أَحْوَالُ وثَورَةُ ألم قِشِي
أرسل لي وَد أَمُّونة مع أحد الجنقو رسالة شفاهية فهمت منها؛ أن ألم قشي مريضة، وعليَّ أن أحضر بأسرع ما يمكن، فرتبت أمر التَّاية مع مختار علي، وركبت لواري همدائييت الصباحية إلى الحِلَّة، وجدتها ووَد أَمُّونة في المنزل، كانا يتناولان القهوة، بدت لي شاحبة بعض الشيء، سوى أنها كعادتها دائمًا جميلة، ومبتسمة، ولكنني لاحظت أيضًا خيبة أمل ما في وجهها، وكأنها ما كانت تتوقع حضوري، ذهب وَد أَمُّونة لغرض ما أو ليتركنا منفردين، أخبرتني بأنها ما كانت ترغب في أن تخبرني بأنها مريضة، وأن وَد أَمُّونة قد تصرف دون استشارتها، ثم أخذت تتحدث بصورة عدوانية لم أعهدها فيها، ثم فاجأتني قائلة: أنا أجهضت، قبل يومين، عمر خمسة شهور، في الحقيقة صُدِمتُ تمامًا، وهذا هو الشيء الوحيد الذي لم يطرق على بالي إطلاقًا، وأحسست بألم بالغ في معدتي، وشعرت بالفشل، بفشلٍ مرٍّ وبليد، لم أستطع سوى أن أبحلق في بطنها، وكأنها ليست سوى خدعة حبشية خشنة، وكأنما الطفل ما يزال هنالك، كلما مرت الثواني ولم تتراجع ألم قشي من خدعتها، كان العالم يموت تدريجيًّا في ناظري، أضافت في حِدةٍ: لقد انتهى كل شيء بيناتنا.
تمنيت لو أن ما يجري الآن ليس سوى كابوس لئيم، ألم قشي التي أمامي هي ليست ألم قشي زوجتي وحبيبتي، قالت لي مرة أخرى، بذات اللغة: كل واحد مننا ح يمشي في سكته.
سألتها ماذا تعني بذلك؟ أخذت تكرر أنها لا ترغب فيَّ بعد اليوم، فبدا لي للحظات أنها قد أُصيبت بمس من الجنون، قلت لها إنني أحبها، ولن أتركها أبدًا، وإنني حبيبها وزوجها الشرعي، وإنها سوف تنجب مني طفلًا آخر، وإذا كان يؤلمها الإجهاض فإنه يؤلمني أكثر، احتضنتها لكنها كانت باردة كالجليد، جامدة كصخر، تُكرِّر في آلية مؤلمة: انتهى، انتهى كل شيء.
قلت لنفسي: لأتركنها الآن تتخطى الصدمة يومًا أو يومين، وتعود المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولكنني كنت قلقًا ومترددًا وتائهًا، فلم أستطع أن أصبر على رأي، فبحثت عن وَد أَمُّونة ووجدته سريعًا كما هي العادة؛ حيث إن وَد أَمُّونة يُوجد حيث تريد، تناقشنا في شأن ألم قشي، وقال لي إنها على هذه الحال مُنذ أن أجهضت، وأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يجعلها تتراجع هي أَدِّي، فعليَّ بها، وحكينا أنا ووَد أَمُّونة كل شيء لأَدِّي، تعاطفت أَدِّي معي أو معنا، وكانت قد ساعدتها وهي تعاني آلام الإجهاض من قبل، وهي أيضًا تعرف الكثير عن ألم قشي؛ شعابها، وتقلباتها، وطلبت منَّا أنا ووَد أَمُّونة أن نذهب نتمشى أينما شئنا وأن نأتي بعد ساعة من الزمان، تريد أن تتحدث مع ألم قشي على انفراد، تغيرت ألم قشى للأحسن قليلًا، وتراجعت أيضًا قليلًا، وقبلت بي كذلك قليلًا، بعد أن انفردت بها أَدِّي، ولكن ظلت العلاقة بيننا في توتر متزايد، لم يكن لأحدنا يد في أن يُجْهَض الطفل، كنا نولي حملها الأولوية في التفكير، لم تحملني مسئولية الإجهاض ولم أفعل أنا، لم ألمها، ولكنها كانت تتصرف تجاهي بعداونية غريبة، أنا لا أتحدث عن العض، والرفس، وتعمد تلويث ملابسي بالأوساخ، ولكنها راحت تشين سمعتي بين الناس متهمة إياي باستغلالها، وسرقة ذهبها ومالها، قال لي الفكي علي الزغراد: دا مس من الجنون.
