امْرَأَةٌ اسْمُهَا أَلَمْ قِشِي
– «عَلَّمَنَا هذا المكان قيمة العمل.»
قالت لي بالتجِرنَّة المرأة النحيفة المتوسطة الطول، وهي تعبث بقِدْرٍ عليها ماء على موقد صغير، ثم أضافت باللغة العربية، لغة الحدود: راجلي ضعيف «نحيف» زيك.
رفعت عينيها إليَّ وكأنها تريد أن تتأكد من موقعي في القطية.
– بالله، راجلك؟ عندك راجل؟
كان تعليقي محرجًا، وأحسست بمرارة ذلك في حركة سريعة قامت بها، حركة غير مخطط لها، عندما أتى صوت جميل يغني في الخارج، قالت منادية: يا وَد أَمُّونة، عليك الله تعال دقيقة.
دخل وَد أَمُّونة، أنيقًا ووسيمًا كما هو، في جلباب أزرق نظيف، حياني قائلًا: كيف؟
– تمام.
ثم نظر إلى المرأة فأجابت: عليك الله ظَبِّت الشِّيشَة لصَاحِبَك دا.
سألني، وفي فمه ابتسامة كبيرة: عادي ولَّا تُفاح؟
– عادي.
– عليها شُوَيَّة سيجارة خضرا «بنقو»؟
– لا، مُعسل بس.
أضاف ولما تفارقه الابتسامة بعد: عندنا حبشي، وإريتري برضو، وأبو حمار «عرق».
– شنو الحبشي، وشنو الإريتري، وطبعًا أبو حمار معروف.
قال مندهشًا: الجن والكونياك.
قلت ضاحكًا: بعدين، بعدين، شكرًا يا وَد أَمُّونة.
خرج يتبعه عطر فهرنهايت مُدهش، قالت بفخر: ولد ممتاز، اتربى هنا معانا في بيت الأم.
قلت لها مراوغًا: ولكنه قال لينا أنا اتربيت في سجن القضارف.
قالت مجيبة: صاح، لمَّان كان صغير، دخل السجن بيرضع، ودخله بيمشي، وطلع منه مراهق، الذنب ذنب أمه أمونة، ومن ما «منذ أن» طلع من السجن دخل بيت الأم هنا، إلى اليوم.
وفي هدوء النسيم دخل وَد أَمُّونة، وضع الشيشة أمامي في أدب جم، وخرج دون أن يقول شيئًا، أضافت ماءً نقيًّا للقدر الكبير، هدأ فورانه، أخذت تجمع حاجيات القهوة من مكان خارج القطية، لم أعتد لباس الملاءة، لونها أبيض، مما أظهرني كحاجٍّ تَعبٍ أرهقه التَّطْوَاف، أعرف أن صديقي قد يفعل في ساعة ما سوف يقوم بفعله شخص مثلي في يوم كامل، أعرف عنه أن ما من غامض يقف أمامه، إنه مغرم بفض غموض كل شيء؛ امرأة، حجرة، كل شيء، لم أشغل نفسي كثيرًا به، الزِّقِنِّي الذي أحبه، بالشطة الدِّليخ أكلته بالقِيِّح بَربَري «الشطة الخضراء» لذيذًا طاعمًا، كان عَبق قلي البن الحبشي أثار فيَّ ذكريات كثيرة كثيرة، وفي ما بعد ارتبط عندي بصورة مدهشة بكل ما يخص علاقتي بألم قِشي.
كنت تعبًا ومرهقًا كحمار عجوز، السفر إلى «الحِلَّة» بالمواصلات العامة، وخاصة على ظهر البربارا يعتبره البعض نوعًا من الانتحار والمغامرة، وعلى أقل تقدير الطيش.
– الناس البعرفوا البلد دي، بيركبوا الباص، الباص أضمن وأسرع، البربارا موت أحمر عديل.
