عَزُومَة الصَّافِيَة
قابلناها في سوق القَنْذي، وهو سوق للملابس المستعملة الرخيصة، يُقَامُ على هامش السوق الكبير، قرب زريبة المواشي في مكان خجول منزوٍ؛ حتى تُضمن خصوصية الرواد، البائع والبضاعة، يرتاده الجنقو بين حين وآخر، إما لبيع ملابسهم، وأحذيتهم، وما تبقى من زينتهم، واستبدالها، أو شراء أخرى، وذلك في شهور الفلس قبل موسم الحصاد، أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد، ولا يمنع أن يمروا عليه كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة، قد لا تتوفر في مكان آخر غيره، وخاصة أن بعض الباعة يجلبون ما يُسمى ﺑ «كُوشا مكة» أي مزبلة مكة، أو «الميت قدَّرك»، وهي عبارة عن نفاية من الملابس المستعملة، أو تلك التي يتبرع بها محسنون، وذوو موتى من دول الخليج أو المملكة العربية السعودية، يرسلونها بكميات كبيرة عبر المنظمات التطوعية؛ لتوزع للمساكين في شتى بقاع السودان، ولكنها تجد طريقها سريعًا لسوق الفقراء بالقرى والمدن الطرفية، ولأنها غالبًا ما تكون مستعملة استعمالًا خفيفًا، وبها ظلال موضات مندثرة، فهي مرغوبةٌ وغالية الثمن.
شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع، تتفاوض في شراء جلباب، قال لي فيما يشبه الهمس: الصافية، الصافية الرهيبة، أنا عايز أتكلم معاها يا صديق.
وكان يُطْلِق عليَّ هذه الصفة عندما يشرع في الحديث عن موضوع يظنه بالغ الأهمية.
– المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان، تجد فيها أسرارًا لا حدَّ لها، إن الله دائمًا ما يستودع حكمته في نوع زي ديل.
أضاف: أنا عايز أَصِل لأَصْلِ الحكمة فيها.
قلت له ساخرًا بذات اللغة التي تحدث بها: عايزها مشروع حياة؟
– بالضبط، حتكون إضافة حقيقية لتجاربي الإنسانية، تصور لو عرفت كل تجربة مرت بحياتها، لو عرفت أحلامها، وأحزانها، وآمالها، لو عرفت كيف بتفكر الزولة دي، كل زول لاقيته في الحِلَّة دي يحكي لي عنها حاجات أقرب للأساطير، كلمني عنها مُخْتَار عَلِي، أنا عايز أصل للحقايق بنفسي، وليس مَنْ سمع كمَنْ شاف.
سألته: منو مختار علي دا؟
– واحد عجوز مريض إتعرفت عليه إمبارح بالليل، رجل طيب، بت معاهو في البيت.
وبأسلوبه المباشر المعروف طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب، مانعت قليلًا، ولكنها قبلت أخيرًا، وشكرتنا الاثنين، وتبعناها إلى سوق الكَجَيك «السمك الجاف»، دفع لها ثمن رطلين منه.
الكَجيك وكوم الكَوَل، الفرندو وربع اللوبة البيضاء، كُرَاعات الشَّرمُوط، لفتين المُصران، وربع رطل الكمبُو «أطعمة بلدية سودانية»، قالت ممتنة: كدا تكونو وفرتوا لي قروش المريسة لأسبوع كامل، ووفرتوا أكل لخمسة عمال مساكين؛ لأنه دا الميز «الميس» بتاعهم، بعد يومين حنرجع الخلاء.
قال لي، وكأنه يهمس همسًا: ليه ما نمشي معاهم الخلاء؟ أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم، في بيئتهم الطبيعية، حتى ولو أشتغل معاهم، أنا عايز أدرس حياتهم دراسة من شاف، وعايش، وعاش.
ضحكت من كل أعماقي، أنا أعرف أنه لا يستطيع فعل ذلك وأعرف أنه لا يعدو كونه برجوازيًّا صغيرًا متخمًا بالمتناقضات، والادعاء، والأحلام الكبيرة، يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة والانفعال، المتعة والإثارة؛ متعة المشاهدة، أما أن يعمل في قطع السمسم فهذا مستحيل، العلاقة بيني وبينه قائمة على الصراحة والوضوح، بالإضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة، طُردنا للصالح العام معًا، إلَّا أننا عشنا طفولة واحدة في قِشْلاقِ السجون بمدينة القضارف، ولو أنه كان يسكن في قِشْلاق الضباط؛ حيث كان والده ضابطًا كبيرًا ومديرًا للسجن ووالدي شُرَطِيًّا بالسجن، امتدت علاقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت، ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلاثين عامًا، كلانا كان كتابًا مفتوحًا مفضوحًا أمام الآخر، حيث إننا كُوِنَّا نَفْسِيًّا ومعرفيًّا بصورة تكاد تكون متطابقة، قرأنا في مدرسة ديم النور عنقرة الابتدائية، لعبنا خلف البَيطري وعلى تُخوم مقابر المدينة معًا، تشاجرنا مع أطفال دَلَسَا وسَلامَة البيه جنبًا لجنب، سَبحنا في خُور مجاديف وبِرَك مَكِي الشَّابِك، ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك، قرأنا ذات الكتب، واندهشنا معًا باكتشاف جُبران خليل جُبران، ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، ومهرجان المدرسة القديمة، وحرابة المؤذن العجوز، وحكاية البنت مياكايا لإبراهيم إسحاق، ونحن نكبر تدريجيًّا عرفنا معًا نيتشه، والنساء، ودقات ريشة فان جوخ، ثم حفظنا أشعار أمل دنقل، ناظم حكمت، محمد محيي الدين، المُومِس العمياء، ماريا وامبوي، عشقنا البنات أيضًا معًا، في باكورة مراهقتنا أحببت أخته، وأحب أختي، كأول مغامرات غرامية لكلينا، ولو أنني ما كنت أدري ماذا يفعل وأختي بالضبط، حيث إنهما كانا يحرصان على إخفاء نشاطاتهما عني، إلَّا أنني؛ ولأن أخته تكبرني بعامين أو ثلاثة، كنا نعمل على اكتشاف جسدينا بصورة محمومة وممتعة، أختي تصغره بعامين مما جعلني أفترض أن شأنهما قد يختلف؛ لأن البنات الأكبر سنًا هن دائمًا يبتدرن ما يخص الجسد، وأنهن يعرفن كل شيء، ونسبةً لصِغر سن أختي ما كنت أظن أنها بمهارة أخته، دائمًا ما أتخيلها بريئة مسكينة عويرة، على كلٍّ ليس فيها ما يُعجب ولدًا ما، فهي في أحسن الأحوال مملة، ومضجرة، وكنت لا أطيقها لحظة، لا تفلح في شيء غير فضح كل ما أقوم به عند أبي، ثم قرأت وإياه ذات الجامعة، ذات الكلية، ذات التخصص، وأول امرأة أجرينا معها فعلًا جنسيًّا كانت هي نفس المرأة؛ محاضرة شبقة بالقسم، أقول كنت أعرفه تمامًا. قلت له: أنا مُش حامشي معاك للخلاء حانتظر هنا.