لكنَّ أَدِّي كانت دائمًا ما تطلب مني أن أصبر، ولم تُخفِ قلقها بأنه ربما قام بعض الحاسدين بكتابتها، والناس هنا قد يفعلون ما هو أسوأ، قلت لنفسي ربما أن ألم قشي تعاني من إحباط حاد أصابها نتيجة للإجهاض، مَن يدري؟ قررت أن آخذها إلى الخرطوم؛ إلى مستشفى تجاني الماحي بأم درمان، هكذا تشعبت بي طُرق التفكير والأحزان، وافتقدت صديقي، فلربما أسعفني بحل دونكيشوطي مجنون، من جانبي فعلت كل ما أستطيع دون فائدة، وكان خط دفاعي الأخير هو أن تحبل ألم قشي مرة أخرى حبلًا ناجحًا، وأن تنجب أطفالًا، فكنت أحبها حقًّا، وليست لدي الرغبة في أن أتركها تشق دروبًا أخرى في هذه البلدة الصعبة، هنا النساء إما أن يعملن كجنقوجورايات، وإما كصانعات خمور بلدية، وإما كعاهرات، أو أن يمارسن أكثر من مهنة في وقت واحد، وكلها لا تجدي مع ألم قشي، قبل أن تتزوج كنت أراها تنفع لذلك كله حتى العهر، ولقد مارست معها ذلك، وكانت تعجبني كبغي تعرف كيف تقدم متعة الشيء للرفيق، وكنت أعرف أنها في وقت ما عملت كصانعة للعرقي، كما عملت كجنقوجوراية في أكثر من موسم، ولكنني الآن أراها بريئة هشة، بل خجولًا لا تعرف ماذا تريد أن تفعل، أراها طَفَلة لا تنفع في عمل شيء، أمًّا مسكينة تتقطع بها سُبل الحياة، إذا تركتها يعني ذلك نهايتها تمامًا، أقمت معها خمسين يومًا في البيت بالحلة لا أغادرها، كنَّا بين بين، تبدو طبيعية أحيانًا، تجن في كثير من الأحايين، تتملكها مرات كثيرة رغبة وحَشية في أن تحبل، ولكنها ما تلبث أن تفقد هذه الرغبة في مرات أخرى، قضيت شهرًا مجنونًا متناقضًا مؤلمًا، ولو أنه لا يخلو تمامًا من الإمتاع، ثم استأذنتها في العودة إلى المشروع، وبقيت هي مع وَد أَمُّونة وأَدِّي، ما كاد ينقضي شهرٌ واحدٌ فقط حتى أرسل لي وَد أَمُّونة رسالة شفهية مع أحد الجنقو فهمت منها أنَّ ألم قِشي حُبلى مرة أخرى؛ لأنها لم تحض هذا الشهر، والشيء الآخر إذا لم أحضر بسرعة فإنها سوف تسافر إلى همدائييت لزوجها السابق، فهي ترغب في العودة إليه، طبعًا أول ما خطر في بالي أن ألم قشي قد جُنت بالفعل في هذه المرة، والحل الوحيد هو أخذها إلى الخرطوم بأسرع ما يمكن، ورتبت أمري مع مُخْتَار عَلِي، بحيث يستعد لخوض معركة بقية الموسم وحده، وتركت له ما يكفيه والرجال من طعام ومال، وركبت باص همدائييت مرة أخرى إلى الحِلَّة، حكي لي وَد أَمُّونة الذي قابلني في موقف السيارات بسوق الحِلَّة فور وصولي كل شيء بالتفصيل الممل، وقال لولا أَدِّي وهو لذهبت ألم قشي إلى همدائييت، وأكد لي أنها ليست بمجنونة، بل هي بكامل وعيها، وعليَّ أن أتعامل مع الموضوع بحكمة، كانت قد استقرت على رأي واحد، هو أنها سوف تذهب إلى همدائييت، وأنَّ عليَّ أن أطلِّقها؛ لأنها تريد أن تعود إلى والد بنتيها، وقالت إنها أرسلت له بهذا الشأن وقَبِل الفكرة، وهو الآن في انتظارها، وقالت مؤكدة: إذا رفضت برضو حمشي ليهو في همدائييت. قلت لها: ولكنك حامل!
