أَحوَال: ثَورَةُ الخُرَاء
نَحْنُ الآن في شهر مايو، نِهاية مايو، أقمتُ منذ أكثر من شهر في التَّاية استعدادًا للموسم الزراعي الجديد؛ حيث إنني اشتريت أرضًا جديدة مقدارها عشرة أفدنة، وتحتاج إلى تنظيف، تكثر بها أشجار الكتر، وقليل من أشجار اللعوت، وبعض الطلحات، كان معي عاملان يساعدانني في أُم بَحَتي؛ حيثُ إنه ليست لي خبرة في شأن الأرض، أحدهما مُخْتَار عَلِي نفسه، والآخر هو إبراهيم عثمان الذي يُلقب بالشايقي، ولكنه في الأصل جعلي، وقام والداه بتشليخه شلوخ الشايقية؛ عملًا بنصيحة بعض الأقارب؛ حتى يتجنب الموت؛ لأن كل إخوته الذين سبقوه كانوا يموتون وهم في عمر دون الخامسة، وقد نجحت الحيلة وعاش، وهو الآن على مشارف الخمسين، الاثنان جنقوجورايان نشيطان، عركا الأرض طويلًا، يفهمان في النظافة، الزراعة، في الكديب والحصاد، إضافةً إلى خبرتهما في الحيل المحلية على مقاومة الآفات بأنواعها، ولا يفوقهما في ذلك سوى الدَّنَبَاري المتحكم البارع في مصائر الجراد، كلاهما دون أسرة.
كان مختار علي هو الأكبر سنًّا؛ حيثُ إنه في أواخر خمسينياته، أما الشايقي فعمره فوق الأربعين بقليل، وهو شاب قوي البنية طويل، له بشرة حمراء وشارب كث، كِلا الرجلين أميٌّ لا يفك الحَرف، عملنا في الأرض منذ مارس، وكنا نقيم بصورة شبه دائمة في قُطية وراكوبة، القُطية نخزن فيها طعامنا ومتاعنا، ونأوي إليها إذا برد الجَو، الراكوبة للمقيل والونسة، أما مطبخنا فهو الفضاء الرحب، حيث نستخدم بعض الحجارة كموقد، وكل مكان لا يراك فيه الآخرون هو مرحاض، كنا نحصل على الماء عن طريق الحمير من نهر سيتيت عبر مُشْرع زهانة؛ لأنها الأقرب، ونحتفظ به في براميل كبيرة من الحديد، وظلَّ مشوار الماء هو ما يربطنا أسبوعيًّا بالقرية؛ حيث إن الطعام متوفر لدينا: الكجيك والشرموط، أم تكشو، الكمبو، الفرندو الويكة، والملح والشطة، ولدينا كمية من دقيق الفيتاريتا يكفي لشهور كثيرة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تجود به الغابة من لحوم طازجة شهية في شكل فئران، أرانب، طيور، أبوات قدح، حلاليف، أصلات، وغيرها، نجد أنفسنا في جنة صغيرة بها كل ما يشتهي الجنقوجوراي، على كلٍّ مسألة الطعام عند الجنقوجوراي سهلة بسيطة؛ لأن الجنقوجوراي يأكل كل ما طار، وكل ما سَبَح، وكل ما مشي على وجه الأرض ما عدا بني الإنسان، ومنذ أن قَرَرتُ أن أكون واحدًا من هذا المكان أي جنقوجوراي؛ قَررتُ أن أحيا كشخصٍ حقيقي ينتمي إلى كل شيء فيه، فكرًا وممارسة، ولو أنني اتخذت أقرب الطُّرق التي تربطني بالمكان والناس وهي المرأة، ولكن هناك مرارات اجتماعية عليَّ أن أتعود عليها، وأهمها نظام العمل الشاق، استعنت أيضًا بالضمان الاجتماعي الذي تحصلت عليه في الشهر السابق، دفعت منه ثمن الأرض، وتركت ما تبقى من مال لألم قِشي؛ لتدبر به حالها بعد أن قللت من عملها بميس شركة الاتصالات؛ حيث إنها استخدمت امرأة أخرى معها للمساعدة على أن تقاسمها الراتب الشهري، في الحق كنا نحافظ على طفلنا لا أكثر.
