة خلق، تصبح المسألة نوعًا من اللذة الميكانيكية.
يقول ساخرًا: إذن أنت من أنصار قصة حب وراء كل ممارسة جنس؟
– طفل، طفل أيضًا، ما فائدة الحب بلا أطفال في الخاطر؟
قال ضاحكًا محاكيًا لغة الأفلام المصرية: دا انت رومانسي أوي.
نشأتْ بيني وألم قِشي علاقة حب قوية، عرفتُ ذلك من القوالات، والإشاعات، وما يشبه الندوات في بيوت الفدَّاديات، وأظن أن ألم قِشي هي الأخرى تلمست ذلك، ولقد قيل لي علانية في بيت خدوم يوم الاثنين الماضي: الزولة دي بتحبك، وأنت عارف حُب الحَبش، تموت وتحيا معاك، مبروك ليك.
ولقد قالوا لها هي أيضًا، وحدثتني قائلة: قالوا لي: إنتِ سويتي للراجل دا شنو؟
بذلك أكون قد وقعت في الحُب لأول مرة في حياتي إذا صدق الناس فيما يقولون، أما إذا لم يصدقوا فتظل العلاقة بيني وبينها تحتاج لتعريف، ولو أنها تمتلك آلية استمرارها، لا يهم المسمى أو التعريف ما دامت الطفلة، أو الطفل يلوح بأنامله، من داخل جسدينا ورغبتنا ولمساتنا من عمق قلبينا، في ذاتنا يقهقه، لقد تنبأ لنا الفكي علي بحياة زوجية طويلة وأطفال كُثر، والفكي علي رجل صالح من أحفاد رجل من رجال الله اسمه سليمان الزغراد، ظهر لأول مرة ولآخر مرة في كتاب الطبقات لود ضيف الله، أما الفكي علي الزغراد فيعتبر الزغراد الذي ذُكر في كتاب ود ضيف الله زغرادًا مشوهًا؛ لأن جده سليمان الطوالي ما كان يعمل بَابَكُو للمَرَاسَةِ، ولكنه كان أحد تلامذة الشيخ محمد الهميم، جاء إليه من دار قِمر بأقصى غرب السودان، وكان جده فكي قاطعًا، باستطاعته أن يَرَوِّب الماء، أما إذا زغرت فما من مُغلق إلَّا انفتح، ولا مشبوك إلَّا انحل، ولا غائب إلَّا عاد، ولا بعيد إلَّا قرب، ولا عصية إلَّا طاعت، ولا كُربة إلَّا فُرجت. في هذه البلاد يؤمن الناس بالله ورسله، بملائكته وشياطينه، جنبًا إلى جنب مع الفكي الزغراد؛ لذا كانت تنبؤاته حقائق مستقبلية وكشوفات ربانية، وربما هذا ما أعطى لحياتنا قدرًا كبيرًا من الاستقرار، خاصة من جانب ألم قِشي؛ لأن إيمانها بالفكي الزغراد غير مشروط، أما أنا فكنت أفكر في الفكي علي الزغراد كشخص يمتلك مهارات لا تخفى في الإقناع، يعمل في منطقة مكشوفة من وعي مجتمع الحِلَّة، وله القدرة على التأثير في الآخرين، وأرجع ذلك لإمكانات دنيوية مادية بحتة، وهنا تكمن عظمة هذا الرجل النظيف النحيف الذكي الذي تفوح منه دائمًا رائحة الصمغ العربي، وهو يفهم رأيي فيه ويحترمه، وإن كان يرى في نفسه أنه يمتلك قوة رُوحية، وأن له خدمًا من الجن ويحتفي بعلمه ومعرفته بأسرار النبات، وعلم الحَرف، والكف، والوجه، وفتح الكتاب، ويقول فوق ذلك كله أو لذلك كله أنه من بيت النُّبوة، وأنه من الأشراف، سألته ذات مرة: من هم الأشراف؟
قال لي: هم القرشيون عشيرة النَّبِي.
قلت له: ولكن القبائل العربية اللِّي هاجرت للسودان كانت من جُهينة؟
قال مبتسمًا: نحن أولاد الحسن والحُسين، ولدي فاطمة وعلي رضي الله عنهم.
قلت له: نعم، نعم.
وكان يدور في رأسي استشهاد الشابين أحدهما بيد يزيد بن معاوية، والآخر بيد معاوية ابن أبي سفيان نفسه، في أزمنة غابرة بالجزيرة العربية والشام.