قالت بكل برود: لَمَّان ألِدْ حَ أرسل ليك جناك هنا.
طبعا اقتنع الجميع بأن في الأمر يدًا شيطانية، وأن الحاسدين فعلوا فعلهم مع الفُكَيَا، واتَّهم البعض الفكي على الزغراد نفسه، ولكن علي الزغراد حلف بالنَّبِي، وبالشيخ محمد الهميم، وبالطلاق، وبجده الشيخ سليمان الزغراد أن لا يد له في الأمر، وأكد أن الأمر جنون، وإذا قبلتْ فإنه سيقوم بعلاجها، ولكنها رفضت مدعية بأنها متعافية، وأن الآخرين هم المجانين، طلبت منها أن تخبرني بالسبب الذي جعلها تتخذ هذا القرار، قالت السبب هو أنها تريد أبا طفلاتها، وتريد أن تعيش مع بناتها، ولا شيء غير ذلك، قلت لها: وأنا؟
قالت: بطريقتك؟ النسوان كتيرات، اختار اللِّي تعجبك.
تكوَّن سريعًا فريقٌ «للجودية» من ناس الحل والربط، رجالًا ونساءً، لَهُم كلمتهم في المكان، تحدثوا عن العلائق الزوجية والاجتماعية، وتحدثوا عن الشيطان، وأولاد الحرام، وبنات الحرام والحسد، وأيضًا تكلموا عن القِسمة التي من صفاتها أن تنتهي، قالت: أنا عايزة أرجع لأبو بناتي.
– لكنك متزوجة؟
– عايزاه يطلقني.
– أنا مش ح اطلقك، أنت حامل، ألدي أولًا.
قالت: أنا حامل لمَّان ألد ح أرسل ليهو الجنا، لو ما وقع زي أخوه!
وتجادلنا في حوار يبعد أو يقرب من هذا النسق، أقلقتني عبارتها الأخيرة، كنت لا أرى فيها غير شخصٍ مجنونٍ لا يعرف ماذا يُريد بالضبط، لا منطق له، ويمكن أن يفعل أي شيء، بإمكاني أن أطلقها إذا كنت قد اقتنعت بأن تلك هي رغبتها الحقيقية، وليست نتاج مرض نفسي أو جنون، ولو أن فريق الجودية اندهش لرأيي الأخير، إلَّا أنني أرجعت ذلك لعدم مقدرتهم على فهم وجهة نظري، فجأة خَطرت لي خاطرةٌ، قلتُ لهم: أنا حأخليها تمشي همدائييت وتبقى مع بناتها.
بُوغِت الجودية بوجهة نظري، ولم يستطعوا فهمها.
قالوا: أبو بناتها هناك.
قلت: هو عارف إنها غير مطلقة، والأمر متروك للاثنين هو وهي.
– لكنها في عصمتك.
– دا موضوع تاني، يحسمه القانون.