الشايقي ومختار علي لا يكلفاني كثيرًا، بالإضافة إلى الطعام اليومي الذي نشترك فيه جميعًا يحتاجان للسجائر، والتُّمباك، والمريسة، والأخيرة يصنعها الشايقي بنفسه من بقية اللقمة والكِسرة مضافًا إليها بعض الدقيق من مخزون الميس، وهي نوع من المريسة الخفيفة التي تسمى بَقَنية، وهي أقرب للعسلية، وهما لا يتناولانها في الحِلَّة؛ حيث تسمى بمريسة الفقرا، أنا لا أفضلها كثيرًا، يعرفني الناسُ بحبي لعرقي البلح والمستورد، وذلك عندما يكون لديَّ فائض مال، أما عندما أكون مفلسًا فأنا من التائبين عن الخمر، ولا أشربها بالدَّين مطلقًا، تخلصنا من الأشجار الكبيرة جميعًا، وقمنا بصنع عشرين من كمائن الفحم الضخمة، كان عملًا متعبًا، ولكنه لا يخلو من متعة هي لذَّة الإنجاز، الإحساس بخلق قيمة من العدم، كنت قد أعلنت مسبقًا على أنني سأتقاسم المردود المالي للفحم بالتساوي بيني ومختار علي والشايقي، ما سَرَّع من العمل وجوَّده، فبعنا ثلاث شحنات من الفحم إلى سماسرة الفحم بالقضارف، وخشم القربة، والشواك، بعناه تسليم مشروع، أرخص سعرًا، ولكنه يجنبنا إشكاليات الشحن، والترحيل، والجبايات الكثيرة والرشاوى والرسوم الطارئة التي يبتكرها الشرطيون بمجرد أن يروا عربة الفحم، بدأت وفادة الجنقو للحلة تتكثف حين أخذ هطول المطر في الحبشة يتزايد، وبدأ موسم الزراعة في الشرق عامة، ونتيجة للنقص في المال والرغبة في الزراعة واللحاق بالموسم برزت حكاية البنك مرة أخرى إلى السطح، ويعرف الجنقو جميعهم أن البنك قام بتسليف كبار المزارعين من مدينة القضارف ومَحَليَّة الفَشقة، وحتى خشم القربة، وكسلا، وقام بمدِّهم بتراكتورات ودساكي، وأعطاهم نقدًا قروضًا اسمها السَّلم، كان الجنقو يتساءلون: لماذا لم يبت البنك في طلبهم؟ لماذا التمييز ضدهم، وهم أعرف الناس بالأرض؛ هم الذين ينظفونها، يزرعونها، ويحصدونها، ويحاربون آفاتها، هم الذين ينتجون العيشَ والسِّمسِم؟ لماذا لا يثق البنكُ بهم؟ وأخذ الجنقو يتداولون الأمر في تجمعاتهم، كانوا في هذا الشهر البائس مايو يعانون من الفقر المدقع؛ حيث لا عمل ومن ثم لا نقود، لا مهرجانات لشرب المريسة التي ارتفع سعرها نسبة لارتفاع سعر العيش، لكن كرم الفدَّاديات يسع الجميع، فيمكن الشرب عن طريق الشخط في الحائط، أو عن طريق الأمنيات ورهن الزينة؛ من مسجلات أو نظارات شمسية، أو قمصان أو راديوهات، أو أي أشياء أخرى لها قيمة، أو ليست لها قيمة أيضًا؛ لذا لا يزال الجنقو يتجمعون في بيوت الخالات، أدرنا معهم حوارات عميقة وطويلة عن البنك ودوره، وقد تحمس كثير منهم للفكرة؛ أن نذهب إلى البنك مرة أخرى ونطلب منه أن يقدم لنا قرضًا محدودًا وتراكتورًا بدسك، وأن نقدم له ما نستطيع من ضمانات، وتبرع عشرون شخصًا يمتلكون بيوتًا مسجلة بأسمائهم أن يقدموها للبنك رهنًا، وتبرعت أنا بمشروعي الزراعي الصغير، ربما الذين فوجئوا بتجمع الجنقو أمام البنك هم إداريو البنك، ورجال الأمن فقط، ولكن جميع سكان الحِلَّة رجالًا ونساءً وأطفالًا كانوا يعرفون أن الجنقو ذاهبون إلى البنك يوم السبت، وأن لهم طلبًا واحدًا، «جربونا في مشروع واحد وتراكتور واحد وسلفية لا تتعدى خمسمية ألف جنيه»، قدَّرنا عددنا بمائة من الجنقو والجنقوجورايات وكثير من الأطفال.
