خَاتمُ النَّبي سُليمَان
بالتأكيد ما كان لرجل عاقل مثلي أن يبقى بالحِلَّةِ دقيقة واحدة أخرى، فبينما ينعس الناسُ الساهرون بالأمس مع مهرجان النار الذي أتى على كل مزارع الذرة، هربنا أنا وصديقي مختار والصافية، وكثير من الجنقو الآخرين، نحو الحُمرة بإثيوبيا، كنا قافلة صغيرة مرعوبة وخائفة، تقودنا الأم التي كانت لا تحمل شيئًا سوى صُرةٍ صغيرةٍ ثقيلة، بها كل ثروتها في شكل ذهب، ولكنها كانت تبدو مرهقة، نسبة لسمنتها، وبُعد عهدها بالجري والهرولة، مضى أكثر من ثلاثين عامًا منذ أن ودعت ميدان المعركة، واعتادت على نمط عمل مريح، ورغم الخوف الذي يتملكنا جميعًا لم نتركها خلفنا، بل نحيط بها ونساعدها على حمل ثروتها، فلها عَليَّ وعَلَى كل واحد منا فضائل كثيرة، عبرنا النهر سباحة؛ فالجميع يجيد السباحة بما فيهم الأم؛ حيث إنها تسبح في خفة ومهارة قد يفتقدها كثير مِنا، هرولنا على أرض صَخرية قاسية، ولكنها رحيمة وطيبة، تنكمش في عطف تحت أرجلنا لتقرب لنا المسافة إلى الحدود الإثيوبية التي هي مقصدنا، وخَط الأمان الأول، كثير من الجنقو يحملون هواتفًا نقالة، وقد اتصلوا بأصدقائهم وأقاربهم، وعرفوا أنَّ الجيش يتعقبنا، ولكن على أرجلهم، فآلاتهم القتالية وعرباتهم لا يمكن أن تعبر النهر.
وقالوا لنا هنالك احتمال أن يستعينوا بطائرات مقاتلة من القضارف أو كسلا؛ لذا تحتم علينا أن نسابق الريح فعليًّا نحو الحدود الإثيوبية، وفعلنا، وفي اللحظة التي دخلنا فيها خُور الحُمرة سمعنا ضجيج الطائرة الأبابيل خلفنا، كُنا نظن أن الطائرة لا يمكنها أن تطلق علينا قنابلها ونحن في الأراضي الإثيوبية، إلَّا أنَّ الأم وجهتنا للاحتماء بالأشجار والكهوف التي تكثر بالخور، كانت تحلق الطائرة فوق هامات الأشجار، ويثير هواؤها عاصفةً غباريةً كثيفةً تحجب عنا الرؤية وتشتت أفكارنا، ترمي كثيرًا من الرجال الجوعى صرعى، ترعبنا وتحاصرنا حصارًا محكمًا، وكما لو كانت تريد الاحتفاظ بنا في الخور لحين وصول الجنود، وحين تتركنا للحظات ربما للمناورة، كانت الأم تعيد ترتيبنا، وقد نبهتنا مرة بأن نهرب نحو عُمق الحدود في ذات الخور، ولكن متفرقين؛ لذا عندما عادت الطائرة مرة أخرى لم تجدنا هنالك، ولكنها لم تتوغل معنا في داخل الحدود الإثيوبية، فتركتنا وعادت، وبعدما تأكد لنا أن الطائرة لن تعود تجمعنا مرة أخرى عن طريق المناداة والصياح بصوت عالٍ، كنا خمسة وعشرين جنقاويًّا؛ حيث إنني قمت بِعَدِّهم بعدما عبرنا النهر مباشرة، الآن أربعة وعشرون، ولم يكن صعبًا أن يتبين الناس أن الشخص المفقود هي أَدِّي، وتفرقنا في الغابة والخور بحثًا عنها، ناديناها بأقوى ما تستطيع حناجرُنا أن تصدر من أصوات، تتبعنا المسالك التي مررنا بها، عُدنا للموقع الذي حاصرتنا فيه الطائرة، ثمَّ إلى المكان الذي شُوهدت فيه آخر مرة، لم نجد لها أثرًا، وظَنَّ بعض الجنقو أنها تتبعت طُرقًا تعرفها إلى عمق إثيوبيا، فالمكان ليس غريبا عليها؛ حيث إنها كانت فالولًا قبل ثلاثين سنة، تتصيد السابلة على مشارف الحُمَرة وتِسِنَي، وقال البعض إنها ربما خشيت أن يستولي الجنود الإثيوبيون على مالها، وأدلى كلٌّ بدلوه، ولكن ظلت الحقيقة غائبة إلى أكثر من أسبوعين، إلى أن أخبرنا ضُباط الرعاية في مُعسكر اللاجئين، أنهم وجدوا جثتها متعفنة على بُعد خمسة أميال شرق خُور الحُمرة تحت شجرة سَيَّال، ويُرجَّح أنها قُتلت، ولم يجدوا معها أي شيء من المال، أو العتاد.
قابلنا الإثيوبيون الرسميون والشعبيون بعد نصف ساعة من دخولنا الأراضي الإثيوبية، على مشارف الحُمرة عسكر وفريق طبي، موظفون أمميون، ومنظمة الهجرة الدولية، قاموا بالتحقيق معنا، والتأكد من أنه ليس معنا أي أسلحة خطرة أو نارية، غير بعض الفئوس والأسلحة البيضاء الشخصية، ثُمَّ فُحِصُنا طبيًّا، وقمنا بطلب اللجوء السياسي، وهو المُصطلح الذي لم يَسمع به كثير من الجنقو من قبل، تمَّ حَصرنا، وقام المسئولون بتحديد موقع لإقامتنا، وأُعطينا أرقامًا بدلًا من أسمائنا وقَدمَتْ لنا منظمة وطنية مجهولة بعض الطعام والماء؛ بتنا ليلتنا تلك في خيام ضيقة، ثم أخذت الأمم المتحدة في صنع مبانٍ أكثر راحة ملحقة بمراحيض، وحمامات، وعيادة صغيرة، كُنا مرهقين وجائعين ومتعبين ومتسخين ومفلسين، أنا بالذات لا أمتلك ولا قرشًا واحدًا، فقد كان أملي في العيش الذي حصدته، وتركته في بيت أَدِّي، التي تركته بدورها في الحلة، واختفت الآن في مجاهل إثيوبيا، وكل الجنقو مفلسين مثلي؛ لأنهم ما عملوا في هذا الموسم عملًا حصلوا منه على مال، ولولا الطعام والشراب والسكن الذي يقدمه لنا المُحسنُون الأمميون لمِتْنَا، ثمَّ ما لبث أن انضمت إلينا أُسَرٌ أخرى وجنقو آخرون وفدوا من همدائييت، والقرقف، وزهانة. بعد ثلاثة أشهر بالتمام، أي في بداية شهر يناير، أرسلتْ لي ألم قِشي ما يُفيد بأنها قد تنجب طفلًا في الأسبوع القادم، وعليَّ أن أحضر السماية في همدائييت إذا كنت أضمن سلامتي، كنت في الخيمة وحدي عندما جاءني مَنْ عرفت فيما بعد أنَّ اسمه إسحاق المسلاتي، غالبًا ما أكون وحدي في الآونة الأخيرة، فصديقي مُختار علي بعد أسبوع واحدٍ فقط قضاه معنا في المعسكر ضَجِر، رغب في الخروج من المُعسكر الذي لم يعد يطيقه، ويود الذهاب إلى فريق قرش؛ لديه أصحاب هنالك، طلب مني أن أصطحبه، وقال لي إنه يمكننا العمل في الحصاد مع المزارعين الأحباش كعمال يومية، أي كجنقو، وهو يعرف الطريق إلى مواقع العمل تلك؛ ولكن البقاء في المُعسكر مثل الشحاذين تحت رحمة الخواجات هذا لا يروق له ولا يقبله، وحينما رفضت فكرته وحاولت إثناءه عن الذهاب إلى أن نتبين مُجريات الأمور، ونتفهم الواقع، هربَ إلى فريق قرش مع الصافية، وجنقوجورايين آخرين.