قال ضاحكًا: مع ألم قِشي، مُش كِدا؟
قلت له: بالتأكيد.
قالت الصافية فجأة: إنتم الليلة معزومين معاي في بيت أَدِّي.
قال فزعًا: تاني بيت أَدِّي؟ من قبل كم يوم قلعوا ساعتي الجوفيال الأصلية، وشالوا كل القروش اللي في جيبي، ولو ما ستر الله كانوا كتلوني عديل كدا.
قالت الصافية بثقة: إنت حتكون ضيف عند الصافية.
قالت الجُملة الأخيرة، وهي تندفع أمامنا مثيرة عاصفة من الصُّنَان مختلطًا بعرق المريسة، أضافت: أنا لازم أكرمكم، بِتِشْرَبُوا؟
قلنا معًا في آن واحد: بِنِشْرَب.
ثم أضاف صديقي: المستورد علينا.
قالت: أنا عليَّ أبو حمار «العرق».
ضحكنا ونحن نتوغل في أزقة الحي الضيقة، تحيط بنا القَطَاطِي، وأصرفة الشُّوك، والقصب، ورائحة المُشُك، من كل جانب، يَمُر بِنَا السُّكارى، والعُشَّاق، والأطفال يحيون الصافية بكلمة واحدة: الصافية.
فترد بكلمتين حنينتين تسعان الجميع: أهلًا أبوي.
– أهلًا أمي.
فاجأتني الصافية قائلة: قالوا إنت سِبت صَاحِبك للمجرمين، ومشيت لألم قِشي، كيف لو كتلوهُ؟
قلت مندهشًا: منو القال ليك؟
قالت ببرود: كل الناس بيعرفوا الموضوع دا، ما في شي هنا يندس.
قلت لها مبررًا: أنا عارف ما في زول بيقدر يكتلهُ «يقتله».
أضاف ضاحكًا: على الأقل قبل عشرين سنة، عندي مشروع ما بيخلص قبل عشرين سنة، بعد داك أصبح مستعد للموت.
سألتْ الصافيةُ في براءة: مشروع في الفَشَقَة؟
حاول أن يشرح لها معنى مشروعه العشريني، ولكنه فشل، فشرحتُ لها أنا، فَهِمتْ، قالت: ولكن الموت بيد الله.
قال: نعم، ولكن الحياة بيد الإنسان.
قالت بيَقين عميق: الحياة والموت الاثنين بيد الله، الزول ما بيدُهُ حاجة.
قال مغتاظًا: إذن الإنسان قاعد ساكت «ليس بإمكانه فعل شيء؟»
قالت في هدوء: والله ما عارفة، أنا بس بعرف إنو «إن» الموت والحياة بيد الله.
أعرف أنه اغتاظ قليلًا لفشله في كسب الحوار، وأعرف أنه لن يتنازل بسهولة، ولكنه الآن يوفر نفسه لمعركة أخرى في ميدان آخر، ظهرت طلائعها عندما همس في أذني: عارف يا ولد، الصافية دي فيها أنوثة مجنونة عديل، أنوثة وحشية، أنوثة كلبة معوبلة، أنا شاميها شَم.
قلت له: وإنت كلب عاير.
قال بسرعة: تمامًا، تمامًا، كلب عرمان.
في حوش طرفي من بيت الأم، حيث جلسنا أنا ووَد أَمُّونة وألم قِشي، وقد هيأ وَد أَمُّونة بخفَّة محترف كل شيء، وجلس قريبًا من الباب، كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي، ورغبته أيضًا في أن يتركني وألم قِشي وحدنا، وتحسست بميتافيزيقية رعناء رغبة ألم قِشي في أن تطارحني الفراش، ورغبتها في أن يبقى وَد أَمُّونة كما هو في موقعه، المهم حسمت الأمر بأن قلت لوَد أَمُّونة جملة اعتراضية: قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟ أنا والدي يرحمه الله كان سجان بسجن القضارف.
أحسست حينها أن ألم قِشي ووَد أَمُّونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة، قال وهو يأخذ نفسًا عميقًا من الشيشة: آه، السجن، صاح، اتربيت في السجن.