انضم إلينا صغار التجار الذين حرمهم البنك من التمويل؛ فهم أيضًا كانوا غاضبين، وقد أفشوا لنا كثيرًا من أسرار علاقة البنك بكبار التجار وأصحاب المشاريع الكبيرة، وقالوا لنا بالحَرف الواحد: «إن البنك يريدهم أن يبقوا عمالًا وشغيلة تحت إمرة المزارعين الكبار حتى يضمن عودة سلفياته التي قدمها لهم»، بالتأكيد لم يحاول مدير البنك الاستعانة بالشرطة ورجال الأمن؛ لأنه لم تكن هنالك مظاهرة ولا تهديد باستخدام العُنف، إنما كانت مفاوضة قُدتُها أنا ومعي الصافية والبقية يسمعون وينظرون ويشاركون بالصمت والتنظيم وعدم إثارة أعمال الشغب، كان لمدير البنك تحفظان: الأول هو أنه لا يستطيع أن يقدِّم سلفية لجماعة غير رسمية؛ فلا هم اتحاد ولا هم شركة مسجلة، مجرد جماعة؛ حسب تعبيره؛ لا رأس لها ولا قعر، أما التحفظ الآخر فقد كان أيضًا واضحًا: أنا عايز ضمان، ضمان أرض لها قيمة ومسجلة بأوراقها ومستنداتها، أو ضمانة مالية أو عقار؟ دي سياسة البنك، قلنا له: لدينا عشرون قطعة سكنية بالحلة، ومشروع صغير من عشرة أفدنة، وليس لدينا عقارات في مدن، ولا منقولات ذات قيمة مالية كبيرة، ولا أراضٍ أخرى، وإلَّا ما كان هذا حالنا؛ فقراء وصغار مزارعين، و… و… وأكد أن البنك يدعم وسوف يدعم الفقراء وصغار المزارعين، ولكن بشروط أمان تضمن له حقه، وأنه لا يستطيع أن يتخطى سياسة البنك، ثم أضاف مراوغًا: أنا ح أنقل كل الحوار اللِّي دار بيننا إلى رئاسة البنك في الخرطوم، ونشوف الرد شنو بإذن الله.
قالت له الصافية التي كانت تَرْفُل في صمت عميق منذ أن دخلت معي إلى مكتب المدير الفاره: يعني ح تدونا السلفية ولَّا لا؟
قال لها المدير بريق ناشف: حتى الآن لا.
التفتت إليَّ الصافية قائلة: قومَّاك نمشي، القاعدين ليها شنو؟
شكرته على حسن ضيافته لنا؛ حيث إنه أكرمنا بماء بارد، وزجاجتي بيبسي كولا، أتى بهما ود أمونة، وانصرفنا، كان الجنقو ينتظرون في الخارج في جماعات، وعند باب البنك أحاطوا بنا يسألون، ولكن أبرهيت وهو الشخص المسئول عن تنظيمهم، قال لهم، ودون أن يستشيرني: المساء في بيت أَدِّي، الحوش الخلفي، عايزنكم جميعًا.
عند طلوع القمر كان بحوش الأم الخلفي؛ حوش الحفلات، ثلاثمائة من المواطنين أطفالًا ونساءً ورجالًا، بادر الحضور الفكي علي بتلاوة من الذكر الحكيم، وتوتر صوته عندما بلغ الآية الكريمة: وَنُريدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ.
ثم أعقبه أبونا بيتر راعي الكنيسة في صلاة قصيرة من الإنجيل قرأ فيها: «يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرار، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموه، من يديَّ صار لكم كل هذا، في الوجع تضطجعون»، وكررها بالعامية كما يلي: «يا أنتم المولعين نار، المتحزمين بالشرار، امشوا بنور النار والشرار، بتاع إنتم، كلو دا من يديَّ أنا ربكم، والطريق كُله أوجاع.»
ثم ما لبث الناس يتداولون في أمر واحد: نعمل شنو؟ إذا قاطعنا الزراعة نحن الذين نموت جوعًا أولًا، إذا بقينا كعمال سوف لن نكسب شيئًا، يأتي الموسم، خلف الموسم، خلف الموسم، ونحن من اليد إلى الفم، والمستفيد هو الجلابي صاحب المشروع، قال أحدهم: نكسر البنك.
ردوا عليه أنهم لا يريدون دخول السجن، ولا المواجهة مع الشرطة التي قد تؤدي إلى فقد البعض، وإصابة البعض بأذًى جسيم، وقالت سُعاد يوهنس وهي والدة أحد الشرطيين: يعني نقتل أولادنا البوليس أو يقتلونا، الخسران منو؟
وفجأة تحدث صديقي، قائلًا: نحاربهم بالخَرَا.