قال لي الجنقوجوراي الغريب الذي عَرَّفَ نفسه بسرعة: إن ألم قِشي بصحة طيبة، وإنها سعيدة جدًّا في بيت والد زوجها، وإنهم يحبونها جدًّا، ويحبون أطفالها، ووضع حقيبة قديمة تبدو عليها بعض التشققات، سوداء اللون متوسطة الحجم مصنوعة من السمسونايت، قُرب رجله وهو يجلس على الكرسي الوحيد بالخيمة، بقدر سعادتي بأنها ستنجب قريبًا طفلًا يخصني كان حزني كبيرًا، وإحباطي أعظم بمعرفة أنها سعيدة، وأنَّ أسرة زوجها تحبها، ألا يعني ذلك أنَّ فرصة طلاقها أصبحت هزيلة، بل تكاد تكون معدومة؟ قال لي الجنقوجوراي عندما قرأ حزني في وجهي، قال لي بهدوء أن بفريق قرش نساء كثر، وأنهن جميلات، وحلوات، ورشيقات، ووصفهن بأنهن مثل السُّكر، وهو الشيء الأكثر حلاوة في هذه الأنحاء من الدنيا، وطلب مني أن أذهب، وأبحث عن واحدة منهم لأتزوجها، وأنه سوف يساعدني ويسهل لي الأمر بما لديه من معارف وأقارب هنالك، وعدَّد لي جنسياتهن قائلًا: بلالاويات، وفلاتيات، تلسيات عديل، ظبرناويات، بازاوايات، وجعليات، ودينكاويات، وتكرونيات. سَيُلاحظ أن ذكر قبيلة المرأة مهم جدًّا بالنسبة لهذا الرجل المسخوط، ويضيف لها قيمة جمالية خاصَّة من عنده بطريقة نطقها وتعبير وجهه، الذي تظهر منه ملامح طفيفة على ضوء المصباح، ولكنها قاتلة وتقول كل شيء، العارفون يستطيعون أن يميزوا الفرق بين المرأة والأخرى وفقًا لقبيلتها، لكل طعمها المعروف، وهو بلا شك من العارفين، أضاف بأستاذية ودراية عميقة بشئون البشر، وخاصَّة النساء: وطبعًا الحبشيات دي بلدهم، البلد كُلها نساوين دي أجمل من دي، ودي تقول لدي أنتِ شُنو، قلت له بصوت يخرج من بطني مباشرة: ما زي «ليسوا مثل» ألم قِشي.
قال بتحدٍّ: في أجمل منها كتير.
قلت محاولًا تنبيهه إلى جوهر القضية: ما مسألة جمال.
قال بسرعة: مسألة شُنو؟ في نُسوان في الدُّنيا عرفَن الموضوع دَا أكتر من نُسوان تانيات «أخريات؟» في نسوان مخلوقات من طين ووحدات من نار؟ أنا عايز أفهم؟
قلت له محاولًا أن أجعله يفهم: المسألة ما مسألة موضوع.
قال ساخرًا: يعني حُب؟ ما في مرة تانية تحبها؟ معليش عايز أفهم.
قلت له محاولًا أن أجعله يفهم: في، في كتير، ولكن.
قال لي محاصرًا مقاطعًا بطريقة غريبة مدهشة، وغير مفهومة: آها، شُنُو اللِّي في ألم قِشي، وما في مرا تانية «أخرى» غيرها؟
قلت له محاولًا بإحساس العاجز عن الشرح: ما عارف، حقيقة ما عارف.
قال لي بيقين راسخ، وأعصاب باردة: أنا عارف.
قلت له بسرعة: قول لي ليه، أنا ما عارف.
قال لي وهو ينظر للبعيد، وكأنه يتحدث مع الفراغ الشاسع حولنا: ألم قشي دِي جِنِّيَّة، امرأة من الْجِن.
قلت مستعجبًا، ومستغربًا، ومندهشًا: جِنِّيَّة؟
قال وهو يضع يده على كتفي في حركة غريبة: أيوا، جنية راسو عديل «حقيقية» جات «أتت» من البحر «النهر» دا، البلد كُلها جنون ساكنين مع الناس، وما في زول عارفهم.
كان طويلًا أسمر له بشرة لامعة ووجه حليق نظيف.
– وأنت كيف عرفتها؟
قال بنفس قصير، وهو يبتلع ريقًا جافًّا: عرفتها.
ولأنني لم أرَ هذا الجنقوجوراي من قبل، أتاني إحساس غريب، بأنه فرد من الْجِن، وجدتني أنظر إلى هيئته، رجليه وأصابعه، متحريًا العلامات التي يُقال إنها تفرِّق ما بين الجن والبشر، وهي الأقدام، الْجِن دائمًا ما تكون أقدامهم أقدام حمير، والقِلة كِلاب، للرجل قدما بشر، وهيئة إنسان سَوي، ولا غَرابة فيه إطلاقًا، غير أنه نظيف بعض الشيء، وفصيح، وله ثقة متزايدة بنفسه.
قال لي إنه أول شَخصٍ تعرَّف على ألم قشي في الشرق كله، ويظن أن ذلك كان شرفًا كبيرًا بالنسبة له، وأشار بصورة أو بأخرى فيما يعني أنه متميز، قابلها أثناء ما كان يعمل في مشروع عثمان عيسى هارون، بالقرب من كُبري الهشابة، بينما جاءت هاربة من سجن بالحمرة، هكذا قالت له، كانت فقيرة وخائفة من أن يدركها الشرطيون الإثيوبيون ويعيدونها للسجن، قام بإخفائها في قطيته أسبوعًا كاملًا، قدَّم لها أجمل الطعام، والشراب، بل إنه اشترى لها بعض الملابس الجديدة لتتخلص من تلك — على حسب تعبيره — المقملة، وقال إنه كاد أن يصدق حكاية السجن والشرطيين الإثيوبيين والقمل، لولا أنه ذات صباح باكر راودته نفسه بمواقعتها، وقام بخلع ملابسها ليفاجأ بخاتم الجان مضروبًا في ظهرها: في آخر الضهر «الظهر»، وجنب الصُّلب «الأرداف»، في شكل ختم النَّبِي سُليمان.