واختلف الناس اختلافًا كبيرًا، فظهر في السطح ما سُمي ﺑ «حكاية ألم قشي»، وتدخل في الأمر مدير شركة الاتصالات، والقاضي المقيم، ومدير المحلية، ونفر من رجال الخير والبركة، وأجبروا ألم قشي على عدم الذهاب إلى همدائييت، وأُلزمتُ أنا بعدم العيش معها في المنزل، أن أسكن كما كنت عازبًا مع مختار علي إلى أن تُحل المُشكلة، وكان هذا شرطها هي، أنا وافقت، هي أيضًا وافقت على مضض، تركتها في المنزل الذي أعطتنا إياه أَدِّي على أمل أن أستفيد من هذه الهُدنة في عِلاجها، وقررت أن أبدأ مشوار العلاج من همدائييت؛ أن أذهب لزوجها وأستشيره في الأمر، وكنت حقيقة آمل في أن يساعد في الحل، صحبتُ وَد أَمُّونة؛ لأنه أبدى رغبة كبيرة في أن يذهب معي، وكنت حقيقة أحتاج إليه، صحيح أنه شخص أصغر مني عُمرًا، ولكني أعترف بأنه أنضج مني اجتماعيًّا، وركبنا باص همدائييت، وهو عبارة عن لوري تمت إعادة تصنيعه ليصبح ناقلًا للبشر، له مقاعد ضيقة من الحديد الصلب، ونوافذ حديد، مشرعة صيفًا، خريفًا وشتاءً، يحمل الناس في بطنه، وظهره، وعلى يمين وشمال السائق، منطلقًا على الأرض السوداء، قافزًا فوق الحفر والخيران مثل ثعلب عجوز يهرب من مُطَارِديهِ، كان زئيره يُسمع من مسافات شاسعة، عبر أشجار السافنا الفقيرة، تتنصت له الأرانب، والفئران، والقردة معًا، والجنقوجورا المرابطون في التَّايات البعيدة المنتشرة في عمق المشاريع الزراعية يكدحون، وما ينفك سائقه ينبه من يريد السفر إلى الجيرة، الحفيرة، همدائييت، أو الحِلال الأخرى أن ينتظره في طريقه الوحيد، الذي يتلوى كثعبان عبر غَابة زهانة، بين أشجار الطلح والكِتِر، ويعلو دخانه كثيفًا خاصة في هذه الأيام، حيث الأرض لينة، وتنتشر البرك الطينية ويكثر الوحل، كان الجميع يتحدثون عن الخريف، والمطر، والزراعة المبكرة، وغيرها من المواضيع الحيوية، ولا أدري لماذا كنت أنا أفكر في الصافية، ولماذا في الحقيقة كنت دائمًا ما أعقد مقارنة في وعيي ما بين ألم قِشي والصافية، والفرق بين المرأتين ليس كبيرًا، ألم قشي تجد نفسها تقوم بأفعال وأقوال لا تعبر عنها في واقع الأمر، قد تكون حالة مَرَضِية، وقد تعني هي ذلك، الصافية وذلك حسب النتائج التي خرج بها ما يشبه المؤتمر في بيت أداليا دانيال الصيف الماضي لها شخصيتان؛ شخصية ظاهرة، وهي الشخصية التي نعايشها يوميًّا وهي الغالبة، وشخصية أخرى لا تظهر للأعين فيما يبدو إلَّا إذا أثيرت عاطفيًّا فقط؛ لأنها حتى في لحظات الغضب لا تبدو عليها أي تحولات شاذة أو غريبة، لكل من المرأتين شخصيتان، إذا صَحَّ أن نُطلق على الصافية لقب امرأه، إلَّا إذا أخذنا بإفادة الرجلين وإفادة الصافية نفسها، حدثني وَد أَمُّونة، وهو في الحقيقة نادرًا ما يصمت، عن شيء لم يخبر به أحدًا من قبل، وهو مشكلته مع صديقي، قال إن صديقي انفرد به ذات يوم بعد ما حدث بينه والصافية، وقال له إنه يريد أن يتحدث معه في موضوع، ولكن بصراحة ووضوح، ويريد أن يسأله بعض الأسئلة، وعندما أبدى له الموافقة، بادره سائلًا: هل أنت شاذ جنسيًّا؟
قال وَد أَمُّونة، قلت له: لا.
قال لي محتجًّا: كويس؛ حدد موقفك؛ لأنك غير معروف بالنسبة للناس كلهم: إنت مرا ولَّا راجل؟
قال: قلت له محاولًا إغاظته: أنا لا مرا ولا راجل، بعمل عمل النُّسوان وبعمل عمل الرُّجال! يعني أنا مرا وراجل!
ثم قلت له ما كان يقوله لي أحد أصحابي في القضارف: أنا وكسي ما بين وَلَد وجكسي.
قال محتارًا: وضِّح أكثر، شُنُو عمل النُّسوان، وشُنُو عمل الرجال، شُنُو وكسي وشُنُو جكسي؟
قال وَد أَمُّونة، قلت له: إنت جاهز لعمل النسوان أم لعمل الرجال؟ عشان أشرح ليك عمليًّا.
وفجأة صمت وَد أَمُّونة عن الحكي؛ لأن الباص توقف فجأة، بصورة دفعت جميع الركاب إلى الأمام، كدنا نطلق السباب على السائق ونشتم أمه وأباه، لولا أننا شاهدنا الرجال الملثمين الذين أحاطوا بالباص في سرعة البرق، وهتف صوت جهوري يعرفه الجميع: انزلوا واحد واحد دون كلام وبالصف، النسوان يقعدو قَبَلِن وبرضو الأطفال، كل راجل ينزل شنطتو معاه.