كانت تدلِّك ظهري بخليط من الحَنْظَل، دهان أبي فَاس، زيت الزيتون، وعجين القمح، تتحدث بصورة مستمرة عن المكان والزمان؛ وأَدِّي ووَد أَمُّونة، البنك الذي سوف يفتح فرعًا في الحلَّة، شركة الاتصالات التي ستجعل الحِلَّة قريبة جدًّا من العاصمة الخرطوم، بل يمكن الاتصال بأسمرا، أو أديس أبابا، حتى أمريكا ذاتها، كانت تقول عن وَد أَمُّونة إنه الرجل الوحيد، والذراع اليمنى للنساء هنا بالبيت، وفيما يشبه تقريرًا قصيرًا مقتضبًا أفضت إليَّ بأسرار المكان كلها، كانت ما فوق الثلاثين بقليل، تبدو عارفة بالحياة، خبيرة في كل شيء، تحيط بها هالة من القداسة، أو كما يبدو لي، مثلها مثل كل النساء جميلة، وغامضة، ولديها ما تقدمه، وجهها يخبئ فرحة، أو حزنًا، أو أنه يفصح عن الاثنين معًا في آن واحد، بحرفية وبراعة سحبت رجلي اليسرى عكس دوران الساعة، ثم جذبتها إلى الأعلى في ذات اللحظة التي تناولت فيها يدي اليمنى جذبتها إليها بقوة، مما جعل جسدي يصدر صوتًا بائسًا مثل كسر فرع لوسيانا يابس؛ إثر ريح قاسية، ولو أن الأمر لم يتعد عدة ثوانٍ لصرخت، عندما تركتني كنت أنعم براحة جسدية لا توصف، وخدر لذيذ، قالت لي فجأة: أنا ماشة البيت.
قلت مندهشًا: البيت؟
قالت: أيوه.
ثم أضافت: بشتغل هنا مع أَدِّي، ولكن أنوم في بيتي، عندي أولاد، وراجل هناك، ثم أضافت بحرفية: عايز واحدة تنوم معاك؟
في الحقيقة، لم أكن متأكدًا من هذه الرغبة؛ حيث إنني والحق يُقَال لستُ ميَّالًا للممارسات الجنسية، وربما لم أفعل هذا الشيء سوى مرات قليلة في حياتي، وبصورة أستطيع أن أسميها غير كاملة، بل إن ذكرياتي في ذلك الشأن مؤلمة، أظن أنني كنت خجولًا عندما يتعلق الأمر بالمرأة، ولكن فاجأت نفسي بالرد: عايز.
أجابت وكأنها تعد الإجابة مسبقًا: ألم قِشي، ألم قِشي حتجي تنوم معاك الليلة، فاليوم هو يوم عملها، بت ظريفة وحلوة وحتعجبك.
ربما أرادت أن تقول شيئًا آخر، عندما اقتحم صوت أَدِّي الأم هدوء المكان، كان صوتًا متميزًا حادًّا، به رقة طاغية، وربما سببها الطريقة التي تختتم بها الجُمل القصيرة، التي تلقي بها هنا وهناك، استأذنتْ للدخول وتحدثتْ إليَّ مباشرة: صَاحِبَك دا أغرب زُول في الدنيا.
تنطق «صاحِبَك» بكسر الحاء وفتح الباء، لم أفاجأ؛ لأنني أعرفه جيِّدًا، هي لم تكتشف قارة جديدة، كما تشير الطريقة التي أعلمتني بها، قلت ببرود لم يعجبها كثيرًا، وربما أثار دهشتها لبعض الوقت: أيوا، هو أغرب زول في الدنيا، عايزاني أمشي معاك ليهُ؟ ولا تجيبيهُ لي هنا؟ حيكون عمل مشكلة، أنا عارف.
قالت بطريقة استعراضية: طرزناو، «طردناه.»
قلت منزعجًا، حيث إنني لم أتوقع أن يُطرد: ليييييه طردتوه؟ وين هو هسَّعْ؟
بينما كنت أجمع حاجياتي، وأتحرر من الملاءة البيضاء؛ تأهبًا للخروج، كانت الأم تحكي لي قصة لم أسمعها جيِّدًا، لكنني فهمت منها أنه طُرد قبل ساعتين كاملتين، وأنه لا يمكنني معرفة مكانه، إلَّا إذا مضيت خلفها، وبسرعة والآن.
– ليه ما قلتي لي من بدري؟ بعد ساعتين؟
قالت وهي تأخذ نفسًا طويلًا من الشيشة: كنا نحاول نعالج الموضوع.
تناولتْ خرطوش الشيشة بطريقة تلقائية.