ورسمه لي في الأرض، سألني: شفت الختم دا ولَّا ما شفته؟
كان يشير للرسم الذي يبدو مثل نجمة النَّبي داوود بمثلثاتها الغريبة، وقد رأيته كثيرًا منذ صباي الأول يرسمه الفُكيان، والفقهاء الشعبيون على أوراق بيضاء، ويعطونها للنساء؛ لكي يستخدمنها كبخور لطرد الأرواح الشريرة، وجلب الحظ الجيد لهن ولأطفالهن.
قلت له باستسلام: في شيء، لكن هو ختم، ولَّا وشم، ولَّا شامة خِلقة، والله ما فكرت فيه، ولكنه قريب من الشيء اللِّي رسمته أنت على الأرض.
كان في الواقع أن ما يُوجد بظهر ألم قشي ورأيته أنا بأم عيني هو نفس الشكل الذي رسمه الجنقوجوراي إسحاق المُسلاتي، وفي نفس الموقع الذي وصفه، كان واضحًا، بل بارزًا بيِّنًا لا يخفى، ولكنني كنت أضع مساحة لنفسي من أجل المراوغة.
أضاف مقررًا بأن ذلك هو خاتم الجن، وأنه عندما سألها عن حقيقته هربت منه، واختفت عن ناظريه، ولم يرها منذ ذلك اليوم إلا في الحلة معي.
وقالت لي وهي تبكي: استرني يا إسحاق ود درينق، استرني، لكن أنا حبيت أقول لك عملًا لوجه الله وحده!
قلت له: ومن وين عرفت أنتَ خِتم الجِن؟
قال لي إنه قضى معظم سنوات حياته على شاطئ نهر سيتيت، بين هشابة، الجيرة، الحفيرة، همدائييت، الحمرة، زهانة والشواك، إلى خشم القربة، وأن بهذه المنطقة أكبر مملكة للجن في العالم، هم خدام سيدنا سليمان، الذين تفرقت بهم السُّبل بعد موته، وخشم القربة بالذات ذُكرت سبع مرات في كتاب جلجلوتية الأسرار، يسكن بأم أسود المكان المعروف خلف ضريح الشيخ أبشرا، شرق السلخانة القديمة، مالك ملوك الجان نفسه المعروف بالأنور، وشاهده الكثير من سكان خشم القربة، ولكن دون أن يدروا حقيقة ما يشاهدون؛ حيث إنه يظهر مرة واحدة في العام، وذلك في ذكرى اليوم الذي أعادت السمكة فيه خاتم النَّبي سُليمان الذي سرقه الجن من زوجته، عند ذلك اليوم يفيض النهر وتخرج الأسماك، وهي حفيدات وأحفاد السمكة الجدَّة التي ابتلعت الخاتم، وأعادته للنَّبي سُليمان، ليلتقطهما الناس بالأيدي يشوونهما على الجمر، أو يسلقونهما بالماء، وهو عقاب يلحقه بهما مالك ملوك الجان سنويًّا في يوم مشهود يسميه المحجوبون «يوم دق السمك»، والأجدى بهم أن يدعوه يوم «السمكة»؛ لأنه لولا أن أعادت السمكة الجدَّة الخاتم للنبي سُليمان لما استعاد سطوته، وجبروته على الجن، وأذلهم، ولَما انتقم منها في أحفادها، لكن لجهل البشر بعلم الأسرار وضعف بصرهم وبصيرتهم، فلا أحد ينتبه له، قد يظهر في صورة تمساح، أو طائر غريب، أو سمكة، لا يستطيع أحد صيدها، أو كما يشاء من هوام الأرض.
أجمل كما لو أنه أراد أن يختتم كلامه قائلًا فيما يشبه نظرية، أو قولًا منزَّلًا: عن أن الشخص الذي ضاجع امرأة من الْجِن، لا يذوق بعدها طعمًا لأي امرأة أخرى، وأكد لي بصورة قاطعة أنه مُنْذ أن عاشر ألم قشي قبل خمسة عشر عامًا وإلى الآن لم يلمس أي امرأة كانت، وسألني بصورة مباغتة: هل هبشت أنت مرا بعد ألم قشي؟
وقبل أن أجيبه أضاف بصورة درامية في الحقيقة أقرب للكوميديا السوداء: أنا مُش ح أخليها، ح ترجع لي، ح ترجع لي، وأنا، ما ح أموت قبل اليوم داك أبدًا.
قلت له ساخرًا: يعني أنت في الصف معاي؟
قال بجدية، مما جعلني أشك في سلامة قواه العقلية: مُش أنا وأنت فقط، يفوتوا الألف ألف ألف من الرجال، في الدنيا كلها منتظرين.
ولم أقل له كلمة أخرى، بل تمنيت لو ذهب الآن وغرب عن وجهي للأبد، ما كنت أرغب في أن أراه مرة أخرى، تمنيت لو كنت في حلم، ولكن للأسف كنت أعايش واقعًا فعليًّا يمكن لمسه، سماعه، رؤيته، والتحدث إليه، بقي معي إلى ما بعد مُنتصف اليوم، يتحدث عن ممالك الجان، وأوطانهم، وأسمائهم، وحلاوة نسائهم، وأنهم يوجدون في كل مكان في كل أشكال الأشياء، ويمكن أن تكون نصف الأشجار التي حولنا الآن من الجَّان، ويمكنهم التحور في شكل حشرات، طيور، حيوانات أو بشر، وفيهم المسلم، والمسيحي، واليهودي، والكافر، وفيهم الذكي والبليد، المستقيم والشقي، وأكد لي مرة أخرى أنَّ الْجِن الذي يسكن الشرق كله من خدم النَّبِي سُليمان، الذين تفرقت بهم السُّبل بعد موت الملكة بلقيس حبيبة النَّبِي سليمان، لسوء حظي أنني سألته عن حقيبة السمسونايت القديمة التي تقبع قرب رجله، وكان هدفي شريفًا هو تحويل موضوع الحوار لأي شيء آخر غير الجِن، وألم قشي، جلس على الأرض القرفصاء، تناول الحقيبة بهدوء لا يخلو من التوتر وادعاء القدسية، قرَّب منها مصباح الزيت الصغير، أدار أرقامها الصدئة القديمة فانفتحت، كان بها كتاب كبير أصفر الورق، يكاد يملأ الحقيبة كلها، ما تبقى من فراغ به أعشاب جافة لم أرها من قبل، أو أنها لم تكن واضحة بما يكفي لكي أتبين فصيلتها، فقد ظل ضوء المصباح خافتًا، قال لي وهو يفتح الصفحة الأولى من الكتاب: تعال اقرأ.
طلبت منه أن يقوم هو بالقراءة، إنني أفضَّل ذلك.
– لا، عشان تتأكد لا أكثر.