سكت الجميع؛ لأن الكلمة بدت لهم غريبة، وغير مقصودة تمامًا، أو أنها ربما كانت كلمة أخرى سمعوها على هذا النحو، قال مؤكدًا وبعينيه إصرار غريب: بالخرا، ما بتعرفوا الخرا؟
ضحكوا وظنوا أنه يعبث، أو هي إحدي مغامراته العجيبة، قال لهم: سمعتوا كلكم بالهنود، الهنود ديل طردوا الإنجليز الأقوياء بالخرا بس، والناس الكبار في السن منكم مثل مختار علي، والفكي الزغراد، والسيد أبرهيت، والشايقي، وأَدِّي، وغيرهم وغيرهم عاصروا وهم أطفال المهاتما غَاندِي، أها دا الزُّول اللِّي قاد ثورة الخرا.
قليلًا قليلًا، تفهم الناس الأمر، قليلًا قليلًا، قبلوا به، قليلًا قليلًا، حددوا المائة الأوائل الذين سوف يفعلون، والآن، قليلًا قليلًا، حددوا الخمسين، قليلًا قليلًا، حددوا الثلاثين، وتم ترتيب كل شيء، في الصباح الباكر عندما استيقظ الموظفون في الميس، لم يستطع أي منهم الخروج للعمل؛ حيث كان البراز هنالك يقف عند الباب محتجًّا عفنًا قبيحًا بائسًا لكن بصمود عجيب، وعندما كسروا الصريف كان عليهم أن يصنعوا من قصبه جِسْرًا يعبرون به إلى الشارع، ولما وصلوا إلى مبنى البنك وجدوه غارقًا هو الآخر في بركة من الخراء، ولا يمكن لكائن مَن كان أن يقترب منه، جيش الذباب الأخضر الضخم ذو الطنين الرهيب صار سيد المكان ومالكه الأوحد، ومديره العام، استعانت إدارة البنك بعمال الصحة الذين أكدوا أنه لم يكن ضمن شروط خدمتهم خمُّ الخراء، إنهم عمال نظافة مواد جافة، طلب مدير البنك من الشرطة أن تقبض على الفاعلين، وتجبرهم على إزالة البراز، ولكن النيابة ردَّت بأنه: «لا توجد عقوبة بغير نص»، فالتبرز في العراء لم يُعتبر في يوم ما جريمة يعاقب عليها القانون، ولم يُوجد أمر محلي يمنع ذلك، وكيف نعرف الذين تبرزوا؟ من شكل برازهم أم من لونه؟ وكانوا في قرارة أنفسهم يقفون إلى جانب الجنقو؛ لأن البنك كان محسوبًا على مجموعة سياسية بعينها ليسوا هم بعضها، ركب مدير البنك ومعه فريق عمل مكوَّن من خمسة أشخاص عربتهم اللاند كروزر دبل كبينة وانطلقوا لا يلوون على شيء إلى القضارف، في اليوم التالي تبرز مائة من الجنقو داخل الميس المهجور، بل داخل الغُرف، وعلى السراير، وحاويات الماء النقي المكرور، وضعوا كمية لا بأس بها من البُراز في الثلاجة، والأدوات الكهربائية، والأواني، وتركوا مخزونًا آخر في أكياس التسوق البلاستيكية وزن كيلو مبعثرة تحت الأسرة، وفي المطبخ، ومعلقة على الأسقف، في اليوم الثالث ذهب الجنقو جميعًا للعمل في نظافة مشاريع التجار بأسعار عمالة لم يفكروا فيها كثيرًا، كانوا يريدون الخروج من الحلة، بأية صورة كانت! بعد أسبوع من الحادثة رجع رجال البنك في معيةِ شاحنةٍ من الاحتياطي المركزي مسلحين بِرشاشات، وقذائف مسيلة للدموع، عصي مطاطية، درق، سياط وعربة مطافئ، حاولوا غسل المكان بخراطيم الماء المندفع بقوة من عربة المطافئ ولكن هيهات، فقد كان الشيء من الكثافة والتماسك بحيث لا يزيده الماء إلَّا اندياحًا إلى أمكنة وساحات أخرى، ثم أقام الاحتياطي المركزي في مُخيم صغير مرعب قرب البنك لشهرٍ كاملٍ، أما المَيس فقد تم هجرانه بصورة قاطعة ونهائية، ولكن بعض الجيران ظلوا، كلما وجدوا الفرصة سانحة، يرسلون أكياس التسوق مملوءة بالشيء اللزج العفن من فوق الحوائط إلى الميس، رجع الشايقي، ومختار علي إلى التاية، رجع صديقي إلى القضارف، ثمَّ من هنالك إلى الخرطوم، بقيت أنا في الحلة لبعض الوقت لمؤانسة ألم قشي، لم أر وَد أَمُّونة، سألت عنه ألم قشي قالت: إنه كان في القضارف، ولكنه عاد اليوم لعمله بالصباح في البنك، وعند المساء سوف يأتي للعمل في بيت أَدِّي، كان لا يضيع وقتًا بلا عَمَل، فسألتها لماذا يُرِهق نفسه بهذه الطريقة، ولا مسئوليات لديه وليس له مَن يصرف عليهم، بل حتى صلته بأمه مقطوعة؟
قالت لي: إن وَد أَمُّونة يعمل بجد، ويكدح من أجل العازة.