قلت منزعجًا، وقد تحررت من الملاءة تمامًا: وين هو هَسَّعْ؟
قالت وهي تطلق هواء الشيشة بعيدًا في شكل دوائر صغيرة تتلاشى تدريجيًّا في فراغ القُطِية: أرح، تعال وراي.
انتعلت حذائي، بالتالي أصبحت بكامل هندامي، لم أكن قلقًا، ولو أنها ألمحت لي بأنهم قد يقتلونه ويتخلصون من جثته في نهر بَاسَلام، فأنا أعرف أن لا أحد على الأقل بالحِلَّة يستطيع أن يقتله، فهو من أولئك القِلة الذين لا يخطر ببال أحد أنهم سيموتون قريبًا، بل دائمًا ما يعطونك إحساسًا بأنهم سوف يسيرون في جنازتك، يحفرون قبرك، ويشيلون الفاتحة على روحك، متنطقين بابتسامة حزينة طوال أيام الحداد، مررنا أولًا أمام راكوبة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي يرسل ضوءًا ضئيلًا حوله، ولكنه يُظهر بوضوح وَد أَمُّونة، يجلس على بَنْبَرٍ كبير متسع، وهو يدلك قدميه بحجر خشن يُستخدم لتنعيم القدم، تقف خلفه امرأة في عمر أَدِّي تقريبًا، أربعينية طويلة ذات بشرة بُنِية تبدو داكنة بتأثير الإضاءة، ولكن ملامح وجهها تدلُّ على أن لونها يميل إلى الاصفرار، كانت تستخدم الحلوى في التقاط الشعر من على ظهره، يتحدثان بصوت خفيض، توقفا عن الكلام تمامًا عندما مررنا بهما، أنا وأَدِّي، خاطبتْهما أَدِّي بمرح: الولد دا شايلنُهُ الدلالة؟
ردَّ وَد أَمُّونة ضاحكًا: النظافة من الإيمان يا أَدِّي.
«بيني وبين نفسي قدَّرت أن وَد أَمُّونة ولد ما نافع؛ رجل يشيل جسمه بالحلاوة، ويكرش رجله زي البنات بالحجر؟ وما معروف تاني بيعمل شنو، الله يعلم.»
عندما ابتعدنا قليلًا عنهما، قالت لي أَدِّي، وكأنها قرأت ما يدور في خلدي: وَد أَمُّونة دا أرجل زول في الحِلَّة، أنا ربيته في يدي دي، تربية أَدِّي مية مية.
قلت لها محتجًّا: قال لي بلسانه إنه اتربى في السجن.
قالت ببرود: سجن شنو يربي زول! أنا استلمته لا خلقة، ولا أخلاق، ببصلة ما بينفع.
هززت رأسي إيجابًا، ومضينا عبر طريق ضيقة تمر خلف القطاطي المثيرة الكبيرة، التي تبدو أحيانًا مثل أشباح عملاقة تقبع في بحر من الظلمة، الأم تسير أمامي، سمينة قصيرة تتبعها رائحة صندلية التاج الأصلية، يُسمع لمِشيتها طقطقة يعطيها الليل سحرًا خاصًّا، كانت التحايا تصلنا من هناك وهنا، متسللة عبر سياج القطاطي، وأبواب الرواكيب، وسقوف القش.
– مساء الخير أَدِّي.
– مساء الخير أمي.
– أمي أَدِّي.
– أَدِّي.
تأتي التحايا مختلطة بوَحْوَحَة العاشقين، وثُغاء السكارى، وفَحِيح الفعل الليلي، ونداء الأجساد الحية النشطة الشَّبِقَة، تستجدي ملائكة المتعة، أو شياطينها، الأمر سِيَّان.
قالت لي وهي تتحدث باستمتاع خاص: الدنيا لعبة، وآخرها كوم تُراب.
هززت رأسي إيجابًا، بالأحرى بما يعني: فهمت. مررنا بصوت سيدة تستجدي عَلنًا وبصوت عالٍ بائس أن يأتي من ينقذها، وأنها سوف تموت الآن إذا لم، كانت تسترحمه وتستجديه أن يتركها، أن يُخْرِجه، أن يخليها تتنفس، تتنفس لا أكثر، أن يرفع جسده الثقيل عنها، أن يقذف بسرعة، إنها تموت.