– أتأكد من شنو؟
– من الكتاب.
قلت له وأنا أقرب من الكتاب، ولكنني في الحقيقة كنت بعيدًا عنه بما يكفي، فأنا لا أريد أن أورط نفسي بما أسميه أعمال السحر، والشعوذة الفارغة، التي قد تنطلي على بعض الجهلاء، وكأنه سمع ما تهمس نفسي له به، قال لي: دا كتاب عادي، ألَّفه الإمام جلال الدين الأنبار، ينفعنا الله ببركته كما نفعنا بعلمه، ونقلته أنا بخط يدي، وجدته عند شيخ، ورفض يسلفني له، فنقلته.
أكدتُ له لو أن مؤلفه الإمام علي بن أبي طالب نفسه، أو جدي عبد الكريم إدريس آدم، عليهما رحمة الله، أنا أفضِّل أن يقرأ هو ما يريد قراءته، ولكي لا أكون حادًّا في اللفظ، تعللت له بضعف الإضاءة، وضعف نظر عيني، تبسمل وقرأ لي صفحتين لا أذكرهما، ولكنهما توضحان أن من يكذب ما ورد بهذا الكتاب يرمي بنفسه في تهلكة كبيرة ويخسر خيرًا وفيرًا، ومن يؤمن به ستحدث له أشياء كثيرة جيدة ذكر منها الكثير، على ما أظن أن جملة، أو جملتين، تتحدثان عن قسم غليظ، واسم الله الأعظم.
قال: من يمتلك اسم الله الأعظم يمتلك ربع الكون، وأن سرَّ اسم الله الأعظم في هذا الكتاب الذي بين يديه الآن، ولم أحاول أن أستفسر أكثر؛ لأنه سوف يجرجرني لمجاهل أكثر غموضًا، وقد يبقى معي الأسبوع كله، تبرع بنفسه أن قرأ لي عنوان الكتاب كاملًا: جلجلوتية الأسرار، ويليه كتاب أحرف النار، للإمام الفقيه جلال الدين الأنبار.
قال لي إنه يستطيع أن يحدثني عن مستقبلي، وحظي في الدنيا والآخرة إذا أردتُ، وقال إن مختار علي عرف أن نهايته هي شجرة الموت من بين صفحات هذا الكتاب، وسألني سؤالًا مباغتًا: وين دهب «ذهب» الأم؟
قلتُ له ببراءة: سرقه لصوص وقتلوها.
قال مبتسمًا فيما يعني أن ذلك قمة الجهل، وهو نفسه كاد يقع في ذات الفهم، عندما سمع أن الأم وُجدت مقتولة وبدون كنزها من الذهب الذي لا تقل قيمته عن مائة مليون بر إثيوبي، الحقيقةُ الوحيدةُ في هذه القصة أنَّ الأم وُجِدَت ميتة، ولكن مَن قتلها وأين كنزها؟ هذا ما يعرفه هو وحده في الحمرة، هو والله في الكون كله، هو عن نفسه سوف لا يفشي السرَّ مطلقًا، قد يفعل الله في يوم ما، فلله في خلقه شئون.
ما كنت أحتاج لفض سر موت الأم، أحتاج للنوم أكثر، أحتاج لراحة البال، وأن يذهب عني هذا الرجل الشرير، وألا ينسى بأن يأخذ كتابه معه، ولكنه سألني أيضًا فجأة: عايز «أتريد أن» تعرف نفسك تموت متين؟
في الحقيقة أحسست ببعض الارتباك، فسألته ما إذا كان يعرف هو نفسه متى يموت، فأجابني بالنفي، وذلك لا لشيء إلا لأنه لا يرغب في ذلك، ولا يريد أن يزعج نفسه بمثل هذه الأمور، ولكنه يعرف أن ذلك الشيء يمثل أهمية كبيرة لبعض الناس، وخاصة أهل المدن الذين يخططون لمستقبلهم بصورة طيبة، وقد افتكر أنني واحد ممن يهمه ذلك.
قلت له عكس ما كنت أرغب فيه: ما عايز «لا أريد.»
صَمَتَ طويلًا، أغلق كتاب، أدخله بدقة وقدسية في الحقيبة السمسونايت العجوز، نهض واقفًا، نفض التراب عن جلبابه النظيف، ودَّعني، وقبل أن يختفي تمامًا أي ما زلت أراه عبر ضوء المصباح الشحيح صاح فيَّ بصوت غليظ أجرش، وكأنه قادم من قبر منسي، قائلًا: ستموت في عمر ٧٥ سنة، وشهرين، وثلاثة أيام، في المساء، في بلد غريبة، وبعيدة.
ثم سمعت ضحكته تجلجل في ظلام المخيم، وهو يختفي تدريجيًّا مخلفًا وراءه غابةً من الأسئلة، والأحزان، وظلامًا دامسًا، بعد دقائق معدودات جاءني جنقوجوراي شاب اسمه أبو النجا سعيد، وهو من سكان مدينة خشم القربة، دخل كعادة الناس هنا دون أي استئذان، كأنما يدخل خيمته الخاصة، بادرني قائلًا: الزول دا كلمك عن الشياطين، مُش كِدا؟
قلت له مستغربًا: كيف عرفت!
قال لي: الزول دا مُصَاحِب جِنِّيَّة، والناس كلها عارفاه، ساكن جنب البحر في الحفيرة، مُش قال ليك اسمهُ المسلاتي؟
قلت دون إحساس بما أقول: نعم.
قال لي وهو ينظر إلى أمِّ عيني مندهشًا: أنت ما لك؟ خايف ولا شنو؟ قال ليك شُنو الزول دا أصلو؟ الزول دا أكتر زُول كداب في البلد دي، اوعك تكون صدقتُهُ؟ قال ليك شُنُو؟
قلت محاولًا أن أكون طبيعيًّا: لا شيء، لا شيء.
في الصباح الباكر نويتُ أن أذهب إلى همدائييت مهما كلفني ذلك، فهي لا تبعد كثيرًا عن الحُمرة، مسافة عشرين دقيقة بالمواصلات المحلية، وما يُقارب الساعة بالأقدام، ولكن المشكلة الكبرى، هي كيف يمكنني التسلل من المعسكر والعودة إليه مرة أخرى دون أن يعرف ذلك ضباط الرعاية الاجتماعية؟ وأنا الآن شيخ المعسكر، وزعيمه، والناطق باسم اللاجئين، وغيابي ساعة واحدة سيبدو ظاهرًا للجميع، والمشكلة الأكبر هي المخاطرة بحياتي إذا تم القبض عليَّ في همدائييت، سوف يتم إعدامي في ثوانٍ، تمامًا كما أعدم عشرات الجنقو الذين تأتينا أخبارهم يوميًّا، كانت المعارك بين الجنقو والحكومة ما زالت مُستَعِرة، والناس يتحدثون عن انضمام شباب اللحويين والحُمران إلى مُسَلحي الجنقو، قدَّروا عددهم بالمئات وأنهم الآن يتدربون على السلاح في تخوم تسني بإريتريا، وكي يبدو الموضوع في غاية الخطورة أضيفت إسرائيل إلى الحكاية، ويُقسم البعض على أنهم رأوا الصهاينة رأي العين وهم يقومون بالتدريب، بينما نفي البعض الآخر أنَّ اللحويين أو غيرهم من الأعراب قد انضموا لجيش الجنقوجورا، ولكن الخبر المؤكد أن الحكومة بالخرطوم عن طريق وساطة إقليمية تتفاوض مع المسلحين، ويتحدث الناس عن اتفاقية سلام أخرى تخص الشرق.