ونزلنا جميعًا، كان هنالك جذع شجرة ضخمة موضوع في طريق الباص على مطب ضيقٍ، رغم أنهم ملثمون فإننا عرفناهم جميعًا، ما عدا بضعة أفراد يحملون بنادق رشاشة يقفون بعيدًا، ليشكلوا حماية لأصحابهم، لم نتبين من أمرهم شيئًا، وكنا نعرف أنه يجب علينا الادعاء بعدم معرفة الناهبين، وأن نطيع، وأن نعطي، وألا نثرثر، وأن نخفض رءوسنا، وأن لا تلتقي أعيننا بأعينهم أبدًا، قال رجل منهم، يعرفه الناس باسم طه كوكو: نحنا عايزين من كل راجل نصف القروش اللِّي معاه، وعايزين من سَواق اللوري كل القروش اللِّي معاه، والقروش بتاعت التاجر آدم إدريس البلالاوي اللِّي مرسلنها ليهُ من القضارف، بسرعة، ونفذنا الأوامر في سرعة رهيبة، قال ويبدو أنه هو المتحدث باسم المجموعة: نحنا ما شِفْتا، نحنا ناس مظلومين وعايزين حقنا، تاني ما ح نشتغل عبيد واﻟ … ح نقلع حقنا قلع، كلموا التجار الكبار اللِّي ماصِّين دمكم مص.
ثُمَّ أخذ المال، ثُمَّ سحب الجذع، ثُمَّ أطلاق سراحنا، كل ذلك في لمح البصر، ثم اختفوا في الغابة بل تلاشوا كأن لم يكونوا، قال لي وَد أَمُّونة بعدما ذهب المسلحون: ما قلت ليك، ما تثق في زول ولا تشيل قروش كتيرة معاك، شايف صاحبك الشايقي؟
هنالك ملحوظة مهمة، وهي أن الجنقو كانوا جميعًا مسلحين برشاشات كلاشنكوف، وأنَّ عددهم لا يقل عن العشرين، وأنَّ بعضهم يرتدي ملابس وأحذيةً عسكريةً تخص جيش الحكومة، لكن الأهم أنهم كانوا مطمئنين تمامًا ويعملون بتروٍّ وليست هنالك أي علامة للارتباك أو العجلة، وتأكدتْ صِحة المعلومات التي تداولناها فيما بيننا بالباص، عندما وصلنا همدائييت كان الناس جميعًا يتحدثون عن الدورية الحكومية التي اختفت علنًا بالأمس وعن تمرد الجنقو الغريب، لم أهتم كثيرًا بأمر الجنقو، سألته عن أبناء ألم قِشي وزوجها السابق فهو خبير بالأمكنة كلها، بكل يسر وسهولة قادني وَد أَمُّونة إلى البيت، كانوا يقيمون مع جدهم، وهو رجل عجوز ثري كثير الكلام، البنت الكبرى جميلة تشبه والدتها، ولو أنها كانت فارعة القوام، الصغيرة أيضًا تشبه والدتها، كانتا جميلتين ورقيقتين، استُقبلتُ ووَد أَمُّونة بحفاوة أكتر عندما علمتا أنني زوج أمهما، وسألوا عنها وعن صحتها، وقالتا إنهما لم ترياها منذ أكثر من عامين، حضر بعد ذلك بقليل زوج ألم قشي السابق ووالد البنتين، تركَنا الجَد، تناقشنا في شأنها، ولكن ما أدهشني حقًّا وأدهش ود أمونة أكثر، هو أنها انفصلت عن زوجها السابق بذات الطريقة التي تتبعها الآن معي، تحدث زوجها السابق منفعلًا: قالت هي كرهتني، شِلتُ بناتي أديتهم لأمي وأبوي وطلقتها، مشت عرستك أنت، المرا دي ما مفهومة، عندها مشكلة في رأسها.
قال له وَد أَمُّونة: إنه يُقال ويُعْتَقَدُ بين الناس في الحِلَّة أنه هو الذي هجرها، وأخذ بُنَيَّاته منها، قال متأثرًا: والله لم يحدث هذا إطلاقًا، يشهد الناس بزهانة، لقد وسطت لها الدنيا والعالمين، ولكنها رفضتني، تركت لي البنات وهربت، فنصحني الناس حتى لا تكون في عصمتي، وتقوم بفاحشة تُحْسَب عليَّ أن أطلقها، فطلقتها.
