سُوق القَنْزِي
افتقدتُ وَد أَمُّونة فور دخولي إلى حوش بيت الأم، كان غيابه واضحًا.
قالت لي ألم قِشي: وَد أَمُّونة قاعد يَعلِّم العروس.
– يَعلِّم العروس؟ يعلمها شنو؟
– يعلمها الرقيص، إنت ما عارف إنه وَد أَمُّونة فنان؟ ورقَّاص، وحَنَّان، وحلاق برضو؟
هززت رأسي إيجابًا، ولكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي نفيًا تامًّا.
أضافت في شهية: العروس بت أبرهيت، حيعرسها محمد عوض كاجوك، سَوَّاق البربارا، يمكن سمعت بحمدو.
هززت رأسي إيجابًا بما يعني: إلى حد ما.
قالت لي ألم قِشي: وَد أَمُّونة لو ما الله ستر كان حيجي بت.
ضحكتُ وقلت: وبيعمل عمل البنات، ظاهر عليه ما راجل.
قالت وهي تضحك: ما في مَرَا «امرأة» جربتهُ حتى الآن، وما في راجل برضو جربهُ حسب علمنا ومعرفتنا، غير حكاية الطباخ الفي السجن لمَّان كان صغير، تاني ما في شيء، حسي هو راجل عمره عشرين سنة، أو أكثر، ولكن أبوه غير معروف.
قاطعتها: قال أبوه يماني.
– عشان لونُهُ الأصفر ولَّا شُنو؟
– هو قال كدا، أمه قالت ليهُ.
قالت وهي تدلك رجليَّ بِعجينة دلكة: كل الناس عارفين قصة أمه.
حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها، قبل ثمانية وعشرين عامًا، وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب، أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس، وأن المساعد الذي يعمل معه أيضًا مارس معها الجنس، وأن الجلابي صاحب العربة أيضًا، وعندما وصلت مدينة القضارف، صاحب الكارو الذي استقلته لحلة البنات أيضًا مارس معها الجنس، ثم اليماني صاحب الدكان، النذير شيخ الحلة، ود جبرين صاحب اللوكاندة، وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة، والأستاذ زكريا المُعلم بمرحلة الأساس، ثم حبلت بوَد أَمُّونة، وهذه الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل، وهي أعز صديقات أمُّونَة، وقالت أمونة قصتها لها بنفسها.
– ولكن وَد أَمُّونة طلع يشبه منو؟
– والله أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم، ولكن لونو دا لون أمه، إنت ما شفت أمه، أمه بيضاء وجميلة زي القمر، بالرغم من إنها كبيرة حسي، ولكنها جميلة.
– وين هي؟
– متزوجة من عسكري سجون في القضارف، ولدت ليهُ بِت، كان شُفت أمه الليلة تقول عمرها ثلاثين سنة، دلكة، وخُمرة، وحِنَّة، ودلال.
ثم أضافت: يمكن أمه هي الخربتهُ «التي أفسدته»؟
– كيف؟
– كان مُدلَّع.
– لكنه قضى معظم حياته في السجن.
– برضو في السجن كان مُدلَّع، دلعنهُ السجينات والمساجين والعساكر، تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا بيستعملوه.
الجو صحوٌ، والسماء زرقاء وصافية، كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية، وهي أجمل الأمكنة للونسة، وشرب القهوة، ولا أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئًا آخر غير المؤانسة، سألتني: وين صاحِبَك؟
– مع مختار علي.
– صاحِبك دا زول غريب.
هززت رأسي إيجابًا.
أضافت: يوم حيكتلوه.
قلت لها: لا، ما في زول حيكتله، دا ما النوع البيموت مكتول.
قالت: والله في الحُمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق، شفت العملية العملتها فيهُ الصافية؟
قلت لها: الناس هنا يزيدوا الحكايات، وكل زول بيحكي الشيء البيتخيلهُ كواقع.
ثم أخذتْ تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتها عدة مرات محاولًا محاصرتها؛ لكشف تناقض قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة من شاف، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئًا، وهذا حسب ادعائي أنا أيضًا، لكنني فضلت عدم الخوض في هذا الموضوع، خاصة بعدما انضم إلينا وَد أَمُّونة، كانت تفوح منه رائحة الخُمرة، والعطور النُّسوانية البلدية، كان ناعمًا، لامعًا، ونسوانيًّا أكثر مما رأيته من قبل، قال إنه مستعجل، واشتكى من أن العروس شَتَرا، ولم يستطع أن يرقصها إلَّا على الأغاني الحبشية.
– وحتى الأغاني الحبشية بالله ويا مين، الدلُوكَة في جِهة والرقيص في جِهة، وووب علينا من دي شَغَلانَة.
خاطبني قائلًا: صَاحْبَك أُمْبَارح الصافية طَلَّعتْ مَيَتِينُهُ.
وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلام: شُنُو مبسوطين كِدا يا شباب؟
استأذن وَد أَمُّونة مُدعيًا أنه مشغول بالعروس، تناولنا وجبة الإفطار فيما يشبه الصمت، وخرجنا إلى سوق العمال، حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلابة، وبدا لنا أن الأمر جدير بالمشاهدة، فمثل هذه الحوادث نادرًا ما تحدث، تركنا ألم قِشي في المنزل.
كان واضحًا أن ثمة أمرًا قد تمَّ ترتيبه وأن اتفاقًا ما قد وَقع بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبُنية، الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة الأمس واضحًا جليًّا، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة، تنطق جملة واحدة فقط: حِلة السمسم بتسعة جنيه.
يقول التجار بسعر ثمانية، ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الآن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حِلة واحدة من السمسم لا تطُاق، فكيف التسعة؟
يعلم الجنقو، ويعلم الجلابة، أن السمسم هو صاحب الكلمة الأخيرة، وما هذه المساومات والحجج التي تدور الآن سوى مضيعة لوقت الجلابي، وفعلًا عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء هبت ريح شمالية حارقة أرقصت المكان، سُمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة وَد أَمُّونة في محاولاته البائسة في ترقيص العروس الشتراء، فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثيابًا يريد لها الجلابي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل، منجل الجنقوجوراي الحنين، الشمس الآن في برج السمسم بالذات، القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس، بفعل المدِّ والجَزْر، هذان الفعلان الشيطانان، سوف يفتقان فساتين السنابل، فيندلق الذهب منها إلى الأرض، يلتقطه نمل نشط لا يكل ولا يمل، فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الأرض لأيام الشدة، تحرسه بَرَكة الملكات الرءومات، الجنقو متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان، والجلابة أيضًا يعرفون أنهم سوف يخسرون، ولكن بعض الحوار قد يفيد، دخل الوسطاء، سماسرة، وكلاء مشاريع، داعرات شهيرات، أصحاب لكوندات، سائقو بوابير، تجار الكلام، واقترح البعض أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة، عمال مهرة ولا يكلفون كثيرًا، وأن يتركوا هؤلاء الثائرين وسوف يندمون.
ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض: هه، الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو «لِمَنْ»؟
اقترح الجلابة لأنفسهم بصوت مسموع: نجيب عمال من معسكر اللاجئين.
ضحك الجنقو قائلين: لاجئين؟
أنتوا بتحلموا؟ اللاجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين، يحمدوا ربنا الخلقهم.
وما في لاجئ فاضي لقطع السمسم.
اقترح الجنقو لأنفسهم بصوت مسموع: أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي، ونشتغل مع شركة الاتصالات في حفر الكوابل.
قال جنقوجوراي بصوت عالٍ غليظ: أنا لو أشتغل زي وَد أَمُّونة، ما بقطع السمسم بثمانية تاني.
قال الجلابة لأنفسهم بصوت عالٍ: حنجيب عُمال من خشم القربة.
قال الجنقو لبعضهم البعض: إلَّا لو عايزين طَنَبَّارة «مغنين» ومدرسين.
ثم هتفت الصافية قائلة: أرح يا شباب نمشو «نذهب»، «القُوقُو» قال داير الحلة، أرح نكمل سَكَرة أمبارح، النسوان في انتظاركم يا أولاد.
وعندما تحرك فوج العمال نحو الحِلَّة، وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد، تحدث السمسم سرًّا لجيوب الجلابة فقالوا: رضينا بالتسعة، وإن شاء الله ما تنفعكم، وتبقى ليكم بالساحق، والماحق، والبلا المتلاحق.
قال الشايقي وهو يبصق سَفة تمباك كبيرة على الأرض: نحن قُروشكم دي عندنا زي قُروش الحرام، نشربها بالنَّهار، ونَبُولها بالليل.
قَبِل الجنقو ولكن على ألا يذهبوا اليوم، بل غدًا؛ لأن القُوقُو إذا اتجه إلى مكان ما، لا بدَّ أن يواصل مشواره، سيكملون سَكرة الأمس، فالقوقو يتجه الآن نحو الحِلَّة، ومخالفة اتجاه القوقو شؤم ما بعده شؤم.
في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع، ما عدا مشروع الجلابي سُماعين؛ قالوا إن عليه أن يتأدب، مما أعاد الاعتبار إلى مختار علي، فبكى من الفرح.
ونحن راجعين إلى داخل الحِلَّة سألتُ صديقي: شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟
قال لي وهو ينظر بعيدًا: حأحكيها ليك بعدين، حتعرف كل شيء.
قلت له: قالوا فعلت بك الصافية فعلة نكراء؟
قال مندهشًا: فعلت بي شنو؟
– قالوا إنو الصافية عندها «موضوع» زي بِتاع الرجال، وأكبر شُوية، نُص حمار مثلًا، يعني قدر بتاع الدحش كِدا.
قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بيِّن: حأحكي ليك، الموضوع مختلف تمامًا، الناس هنا مغرمين بالأساطير، هو موضوع غريب، لكن ما عنده علاقة ببتاع حمار، ولا بتاع كلب، ولا بُنْية الوعي التناسلي.
جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية، كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات، يتحدثون بأصوات عالية، وبلكنات كثيرة مختلفة، يثيرون الأغبرة من مشيهم السريع؛ حيث يسحبون أرجلهم سحبًا على الأرض، يضحكون وهم يحاكون الجلابة، أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم، ونساء الشاي والطعام يفعلن الشيء نفسه؛ لأنهن يعرفن أن السوق قد «سَبَّح وَرَبَّح» وأن الجنقو لا يقنعهم الآن سوى مجلس الشراب، على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي، أو يهيئن لهم المفارش، فهذه الأيام هي أيام الحصاد والمحصول هو الجنقوجوراي، دَينه مضمون، ونقده أكثر ضمانًا، بس كيف يدخل البيت، فالنساء يتخاطفنهم من الشوارع.
اعتذرتْ لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شيء لنا قائلة بوضوح: الرزق دخل الحِلَّة، وعندي عرقي خايفاه يبور، أَخْيَر ألحق أبيع كُباية كُبايتين، ولا شنو يا إخواني؟ ربنا أجل سفرهم الليلة، فرصة، ولَّا شنو يا إخواني؟
هززنا رأسينا معًا بالإيجاب، ونهضنا في وقت واحد من «البَنْبَرينِ» مظهرين رضًا تامًّا بقرارها، بل عن طريق حركات مقصودة، وهمهمات طيبة، أكدنا لها أنها تفعل الشيء الأكثر صوابًا، وربُّنَا يكون في عونها، تمنينا لها ذلك بصدق وإخلاص مما جعلها تترك لنا «البَنْبَرين» في الراكوبة، طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة، ونغلقها بالطبلة، التي تركتها دون إغلاق.
– سَمِح يا إخواني؟
رد عليها بحنِّية: سَمِح يا أختي، سَمِح.
قلت لها: شكرًا.
وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات: أنا بيتي جنب بيت الأم.
ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معانٍ كثيرة، وخُيِّلَ لكلينا أنها ابتسمت، الشيء الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم، رأيت وقع ذلك حزنًا طفيفًا على وجه صاحبي، ذهبتْ وهي تترنم بأغنية بنات هابطة، قال لي: تقصد شُنُو الزُّولة دي؟
قلت له دون مبالاة: تقصد موضوعك الامبارح مع الصافية.
قال: لا بدَّ من أن وَد أَمُّونة هو النشر الدعاية دي؟
سألته: إنت عَمَلتَ شنو بالضبط؟
وأكدت له أن وَد أَمُّونة كان يُرَقِّص العَروس في ذلك الوقت، بعدما قام بتوصيلي إلى بيت مختار علي، سمعت صوته يغني بالدلوكة: «اللُّوليَّة بسْحَرُوك يا لُولَة الحَبَشِية.»
وتقريبًا ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه، صمتَ صمتًا طويلًا، وهي صفة يتسم بها أيضًا، خاصة إذا كان يفكر في أمر شائك، لم أجد سببًا وجيهًا يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة، فبيني وبينه دائمًا الصراحة والوضوح، وليست الحواجز والصمت.
مرَّ أمامنا نفر من ضباط الجيش يتبخترون في مشيهم كالطواويس، سألنا موظفون من شركة الاتصالات ما إذا كانت بخيتة موجودة، قلنا لهم إنها في المنزل، فذهبوا نحو الميس، كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا البعض مدير الشركة، مرَّ بنا عمال يلبسون أفرولات زرقاء، وسوداء، وبيضاء، عليها بقع من الزيت، تشهد الحلة هذه الأيام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير، ويهتم الأهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية، وتنظم البنات الأغنيات عن المعلمين، وضباط المحلية، والشرطيين، ومهندسي شركة الاتصالات، وحتى عمال طلمبة الوقود بشارع همدائييت.
سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة: بخيتة مشت وين؟
قلت له: في البيت.
فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال: إنتو جُداد في البلد دي مُش كدا؟ «أنتم جدد في هذه البلدة، أليس كذلك؟»
قلت له: نعم.
– نازلين في بيت الأم؟
قلت له: نعم.
ابتسم ابتسامة عريضة، أظهرت أسنانًا متفرقة بُنية؛ بفعل التسوس والصعوط، فسَّر صاحبي هذه الابتسامة بأنها نوع من السُّخرية، أو الشماتة، وحكى لي ما سماه كل شيء حدث بينه وبين الصافية، حتى يغلق هذا الباب على الأقل من جهتي.