أنا لست منشغلًا بالحروب، كنت منشغلًا بخزعبلات رجل اسمه إسحاق المُسلاتي، عبارة عجيبة تفوه بها، أبت أن تغادر صحوي، ولا منامي، قال لي: أنت واقع في سِحْر جِنِّيَّة.
تتملكني رغبة عارمة في أن أرى طفلي ولو للحظات قلائل، رغبة لا يضاحيها سوى إلحاح مسألة ألم قشي بأكثر مما كانت عليه من قبل أن ألتقي بهذا المُسلاتي المخبول، أنا لا أريد أن آخذ منها الطفل على الأقل في الوقت الراهن إلى أن يكبر قليلًا ويتم فطامه، ولكنني أريد أن أراه لا أكثر، صارحتُ تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية بموضوع طِفلي، فحذرني وحكى لي حقيقة ما يدور الآن في المنطقة الحدودية ما بين قبائل العرب والجنقو الذين بدءوا يطالبون بحق الشرق في السُّلطة والثروة ومن الجهة الأخرى الحكومة، وأنني إذا نجوت من طرف قد لا أنجو من الآخر، واقترح عليَّ أنه من الأفضل أن تحضر لي ألم قشي الطفل لكي أراه في الحُمرة في منطقة الجمارك أي عند البار، وهي النقطة المتاخمة للنَّهر الذي يفصل ما بين الدولتين، وهذه البُقعة لا تبعد عن المنزل الذي تقيم فيه ألم قشي مع بناتها وأبيهم أكثر عشر دقائق مشيًا بالأرجل، وقال لي أيضًا إنَّ ذلك سيكون آمنًا، وبرعاية الجمعية الدُّولية للصليب الأحمر، وإنه سَوف يبلغهم عندما يحين الوقت، وهم الذين سيقومون بإحضار ألم قشي وطفلها إلى هنالك؛ لذا لا داعي للمخاطرة بحياتي، ما عليَّ إلَّا أن أحكِّم عقلي وأصبر، فقبلتُ بما اقترحهُ، بالفعل صبرت حتى جاءني ضابط الرعاية ذات صباح، وطلب مني أن أصبح مستعدًا؛ لأنني في الغد سَوف أرى ابني الذي أكمل شهريه الأولين، وهو بصحة جيدة، ويمكنني رؤية أمُّه أيضًا. كانوا يعلمون أنَّ ألم قشي قد انفصلت عني بإرادتها، ويعرف تسفاي الحكاية كُلها، لقد قَصَّهَا عليه كل الذين هربوا معي من الحِلَّة، كلٌّ بطريقته وأسلوبه الخاص. كنتُ وحيدًا كعادتي في تِلك الأيام أحس بحزن عميقٍ، بل بضياع تام، وربما أصبحت سريع الغضب لحدٍّ ما، وقد تشاجرتُ مع امرأة من الجنقو سرقت تُمباكًا من أحدهم، جاءوا بها إليَّ للفصل في الأمر، وكانت لئيمة وغاضبة، وحمَّلتني كل ما حلَّ بها من تشرد وضياع، كل ما قالته يُغْضِبُ، ورغم أن سرعة الغضب ليست من طبعي، كما أنَّ موقعي كشيخ للمعسكر يتطلب مني الحكمة والروية وليس الغضب والتسرع، إلَّا أنني بادلتها ذات الألفاظ البذيئة التي عبَّرت بها عن غضبها، وكرهها لي، تألمت كثيرًا بعد ذلك، أتت فجأة الصافية التي ارتبط مصيرها نهائيًّا بجيش الجنقوجورا، وأصبحت لها أهداف أكبر من العمل، والأكل والشُّرب، أسرَّت لي بأنها تريد أن تقرأ في الجامعة، وتتخرج محامية، وهذا ليس ببعيد عند الله، فوَد أَمُّونة قد وجد أخيرًا من يرعاه، ويهتم به في العاصمة، وقد يصدق ما قاله لهم صديقي عن النصر القريب، وأنهم سوف يحصلون على وضع متميز في الخرطوم بعد الاتفاقية، ثمَّ حدثتني عن مختار علي الذي أصبح مريضًا جدًّا وصحته تتدهور يوميًّا، وأنه ذهب إلى شَجَرةِ الموت بكامل اختياره، وقدر ما حاولت هي وأصحابه، وحتى الشايقي الذي يأتي أحيانًا إلى فريق قرش، لم يستطيعوا إقناعه بالعدول عن رأيه، وقد تركته الآن هنالك، وجاءت إلى هنا مستعينة بي لإنقاذه، قد حَمَّلها وصيةً لي؛ وهي أن أعود مباشرة إلى القضارف حيث أسرتي، وألَّا أبقى ثانية واحدة هنا في الشرق؛ لأن مصيري سيصبح كمصيره، ومصير كل الجنقو؛ شجرة الموت، وهو لا يرجو لي هذا المصير التعيس.
العلاقة التي تربطني بمختار علي، أقل ما يمكن أن توصف به أنها علاقة أب بابنه، لقد رعاني أنا وصديقي في أيامنا الأولى بالحِلَّة، وكان نِعم المرشد والدليل، وهو الذي فكَّ لنا طلاسم الحِلَّة بحكاياته الجميلة، وأظن وأؤمن الآن بأن أقل خدمة يمكن أن أقدمها لمختار علي في محنته هذه أن أذهب إليه في فريق قرش عند شجرة موته، وأثنيه عن الاستسلام للموت.
لم أفكر طويلًا، رحبت الصافية ترحيبًا كبيرًا بالفكرة، علَّقت على أنها «عين العقل»، وذهبتْ معي لإدارة المعسكر، استخرجتُ تصريحًا لزيارة المدينة، وهو تصريح تستمر فعاليته ليوم واحد فقط، وينتهي عند السادسة مساءً، وهذا زمن كافٍ، إذا قَبِل مختار علي سآتي به إلى المعسكر ويتم تسجيله كلاجئ، وسوف يحصل على المأكل، والمشرب، والمسكن مجانًا، ولو أنه في حدِّ الكفاف، ولكن ذلك خير من لا شيء، بل أستطيع أن أستضيفه في خيمتي وأرعاه.