قلت له محتارًا: ما العمل؟
قال لي بثقة: طلقها، طلقها بأسرع ما يمكن، دا الحل الوحيد.
قلت له صادقًا: أنا ما عرفت مرا قبلها ولا بعدها.
قال وكانه لم يسمعني: طلقها يا زول.
قلت له: هل ح ترجعها أنت؟ ح تتزوجها تاني؟
قال بكل صراحة ووضوح: أيوا ح أعرسها؛ هي أم أولادي، وإذا أبتني تاني، وطلبت الطلاق ح أطلقها ليك أنت تاني، ما كنت أظنه يعني أو يعي ما يقول، ولكنه كان يتحدث بجدية مبالغ فيها، كنا أنا وهو وحدنا، وَد أَمُّونة كعادته خرج خفيفًا عندما أحسَّ أن الموضوع يحتاج أن يُناقش بين اثنين، لا أدري إلى أين ذهب ولا متى، قبله كانت البنتان قد خرجتا مع الجد.
قال لي مؤكدًا: مرَّة ليك إنت ومرة لي أنا، كله بسنة الله ورسوله، لو ما عايز كِدا شوف مرا غيرها، ثم أضاف فجأة: أنت اللِّي عاجبك فيها شنو؟ ماسك فيها قوي كِدا، النسوان يا أخي زي ضَنَب الضَّب: تقطعوا، يقوم غيرهُ، تقطعوا يقوم غيرهُ، عِشرين مرَّة.
قلت له: أنا ما عارف والله.
قال مقاطعًا في إلحاح: طلقها يا زول، المرا حتقتلك إذا ما طلقتها، وتفر تدخل الحبشة، تاني شيطان مش ح يعرف مكانها، أنا أعرف الحبشيات ديل، إما قعدوا معاك بإخلاص أو سابوك نهائيًّا، ما عندهم نُص نُص.
– ولكن ألم قشي مريضة.
– أنت المريض، المره دي عايزة عيالها، وعايزة أبو عيالها، أنت ما لك باقي ليها عارض؟ قلت له: هي حامل مني!
قال ببساطة وهدوء مسيخ: عارف كِدا، لمَّا تلد وجناك يكبر شوية نديك ليهُ، أنا لما سابت لي بناتي أديتهم لأمي، أنت ادِّي جناك برضو لأمك، أو خالتك، أو أي واحدة من قريباتك تربيه ليك، ولمَّا تكرهني ألم قشي عرسها تاني أنت، الموضوع بسيط ما يحتاج لقومة نفس أو زعل.
على الرغم من أن منطقه يبدو كمنطق المجانين، لا يقوم على عُمد معقولة، وأنني كالذي في كابوس، إلَّا أنه أقنعني، وخرجت منه وقد صممت على طلاق ألم قشي على الأقل، قلت لنفسي: ح تكون في أيد أمينة، وتعيش سعيدة مع زوجها وبناتها.
شكرني وطمأنني أنه بمجرد أن تكرهه ألم قشي سيرسلها لي وفي يدها ورقة طلاقها.
قلت لألم قشي كطلب أخير، وهي تمشي نحو الباص: حافظي على الزول اللِّي في بطنك.
قالت مبتسمة ولأول مرة منذ بداية الأزمة: ح أحافظ عليهُ.
وتحرك الباص في حراسة الجيش والاحتياطي المركزي، وهو المظهر العام الذي صار يتخذه باص همدائييت والجيرة والحفيرة في الآونه الأخيرة، كانت أجمل ما تكون المرأة، تشعُّ من عينيها سعادة غامرة، ولا يُخفى همس الجنون الذي يحيط بها، هالة زرقاء مرعبة، ألم قشي هي المرأة الوحيدة في حياتي، ولقد أحببتها بالفعل، وعندما أقول المرأة الوحيدة أعني أنني اكتُشفت فيها، وأنها أول امرأة تحمل بأطفالي، وهذه قيمة إنسانية لا تضاهى؛ أن تجعل نفسها تحبل منك، وهنالك صفة لا أظن أن امرأة أخرى تشترك فيها مع ألم قشي؛ وهي أنها أجادت مخاطبتي باللغة التي أفهمها بالذات، وبالكلمات والموسيقى التي تتوافق معي، ولكني انخدعت في تصوري للمستقبل، وما كنت أظن أنَّ النهاية هي ذات النهاية التي أكابد آلامها الآن، وإلى آخر لحظة، بعد أن تحرك الباص كنت أظن أنها سوف تغير رأيها، ولكن عندما لوَّحَتْ إليَّ بكفها مودعة عبر نافذة الباص كان الفراق قد تأكد تمامًا، شيعني الناسُ بنظرات إشفاق، وجاملني البعض بكلمات ظنوا أنها سوف تخفف عني، وأكد لي البعض في سذاجة: ح ترجع ليك، ما ح تلقى أحسن منك.
