في النقد
الرافعي وطه حسين – تحت راية القرآن – كليلة ودمنة – شاعر الملك – الرافعي والإبراشي باشا – الرافعي وعبد الله عفيفي – الرافعي والعقاد – على السفود – وحي الأربعين.
***
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدَّث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد، لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدًى بعيدًا مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية، فما أحد منهم إلا له عنده ثأر وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة، ولقد اهتزتْ بلاد العربية كلها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلًا واحدًا كتب برقية إلى ولده، هو الدكتور طه حسين بك، فلا جَرَم كان بذلك أنزه خصوم الرافعي وأعرفهم بالأدب اللائق!
ولقد مضى ما مضى منذ ترك الرافعي دنياه، فهل رأيتَ أحدًا منهم كتب شيئًا عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي تألفتْ لتأبينه قد استطاعتْ أن تحمل واحدًا من هؤلاء على أن يُشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان …؟
ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولمَّا ينقضِ على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع لجنة التأبين وتنفضُّ وتحدد الموعد لحفلتها ثلاث مرات ثم لا تجد مَن يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي، فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد … حتى إذا مضى العام فاحتفلتْ فلسطين، واحتفلتْ سوريا، واحتفل العراق، واحتفل العرب في المهاجَر من وراء البحار بذكرى الرافعي، أقامتْ لجنة التأبين في مصر حفلتها كما اتفق أن تكون لا كما كان ينبغي أن تكون؛ تحرُّجًا من التهمة بالعقوق ونكران الجميل!
ولكنه هو — يرحمه الله — الذي ألَّب على نفسه هذه العداوات حيًّا وميتًا، لقد كان ناقدًا عنيفًا حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة «من جهة الحرص على الدين؛ إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معًا إلا بقيامها معًا»، وكان يؤمن بأنك «لن تجد ذا دِخْلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة» … فكان بذلك كله ناقدًا عنيفًا، يُهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع!
… إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدًا فيمن لا نعرفه، ونحن نرُدُّ على هذا وعلى هذا بردٍّ سواء، لا جهلُنا مَن نجهله يلطِّف منه، ولا معرفتنا مَنْ نعرفه تبالغ فيه … فإن كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضالَّ ليمنع المهتديَ أن يضلَّ، فما به زَجْر الأول بل عظة الثاني …
على أن أشهر هذه المعارك شهرةً هو ما كان بينه وبين طه، وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب، وإنها لجديرة بأن يؤرَّخ بها في تاريخ النقد كما كان العرب يؤرِّخون أيامهم …
وإنني لأشعر أن عليَّ واجبًا أن أكشف عما أعرف من الأسباب الخاصة أو العامة التي نشأتْ بها هذه الخصومات الأدبية أو انتهتْ إليها، وإنني لأشعر بجانب ذلك أنني أكلف نفسي بهذا فوق ما أستطيع.
إن كل ما تناولتُه إلى الآن من تاريخ الرافعي كان له هو وحده، فلا عليَّ ما دمتُ مطمئن النفس إلى ما أكتب، أما الآن فسيكون إلى جانب اسم الرافعي أسماء، وإنهم لذوو حول وسلطان، فما أدري أيرضون ما أكتب عنهم أم يسخطون، ولقد رأيتُ ما فعلتْ بالرافعي شجاعتُه فمات لم يذكره أحد منهم أو يترحَّم عليه، وما أنا كفء لهذه العداوات، ولست لها بأهل، وما لي طاقة بالدفاع عن نفسي، ولا لي أنصار ذوو لسان وبيان، وما تهون عليَّ نفسي …!
ولكن … ولكن مَن عَذيري يوم الحق من كتمان الشهادة؟ ولكن … ولكن ما أنا إلا راوية يكتب ما رآه لا ما ارتآه، ولكن … ولكن فلانًا وفلانًا اليومَ أناسيٌّ تصول وتجول، وإنها غدًا لصفحات من التاريخ تتحدَّث، ولكن … ولكن التاريخ قد وقع فلا سبيل إلى مَحْوٍ فيه أو إثبات، ولكن … ولكن الندم على ما كان لا يمحو من تاريخ الإنسان ما كان …
فهذا عذري عند فلان وفلان ممن يتناولهم حديثي بما يغضب أو يسوء، فإن كان لي عندهم عذر من الكتمان إن كتمت الشهادة فإني على الأهبة لأن أطوي من هذا الحديث ما قد يغضب أو يسوء …
أما وإن تاريخ الرافعي في هذا الفصل هو تاريخ الأدب في جيل من الأدباء، فإن كان من حق أحد أن يعتب عليَّ لنشر هذا الفصل فإن حق الأدب لأوجب، وما أريد من فلان وفلان شيئًا، وما لي عندهم حاجة، ولا لهم عليَّ يد، فليغضب مَنْ يغضب للحق أو لنفسه فلا عليَّ من غضبه أو رضاه، وإني لماضٍ فيما أنا بسبيله …
بين الرافعي وطه
في سنة ١٩٢٢ كانت السياسة الأسبوعية هي صحيفة الأدب والثقافة، وفيها كان يعمل الدكتور طه حسين في الأدب وفي السياسة معًا، ولم يكن بين الرافعي وطه يومئذٍ شيء يُثير ثائرة في الصدر، أو يدعو إلى عتاب وملامة، ولكنَّ إرهاصات كانت تسبق ذلك ببضع عشرة سنة …
كان طه حسين في سنة ١٩٠٩ هو الطالب المرموق في الجامعة المصرية، وكان الرافعي الشاعر ماضيًا في الشعر على سنته، لا يعرف له أحد مذهبًا غير الشعر، فلما نشر مقاليه المشهورين في «الجريدة» ينقد بهما أساليب الأدب في الجامعة، تنبهتْ إليه العيون، فلما أنشأ كتابه تاريخ آداب العرب في سنة ١٩١١، عرف الأدباء الرافعي العالم المؤرخ الراوية، وعرفه طه حسين الطالب بالجامعة.
أفكان الطالب طه حسين يرشح نفسه من يومئذٍ ليكون أستاذ الأدب بالجامعة فنفس على الرافعي أن يؤلف كتابًا في تاريخ آداب العرب، فكتب ينقده ويقرر أنه لم يفهمه، ثم يقرر هذا المعنى ثانية في نقد «حديث القمر»، وثالثةً في «رسائل الأحزان»؟
الحق أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منذ أُنشئت الجامعة، وقد كشف عن رغبته هذه في مقاليه بالجريدة، ولكن طه يومئذٍ كان طالبًا في الجامعة، فمن الإسراف في المزاح أن ننسب ما كان بينهما من بعدُ إلى النفاسة أو المنافسة على كرسي الآداب في الجامعة! ولكنه صدر من تاريخ هذه الخصومة الأدبية لا بد من الإشارة إليه!
وثمة حديث آخر يشير إلى أوَّل ما كان بين الرافعي وطه، رواه لي صديقنا الأديب عبد المعطي المسيري، صاحب «القهوة والأدب»، قال: «زار الرافعي إدارة «الجريدة» مرة لبعض شأنه، في سنة ١٩٠٨ (أو سنة ١٩٠٩)، فلما همَّ أن ينصرف طاف بمحرري «الجريدة» يحييهم — وبينهم طه حسين — ولكن الذي كان يصحب الرافعي في طوافه لم يعرِّفه طه ولم يقدِّم أحدهما للآخر، وعَرَفه الرافعي على الرغم من ذلك؛ إذ كان مثله لا يخفى واسمه على جبينه … ولكن لم يحيِّه ولم يُظهر له المعرفة؛ رعايةً لعاطفته، وخشية أن يفهم طه أن الرافعي لم يعرفه إلا بعلَّته فيألم وتتأذى نفسه، ولكن طه طوى صدره على شيء للرافعي من يومئذٍ؛ لأن الرافعي انصرف دون أن يُحيِّيَه كما حيَّا زملاءه العاملين معه في الجريدة!»
ونفخت السياسة الأسبوعية في الأدب روحًا جديدة، واتخذت لها أسلوبًا في الدين وفي العلم وفي الأدب قال عنه جماعة من الأدباء: إنه إلحاد وكفر وضلال، وقالت طائفة: إنه المذهب الجديد في الدين والعلم والأدب، ثم مضت السياسة بما تكتب وبما تفسح من صدرها للكُتَّاب، تقسم الأدباء إلى فرق ومعسكرات، وقديم وجديد، ورُفعتْ في الجهاد راية …
والرافعي رجل كان فيه عصبية للدين، وعصبية للقديم، فأيقن منذ قرأ العدد الأول من السياسة الأسبوعية أن سيكون له شأن مع السياسة وكُتَّاب السياسة في غد …
ونال الرافعي رشاش من بعض المعارك وإنه لبعيد عن الميدان، فأحس في نفسه رغبة في الكفاح فتحفَّز للوثبة …
ودسَّ كلمةً إلى طه يذم أسلوبه بما يشبه المدح، ويعيب عليه التكرار وضيق الفكرة، قال الرافعي: فنشرها طه في السياسة قبل أن يستبين مغزاها وما ترمي إليه … ثم عرف …
وتهيأت أسباب الحرب ولم يبدأ أحد بالعدوان … وتربص الرجلان في انتظار السبب المباشر لبدء المعركة …
ثم أصدر الرافعي رسائل الأحزان، فسعى راجلًا إلى دار السياسة؛ ليُهدي إليها كتابه، وهناك التقى الرافعي وطه حسين وجهًا لوجه … ونظر الرافعي إلى طه، واستمع طه إلى حديث الرافعي، وتصافح الخصمان قبل أن يصعدا إلى حلبة المصارعة، ونفخ الدكتور هيكل في صفارة الحكم، وبدأت المعركة.
وكانت مشادة حادَّة خرج الرافعي يتحدَّث عنها وصمت طه.