وبشهامة معروفة عني انطلقت نحو القُطِية قاصدًا فك الاشتباك، ولكن أَدِّي أمسكت بيدي بقوة قد لا تصدر من امرأة في عمرها، وخاطبتني قائلة: ما تَصَدق النُّسوان يا ولدي، من صَدَّق النُّسوان كَذَّب الرُّسُل.
ثم انتهرتْها بحزم موبخة إياها: يا بِت ارجلي، عَيب.
فصمت الصوت صمتًا تامًّا مضيفًا للمكان رهبة الموت، عبرنا نحو زقاق أكثر ظلامًا، خارج مجمع أَدِّي السكني، كان السُّكارى والعابرون يلقون علينا التحايا في كلمة واحدة سريعة.
– أَدِّي.
فتجيب أَدِّي بصورة ميكانيكية حنينة: أهلًا ولدي.
– أهلًا بتي.
– أهلًا أخوي.
– أهلًا أمي.
– أهلًا حوي «أخي».
كانت تميز وجوههم السوداء المظلمة وجهًا وجهًا، تعلم أصواتهم المخمورة، المخدرة، المبحوحة وترًا وترًا، أشباحهم، هيئاتهم، إيقاع مشيهم، أنفاسهم، خاطبتني فجأة: صَاحِبَك دا أول زول ينطرد من بيتي.
في أكثر من تلاتين سنة قَبلُهُ كان واحد بس، هو منقستو.
قلت مندهشًا: منقستو؟
– أيوه، منقستو هايلي ماريام، قبل ما يكون رئيس في الحبشة، كان فالول «قاطع طُرق» في غابة زهانة، وخور الحمرة، كان زول صعب، الله يرحمُهُ.
سألتها: وين الزول دا؟
قالت مشفقة عَليَّ: الله يرحمُهُ مات زمان.
لم أقل لها أنا أقصد صديقي، وليس منقستو هايلي ماريام، ولكني هَزَزْتُ رأسي إيجابًا.
يمكن سماع طَقْطَقة شبشبها، في ظني، في كل البيوت المجاورة، مررنا بامرأة سوف تكون لها حكايات كثيرة في قادم أيامنا بالحِلَّة، وهي الصافية، امرأة نحيفة سوداء كالعادة هنا؛ حيث الظلام يَصْبغ الجميع ببهائه، تحمل شيئًا في يدها ويتبعها رجلان، تبادلتا التحايا بينما سكتُّ أنا وصمتَ الرجلان، عَبق العرقي البلدي مختلطًا بصُنان نفَّاذ، وعَرَق كَادِح عبرا في وجهينا.
عندما ابتعدوا قالت لي أَدِّي: الليلة الجنقو نزلوا، ما شايفهم شايلين القُوقُو كيف؟
وتعني بالقُوقُو حقيبة صغيرة يحملها الجنقو على أكتافهم، يحتفظون فيها بأغراضهم ويعتقدون فيها كذلك، سألتها ما إذا كانت المرأة أيضًا جنقوجوراية؟ فأجابتني بأنها أشهر الجنقوجورايات في الشرق كله، من الحُمَرة إلى أقصى صعيد القَضَارِف، من الحَواتة إلى الفَشَقَة، كل الناس يعرفونها، ثم أكدت لي أن جدودها والشياطين هم الذين افتتحوا هذه الأراضي، كانت تتحدث بيقين وعلم راسخ وتُقْسم بين الحين والآخر بالله، بأن هذه الأنحاء مسكونة بالجن، ثم أضافت قائلة: والكلام دا مذكور في الكتاب.
قلت لها مندهشًا: ياتو «أَيُّ» كتاب؟
قالت بسرعة: كتاب الدين، في كتاب تاني غير كتاب الدين؟
هَزَزْتُ رأسي بما يعني: لا والله.
بين حين وآخر أجد نفسي منشغلًا بمصير صديقي، ولكن أَدِّي لا تترك لي فرصة للتفكير، فهي إما تتحدث أو تسحبني خلفها بسرعة رهيبة في الظلام، هي تحفظ تضاريس الطريق، وشِعاب المكان، وأنا كالسكران لا أستطيع أن أمشي غير متعثرٍ، وكدت أسقط عدة مرات، مَشَينا مسافةً قدَّرْتُها بالميل، ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب والقش والقطاطي الكبيرة، تهيأ لي أننا كنا نسير في زاوية منفرجة، حينما بلغنا ما اعتقدتُ أنه زاوية المثلث، سمعت صوته عاليًا، بل يكاد يكون صراخًا، وهذه أيضًا إحدى عادات صديقي السيئة، وهي ليست علامة غضب، ولكنها دليل على أن الأمور تسير في صالحه، وبصورة جيدة.