فجأة اقتربت مني كثيرًا، قالت لي إنَّ صديقي هو القائد الفعلي لجيش الجنقو والعرب، وليس الشايقي، وهو الذي بعثها إليَّ، وأنه يطلب مني أن آتي وأقابله في فريق قرش لأمر تظن أنه ضروري، وهو أن أنضم إليهم، تمالكت نفسي وأنا أطلب منها عندما تقابله تبلغه بأنني ابن آدم مدني، وسأظل كذلك، أخاف من البُندقية، ويرعبني اسم الحرب، ولا أستطيع قتل الإنسان مهما اختلفت معه أو أساء إليَّ، ووضحتُ لها وجهة نظري في حل القضايا عن طريق قتل الجنود المغلوبين على أمرهم، أعرف أنها لم تفهمني بصورة جيدة، أو أنها فهمت أنني جبان، أو شيئًا قريبًا من ذلك؛ لأنها قالت لي مُعلقة على خطبتي المفعلة العصماء: الموت بيد الله.
ولكن من محاسن فهمها أنها عَرفت أنني سوف أقوم بزيارة مُختار علي فحسب، ولا أرغب في رؤية أحدٍ غيره في فريق قرش.
– ولا صديقك؟
– نعم، ولا صديقي.
كانت الصافية تتكلم بصورة مستمرة، هي ليست عادتها، ولكن يبدو أنها في ظَرف العطالة، وعدم العمل امتهنت الكلام، كان عليها دائمًا أن تقوم بعمل شيء ما، ما كانت تحب الحرب، هي الآن مُجبرة على التعايش معها، كانت تسرد له تفاصيل ما يجري بين الجنقو والحكومة، على الرغم من أننا كنَّا وحيدين في الطريق إلا أنها كانت تهمس لي أحيانًا بما تظن أنه أسرار لا يجب أن يسمعها الآخرون، المسافة ما بين المعسكر وفريق قرش ليست بالبعيدة، وخاصة أننا سوف نستقل حافلة النقل الجماعي من السوق، كان سوق الحمرة كما هو منذ أن رأيته أول مرة قبل سنوات كثيرة، أشبه بسكن عشوائي منه لسوق، تنتشر فيه المطاعم الفقيرة جدًّا، والحانات الصغيرة التي تقدم الخمور الرخيصة والبيرة «البدلي» ومشروب الأوزو المُسكر المحبب لدى الجنقو الفقراء، كما أن الزائر العاشق بإمكانه أن يقضي وطرًا عجلًا بمبلغ أربعة جنيهات إثيوبية «أراد بِر»، الفتيات الجميلات في ملابسهن الخليعة الملتصقة على أجسادهن، ورءوسهن المشيطة بالشعر الذهبي المستعار، يجلسن عند أبواب كهوفهن يدعون المارة للولوج، لم يتغير في الحمرة سوى تكاثر عدد أفراد الجيش الإثيوبي، الذين جُلبوا لضبط الأنشطة العسكرية على الحدود مع السودان، وحماية اللاجئين، كانت الصافية تمضي أمامي بسرعة أكثر كلما مررنا بمثلهن.
إلا أنها توقفت فجأة أمام حانة صغيرة، دعتني لاحتساء بعض البيرة البدلي، وإذا أحب كأس كأسين من الأوزو قبل أن نواصل سيرنا، ونبهتني إلى أنها سوف تشتري معها شيئًا قليلًا لمختار علي، وتعني البيرة الداشن، ولأنني لا أمتلك نقودًا وقلت لها ذلك بصراحة؛ قالت إنها سوف تقوم بالصرف عليَّ، وأن لديها ما يكفي من المال، وأضافت أن صديقي أرسل إليَّ معها بعض النقود، ولكنها لن تسلمني إياها إلا عندما أعود إلى المخيم حتى لا أضيعها في الكلام الفارغ، والصعلكة مع النساوين.
– عايز أشتري حاجة لمختار علي.
قالت وهي تحتسي جرعة كبيرة من البيرة: مختار علي لا يحتاج لشيء، عايز يشوفك وبس.
النادلات الجميلات يستعرضن أجسادهن الشهية أمامي ببذاءة واضحة، ودعوة صريحة للمجاسدة، وقد تجرأتْ إحداهن بالجلوس على رجليَّ فصرفتها بأدب، وقلت لها بالأمهرا إنني لا أفيد فيما ترجوه النساء من الرجال، واستخدمتُ هذه الجملة الطويلة؛ لأن القصيرة قد تبدو غير محترمة، بل وعدوانية، وهي لم تقم بما تُجرم عليه؛ إنهن يؤدين عملهن اليومي لا أكثر، نظرتْ إليَّ باستغراب بما يعني أنها فهمت واختفت، من ثم توقف الاستعراض الجسماني البديع، لقد كنت أستمتع بمنظرهن ويعجبني أن أرى أجسادهن الجميلة تتشهاني، ولو بمقابل طالما لم أتبع أيًّا منهن إلى الغرفة الداخلية في الممر الضيق الذي يفصل بين غُرف الشرب والسكن، كانت الصافية ترقبني بزاوية عينها وحمدتُ الله على شيئين؛ بأنني لا أمتلك مالًا بالتالي لا أمتلك قرارًا، فالصافية هي التي تشاء في أمري ما تريد، وقد لا تكون من ضمن مشيئتها النساء، والشيء الآخر أنني منذ زمنٍ ليس بالقليل أصبت بما يُشبه البيات الشتوي لدى بعض الحشرات، أي لم أعد أرغب في النساء، وعندما تأتينني «بُنيات إبليس» في الحلم يكن في صورة ألم قشي، وهؤلاء النسوة ليس من بينهن ألم قشي حبيبتي، ولم أمارس الجنس فعلًا مع غيرها، هي المرأة الوحيدة في حياتي، وستظل كذلك للأبد.
قالت لي وقد احتسينا ثمالة كأسينا: نمشوا «نذهب.»
صفقت، فحضرت النادلة سريعًا وقفت قربي، سألتْها الصافية بالأمهرا: سَنْتِي نُو؟
فكرت النادلة قليلًا وهي تحملق في المنضدة، ثم ردت بصوت رقيق: حَمَس بِر.
فأعطتها الصافية الجنيهات الحبشية الخمس، رمقتني النادلة الجميلة بنظرة أخرى، وهي تأخذ الزجاجات الفارغات والكأسين وتمضي: ها هي امرأة تدفع له الحساب، ألا يؤكد ذلك ما قاله لي سابقًا بأنه مخصي، مسكين!
ومضينا نطلب شجرة الموت، لم أتعرف على مختار علي من الوهلة الأولى، فقد بدا لي أكبر من عمره بعشرات السنوات، وصار نحيفًا، وقد برزت عظام وجهه، وربما أصبح أكثر قصرًا مما تركته قبل شهور كثيرة، لاحظت ذلك عندما نهض مختار علي من مرقده ليحتضنني بمحبة صادقة، كان نظيفًا ويفوح من جوانبه عبق البخور، قال لي: كنت أعرف أنك ح تزورني قبل ما أموت.