لمن يا تُرى كانت الغلبة؟ الرافعي يقول: أنا … وطه لا يتكلم، والدكتور هيكل ضنين بالحديث.
ومضت فترة، ثم نشر طه حسين رأيه في «رسائل الأحزان» في السياسة الأسبوعية، فرفع راية العداء وأعلن الحرب، وردَّ عليه الرافعي يقول: يسلم عليك المتنبي، ويقول لك:
وطارت الشرارة الأولى فاندلعتْ ألسنة النار، فما خمدت حتى أحدثتْ أزمة وزارية، وأنشأت جفوةً بين سعد وعدلي، وأوشكتْ أن تؤدِّي بعلي ماهر إلى المحاكمة، وهزَّت دوائر البرلمان، ثم انتهتْ في النيابة العمومية …
•••
لم تكن بداية هذه المعركة تنذر بما آلتْ إليه، فما كانت في أولها إلا الخصومة بين مذهبين في الأدب وأسلوبين في الكتابة، فما لبثتْ من بعدُ أن استحالتْ إلى حرب شعواء يتقاذف فيها الفريقان بألفاظ الكفر والضلال والإلحاد والغفلة والجمود، وانتقلتْ من ميدان الأدب واللغة إلى ميدان الدين والقرآن، ثم إلى ميدان السياسة والحكومة والبرلمان، ثم إلى ميدان القضاء، والدكتور طه رجل لا تستطيع أن تفرق بين مذهبه في الأدب ومذهبه في الدين، ولا بينهما وبين مذهبه في السياسة، والرافعي رجل كان لا يُفرِّق بين الدين والأدب، ولا يعرف شيئًا منهما ينفصل عن شيء أو يتميز منه، ولكنه في السياسة كان يتحلى بفضيلة الجهل التام، فلا تعرف له رأيًا في السياسة تُؤاخذه به أو تُناقشه فيه؛ لأنه كان لا يعرف من السياسة إلا حادثة اليوم بأسبابها، لا بأصحابها، وكم جرَّ عليه هذا الجهل السياسي من متاعب! وكم ألصق به من تهم! ولكنه هنا كان من عوامل توفيقه في هذه المعركة.
•••
في سنة ١٩٢٥ كانت الحكومة للأحرار الدستوريين ولأصدقائهم، والأحرار الدستوريون حزب طه حسين، نشأ بينهم ووقف قلمه على الدعاية لهم، فلما رأى علي ماهر باشا — وزير المعارف يومئذٍ — أن يضم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، انضم معها الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي بالجامعة، على شرط الواقف!
ومضى الدكتور طه يُحاضر طلابه في كلية الآداب محاضرات في الأدب الجاهلي على الأسلوب الذي رآه لهم، فلما استدار العام جمع طه محاضراته في كتاب أخرجه للناس باسم «في الشعر الجاهلي»، وقرأ الناس كتاب الدكتور طه حسين بعد أن سمعه طلابه منجَّمًا في كلية الآداب، فقرءوا رأيًا جديدًا في الدين والقرآن رجَّح ما كان عندهم ظنًّا بالدكتور طه حسين وكُتَّاب السياسة الأسبوعية، فقال الأكثرون من القراء: هذا كفر وضلال، وقالت طائفة: هو خطأ في الفكر وإسراف في حرية الرأي، وقال الأقلون: بل هو الأسلوب الجديد لتجديد الآداب العربية وتحرير الفكر العربي، وظل الرافعي ساكتًا؛ إذ لم يكن قد قرأ الكتاب بعدُ، فما نبَّهه إلى خطره إلا مقالان نشر أحدهما الأستاذ عباس فضلي القاضي، في السياسة الأسبوعية، وكتب ثانيهما الأمير شكيب أرسلان في كوكب الشرق، فكان فيهما الإنذار للرافعي بأنه قد آن أوانه …
وانتضى الرافعي قلمه وكتب مقاله الأول فبعث به إلى جريدة «كوكب الشرق»، ثم مقالات ثلاثًا بعده، ولم يكن قد قرأ الكتاب، ولا عَرَف عنه إلا ما نشرت الصحف من خبره، فكانت المعركة بذلك في ميدانها الأول، خصومةً بين مذهبين في الأدب وفي الكتابة وفي طرائق البحث، على أن الرافعي لم ينسَ في هذه المقالات أن له ثأرًا عند طه، فجعل إلى جانب النقد الأدبي في هذه المقالات شيئًا من أسلوبه المرِّ في النقد، ذلك الأسلوب الذي لا يريد به أن يفحم أكثر مما يريد أن يثأر وينتقم.
ثم تلقى كتاب الدكتور طه حسين فقرأه، فثارت ثائرته لأمر جديد …
لقد كان شيئًا منكرًا أن يزعم كاتب أن له الحق في أن يتجرد من دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم، أو يناقش رأيًا من الرأي في الأدب، أو يمحص رواية من الرواية في التاريخ، لم يكن أحد من كُتَّاب العربية ليترخَّص لنفسه في ذلك فيجعل حقيقة من حقائق الدين في موضع الشك، أو نصًّا من نصوص القرآن في موضع التكذيب، ولكن الدكتور طه قد فعلها وترخَّص لنفسه، ومنح نفسه الحق في أن يقول قالةً في القرآن وفي الإسلام وتاريخ الإسلام، وقرأ الرافعي ما قاله طه، فغضب غضبته للدين والقرآن وتاريخ المسلمين، ونقل المعركة من ميدان إلى ميدان …
وكان طه في أول أمره عند الرافعي كاتبًا يزعم أن له مذهبًا جديدًا في الأدب، فعاد مبتدعًا مُضِلًّا له مذهب جديد في الدين والقرآن، فكما ترى البدوي الثائر لعرضه أن يُنتهك، كان الرافعي يومئذٍ، فمضى يستعدي الحكومة والقانون وعلماء الدين أن يأخذوا على يده ويمنعوه أن تشيع بدعتُه في طلاب الجامعة … وترادفتْ مقالاته ثائرة مهتاجة تفور بالغيظ وبالحميَّة الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم!
ونسي في هذه المقالات كلَّ اعتبار مما تقوم به الصِّلات بين الناس، فما كان يكتب نقدًا في الأدب، بل يصبُّ لهيبًا وحممًا وقذائف لا تُبقي على شيء، وكان ميدانه في جريدة كوكب الشرق، وكوكب الشرق يومئذٍ هي جريدة الأمة وجريدة سعد، وجريدة الشرق العربي كله؛ فمن ذلك لم يبقَ في مصر قارئ ولا كاتب إلا صار له رأي في طه حسين وفي دينه، وإن للأمة من قبلُ رأيًا في وطنيته ومذهبه، وحسبك بها من وطنية في رأي الشعب، وطه حسين هو عدوُّ سعد!
ووقفت الدوافع السياسية إلى جانب الرافعي تؤيده وتشدُّ أزره، وإن لم يكن له في السياسة باع ولا ذراع.
وبلغت الصيحة آذان شيوخ الأزهر، فذكروا أن عليهم واجبًا للدفاع عن الدين والقرآن فجمعوا جماعتهم إلى جهاد.
وتساوقت الوفود إلى الوزارة تطلب إليها أن تأخذ طه بما قال؛ وإن طه لأثير في وزارة الأحرار الدستوريين وأصدقائهم، ولكنها لم تستطع أن تتجاهل إرادة الرأي الإسلامي العام …
ومضى الرافعي في حملته تؤيده كل القوى وتشدُّ أزره كل السلطات.
ونشطت النيابة العمومية لتنظر في شكاوى العلماء وتحدد الجريمة وتقترح العقاب، فعرف الدكتور طه حسين أن عليه وقتئذٍ أن يقول شيئًا، فكتب كتابًا إلى مُدير الجامعة، يُشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر … ولكن الرافعي لم يقنع فمضى في النقد على جادَّته!
ولم تجد الجامعة في النهاية بدًّا من جمع نسخ الكتاب من المؤلف ومن المكتبات لتمنع تداوله، لعل ذلك يردُّ الفتنة التي تُوشك أن تعصف بكل شيء حتى بالجامعة، ولكن الرافعي لم يقنع فاستمرَّ في حملته على الدكتور طه حسين، ولا ظهير له يومئذٍ غير الدكتور زكي مبارك …
ليس من شأني أن أنص الحكم في هذه القضية، فإن وثائق الدعوى ما تزال بين أيدي القرَّاء، وليس يهمني لمن كانت الغلبة، فهذا كتاب للرواية لا للرأي، ولكن الذي يجب أن يعرفه القرَّاء، هو أن الدكتور طه حسين لم يحاول الدفاع عن نفسه إلا دفاعًا سلبيًّا فأوى إلى الصمت، ويزعم الدكتور زكي مبارك «أن الدكتور طه حسين كان معقول القلم واللسان — في هذه المعركة — بفضل الإشارات التي صدرت إليه بأن يترك العاصفة تمر، حتى لا يُهزم أنصاره أمام الحكومة وأمام البرلمان!» وهو قول لا أدري أيقصد به الدكتور زكي مبارك أن ينتصر لطه أو للرافعي، ولكنه قول صديق عاقل على كل حال …!
لقد كانت هذه المقالات التي ينشرها الرافعي في كوكب الشرق صيحة مدوِّية وصلت إلى كل أذن، فما أحسب أحدًا في أدباء العربية وقرَّائها قد فاته منها شيء، وكان المصريون وقتئذٍ مكمومة أفواههم عن السياسة والحديث في شئونها، فلعلهم وجدوا في هذه المقالات ما يعزيهم عن شيء بشيء؛ إذ كان طه عندهم يومئذٍ ما يزال هو طه حسين عدو سعد، ومحرر جريدة السياسة، وصديق الأحرار الدستوريين …!