قلتُ مُنْدَهِشًا: العازه! العازة دي منو؟
فحكت لي ألم قِشي ما يحكيه وَد أَمُّونة، أو هي الحكاية الشائعة، ووَد أَمُّونة نادرًا ما يتحدث في هذا الموضوع: عندما خرجت العازة من السجن، أخذت معها وَد أَمُّونة، وكانت قد وعدته، ووعدت أمه أمونة التي تركتها في السجن وراءها بأنها ستعتني به كما لو كان ولدها، وأنها ستدخله المدرسة، إلَّا أن العازة بعد خروجها من السجن واجهتها مشاكلُ كثيرة جدًّا من أسرتها؛ حيث إن إخوانها ووالدها كانوا يصرون على أن تلتزم بواحد من الاثنين؛ إما أن تتزوج أيًّا كان وبسرعة، وإما أن تترك العمل الذي أخذت تمارسه بعد خروجها من السجن مباشرة، وهو بيع الشاي والقهوة في سوق القُونِي، وأن تبقى في المنزل ولا تبرحه؛ لأن أسرتها كبيرة وإخوانها معروفون؛ لذا تهمهم سمعتها، لكن العازة رفضت كل العروض وواصلت عملها في سوق القُوني؛ حيث كسبت مجموعة من الزبائن، وطوَّرت عملها عندما ألحقت بمقهاها مطعمًا تبيع فيه الأغذية البلدية، وأدخلت وَد أَمُّونة مدرسة خاصة في حي كَرفس واستأجرت لها بيتًا في حي الأسرى؛ كي يكون قريبًا من موقع عملها، والحق يُقال كانت ملتزمة أخلاقيًّا، ومحترمة لنفسها، ولعملها، ولم يُعْرَف لها أي نشاطٍ مخالف للقانون، ولم يتشكَ منها الجيران، مع ذلك فإن إخوانها لم يرضهم كل ذلك، وخططوا لتخويفها وطردها من مدينة القضارف لأي بلدة كانت، وكانت تعلم بمخططهم وتستعد لمقاومته، وفعلًا هاجمها اثنان من إخوانها في بيتها عدة مرات، واعتدوا عليها بالضرب، وهاجمها في مكان عملها بعض البلطجية المأجورين، وكانت ترد في شراسة، ولكنهم فكروا أخيرًا في استهداف وَد أَمُّونة؛ استأجروا بعض الصبية المشردين ومدمني البنزين ليعتدوا عليه بالضرب في طريقه إلى المدرسة، وأينما وجدوه، ولكن بعض الشواذ منهم عندما رأوه فكروا في الاعتداء عليه جنسيًّا، وقد تخلص وَد أَمُّونة منهم بما تعلمه من أمه من مهارات قتالية، ثم أخبر العازة التي قامت بعمل كمين لهم، وضربهم ضربًا عنيفًا، بل إنها طعنت اثنين منهم بسكين اعتادت أن تحملها معها منذ أن خرجت من السجن، أصيب أحدهم بعجز مستديم، ومات الآخر، ودخلت السجن هذه المرة مدانة بالقتل العمد مع سبق الإصرار، ومع أن أهل المتشردين الذين ظهروا فجأة قبلوا بالدِّيَة فإنها تعسرت في دفعها، فظلت منذ ذلك الوقت الوقت مواجهة إما بالدِّيَة، أو المؤبد، حتى بعد أن قبلت أسرة القتيل بخمسمائة ألف جنيه فقط
بعد مساومات من رجال ونساء خير كُثر، فإن المبلغ يعتبر كبيرًا جدًّا بالنسبة لامرأة وحيدة وبالنسبة لأصدقاء فقراء؛ لم يتمكنوا من جمع سوى القليل، ثم أحبطوا فتكاسلوا، وهكذا بقي وَد أَمُّونة وحده يعمل منذ ذلك الحين مع أَدِّي وغيرها؛ كي يتمكن من تسديد الدية حتى تنال العازة حُريتها، قال لي قبل شهرٍ تقريبًا إنه لم يتبق عليه سوى مائة جنيه فقط؛ لذا ربما كان ذهابه للقضارف بشأن أمر العازة، فهو دائمًا ما يزورها في السجن، عندما التقيت هذه المرة بوَد أَمُّونة تغيرت صورته في نظري إلى بطل إنساني عظيم، وفور أن سألته عن صحة العازة، أخذ يحكي لي عنها؛ عن شهامتها، وكرمها، وإنسانيتها، وكيف أنها ظلت تعاني عمرها كله من أقرب الأقربين إليها، وهم أفراد أسرتها، ثم تناقشنا فيما تبقى لها من دية، وسألته ما إذا كان قد ذهب إلى مكتب الزكاة؟ ضحك في ألمٍ وهو يحكي لي رحلة مُرَّة مع البيروقراطية، قال إنهم أولًا طالبوه بشهادة فقر من المحلية، ثم بصورة من الحكم، ثم بالتاريخ الشخصي للعازة، وأخيرًا قالوا له: إن المال المرصود لمصرف الغارمين لهذه السنة قد تم صرفه، وأن عليه أن يعود إليهم في العام القادم، وفي العام القادم بدأت الرحلة من جديد، وانتهت بأن لم يرصد مال للغارمين في هذه السنة؛ نسبةً لحاجة الناس للمال في مصرف آخر وهو مصرف المؤلفة قلوبهم، سوف يحاولون في العام الذي يليه، وقال لي ود أمونة إنه يعلم أن مكتب الزكاة قد قام بدفع الملايين لكبار التجار من مدينة خشم القربة تسديدًا لديونهم في البنوك، بعد أن أقسموا أنهم معسرون، والناس تتحدث عن ممتلكات هؤلاء المُعسرين من وابورات، وشاحنات، وسيارات نقل ركاب، وعقارات، ومغالق، وتوكيلات تجارية.
حدث ذلك في نفس الأيام التي كان هو يستجدي فيها المكتب لدفع ولو خُمس الدية، سألتُه عن أمه، قال لي إنها خرجت من السجن قبل سنوات طوال، وتزوجت من شَرطي سجون، كان يعمل بالقضارف، وتَمَّ نقله إلى سجن شَالا بالفاشر، وسافرت معه إلى هنالك، ونسبة لأن وَد أَمُّونة رفض السفر معها، ولأن زوجها نفسه لم ترق له فكرة اصطحابه معه؛ فقد قامت أمونة أمه بتسليمه إلى أَدِّي، وهي صديقتها، وقد عاشتا ردحًا من الزمن معًا في أُم حَجَر، بعد أن اعتزلت أَدِّي العمل العسكري بعد التحرير؛ حيث كانت تعمل مقاتلة في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، لم يجد ود أمونة صُعوبةً في التأقلم والعَيش مع أَدِّي، فهو قد ولد بالحلة، وقضى جانبًا كبيرًا من طفولته بها.
وجد ألم قشي ببيت أَدِّي، ولها صلة بصديقته العازة، ومع أنه لا يدري مدى عمق الصلة؛ فإن ألم قشي رحبت به واحتضنته، ولقد سألتُ ألم قشي فيما بعد عن صلتها بالعازة، فقالت: تجارة. على الرغم من الظروف الصعبة التي أمر بها أنا نفسي، ظرف العطالة والاستعداد للموسم الزراعي الجديد، والتجهيز لمولودي القادم، وبقاء ألم قشي بالبيت عاطلة عن العمل، فإنني تبرعت لود أمونة بنصف المبلغ المتبقي مِن الدِّية، اعتذر وَد أَمُّونة عن تسلم المبلغ لأسباب يراها موضوعية، وهي: أولًا: هذه الأيام هي أيام الزراعة، وأنا أحتاج لكل مليم من أجل أرضي، ولربما أنا لا أعرف مدى حاجتي للمال في هذه الأيام نسبةً لعدم خبرتي في الحرث والزرع، والأولوية للأرض، والشيء الآخر: هو أنه لا يمتلك النِّصف الآخر من المبلغ إلَّا بانتهاء شهر أكتوبر؛ لأنه دفع مبلغًا كبيرًا من المال في الأسبوع الماضي، تحصل عليه من «صرفة صندوق»، ولا يمكنه التحرر من هذا الدين إلَّا مع نهاية شهر يونيو؛ لذا في كل الأحوال ستبقى العازة بالسجن إلى ما بعد أكتوبر، وقد اقترح عليَّ أن أستخدم المال في الزراعة، وبعد ذلك الموسم أعطيه إليه إذا توافر لي مرة أخرى، على كلٍّ شكرني وَد أَمُّونة شكرًا أخجلني، ولم يأخذ مني شيئًا، قبل أن أغادر إلى المشروع للعمل جاء لقطيتنا في المساء، وحدثني بما اعتبره أحد الأسرار: اعمل حسابك من السِّكة وما تشيل معاك قُروش كتيرة! ما تثق في زول، الدنيا ما معروفة.