ولكن أرحم عزاء قُدم لي كان من قِبل الأم ووَد أَمُّونة؛ حيث إنهما هيآ لي — لولا حالتي النفسية المتردية — ما كنت سوف أطلق عليه ليلة العُمر؛ فاجأني بالعجوز في صحبة أُم كيكي وبوشي، وهو اسم دلع لبوشاي الشلكاوية المغنية، وهي فتاة في غاية الجمال أمها من الحمران، وهي إحدى القبائل العربية بالمنطقة، وتعرف أَدِّي أنني أحب صحبتها و… في القطية الكبيرة، بعد أن أخذا عنها جميع المنقولات، تمَّ فرشها بالسباتة، ثم فُرشت عليها بُسُطٌ من البلاستيك رخيصة، ولكنها جميلة وناعمة ولها عبق حميم، الأم نفسها هي التي قامت بغسل ظهري في الحمام بالصابون والليف وقامت بدلك بشرتي بعجينة الدلكة العطرة، ثم تركتني للعجوز وبوشي وبنيات ثلاث يغنين لي وسط هالة من دخان الصندل والكَبَرَيت، قلت لهم: غنوا لي أغنية: وصتني وصيتا.
سقتني بوشاي الجن الأحمر الحبشي، الذي أفضله، وسقيتها، وشرب العجوز، سقينا البنيات البيبسي والإستيم، ورقصنا جميعًا سُكارى وغير سُكارى على صوت المغني الحبشي تمرات من مسجل الأم، غنينا بالأمهرا والتجرنة والعربي ولغات نيل أزرق قديمة، لا نعرف إن كانت للأنقسنا، الوطاويط أم البرون أم القُمُز، وغنت بُوشاي أغنية للشُّلك، اشتهرت بها المغنية الحسناء ييانا، عند العاشرة ليلًا همست الأم في أذني: ما هي أمنياتك الليلة؟
قلت لها: الليلة دي بس؟
– أيوا الليلة بس، العشاء ليس من الأمنيات؛ لأنه جاهز بعد شوية ح ييجي، وأغنية سبعة يوم عوضية بعيد برضو خارج الأمنيات، وما أظنك تحتاج لوصتني وصيتا.
قلت لها مراوغًا: خلي العجوز يتمنى لي، حتى لو أغنية: وصتني وصيتا.
قال العجوز ضاحكًا: أتمنى ليك أحلام سعيدة.
قالت الأم: كويس نشوف بوشاي تتمنى ليك شنو.
قالت بوشاي وهي تبحث عن غطاء رأسها: أتمنى ليهو يشرب باقي الجن دا براو.
قالت الأم للصبيات، وهي وبوشي تضحكان: في واحدة عايزة تتمنى ليه حاجه؟
ضحكن وأخذن يغنين: سبعة يوم عوضية بعيد، قلت وكنت صادقًا أم سكران لستُ أدري: أتمنى أن تحكي لي الصافية حكاية من حكايات الجنقو، أو يحكي لي وَد أَمُّونة عن السجن، قالت الأم وهي تضحك فيهتزُّ صدرها الكبير: الصافية في مشروع الزبيدي ترش السمسم، ووَد أَمُّونة هرب، وقال هو تعبان، أنا ح أحكي ليك قصة حياتي، والله ح تلقاها أجمل من قِصة حياة الصافية.
تعشينا جميعًا، عندما سَكرتُ جدًّا تركوني وذهبوا، نمت، حلمت بأن الصافية جاءت من مشروع الزبيدي على جمل ضخم أسود اللون، قالت لي: صديقك نجمتهُ! وح أنجمك أنت برضو!