لا أزعم أن اهتمام الناس جميعًا في مصر بهذه المقالات؛ لأنهم جميعًا قد صار لهم في شئون الأدب رأي، أو لهم في الذود عن الإسلام حمية، لا، ولكنه نوع من التعصب السياسي جاء اتفاقًا ومصادفة في الوقت نفسه، ليكون تأييدًا لقول الله وانتصارًا لكلمته، على أن هذه المقالات بإقبال الناس عليها — لسبب أدبي أو لسبب سياسي — قد بعثتْ روحًا دينية كانت راقدة، وأذكت حميَّة كانت خامدة، وألَّفتْ قلوبًا إلى قلوب كانت متنافرة، ونبهت طوائف من عباد الله كانت أشتاتًا لتعمل للذَّوْد عن دين الله.
وإني لأذكر مثلًا مما كان من إقبال الناس على هذه المقالات، أنني — وكنت طالبًا في دار العلوم — لم أكن أطيق الانتظار حتى يجيء بائع الصحف إلى الحيِّ الذي أسكنه لآخذ منه كوكب الشرق، بل كنت وجماعة من الطلاب نستعجل فنقطع الطريق من «المنيرة» إلى «باب اللوق» راجلين لنشتري من الأعداد المبكرة المسافرة إلى حلوان؛ لنقرأها قبل أن يقرأها الناس.
•••
وتطوَّرت السياسة المصرية، وتخلى زيور عن الحكم، وعادت حكومة الشعب يؤيدها برلمان سعد، وعكف نواب الأمة على تراث الحكومة الماضية يفتشون عن أخطائه، وما يزال في آذانهم صدًى يرنُّ عما كان من أمر الجامعة وأمر طه حسين، فأبدى البرلمان رغبته في محاكمته، وقال النواب: نحن نريد … وقالت الحكومة: وأنا لا أريد، وتَشادَّ عدلي رئيس الحكومة وسعد رئيس النواب، فهبَّتْ زوبعة، ونشأت ضجة، وحدثت أزمة وزارية، ولوَّح عدلي بالاستقالة، وأصر سعد على وجوب تنفيذ رأي الأمة، وتعقدت المشكلة …
وإذا كان انضمام الجامعة إلى وزارة المعارف عملًا من أعمال وزير المعارف، فإنَّ ما ثار حول الجامعة بسبب الدكتور طه حسين قد دعا نائبًا أو نوابًا إلى اقتراح محاكمة علي ماهر بما فعل للجامعة، وبما غيَّر من نظام التعليم العام من غير أن يكون ذلك من حقه الدستوري … ولكنه ظل اقتراحًا لغير التنفيذ.
•••
ليست كل هذه الحوادث من تأليف الرافعي، ولكنها شيء يتصل بتاريخه وله فيه أثر أيُّ أثر، فلولا ما كان من الخصومة بين الرافعي وطه، لما قامت هذه الضجة، ولا ثارت هذه الثائرة، ولَمَا كان في التاريخ الأدبي أو السياسي لهذه الحقبة شيء مما كان.
على أنَّ هذه المعركة قد خلَّفتْ لنا شيئًا أغلى وأمتع، ذلك هو كتاب «المعركة تحت راية القرآن»، وهو جماع رأي الرافعي في القديم والجديد.
وهو أسلوب في النقد، سنتحدَّث عنه بعد.
•••
وقد ظلت الخصومة قائمة بين الرافعي وطه إلى آخر أيامه، بل أحسبها ستظلُّ قائمة ما بقيت العربية وبقي تاريخ الأدب، فما هي خصومة بين شخص وشخص تنتهي بنهايتهما، بل هي خصومة بين مذهب ومذهب سيظل الصراع بينهما أبدًا ما دام في العربية حياة وقدرة على البقاء.
وما أعرف أن الرافعي وجد فرصة ليغمز طه في أدبه، أو وجد طه سانحة لينال من الرافعي في فنه ومذهبه، إلا أفرغ كل منهما ما في جعبته، وكم مقال من مقالات طه حسين قرأه عليَّ الرافعي، فقال: اسمع، إنه يعنيني، وكم مقال أملاه عليَّ الرافعي أو قرأتُه له فوجدت فيه شيئًا أعرف مَن يعنيه به، ومرة أو مرتين قال الأستاذ الزيات صاحب الرسالة للرافعي: أرجو أن تعدِّل في أسلوب هذا المقال — مما ينشر في الرسالة — فإني لا أحب أن يظنَّ طه أنك تعنيه بشيء تنشره في الرسالة وعليَّ تبعتُه عنده.
ولم يتلاقَ الرافعي وطه وجهًا لوجه في النقد بعد هذه المعركة حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، ولكن المعارك بينهما ظلت مستمرة من وراء حجاب، تنتقل من ميدان إلى ميدان.
ولما اشترك الرافعي في المباراة الأدبية في سنة ١٩٣٦، ونال في بعضها من الجائزة دون ما كان يطمع، لم ينسب ذلك لشيء إلا لأن طه كان عضوًا في اللجنة … وطه خصم عنيد …
•••
أما بعد؛ فهذا شيء للتاريخ أثبتُّه على ما فيه، ليس فيه رأيي ولا رأي أحد معي، ولكنه شيء مما حكاه لي الرافعي أو قرأت في كتبه، فكتبته في موضعه من هذا البحث بضمير المتكلم وما لي فيه إلا الرواية، وذلك حسبي من العذر إن كان عليَّ معتبة أو ملام.
تحت راية القرآن
الجديد والقديم …! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره، فمنذ نحَله أديبٌ منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة ١٩٢٣، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النَّيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلًا إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وبابًا إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان، ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تفنيد دعوى التجديد، فجعل همَّه من بعدُ أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليرد عليهم ويكشف عن باطلهم، وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسمُ كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة ١٩٠٨–١٩٢٦.
هو كتاب لم ينشئه ليكون كتابًا، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقًا مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كُتب له، على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة، حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلًا واحدًا هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب، فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتابًا للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته، فإذا أوشكتَ أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتناول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين في الأدب وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة، وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي.
•••
وليس الكِتَاب على استواء واحد في أسلوبه، ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئًا متزنًا فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء، فإذا وصلتَ من الكتاب إلى قدْر ما، رأيت أسلوبًا وبيانًا غير الذي كنت ترى، وطالعتْك من صفحات الكتاب صورة جَهْمَةٌ للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مُزْبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوِثاب كأن خصمًا تراءى له بعدما دار عليه طويلًا فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!
وليس عجبًا أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب، فإن هذه المقالات وإن صوَّبتْ إلى هدف واحد قد اختلف دواعيها وأسبابها ومن كُتبت له، وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.
على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة ١٩٠٨، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له — من الكتاب نفسه — ردَّه في سنة ١٩٢٦ على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد، فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يردَّ إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن ينتقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأوَّلين.
ليس يعنيني هنا أن ألخِّص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قرَّاء العربية في عرض موجز ووصف كاشف، أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث.
•••
والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدَّث عن أسلوبه في سائره، ويبدأ هذا الجزء بعد الصفحة المائة، وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول «رسائل الأحزان» إلى أن انتهتْ عند مجلس النواب حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة، ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء، وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة …
ولكن أكثر هذه الفصول يطَّرد على مثال واحد إذا أنتَ نظرتَ إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب أليمٍ من التهكم يفتنُّ الرافعي فيه فنونًا عجيبة حتى يبلغ نصف المقال، ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو أقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر … بَلَى، إنها نموذج عالٍ في النقد العلميِّ الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!
كليلة ودمنة
إن مبالغة الرافعي في التهكم قد شقَّقتْ له فنونًا من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء، وأبدعُ هذه الأساليب حديثُه عن كليلة ودمنة وما نَحَلَهما من الرأي فيما تناول من فنون الأدب، وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كُتَّاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي، وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقًا ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي، في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلةَ ودمنة ليقول على لسانهما كلامًا من كلامه ورأيًا من رأيه، فلما أتمَّ تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه — على المزاح — إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: «عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد … ما شئتُ من مَثَل إلا وجدته فيها، وقد رجعتُ إليها اليوم فأصبتُ فيها هذه الحكاية …»
ثم استمر ينقل — عن نسخته الخاصة — من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة، وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لونًا طريفًا من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتتْه لأتمَّه فأنشأ به في العربية إنشاءً جديدًا له خطر ومقدار، على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتابًا، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد، وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجبًا بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب «فلان» بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة؛ لأن فيها فنًّا ومقدرة …!
وقد كان في مُنية الرافعي أن يتم هذه النسخة من كليلة ودمنة يعارض بها كتاب ابن المقفع أو يتمه، ولكنه لم يُوفق، وكان في ذلك خير له، فهذه الفصول في موضعها من الكتب التي نُشرت بها أجمل وأخف، وإفرادها بالنشر يحملها على تكلف الصنعة ويُباعد بينها وبين أذواق القرَّاء، على أنَّ هذه الفصول لا اتصال بينها في موضوعها بحيث تصلح للنشر متساوقة متتابعة كما تتساوق الفصول والأمثال في كتاب ابن المقفع.
•••
هذا مجمل الرأي وملخص الموضوع في كتاب «المعركة تحت راية القرآن» وما احتواه، وهو وكتاب «على السفود» خلاصة مذهب الرافعي في النقد وأسلوبه في الجدال، وفيهما أشلاء المعركتين الطاحنتين بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بدمائهما، ورِمامهما، ولهيبهما المستعر، ودخانهما الخانق، وغبارهما الكثيف …
لو تجرَّد هذان الكتابان من بعض ما فيهما لكانا خير ما أنتجت العربية في النقد، وأحسنَ مثال في مكافحة الرأي بالرأي مع الاطلاع الواسع والفكر الدقيق، ولكن وا أسفا، إن الإطار يحجب ما في الصورة من جمال، فمن ذا — غير مالك الصورة — يستطيع أن يحطم هذا الإطار ليجلوَ الصورة في جمالها على أعين الناس؟
شاعر الملك
وهذا فصل آخر مما يتصل بموضوع الحديث عن الرافعي في النقد؛ إذ كان هو أولَ ما بين الرافعي وعبد الله عفيفي، فإني لأقدِّم به للقول عن خبر ما كان بينهما من الخصومة التي مهَّدت للرافعي من بعدُ أن ينشئ كتابه «على السَّفُّود» في نقد ديوان العقاد.