ولم أستطع أن أعرف منه أكثر من ذلك، ووعدني بأنه سيبقى مع ألم قشي في ذات القُطية، قد تحتاج إليه فتجده، وذلك إلى أن أعود، وكي يطمئنني أكثر أضاف: ألم قشي دي أختي.
انتظم المطر تقريبًا بعد عاصفة منتصف يونيو، كان مطرًا غزيرًا؛ ولكنه كما قال لي الجنقو العارفون بالمطر: لم يكن خريفا استثنائيًّا، وقالوا: بداية عادية، ولكنها مُبشرة، إذا نجحت العينة الأولى سوف ينجح الخريف كله.
وَنُصِحْتُ بالبِدَايَة المُبكرة، اشتعلت المشاريعُ؛ جنقوجورا يحرثون وينثرون السمسم، وينشدون في صبرٍ وألمٍ، يصنعون الحياة الحَقة للملايين بعرق مُرٍّ، ويحرمون أنفسهم من لحظة الحلم، التي لا يعونها هم أنفسهم، لا يفكرون كثيرًا ولا عميقًا في الأشياء كما أنَّ الثورة الخُرائية التي قاموا بها لم تلهمهم أفكارًا أخرى، أو مشروعات، أو أي عملية إيجابية لاحقة، عَبَرتْ مِثل نُكتة سَخِيفَة، حُكِيتْ أضَحَكتْ ثُمَّ تَلاشَتْ، وانشغلوا بعدها جميعًا بخلق القيمة بالعمل، ونسوا كل شيء خِلافه، يريد الجنقوجورا المال، والطريق الوحيد للمال هو العمل المتواصل الذي ينتهي غالبًا عند شجرة المَوت في فَرِيق قِرِش بالحُمَرة، أو أي شجرة موت أخرى، إلى أن استيقظنا ذات صباح بخبر غريب عن قُطاع الطُّرق الفَالول، أو الشِّفِتة، في خور عناتر المُعْشَوشِب الواقع وسط المشاريع الغربية، بين الشَّقَرَاب والحِلَّة، ظَلَّ هذا المكان آمنًا حتى في سنوات الحرب الإريترية الإثيوبية، وانفلات الأمن عند الحرب ما بين جيش الحكومة والمعارضة المسلحة، في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم؛ لذا كانت دهشة الناس عظيمة عندما عَرفوا أن الشِّفتة لم يكونوا من الفالول الأحباش، أو الإريتريين، ولكنهم سودانيون، بل ومن الجنقو، وعُرِفَ البعض بأسمائهم، كانوا يحملون الأسلحة البلدية: فئوسًا، وحِرابًا، وخناجرَ، وسيوفًا أيضًا، كانوا لا يقلون عن عشرة من الرجال السُّود الأقوياء، قاموا بنهب عربة بُوكس تعمل في نقل الركاب إلى معسكر الشقراب، أخذوا كل ما لدى الركاب من أشياء قيمة، مثل الساعات، والنقود، وحتى الأحذية الجديدة، وتحصلوا على مسدس كان يخص سائق العربة ويخفيه تحت المقعد مع كرتونة من الخمر المستورد، وفي نفس اليوم هاجموا نقطة التفتيش الواقعة في مفترق الطرق بين الشواك والشقراب، واستولوا على رشاشة كلاشينكوف وبندقية جيم ٣، وهربوا في اتجاه غابة زهانة، مستخدمين عربة نقطة التفتيش التي وجُدِت معطوبة قرب قرية الجيرة.