أكَّدْتُ له أنني جئت لآخذه معي، وسآخذه معي، ولن أتركه ورائي في ظل هذه الشجرة إطلاقًا، كانت شجرة الموت العملاقة تسمع كل ذلك، وهي تدلي أفرعها الكبيرة التي تمتد أكثر من عشرة أمتار في الفراغ، مثل أذرع مخلوق أسطوري عملاق، ظليلة وكثيفة الخضرة طوال العام، لا يُعرف من هو الشخص الذي زرعها، وهذا ليس غريبًا؛ لأن أشجار النيم عادة تُزرع بواسطة الطيور التي تبتلع الثمار الناضجة، وتطير بها مئات الأميال في هجراتها الطويلة وتزرقها حيثما حطت رحالها، يُقدر عمرها بأكثر من مائة عام؛ حيث إن كل الأحياء بمدينة الحمرة رأوها بهذه الشاكلة وهم أطفال، لعبوا تحتها وهم صبيان، عايشوها وهم شيوخ، تغرد عليها أطيار الكروان والببغاوات الكبيرة الحجم في أواسط الفصل المطير، وتسكنها أطيار الرهو البيضاء في هجرتها الصيفية، يرقد تحتها الآن سبعة أشخاص، خمسة من الجنقو والاثنان من الإثيوبيين، يحكي عنها الناس حكايات مرعبة، ويُقال إنها تخبر الشخص الذي يلجأ إليها بيوم موته، تهمس له به في أذنه عند الصباح الباكر، صوتها أشبه بصوت امرأة عجوز، ويقال إنها تحتفظ بروح الميت معلقة في أحد فروعها إلى يوم القيامة، كما من الشائع هنا الحديث عن بكائها ودموعها، كلما مات أحدهم في ظلها، أو على حسب التعبير المحلي هنا: «عندما يسلمها الأمانة»، ولكن أغرب قصة حكيت عنها هي؛ أن أحد الجنقو جاء لينهي مشوار حياته بها، بعد أن انغلقت قدامه وخلفه سُبل الحياة، وبلغ به الفقر والمرض والجوع مبلغًا عظيمًا، ولكنه في يوم ما من أيام إقامته تذكر أن لديه بعض جوالات السمسم مع أحد التجار بسوق همدائييت، وأنه إذا اتصل به، أو ذهب إليه، وأخذها قد تعيشه لما يقارب العام وتوفر له مصروف العلاج؛ لذا قرر أن يغادر شجرة الموت إلى همدائييت، حمل القوقو خاصته، ودع أصحابه، وعندما مشى نحو الخارج، وقبل أن يغادر ظل الشجرة هبط عليه أحد فروعها، اقترب من أذنه، وهمس له بصوت امرأة عجوز: ماشي وين؟ شايل الأمانة معك؟
ولكنه دفع الفرع بعيدًا عنه، وأراد أن يهرب، غير أن الفرع أمسك به، وسحبه للظل، وأصيب الجنقوجوراي المسكين بالشلل أثر الرعب والخوف، ولم يستطع أن يغادر الشجرة مرة أخرى إلى أن سلمها الأمانة، هي روحه الغالية، في صبيحة اليوم التالي.
قال لي مختار علي أنه لا يستطيع مغادرة هذا المكان إلا لقبره، وأضاف: الشجرة كلمتني، كلمتني، بكرة الصباح إن شاء الله ح أسلم الأمانة.
كان يتحدث بثبات بالغ، وبإيمان عميق، لولا أن الصافية حذرتني من البكاء عند الشجرة لبكيت؛ لأن من يبكي تحتها يموت تحتها أيضًا، وأنا لا أريد أن أموت هنا، على الأقل الآن.
أعطيته سيجارة برنجي، ابتسم لي، ساعدته في العودة لفراشه الخشن، كان قربه القوقو، تلك الحقيبة الوفية التي لازمته لأكثر من عشرين عامًا: أعرف أنها ستقتلني في يومٍ ما، ستودعني إلى باب القبر، وتبقى هنالك تضحك علي.
نبهتني الصافية بأن الساعة شارفت على الخامسة، وعليها أن تعيدني لمعسكر اللاجئين، وتعود مرة أخرى، ووعدتها بأن أحضر غدًا لتشييع جثمان مختار علي، سلمتني المال الذي أرسله صديقي لي، وكنت قد تسلمت منها الطعام المُعلَّب، والملابس بالمعسكر، عندما جاءتني في صبيحة هذا اليوم، وقبل أن تصطحبني إلى شجرة الموت، كنت بالفعل في حاجة بالغة لذلك المال، على الرغم من أن تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية كان قد فاجأني بهدية، ومعها بعض المال من أجل طفلي وزوجتي سابقًا ألم قشي من حرِّ ماله؛ لعلمه بأنني أعدم القرش الواحد، وسأكون محرجًا أمام طفلي وأنا أراه لأول مرة، أتركه دون أن أقدِّم إليه شيئًا، كان يعرف أن ذلك محزنٌ جدًّا، صباح اليوم التالي استيقظتُ مبكرًا، غسلتُ نفسي جيِّدًا، لبستُ الملابس الجديدة التي أرسلها لي صديقي، وأخذتُ المال، والطعام المُعلَّب، وهدية تسفاي، آملًا أن أقدمها لأم طفلي، ومضينا في لاندروفر ١١٠ نحو الحدود السودانية، في الطريق كانت تطوف برأسي أفكار شتَّى، لم أكن أفكر في ألم قشي وولدي وحدهما، وهو الأوجب وما يَظُنُّ الأمميون أنهُ ينبغي أن يحدث، ولكني كنت أفكر في أمور مختلفة وأناس شتَّى وعلى رأسهم وَد أَمُّونة، وكنت قد عرفت من بعض الجنقو الذين انضموا أخيرًا لمعسكر اللاجئيين بالحُمرة أن العازة أُطْلِقَتْ من السجن، بعد قضاء زهاء الخمسة أعوام به، وذلك عندما عرف وَد أَمُّونة السبيل إلى مَسئول كبير في الخرطوم، قدَّم له وَد أَمُّونة خدمةً خاصة جدًّا، ولكن أكثر الأخبار إدهاشًا عن وَد أَمُّونة، وصلتني فيما بعد، أي بعد عشر سنوات من هذه الأحداث، وأنا في المهْجَر بالولايات المتحدة الأمريكية، هي أنه أصبح وزيرًا اتحاديًّا باسم كمال الدين اليماني، كيف حدث ذلك؟ تلك قصة سوف يحكيها لكم أي فرد من الحِلَّة، فيما يُشبه الندوات يوم مريسة أي سيدة جميلة كانت، أو تجدونها في كتاب صديقي الذي أشرت إليه سابقًا الموسوم «بثورة الجنقوجورايات»، أو في مُذكرات وَد أَمُّونة الخاصة التي صدرت ببيروت بعنوان «حياتي»، تطرق سيادته فيها لأشياء كثيرة تخص حياته، لقد كان صريحًا جدًّا في بعضها، ولكنه أيضًا كان شديد الغموض في البعض الآخر، أي في البعض الخاص جدًّا، الذي لا يهمنا بقدر ما يهمه هو شخصيًّا، واستعرض في هذه المذكرات القيِّمة كفاحه من أجل البقاء، بل من أجل أن يصبح إنسانًا يشار إليه بالبنان، وذكر فيه في عدة مواقع اسم العازة، وألم قشي، وأشار للأم باسمها الحقيقي وهو «استيفانيس»، وهذا اسم لا يعني شيئًا لمحبي الأم؛ لأنهم ببساطة لا يعرفونه، ولقد عِبْتُ عليه ذلك؛ لأن الأم قدمت له الكثير، وكان دائمًا ما تفخر به، وهو في ذلك الوقت لا يسوى شيئًا ذا بال، ولم يرق لي أيضًا ادعاؤه بأنه كان أحد قادة ثورة الخُراء العظيمة ضد موظفي البنك، بل صنع لنفسه دورًا مميزًا بها، وأستطيع أن أقول إنه سطا على إنجازات صديقي كُلها في هذه الثورة، في الوقت الذي وصفنا فيه أنا وصديقي بالمتعنظَين، ولا أدري ماذا كان يقصد بها بالضبط، ومرة أخرى وصفنا بالحالمين، وذلك عندما تحدث عن ثورة الجنقوجوراي، وحملهم للسلاح، ولكنه لم ينس أن يذكرني بأنني كنت أحد الذين ساعدوه في أن يفهم نفسه، وقال إنه لا يخجل من تاريخه الحزين؛ لأنه لم يصنعه بيده، صنعته الظروف التي حوله، وهو قام بأحسن ما يمكن عمله لشخص في حالته وفي ظروفه التي وصفها بالخاصة جدًّا، أما التاريخ الذي يجب أن يُحاسب عليه هو التاريخ الذي بناه بنفسه، وهو تاريخ النجاح، خروجه من دوائر «الفقر والوحل»، نعم، لقد استخدم هاتين الكلمتين.