•••
في سنة ١٩٢٦ كان ناظر الخاصة الملكية، هو المرحوم محمد نجيب باشا، وكانت السياسة المصرية تسير في طريق ذي عِوَج، مهَّد لطائفة من رجال الحكم والسياسة أن ينشئوا حزبًا ينسبون إليه الولاء للقصر، فهيَّئوا لطائفة غيرهم من السياسيين أن يزعموا أنهم أولياء على حقوق الشعب، حِراصٌ على سلطة الأمة، فنشأت بذلك قوَّة بإزاء قوَّة، وتناظر سلطان وسلطان، وكان لكل طائفة لسان وبيان …
في تلك الآونة، تقدَّم المرحوم محمد نجيب باشا إلى الرافعي أن يكون شاعر الملك، فلقي ذلك العطفَ الكريم بحقه من الشكر والرضا وعرفان الجميل.
وشاعرُ الملك، أو شاعر الأمير، لقبٌ قديم في دولة الأدب، وله في تاريخ العربية تاريخ، منذ كان النابغة والنعمان، وزهير وهرم بن سنان، والأخطل وبنو أمية، والنواسي وأبو العتاهية في بني العباس، والبحتري في إمارة المتوكل، والمتنبي في بلاط سيف الدولة، إلى شعراء وملوك لا يحصيهم العدُّ، ولا ننسى في تاريخ مصر الحديث أن نذكر الشاعرين: أبا النصر، والليثي، وليس بعيدًا عنا أمير الشعراء المرحوم شوقي بك «شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية»، وقد كان من الولاء والحب لمولاه بحيث لم تطمئن السلطة الحاكمة إلى بقائه في مصر بعد خلع الخديو عباس فنفتْه إلى الأندلس.
ولقد كان شاعر الملك قبل الرافعي هو الشاعر المرحوم عبد الحليم المصري، فلما مات تطلعتِ الشعراء إلى موضعه، وكان أكثرهم زلفى إلى هذا المنصب هو المرحوم حافظ إبراهيم؛ إذ كان ما يزال في نفسه شيء يهفو به إليه، مما كان بينه وبين شوقي من المنافسة الأدبية في صدر أيامه على رتبة شاعر الأمير.
•••
وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة ١٩٠٨، ثم لم يقل بعده إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه، وكان أكثر ما قال الشعر بعد ذلك، في سنة ١٩٢٤، في إبان العاصفة الهوجاء من حبِّ فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب، ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على السرحة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغتْ إليه القلوب وأرهفتْ له الآذان …
واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة ١٩٢٦ إلى سنة ١٩٣٠ حتى وقع بينه وبين الإبراشي باشا أمرٌ — بعد موت المرحوم نجيب باشا — فسكت وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعدما أنشأ الخصومةَ بينه وبين عبد الله عفيفي …
•••
وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظامُ وحدِها في شعر المديح، تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمتُّ إليه، فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح، اقرأ قصيدة الخضراء — يعني الراية — وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما، فإنك واجدٌ فيه هذا الذي ذكرت، وواجدٌ فنًّا في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفتَ من فنونه، فإذا حققْتَ هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتتْ عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية، ثم التمس لها تفسيرًا من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها.
لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلًا تامًّا، ولكن كانت فيه أخلاق السياسيِّ ناضجة تامة: من الاحتيال، والرَّوغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى، كانت له أخلاق السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوًى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأيًا فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء.
•••
ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وإزدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الأهلية، حيث كان يعمل جنبًا إلى جنب مع مئات من الكَتَبة والمحضرين وصغار المستخدمين …!
ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة، فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتابه «إعجاز القرآن» على نفقته، كما أذن في إرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا، فظل يدرس في جامعة ليون على نفقة الملك إلى سنة ١٩٣٤ حين شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبقَ بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي، ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش ورسوم الجامعة، كان يكتب «للرسالة» بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتُنتَهك أعصابه …!
•••
قلت: إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة ١٩٣٠، ثم كان بينه وبين الإبراشي باشا أمرٌ — بعد موت المرحوم نجيب باشا — فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكة …
قال: «وذهب إليه الساعي بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلستُ وما أظن إلا أنها دقائق ثم أُدْعَى إليه … وطال بي الانتظار، ومضتْ ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء، وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على وجهي منها، ونظرت إليهم وإلى نفسي فضجرت، فعدتُ أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إليَّ حاجبُه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمرَّ به غدًا في الساعة كذا …»
قال الرافعي: «وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرتُ عنه، فلما كان الغد جاءني النبأ ينعى إليَّ زَيْن الشباب المرحوم أمين الرافعي بك، فآدني الهمُّ وثقل عليَّ، وضاقتْ نفسي بما فيها، وتوزعتْني الوساوس والآلام، وما نسيتُ وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن عليَّ موعدًا بعد ساعات، فما هِيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عَدْوًا إلى القصر؛ وفاءً بالوعد الذي اتَّعدْتُ، وجعلت من وراء ظهري ما عليَّ من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزُّونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق عليَّ، لقد كان الذي مات زعيمًا من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلتُ الوفاء بالوعد فوق ما عليَّ من الواجب للزعيم الذي مات، وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي …!»
قال: «ووقفت بالباب أنتظر أن يُؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإنَّ في دمي جمراتٍ تتلهب، ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذلك أطالع وجوه الداخلين والخارجين في غرفة الباشا ولا يُؤذن لي …!»
قال: «ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضتُ وفي يدي عصاي، فتقدمتُ إلى الباب خطوة فدفعتُه بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجهًا لوجه، وإلى جانبه رجل أوربي يحدثه … فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذٍ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي، وأحسبني قد خرجت يومئذٍ عن حدود الأدب اللائق في الحديث معه، ولكني لم أُلقِ بالًا إلى شيء من ذلك، وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا عليَّ بعد ذلك من غضبه أو رضاه …
ولكن … ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إليَّ وألحَّ في الاعتذار … وصدقتُه حين ابتسم …!»
•••
وأسرها الإبراشي باشا في نفسه، فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورُصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب — كما جرت العادة — ثم أُرسلت بحروفها مجموعةً إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرِّر العربي بديوان جلالة الملك، ونُشرت القصيدتان جنبًا لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيعُ الشاعرين في ذيل الكلام.
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله: أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني — يريد الإبراشي — أهذا شعر يُقرَنُ إلى شعري، أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبهم شاعرًا من طبقتي أو يجعلونني شاعرًا من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة «شاعر الملك» ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلًا ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج …
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك، فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه، فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي … وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه …
وتحدَّث بنيَّته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السَّفُّود!
وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعًا دقيقًا حين يعرض لنقد هذا الشاعر، فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدًى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم مَن كاتب هذه المقالات، فتنكَّر وأخفى نفسه …
الرافعي وعبد الله عفيفي
لم يكن عبد الله عفيفي خصمًا للرافعي على الحقيقة، ولا أحسب أن أحدهما كان يرضيه أن يكون بينهما ما كان ولا سعى إليه، ولكن عبد الله عفيفي في مكانه من ديوان جلالة الملك، وفي موضعه عند الإبراشي باشا، قد دارتْ به المقادير دورتها حتى وقفتْه مع الرافعي وجهًا لوجه، وجعلتْه بالموضع الذي لا يستطيع واحد منهما فيه أن يتجاهل أنه أمام خصم يحاول أن يظفر به، ومن هنا نشأت الخصومة بين الرافعي وعبد الله عفيفي.
على أن هذه الخصومة بينهما تختلف عن سائر الخصومات التي نشبت بين الرافعي وأدباء عصره، فهنا لم تنشأ الخصومة إلا للتزاحم على رتبة «شاعر الأمير»، على حين كانت أكثر خصومات الرافعي ذيادًا عن الدين وحفاظًا على لغة القرآن، فما كنت ترى فيها إلا التراشق بألفاظ الكفر والزيغ والمروق والإلحاد، أما هنا فكانت المعركة تدور وما فيها إلا التهمة بالغفلة وفساد الذوق وضعف الرأي وقلة المعرفة … وما بدٌّ من أن يكون في نقد الرافعي أحد هذين اللونين: الاتهام بالزيغ، أو الاتهام بالغفلة، ولا ثالث لهما؛ ومن هنا فقط نستطيع أن نزعم أن الرافعي لم يكن موفقًا في النقد، مع أهليته واستعداده وإحاطته الواسعة وإحساسه الدقيق؛ إذ كان أول ما ينبغي أن يتصف به الناقد هو عفة اللسان والقصد في التهمة وضبط النفس …!