حَدَثٌ بهذه الضخامة عندما يدخل الحِلَّة فإنه يخرج منها أحداثًا كثيرة بشعة، وهذا ما وقع بالفعل؛ حيث أشِيع أن الجنقو تمردوا جميعًا، والآن يهاجمون جيش الحكومة في حاميتي زهانة وهمدائييت بأسلحة تحصلوا عليها من إريتريا، وصدقتْ الإدارة العسكرية والأمنية الرواية الشعبية للحدث، واتصلت بحامية خشم القربة، وحامية القضارف، طالبة العون العاجل لإخماد ثورة الجنقو، ولكن نسبة لخبرة الحكومة الكبيرة في الصراعات المحلية والثورات المسلحة لم ترسل جيشًا، ولكنها أرسلت لجنة تقصي الحقائق برئاسة مسئول أمني في رتبة كبيرة، وقامت اللجنة المطوقة بحراسة مشددة على عربة مصفحة بزيارة مواقع العمليات، والتقت الأشخاص الذين هوجموا وحققت مع الجميع، ثم كُونت لجنة مدنية حققت مع السكان، ثم كتبت تقريرًا أهم ما فيه: «خمسة رجال من عمال المشاريع الموسميين يقومون بأعمال تخريبية لأهداف غير معلومة، ويُرجَّح أنها للحصول على المال، يتسلحون بمسدس وبندقية جيم ٣ ورشاشة كلاشينكوف وأسلحة بيضاء أخرى، بعضهم جُنُود مسرحون من الجيش، لا يميلون للقتل أو سفك الدماء، معروفون لدى كل السكان بالاسم وهم: طه كوكو نمر «عسكري معاش»، عبد الله خير السيد الطيب، برهاني تخلي ولدو، دنق مايوم أجانق «عسكري معاش»، إبراهيم عثمان الشايقي، وهم الآن إما في مكان ما بغابة زهانة، أو أنهم عبروا نهر سيتيت إلى مدينة الحُمَرة، أو أنهم يتحركون في هذا المجال من وإلى إثيوبيا»، ثم أوصى التقرير بحماية طُرق السيارات العامة التي تربط الحِلَّة بالشَّقَراب، وطريق همدائييت والجيرة، الحفيرة زهانة، وأن ينشأ طوق عسكري آمن يتحرك في غابة زهانة للبحث عن المجموعة، ونصح التقرير بصورة واضحة عدم اعتقال المواطنين أو الإضرار بهم، وتجنب الدُّخول في صراع مسلح مع أيِّ كان ما لم يبادر الخصم بإطلاق النار أو نصب الكماين.
تركوا كتيبة كاملة من الاحتياطي المركزي جيدة التدريب، شباب غُبش لهم عضلات مفتولة وأجسام رياضية، ورءوس حَليقة بطريقة الكوماندوز، يَمشون في الطُّرقات باختيال أقرب إلى الغنج، لولا قِلة النساء في شوارع الحلة، وسوقها لحدث افتتان لا تُحمد عقباه، أطلق عليهم السكان اسمًا سريعًا يحمل وجهة نظر حادة تجاههم، سموهم: البُوم، كان أجدر بي أن أكون أول العارفين بخروج الشايقي في جماعة الشفتة، لقد ذهب دون أن يلمح إليَّ بذلك مجرد تلميح، وكنتُ معه إلى آخر لحظة بالتَّاية، أذكر أنه كان يحس بالغبن الشديد تجاه البنك، ويعتبر البنك والحكومة نفسها يعملان على زيادة غنى التجار، وأنهم ضد الجنقو، كلنا نفتكر ذلك ونعتقد في ذلك، ولكن هل هذا يبرر الاعتداء على المواطنين وأخذ أموالهم وممتلكاتهم وتخويفهم؟ وما علاقة ذلك بالغبن تجاه البنك أو الحكومة؟ ومن يدري قد يقود بعض هذه الحوادث إلى إزهاق الأرواح؟ إذًا ربما كانت هنالك حلقة مفقودة، تناقشتُ مع مختار على حولها كثيرًا، وأخيرًا أحلنا الأمر إلى أن الشايقي ورفاقه أرادوا حياة رخية ومالًا سهلًا، فالعمل بالمشاريع عمل صعب ومردوده المالي لا يغطي إلَّا الاحتياجات الصغيرة التافهة ولوقت محدود، وليس هنالك ضمان اجتماعي، أو تأمين صحي، ولا فوائد ما بعد الخدمة ولا معاش، إنه كما يقول مُخْتَار علي: عدم في عدم، ولكنهم الآن يخاطرون بحياتهم، المال السهل يقود إلى الموت السهل، وقررنا أن نلتقيهم لنعرف على الأقل حقيقة أمرهم.