كان يهتف قائلًا: إنه لا يدفع ولا قرشًا واحدًا، ويكرر أن هذا «مبدأ».
كانوا داخل حوش كبير من القصب والأشواك، في وسطه قُطية كبيرة وراكوبة ترسلان ضوءً شحيحًا من عمقيهما، كانوا يجلسون ويقفون تحت ظل الضوء الشحيح، تبدو أشباح الرجال الخمسة جلية واضحة، طلبت منهم أن يتركوه، هتف فِيَّ أحدهم: إنتَ مِنُو «مَن أنت؟»
قالت لهم الأم أَدِّي، وفي وجهها البُنِّيِّ تتحرك عينان قلقتان كبيرتان، تلمعان في الظلام كعيني قط يتربص فأرًا: خلوه صاحِبُهُ دا حيحل معاه المشكلة.
قال مخاطبًا إيَّاي بصوت محمول على خدر الخمرة، ولسان ثقيل: أنا عايز أفهِّم الناس ديل الفرق بين الرذيلة والفضيلة، الفرق هو القروش العايزني أدفعها دي، القروش بتحول اللقاء الحار الإنساني البديع الخيِّر المبارك الحصل بيني وبين الزُّولة الجميلة القاعدة جوه دي — مشيرًا إلى عمق ظلام القُطية — إلى نوع من الدعارة والشرمطة.
فجأة أتى صوتها من عمق سحيق مظلم قائلة ببجاحة: أنا عايزة حقي يا زول، دا شُغُل! أنا ما بتنفع معاي فصاحة الشوعيين الكُفار دي، عايزة حقي، عايزة حقي، حقي وبس، دُورين زَي السِّمْ! دورين يا ظالم وتقول لي شَرَمَطة! دورين، دلكة وعِصير رجلين وطقطقة أصابع ومص وعض دا كلهُ مِلِح؟ أنا بعرفك من وين عشان أديك بلاش «أعطيك بدون مقابل؟» لا حبيبي ولا ولد حِلتنا ولا أخو صاحبتي.
يبدو أن الحوار كان يدور بهذه الشاكلة لأكثر من ساعتين كحوار الطرشان، في تجمعات صغيرة بين هنا وهناك يُرى الندماء قرب راكوبة باهتة، تحت في ما كان ظلًّا عصريًّا ابتلعه الظلام وتركهم، رائحة سمسم يُشوى، قرقرة شيشة قريبة جدًّا، سيدتان تضحكان بتحفظ، قال لي: المرا دي جابتك «هل أتت بك تلك المرأة؟»
قالت أَدِّي منفعلة: أنا أَدِّي مُش «ليس» المرا دي! سامع؟
انتهره أحدهم: اتكلم مع أَدِّي بأدب.
قلتُ لأَدِّي متجاهلًا كل شيء: أنا عايز أرجع.
قالت لي مندهشة: ترجع وين؟
قلتُ لها مُتجنبًا النظر إلى صديقي: للقطية.
قالت باستغراب: عايز تَرِجِّع قروشك؟
حيث إنها كانت قد رأتني أدفع «للمرأة» نقودًا كثيرة جدًّا.
قال لي صديقي محتجًّا: إنت دفعت قروش؟ إنت زول داعر.
لم أرد عليه، قلت مخاطبًا أَدِّي: عايز أرجع القُطية، عايز أنوم، ممكن؟
قالت بانشراح، وقد فهمت ما أرمي إليه: إنت زول تاني، ما زي صَاحِبَك.
خاطبني بسخرية: نتقابل الصباح يا أبو الشباب، يا فالح.
هَزَزْتُ رأسي إيجابًا أو بما يعني: على كيفك يا بُنيَّ.
عبر زقاقين قصيرين مظلمين قادني رجل كلفته أَدِّي إلى بيت الأم، حيث التقيت لأول مرة بامرأة انتظرتني طويلًا في القُطية اسمها: ألم قِشي.