وثمة شيء آخر يفرق بين هذه الخصومة وسائر الخصومات، هو أن المعركة كانت إيجابية من طرف واحد، على حين ظل الطرف الثاني صامتًا قارًّا في موضعه لم ينبس بكلمة، ولم تبدر منه بادرة مشهودة للدفاع …
•••
كتب الرافعي مقالات ثلاثًا بعنوان «على السفود» في نقد ثلاث قصائد أنشأها عبد الله عفيفي في مديح الملك — والسَّفُّود هو الحديدة التي يُشوى عليها اللحم — وهو عنوان له دلالته، وفيه الإشارة والرمز إلى ما حوت هذه المقالات من الأساليب اللاذعة والنقد الحامي، وإذ لم يكن توقيع الرافعي في ذيل هذه المقالات، ولا كان يريد أن يُعرف أنه كاتبها؛ فإنه خرج عن مألوفه في الكتابة وفي نمط الكلام، فاسترسل ما شاء كأنه يتحدَّث في مجلسه إلى جماعة من خاصته، لا يعنيه الأسلوب ولا جودة العبارة ولا عربية اللفظ، بقدر ما يعنيه أن يتأدَّى معناه إلى قارئه في أي أسلوب وبأية عبارة، فكثر الحشو في هذه المقالات من الكلمات العامية، والنكات الذائعة، والأمثال الشعبية، ولكنه لم يستطع أن يتخلص من كل لوازمه في النقد والكتابة، فبقيت له خفة الظل وحلاوة اللفظ وقسوة النقد، إلى بعض عبارات في أسلوبه تنم عليه وتكشف عن سره.
ولم يذكر الرافعي حين أنشأ هذه المقالات أنه يتناول بهذا النقد شاعرًا من شعراء القصر له حظوة عند رئيس الديوان الملكي، وأن هذا الشعر الذي يفليه ويكشف عن عيبه إنما أنشأه ناظمه في مديح الملك، أو لعل الرافعي كان يذكر ذلك، ولكنه يحسب نفسه بنجوة من التهمة؛ لأنه لم يُوقع بإمضائه على هذه المقالات، فلم يتحرج مما كتب وألقى القول على سجيته في صراحة وعنف وقسوة، ولم يصطنع الأدبَ اللائق وهو يتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الشعر الذي يُقال في مدح الملك وما لا ينبغي أن يقال، فجاء في بعض كلامه عبارات لا يسيغها الذوق الأدبي العام عندما يتصل موضوع القول بالملك الحي الذي يحكم ويدين له الجميع بالولاء، وكأنما ركبتْه طبيعة غير طبيعته خيلتْ إليه أنه يكتب في نقد شاعر من الماضين يمدح ملكًا من ملوك التاريخ، فلم ينظر إلى غير الاعتبار الأدبي الخالص من دون ما ينبغي أن يُراعَى من التقاليد واللباقة السياسية عند الحديث عن الملوك …
وانتهت أُولى هذه المقالات إلى القصر، فمالتِ الأفواه إلى الآذان، وتهامس القراء همسًا غير خفي، ثم جهروا يتساءلون: مَن يكون هذا الكاتب؟ ولكن أحدًا منهم لم يفطن إليه ولم يعرف الجواب، وأنفذوا دسيسًا إلى الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب «العصور» يسأله فلم يظفر منه بجواب.
ونُشر المقال الثاني والثالث، فلم يلبثْ أن انكشف السر، ونمَّ الرافعي على نفسه بلسانه في مجالسه الخاصة … أو نمَّ عليه أسلوبه وطريقته في النقد.
وجاءه سائل من القصر يسأله ويستوثق من صحة الخبر في أسلوب السياسي البارع: «… وكيف تأذن لنفسك أن تقول ما قلت في شاعر من شعراء الملك، وأن تكتب عنه بهذا الأسلوب؟ أفيتفق مع الولاء لصاحب العرش أن تكتب ما كتبت لتصرف الشعراء المخلصين عن ساحة الملك …؟ أم تريد ألا ينطق أحد بالثناء على صاحب التاج وألا يكون اسمه على لسان شاعر؟ أم هي دسيسة تصطنع الأدب لتفضَّ المخلصين من رعيته عن بابه …؟»
وغصَّ الرافعي بريقه، وتبيَّن الهاوية تحت قدميه يوشك أن يتردى فيها بحيلة بارعة، وأحس الإبراشي باشا من ورائه يحاول أن يدفعه بعنف لينتقم لكبريائه التي مسها الرافعي بحماقته منذ بضعة أشهر …
وحاول النجاة بنفسه من هذه المكيدة المبيَّتة، فلم يجد له وسيلة إلا الصمت فأوى إليه، وانقطع ما بينه وبين القصر من صلات، إلا الصلة العامة التي بين الملك وبين كل فرد من رعيته، وكان أخوف ما يخاف الرافعي أن تكون خاتمة ذلك هي انقطاع المعونة الملكية عن ولده الذي يدرس الطب في جامعة ليون على نفقة الملك، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد هذه الحادثة بأربع سنين.
•••
لقد كثرُ ما استغلَّ خصومُ الرافعي السياسةَ لينالوا منه، ولقد كثر ما اتهموه بأنه من أدوات الإبراشي باشا في محاربة سلطة الأمة، وأنه صنيعته ومولاه، على حين كان هذا الموقف هو كل ما بين الرافعي والإبراشي باشا من صلات الود والموالاة! فما انقطعت صلة الرافعي بالقصر إلا في عهد الإبراشي، وما كان معه يومًا على صفاء، على أنه كان تلميذًا معه في مدرسة المنصورة الابتدائية فيما أذكر من حديث الرافعي.
•••
لم يكن لهذه المقالات الثلاث التي كتبها الرافعي عن عبد الله عفيفي صدًى في غير هذه الدائرة المحدودة، على أنها أنشأت بينهما خصومة صامتة ظلت مع الرافعي إلى آخر أيامه، وظلت مع الأستاذ عفيفي في أحاديثه الخاصة إلى أصدقائه، وإلى طلابه في كلية اللغة العربية بالأزهر …
فلما مات شوقي أمير الشعراء في خريف سنة ١٩٣٢، كتب الرافعي عنه مقاله المشهور في مجلة المقتطف، وذكر فيما ذكر أن شوقي لو كان مصريًّا خالصَ المصرية لما تهيأتْ له الأسباب النفسية التي بلغتْ به مبلغه في الشعر؛ لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية، ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس.
هو رأي أبداه فيما أبدى من الرأي، لم يقصد به التعريض بأحد أو الحط من مقداره، وقد يكون رأيًا إلى الخطأ أو إلى الصواب، وقد يتكافأ فيه كِفَّتا الخطأ والصواب، ولكنه رأيٌ أبداه الرافعي مجردًا من الهوى، لا يعني به إلا أن يستوفي عناصر بحثه، ولكن خصومه تناولوه على ألوان وفنون.
أما طائفة فمالتْ به إلى السياسة، وقال قائلهم: هذا رجل ليس منا، يريد أن يُنكر فضل مصر عليه وعلى آله، فيتهمها بالعقم وركود الذهن وجمود العاطفة فيجردها من الشعراء … ومضى في دعواه. ذلك سلامة موسى! …
وأما ثانية فقالت: وهذا قول يعنينا به نحن الشعراء المصريين؛ ليجردنا من الشاعرية في قاعدة عامة لا تستثني أحدًا إلا مَن انحدر إلى مصر وفي أعراقه دم غريب … ومضتْ هذه الطائفة تنقض دعواه وتسفه رأيه بما تسوق من الأمثال وتذكر من أسامي الشعراء المصريين.
وانتضى عبد الله عفيفي قلمه ليكتب في جريدة «البلاغ» مقالات أسبوعية بعنوان «مصر الشاعرة»، يذكر فيها من شعراء مصر في مختلف الأجيال منذ كانت مصر العربية، ما يراه ردًّا على دعوى الرافعي، ومضى في هذه المقالات بضعة أسابيع يضرب على وتر واحد، ثم ملَّ هذه النغمة فراح يتصيد موضوعات أخرى من مشاهداته وآرائه في الناس والحياة، ولكن عنوان «مصر الشاعرة» ظل على رأس هذه المقالات يبحث عن موضوعه … فكان حسبه في هذه المقالات أن أنشأ هذا العنوان في الرد على الرافعي! …
•••
وقد ظل الرافعي إلى آخر عمره يذكر أيامه وهو شاعر الملك، ثم ما كان بينه وبين الإبراشي وبين عبد الله عفيفي، وما كانت تظهر للأستاذ عفيفي في الصحف مدحة ملكية، في موسم من المواسم أو عيد من الأعياد، حتى يتناولها الرافعي فيقرأها إلى آخرها، ثم يلتفت إلى جليسه فيقول: «ماذا رأيت فيها من شعر ومن معنًى جديد؟» ثم يسترسل فيما تعوَّد من المزاح والتندر.
وقد ذكرتُ فيما قدمتُ من هذه الفصول أن الرافعي كان يُسمي كل جميلة من النساء «شاعرة» فمنهنَّ كالمتنبي، ومنهن كالبحتري، ومنهن بشَّار بن بُرْد، ومنهنَّ عبد الله عفيفي.
فهذه الأخيرة عنده هي ذلك النوع «البلدي» من نساء الطبقة الثالثة، التي تبدو ملفوفة «محبوكة الأطراف» في ملاءتها السوداء، غضَّةً بضَّة، تستهويك بجمال الجسم دون جمال المعنى، وفيها أنوثة اللحم والدم، ولكنها جامدة العاطفة عقيم الخيال …
ومعذرة إلى الأستاذ عبد الله عفيفي! فإنما أنا راوية أكتب للتاريخ، وما شهدت إلا بما علمت وعليَّ تبعة الرواية وعلى غيري تبعة الرأي، وللأستاذ عفيفي في نفسي على الرغم من ذلك كلُّ إجلال واحترام!