أما أجمل وأصدق ما بهذه المذكرات هو الجزء الخاص بالسجن، ولقد استفدتُ منه كثيرًا جدًّا في الجزء الأول من هذه الرواية الموسوم «بالسجين، السجن والسجَّان»، ولو أنني لم أعتمده كاملًا، ولكنه كان لي بمثابة العظمة التي بنيتُ حولها اللحم، وللأمانة العلمية، وحفاظًا على الحق الأدبي أنني بنيت شخصيتي السجان الطباخ، والعازة، وفقًا للصورة التي رسمها لهما سيادته في مذكراته، ومعظم النقد الذي قُدِّم لهذه المذكرات من الأخلاقيين، ودعاة السُّترة كان فيما يتعلق بشأن السجن، وقد كتب أحدهم بأنه كان على السيد الوزير أن يسرد تاريخ مدينة القضارف العريق، ويتحدث عن البطل النور عنقرة، ذلك الوجه المشرق للمدينة، بدلًا من الخوض في قاذورات السجن، وأوحاله، وأدان تلك الإشارات الجنسية التي تبدو واضحة في مذكراته، عندما تحدث سيادته عن طفل صديق له بالسجن، كان يعتدي عليه الطباخ جسديًّا، أو شيء قريب من ذلك.
أما الشيء الذي فشلتِ المذكرات في أن تبرزه بصورة جيدة، وبدا مشوهًا وناقصًا ومرتبكًا، فهي شخصية الطفل صديق ما أصبح فيما بعد سيادة الوزير بالسجن، وهما طفلان، الطفل الذي صُوِّر ضحية لكل شخص وكل زمان ومكان، الذي نعتقد بل نؤمن إيمانًا قاطعًا أنه ما يُعرف في روايتنا بوَد أَمُّونة، على كلٍّ؛ هذه المذكرات متوافرة في خارج السودان بكثرة، وقد تحصلون عليها بمجهود قليل.
طاف بذهني أيضًا: الفكي علي، أبرهيت، أَدِّي، بوشي الجميلة، عالَم لا أول له ولا آخر، إلى أن توقفتِ العربة اللاندروفر عند البار الذي يقع على الضفة الشرقية من نهر سيتيت، مواجهًا الضفة الغربية التي تقع في السودان، كنت أعرف هذا البار، فقد قدِمتُ إليه مرات كثيرة، ولي فيه ذكريات حلوة ومُرة أيضًا، حيَّتْني البارستات اللائي قد تعرفن عليَّ، حيَّتْني «القنيش» صاحبة البار، فيا طالما سَكرنا معًا وتشاجرنا، كم سبحنا معًا في النهر، سُكارى وعراة كما ولدتنا أمهاتنا، كانت ابتسامتها التي استقبلتني بها تحكي كل ذلك، وكنت أبحث عن ابني، وألم قِشي، في كلِّ مَن ألتقيه، إلى أن قادني تسفاي وموظف اللَّجنة الدولية للصليب الأحمر إلى غرفة خلفية صغيرة، وجدتها مليئةً تمامًا بألم قِشي، وطفلي الذي سميتُه مباشرة محمد وهو اسم أبي، كانت ألم قشي في أبهى حالاتها، أرق، أحلى، أشهى، أنضر، وأروع ما تكون المرأة، يفوح منها عَبقُ عطر جَسْتِس الذي كنا نفضله دائمًا، ومقلتاها النجلاوان مكحولتان بدقة تعرف بها، طَلبتُ منها طلبًا لا أرجو له إجابة، ولكن لمجرد أن أُشعرها بأنني ما أزال أحبها؛ لأنني حقيقة أحبها حبًّا لم يُنقصه صدها، هجرُها، وجنونُها، مثقال ذرة؛ أن تأتي لتعيش معي في المُعَسكر بالحُمرة، نربي طفلنا معًا إلى أن نجد لنا مخرجًا، قالت لي بالتجرنة وهي تبتسم، وتعبث برأس الطفل، في خجلٍ: أنِي نَقَمؤ مَفِي.
إلى الآن لا أصدق ما سَمعتُ، أبدًا لم أكن أتوقع أنها جاءت لتبقى معي، كم هو مُدْهش حقًّا عالم النساء، بل كم هو مُحير ومجنون! ولا أستطيع أن أعبِّر عن إحساسي بتلك اللحظة حتى بعد خمسة عشر عامًا، حينما بدأت في كتابة روايتي الأولى الموسومة بعنوان: الجنقو مسامير الأرض، وكنتُ وألم قشي وأبناؤنا الثلاثة بالمهجر، في ولاية فلوردا الأمريكية.
في طريق عودتنا للمعسكر بعربة اللاندروفر، كنتُ أحملُ طِفلي الجميل محمدًا، وبجانبي تجلس ألم قشي، تنظر إليَّ بين الفينة والأخرى وتبتسم، كنت أسعد رجل في العالم، وبينما أنا أتفحص طفلي، وأبحث في ملامِحِهِ عن تفاصيل أسرتنا، إذا بي أرى أسفل ظهره شَامةً صغيرةً زرقاءَ، تَبُدو في ضَوءِ الصَّبَاحِ السَّاطعِ كما ذلك الرسم الذي خَطَّهُ لي على الأرضِ المُسْلاتِي المُريب: خَاتَم النَّبِي سُليمان.