•••
حاشية: كتبتُ هذا للطبعة الأولى من هذا الكتاب، فلم تكد تلك الطبعة تظهر لقرائها حتى كتب إليَّ المرحوم عبد الله عفيفي رسالة عليها الشعار الملكي يطلب إليَّ فيها أن أحدِّد زمانًا ومكانًا للقائه، فلم يغب عني أنها دعوة للحديث في موضوع يتصل بما نشرت عنه في هذا الكتاب، فقررت أن يكون جوابي على هذه الدعوة أن أذهب إليه، تكرمةً له، وكنت يومئذٍ من العمل في زحمة، فمضتْ أيام قبل أن أذهب إليه، واستبطأ المرحوم عبد الله عفيفي جوابي فتحدث إلى بعض أساتذتي يسأله أن يكون رسولًا إليَّ، ثم استبطأه فبعث رسولًا ثانيًا … وحسب الرسولان بما لأحدهما عليَّ من حق الأستاذية في المدرسة وما للآخر من حق الرياسة في عملي بالحكومة وقتذاك، أنهما يملكان أن يقوداني بزمام إلى حيث ألقى السيد عبد الله عفيفي وأعتذر إليه، ولكني رددتهما ردًّا جميلًا، ولكن المرحوم عبد الله عفيفي — فيما يبدو لي — كان حريصًا على أن يلقاني ليتحدث إليَّ حديثًا ما، فبعث إليَّ رسولًا ثالثًا مترفقًا في حديثه، فلبيتُ الدعوة ولقيت الرجل في منزل الأستاذ عبد اللطيف المغربي بالعباسية، وجلست إليه أستمع إلى ما يقول …
قال: «لقد ذكَرْتَني بما لا ينبغي في كتابك، وكان حقًّا عليك أن تسألني قبل أن تكتب عني لتعرف وجه الحق فيما رويت!»
قلت: «إنني فيما كتبتُ لم أكن صاحب رأي، وإنما أسندتُ ما كتبتُه إلى راويه!»
قال: «لو كان راويه كاذبًا دجَّالًا …»
قلت: «صه! ذلك رجل مات فدعْ عنك ذِكرَه، وحدثني بخبرك ووجه الحق فيه!»
قال: «قد علمتُ أنك على نية إصدار كتاب عن المؤثرات السياسية في جيل من الأدباء، فصحح عني بعض ما رويت واذكر أنني لم أكن صنيعة الإبراشي باشا، وإنما عرف مكاني وهيَّأ لي أسبابي توفيق نسيم باشا …!»
قلت: «ولكن ذلك ليس من شأني، فماذا يعنيني أن يكون الذي هيأ لك الأسباب هو الإبراشي أو توفيق نسيم، وإنما حديثي عن الرافعي أو عن المؤثرات السياسية في الأدب!»
فعضَّ الشيخ على شفته وتريَّث برهة، ثم لطف أسلوبه ورقَّ، وقال: «أنا أعني …» ثم عاد إلى الصمت ليستأنف حديثه بعد قليل قائلًا: «أنت تعرف أن الموظفين في القصر ينبغي ألا تعلق بأسمائهم شبهات سياسة، فلستُ أحب أن يُذكر اسمي إلى جانب اسم الإبراشي باشا …»
قلت: «قد فهمتُ! …» فهل فهم القُرَّاء؟
نعم، فقد كان الإبراشي باشا يومئذٍ موضع السخط، على حين كان المرحوم توفيق نسيم باشا في موضع الرضا والحظوة، فلا بأس أن يُذكر أن عبد الله عفيفي كان صنيعة توفيق نسيم لا صنيعة الإبراشي!
وقد قلت في التمهيد لهذا التاريخ: إنني راوية لا صاحب رأي، فلأذكر إذن أن كل ما كان بيني وبين عبد الله عفيفي — رحمه الله — من الخلاف هو: مَن الذي اصطنعه!
الرافعي والعقاد
… إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق لكاتبٍ من كُتَّاب العربية في صدر أيامها!
… ذلك كان رأي العقاد في أدب الرافعي قبل بضع عشرة سنة من هذه الخصومة التي أروي خبرها، وشتان بين هذا الرأي يبديه العقاد سنة ١٩١٧ في مقال ينشره ليُعرِّف بكتاب من كتب الرافعي أنشأه في ذلك العهد، وبين رأيه الأخير في المهذار الأصم مصطفى صادق كما يصفه في سنة ١٩٣٣.
•••
لقد مات الرافعي — يرحمه الله — فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات، وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أول ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال، وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حقٌّ جَحَدَه الجاحدون فنهضتُ للوفاء به، فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسيء، فما ذلك أردت ولا إليه قصدت ولا به رضيت، ولكنها أمانة أحملها كارهًا، وأضطلع بعبئها مضطرًّا؛ لأؤدِّيها إلى أهلها كما تأدَّتْ إليَّ، وإني لأعلم أني بما أكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرَّض بها لما لا أتوقع، ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد، ولا عليَّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعَّد به فلان، فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعتْ، أو يربط بي رابطةً كانت بينه وبين فلان فانفصمتْ، أو يتخذ من الاعتراض عليَّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلًا إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوًى يسعى إليه، إن كان أحد يريد ذلك فليمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمتُ، فلتفترق بنا الطريق أو تلتقِ على سواء، فليس هذا أو ذاك بمانعي من المضيِّ في سبيلي، ومن الله التوفيق!
•••
وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي ومعركة جديدة من معاركه، وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمَن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناءُ ثم مسحتْ على قلبيهما الأيام فتصافيا، فإنه ليُذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر، والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس، فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوةٌ في سالف الأيام فقد انقطعتْ أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخًا لا تجتازه الأرواح إلى أخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية، فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالَم قوانينه وشريعته، فما تَخْلُص ضوضاءُ الحياة إلى آذانِ مَن في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلَّفوا من الآثار في دنياهم.
هنا رجل من الأحياء، وهناك رجل في التاريخ، وشتان ما هنا وهناك، فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماضٍ بعيد، والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان، فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضي البغضاء، وهذا عذيري فيما أذكر من الحديث.
لم يكن بين الرافعي والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من إعجاز القرآن غير الصفاء والود، فلما صدر هذا الكتاب في طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئًا كان هو أول الخصام …
حدثني الرافعي قال: «سعيتُ لدار المقتطف لأمر، فوافقتُ العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الذي كان يلقاني به، فاعتذرتُ من ذلك إلى نفسي بما ألهمتْني نفسي، وجلسنا نتحدث، وسألتُه الرأي في إعجاز القرآن، فكأنما ألقيتُ حجرًا في ماء آسن … فمضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأرًا بينه وبين إعجاز القرآن، ولو كان طعنُه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان عليَّ، ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجازه وإيمانه بهذا الإعجاز … أصدقك القول يا بني: لقد ثارتْ نفسي ساعتئذٍ ثورة عنيفة، فكدت أفعل شيئًا، إن القرآن لأكرم وأعز … ولكني آثرتُ الأناة …»
قال الرافعي: «وأخذتُ أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمرجلًا يتلهب؛ إذ كنتُ أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعًا به، فأخذت معه في الحديث، على هدوئي وثورة أعصابه … ولم أفهم إلا من بعدُ ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه …»
قال: «لقد كان العقاد كاتبًا من أكبر كُتَّاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند «سعد» منزلة لا يراها لكاتب من الكُتَّاب أو أديب من الأدباء، وأن له على سعد حقًّا، ولكن سعدًا مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه: «كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.» وكتبها للرافعي وليس له عليه حق مما عليه للعقاد …»
قال الرافعي: «… من هنا يا بني كانتْ ثورته، كانت ثورة الغَيْرة … لا ثورة الأديب الناقد الذي لم يقنع بما كتب الكتاب عن إعجاز القرآن فهو يلتمس المعرفة والاقتناع، وعرفت ذلك من بعد، فما بدا عليَّ ما في نفسي من الانفعال، ومضيت معه في الحديث في وجه جديد. قلت: أنت تجحد فضل كتابي، فهل تُراك أحسن رأيًا من سعد؟»
قال الرافعي: «وفهم ما أعنيه، فقال: وما سعد؟ وما رأي سعد؟»
قال الرافعي: «وابتسمتُ لقوله ذاك، وأجبته: يا سيدي، إن الرافعي ليس من الحماقة بحيث يسأل هذا السؤال في صحيفة من الصحف فتنشر السؤال ولا ترد عليه، فيكون في سؤالي وفي صمتك تهمة لي، وتظل أنت عند قرائك حازمًا أريبًا بريئًا من التهمة مخلصًا لذكرى سعد!»
قال الرافعي: «وما قلتُ ذلك — وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي — حتى تقبَّض وجهه، وتقلَّصتْ عضلاته، ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فما لك أنت ولسعد؟ إن سعدًا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه ومزوِّره، ثم نحلتَه إياه لتصدِّر به كتابك فيروج عن الشعب!»
•••
هذه رواية الرافعي، حدثني بها غير مرة في غير مجلس، كما تحدَّث بها إلى غيري من أصدقائه وخاصته، فما لي فيها إلا الرواية والتصرف في بعض الكلام؛ تأدُّبًا مع العقاد وكرامة لذكرى الرافعي.
وقد بدا لي أن أستوثق مما حدثني به الرافعي، فقصدتُ إلى الأستاذ فؤاد صرُّوف — محرر المقتطف — أسأله الرأي في هذه الرواية؛ إذ كان من شهود الحادثة على ما رواها الرافعي، فقال: «… هذا الحديث في جملته وفي موضوعه لا اعتراض لي عليه، وبقدر ما تطاوعني الذاكرة أستطيع أن أجزم بأن شيئًا من ذلك قد كان، ولكن الذي رواه لك الرافعي من حديث العقاد في هذه المناظرة ليس على نصِّه، قد يكون هذا مُؤَدَّى ما قال ولكنه ليس به، والرافعي — رحمه الله — كان أصمَّ، ولم يكن كل الحديث بينهما مكتوبًا، وقد قال العقاد في مناظرته كلامًا لم يكتبه ولم يسمعه الرافعي، ولكنه تخيَّله على ما أحسب، فكانت روايته للحادثة من بعدُ معنًى يرويه لا لفظًا يحكيه.
… ولكني مع ذلك لا أنكر ما كان من حديث العقاد في هذه المناظرة عن القرآن وإعجاز القرآن، ورأيه في ذلك يعرفه أصحابه!
ثم لا أدري من أين جاء الرافعي أنني دعوت العقاد أن يغادر المكان، فما كان ينبغي لي هذا، ولا هو من آدابي، وإنهما لضيفان في داري، وأحسب أن الرافعي قد فهم ذلك خطأ حين رأى العقاد يغادر المجلس!»
على السفود
وفرغ الرافعي من مقالات عبد الله عفيفي التي كان ينشرها بعنوان «على السَّفُّود»، ثم ذهب مرة لزيارة صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور وما يزال في نفسه شيء مما كان من المحاورة بينه وبين العقاد، فسأله الأستاذ مظهر تتمَّة هذه السلسلة في نقد الأستاذ عفيفي، فاعتذر الرافعي وقال: حسبي ما كتبتُ عنه وحَسْبُه، قال مظهر: فاكتب عن غيره من الشعراء، إن في هذه المقالات لمثالًا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!
فتنبه الرافعي إلى شيء في نفسه، وجلس إلى مكتب في دار العصور فكتب مقاله الأول من كتاب على السفود في نقد العقاد، وتوالتْ مقالاته من بعدُ في أعداد المجلة متتابعة في كل شهر، فلما تمَّتْ هذه المقالات، نشرها الأستاذ إسماعيل مظهر في كتاب قدَّم له بمقدمة بإمضائه يُبيِّن فيها ما دفعه إلى نشر هذا الكتاب الذي لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بكلمة «بقلم إمام من أئمة الأدب العربي».
•••
إن هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزتْ ميدانها الذي بدأتْ فيه ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلتْ كلًّا من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليَلِغَ في عِرْض صاحبه ويأكل لحمه من غير أن يتذمَّم أو يرى في ذلك معابة عليه، وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته على السفود …
هم ثلاثة أو أربعة من كُتَّاب العربية في الجيل الحديث كانت لهم هذه الخلة المرذولة في النقد وفي أساليب الجدل، هذان اثنان منهم، وكان للرافعي مع كل واحد من الاثنين الآخرين معركة، على أن أشد هذه المعارك عنفًا وأبعدها عن حدود الأدب اللائق هي المعركة بينه وبين العقاد!
وكان بدء هذه المعركة هو ذلك الحديث الذي دار بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب إعجاز القرآن، وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي، فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن والعقادُ يُنكِر إعجازه، ولكتابه والعقاد يجحد فضله، ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحَلَه إياه في تقريظ إعجاز القرآن ليروج عند الشعب …
فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة، هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيمانًا لا يتناوله الشك، وسببان خاصان، هما: رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفترٍ كذاب …!
تُرى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعه إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات «على السفود» …؟
الرافعي يقول: إنها غضبة لله وللقرآن، وللتاريخ رأيٌ لست أدري أيفارق هذا الرأي أو يلتقي وإياه على سواء …؟
ولكن كتاب على السفود مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف، فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد، ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام، فأين هذا مما دارتْ عليه المعركة من أسباب الخصام … الرافعي يقول: هذا أسلوب من الردِّ قصدت به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه، حتى إذا تقرَّرت منزلته الحقيقية في الأدب عند قرَّاء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن، وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن مَن لا يستقيم منطق العربية في فكره، ولا يستقيم بيانها على لسانه؟ … هكذا يقول الرافعي! …
ومِن ثَمَّ بدأتِ المعركة على أعين القراء …
•••
… أردنا بنشر السفود أن نُرضي من أنفسنا نزعتها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سببًا في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى …
… ونقدم بهذه المقدمة تعريفًا لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم يُنسج على منوالها في الأدب حتى الآن!
وعسى أن يكون السفود «مدرسة» تهذيب لمن أخذتْهم كبرياء الوهم، ومثالًا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة! …
أما أن تكون هذه المقالات الانتقادية لم يُنسج على منوالها في الأدب الحديث، فنَعم، وأما أن تكون مدرسةً للتهذيب ومثالًا يحتذيه النَّقَدة، فلا … فليس بنا من حاجة إلى أن يحتذي النقدةُ هذا المثال في أسلوب النقد والجدل فيزيدوا عيبًا فاحشًا إلى عيوب النقد في العربية.
والحق الذي أعتقده أنَّ في هذا الكتاب — على ما فيه — نموذجًا في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها، ولكن فيه مع ذلك شيئًا خليقًا بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أذَمُّ الصور وأقبح الألوان، بما فيه من هُجْر القول ومُرِّ الهجاء، ولئن كان هذا مذهبًا معروفًا في النقد للرافعي وخصمه واثنين آخرين من كُتَّاب العربية في هذا الجيل، إننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصحَّ أدبًا وأعفَّ لسانًا من ذاك …!
ذلك رأي قلته للرافعي — يرحمه الله — فما أنكره عليَّ ولا اعتذر منه، فما يمنعني اليوم شيء أن أعلنه صريحًا إلى الأدباء، ولقد همَّ الرافعي منذ سنوات أن يجمع كل ما كتب في النقد بعد كتاب «المعركة» في كتاب واحد، فأبديتُ له الرأي أن يضم إلى هذا المجموع مقالات «على السفود» بعد أن يجرِّدها مما يعيبها حرصًا على ما فيها من الفن، فارتاح لهذا الرأي واطمأنَّ إليه، ولكنه لم يفعل؛ إذ حالتِ الحوائل دون تنفيذ فكرته.
وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغمورًا في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة، وهيهات أن تقبل عليها النفس، وإنها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يكتنفه هذا الكلام النازل من هُجْر القول ومر الهجاء.
ولقد كان الرافعي نفسه يعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول، وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة، ولكن الرافعي مع ذلك كان مطمئنًا إلى شيء آخر …
قال الرافعي: «… قال لي قائل: لقد قلتَ في العقاد ما كان حريًّا أن يقفه وإياك أمام القضاء! … قلت: ولكني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها! إنني كنت أهاجم العقاد بمثل أُسلوبه في النقد، وإن معي لورقات بخطِّه لا يسرُّه أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح، ولقد قرأتُ من هذه الورقات على مستشار كبير فأيقن بما أنا موقن به وحكمتْ لي محكمتُه …!»
ذلك حديث الرافعي … فهل كان هذا حسْبَه من العذر فيما كتب؟
على أن كثيرًا من قراء «على السفود» يضعونه في غير هذا الموضع الذي أضع، مؤمنين بأن في الأدباء طائفة لا يمكن مناقشتها إلا بمثل أسلوب على السفود!
•••
انتشر كتاب «على السفود» وتناوله القراء على أن كثيرًا منهم لم يعرف كاتبه إلا بعد سنين … وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذٍ هو كاتب الوفد الأول، والوفدُ هو الأمة كلها، قراؤها وعامتها وشيوخها وشبابها، فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمامَ الكُتَّاب وأمير الشعراء، لا يُعاديه إلا خارج على الأمة أو مارقٌ من الوطنية، ولو كانتْ عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن.
•••
ثم كانت هُدنةٌ بين الرافعي والعقاد، صمتَ فيها الخصمان طويلًا وكل منهما يتربص بخصمه ليضربه الضربة القاضية، حتى كان خريف سنة ١٩٣٢.
مات المرحوم شوقي في أكتوبر سنة ١٩٣٢، فاهتزتْ لموته المجامع الأدبية في مصر والشرق، فما تجد من كاتب أو أديب من أبناء العروبة إلا اهتمَّ لهذا النبأ واحتفل به، وتهيأتِ «المقتطف» لكتابة فصل أدبي عن أمير الشعراء فأفرغتْ بضع عشرة صفحة من العدد الذي كان موشكًا أن يصدر، وأبرقتْ إلى الرافعي في طنطا أن يكتب هذا الفصل ويرسله إليها في أيام قبل أن يتم طبع العدد.
ولم يكن بين الرافعي وشوقي من صلات الودِّ ما يتيح له أن يعرف شيئًا من حياته يُعينه على دراسة أدبه، ولا كان الرافعي مستعدًّا لهذه الدراسة، ولا تهيأت له من قبلُ أسبابها ودواعيها لينشئ موضوعه على الوجه الذي يرضاه في ذلك الوقت العاجل، وإن الرافعي لكثير الأناة والتأنق فيما يكتب، فلا يبدأ في إنشاء موضوعه حتى يخلِّي له فكره أيامًا وليالي، يبحث ويوازن، ويزاوج ويستنبط، ثم يتهيأ للكتابة وقد استوى الموضوع في فكره كأنما قرأه لساعته في كتاب، ولكن كل أولئك لم يمنع الرافعي أن يجيب محرر المقتطف إلى ما طلب ويرسل مقاله في الموعد المضروب، وكانت دراسةً أعتقد أن أحدًا من كُتَّاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله، فأنصف شوقي، وجلَّى عبقريته، وكشف عن أدبه وفنه ومذهبه، دع عنك بعض هنوات قليلة لا تغضُّ من قيمة هذا البحث الفريد.
وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماه غلطات في النحو أو اللغة، أن شوقي أخطأ في رفع جواب الشرط من قوله:
وهي هناة صغيرة قد يجد لها بعض العلماء بقواعد العربية وجهًا من التعليل وبابًا من العذر.
والعقاد أديب له شهرته العريقة في عداوة شوقي والزراية بأدبه وفمه، فما يعرف أدباء العربية أحدًا كان أبلغَ عداوة لشوقي أو أحدَّ لسانًا في نقده من العقاد!
ولكن العقاد لم يكد يفرغ من قراءة مقالة الرافعي في المقتطف، حتى تناول قلمه ليكتب كلمة يردُّ بها رأي الرافعي في نقد هذا البيت ويعتذر عن شوقي … وكان للعقاد نصيب من التوفيق فيما كتب!
ليت شعري! أفعلها العقاد دفاعًا عن شوقي وهو مَن هو في عداوته؟ أم تحدِّيًا للرافعي …؟
أفلم يجد العقاد في بضع عشرة صفحة يكتبها الرافعي مباهيًا بشوقي، مفاخرًا بأدبه وفنه وعبقريته، شيئًا يستحق الردَّ والتعليق غير هذه الكلمة؟ هذا سؤال سألتُه نفسي يومئذٍ، وأحسب أن كثيرًا من القرَّاء سألوه أنفسهم، ولكن جواب هذا السؤال معروف لكل مَن يذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، ثم ما كان بين العقاد وشوقي منذ قريب!
وقال لي الرافعي: «ماذا ترى فيما كتب العقاد؟»
قلت: «أنا وهو على رأي واحد فيما يردُّ به!»
فمطَّ شفتيه ساخرًا وهو يقول: «أخطأتَ، وأخطأ العقاد، وأخطأ المتأخرون من علماء النحو في العربية … ليس الرأي ما يقول العقاد وتوافقه عليه …»
وتملكه عناده وكبرياؤه، فأنشأ مقالة طويلة مسهبة يردُّ بها رأي العقاد ويصرُّ على تخطئة شوقي في رفع جواب الشرط من هذا البيت، ويتهم المتأخرين من علماء النحو بالغفلة وقلة البصر بأساليب العربية، ثم يُفيض ويسترسل في بيان الأوجه التي يجوز رفع جواب الشرط فيها، وما يصيب منها وما يخطئ.
وإذا لم يكن لي في هذا المجال أن أصرح بالرأي فيما كتب الرافعي في هذا الموضوع، فإنَّ لي أن أردَّ كل شيء إلى أسبابه فأزعم أن الرافعي لم يكتب ما كتب خالصًا لوجه العربية، ولكنها الكبرياء والاعتداد بالنفس وخوف الهزيمة أمام العقاد في معركة أدبية …!
ولست أكتم هنا أنَّ الرافعي كان يسيء الظنَّ بفهم العقاد لقواعد اللغة؟ فما يرى شيئًا من مثل ما كتب في ذلك الموضوع مما يشير إلى بصره بقواعد العربية إلا اتهمه بأنه يستعين فيه بأصدقائه من أهل العلم بهذه اللغة، وأحسبه قال لي مرة: إنَّ الذي يُعين العقاد في ذلك هو صديقه الأستاذ عباس الجمل!
وانتهتْ هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعًا بما كتب في الردِّ على العقاد، فبقي في نفسه شيء يحمِّسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلًا ثم كانتِ المعركة الفاصلة …
وحي الأربعين
وكانت هدنة استمرَّت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه «وحي الأربعين»، ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان، ثم كان عيد من الأعياد، فغدوتُ على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء، حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف، والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تُخرج المطبعة العربية، فلم يكن ثمَّةَ بدٌّ من الحديث في الأدب، وفي الشعر وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي ويحلو لمخلوف، ولو استغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحى إلى العصر، والبطن خاوٍ يطلب الطعام، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!
وسأل الرافعي مضيفه: «ماذا عندك من الجديد في الكتب؟»
وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: «وحي الأربعين!»
ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد! …
وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: «لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه، وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أولَ ما تقع على أردإ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه، وإن بيني وبين العقاد لَسابقَ عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن، فهاكما الديوان فقلِّبا فيه النظر، وتداولا فيه الرأي، ثم دُلاني على أجود ما فيه لنقرأه معًا فنحكم له أو عليه مجتمعين، ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة …!»
ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرؤه بيتًا بيتًا، والرافعي منصرف عنا إلى كتاب بين يديه … ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه، فقال: أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا … إذن فلنقرأ الديوان معًا من فاتحته، فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره.
وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه، ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء، وكان الأستاذ مخلوف أكثرنا حماسة في النقد، ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكلٍّ رأي يبديه، ثم طوينا الديوان وأخذ مخلوف يتحدث في موضوعه …
وقال الرافعي يخاطبه: «وما دمتَ على هذا الرأي في الديوان، فلماذا لا تنشره، إن لك لسانًا وبيانًا، وإنه لنقد يستحق أن يقرأه أدباء العربية …!»
وتردد مخلوف قليلًا ثم سمع مشورة الرافعي … وتهيأ لكتابة نقده …
ومضى أسبوع، ثم نشر «المقطم» في صدره مقالًا مجودًا للأستاذ مخلوف في نقد ديوان وحي الأربعين، تناوله بأدب وهدوء في بضعة عشر موضعًا، وأرجأ بقية النقد إلى عدد تالٍ … ومضى يومان وكتب العقاد في صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد ردَّه على مخلوف …
لم يكن مخلوف حين كتب مقاله الأول للمقطم مقدرًا أن العقاد سيتناوله بهذه القسوة، ولكنه فوجئ مفاجأة شديدة بما كتب العقاد …
لم يردَّ العقاد ردَّ الأديب على ناقده، ولكنه راح يتهكَّم عليه ويسخر منه ويستهزئ بعلمه وأدبه ومقدرته على فهم الشعر، وإذ كان مخلوف من مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، فإن العقاد قد انتهزها سانحة ليطعن على مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، ويلحد في كفايتهم وعلمهم، ويعود بالسبب في ضعف اللغة العربية في المدارس على مخلوف وزملاء مخلوف، ولم تسلم مدرسة دار العلوم التي تخرَّج فيها مخلوف، ولم يسلم واحد من مدرسي اللغة العربية، من تهكم العقاد وسخريته في هذا المقال؛ لأن واحدًا منهم كتب ينقده ويحاول رده إلى الصواب فيما رآه أخطأ فيه …!
وكتب مخلوف مقاله الثاني يردُّ مطاعن العقاد، ويتمم ما بدأ في نقد وحي الأربعين، ولكن المقطم أغلقتْ دونه الباب ولم تنشره؛ كرامةً للعقاد وحرصًا على مودته …
وغضب مخلوف وتألَّم، ولكنه طوى صدره على ما فيه … وكنا جماعةً من مدرسي اللغة العربية نصلي الجمعة كل أسبوع في مسجد المنشاوي بطنطا، فلقينا هناك مخلوفًا فما رآه المدرسون حتى انهالوا عليه وركبوه بالعتب القاسي، وكلهم قرأ مقال العقاد في الطعن على مدرسي اللغة العربية بسبب مخلوف، وقليل منهم من قرأ مقال مخلوف، وحاول مخلوف أن يعتذر، ولكن اعتذاره ضاع بين ضجيج إخوانه وحمْلتهم عليه فلم يستمع له أحد!
وقلت للرافعي مازحًا ولقد لقيتُه بعد ذلك: «لقد كنتَ أنت السبب فيما نال مخلوفًا من إخوانه، وفيما نال مدرسي اللغة العربية من لسان العقاد، فأنت الذي هِجت مخلوفًا إلى هذه المعركة، فانتهتْ إلى ما انتهتْ إليه بينه وبين إخوانه، وكانت سببًا فيما كتب العقاد عن دار العلوم ومدرسي اللغة العربية …»
وكان لمخلوف عند الرافعي منزلة، ولدار العلوم في نفسه مكان، ولكنه أجابني: «وماذا عليَّ أنا فيما كتب مخلوف، وفيما ردَّ العقاد؟»
قلت: «لولاك لم يكتب مخلوف فيتعرض لما تعرض له من لسان العقاد ومن عتب إخوانه، ولولا ما كتب مخلوف لبقيت دار العلوم بريئة من العيب لم يطعن فيها العقاد ولا غير العقاد!»
وقصدت فيما قلت — ومعذرةً إلى الأستاذ العقاد — أن أُهيج الرافعي للكتابة عن العقاد، فيشهد أدباء العربية معركة جديدة بين الأديبين الكبيرين يكون لهم من ورائها نفع ومتاع ولذة … وبلغتُ ما قصدتُ إليه، ووعد الرافعي بأن يكتب ما في نفسه من ديوان وحي الأربعين، ولكن على شرط أن أشتري له نسخة على حسابي من الديوان؛ لأنه يأبى أن يدفع قرشًا من جيبه في كتاب من كتب العقاد …!
ونفذت الشرط، وتهيأ الرافعي للكتابة عن وحي الأربعين، ومضت أيام، ثم دعاني ليملي عليَّ مقاله الأول في نقد الديوان …
صدر «وحي الأربعين» في سنة ١٩٣٣ والسياسة المصرية يومئذٍ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تُمكن لنفسها بالحديد والنار، و«الوفد» ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذٍ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنينًا ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق في كل مدينة وكل قرية، فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء هو أبلغ مَن كتب، وأشعر مَن نظم، حتى ليئول أمره من بعدُ إلى أن ينحله الدكتور طه حسين لقب أمير الشعراء!
ولقد يكون العقاد يومئذٍ على حقيقته هو سيد الكُتَّاب وأمير الشعراء أو لا يكون، ولكن هذه هي كانت منزلته عند الشعب يومئذٍ، فلا يُعاديه أحد إلا كان عدو الأمة، ولا يعرض له أحد بالنقد في أي منشآته الأدبية والسياسية إلا كان في رأي الشعب «دسيسة» وطنية.
هذه هي كانت الحقيقة في تلك الحقبة من التاريخ التي امتزج فيها الأدب بالسياسة امتزاجًا جعل طائفة كريمة من الأدباء يؤثرون الصمت واعتزال الأدب على أن ينزلوا بأنفسهم إلى معترك لا يعرفون أين تبلغ بهم عواقبه، ولكن الرافعي رجل كان لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، فهو لا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته، وسواءٌ عنده أكان رأيه هو رأي الجماعة أم لا يكون ما دام ماضيًا على طريقته ونهجه، ولقد قدمت القول بأن الرافعي كان يتربص بالعقاد لينزل إليه في معركة حاسمة تنقع غُلَّته وتبرئ ذات صدره، فما إن تهيأت له الأسباب بصدور «وحي الأربعين» حتى تحفَّز للعراك، وكان ما بين العقاد ومخلوف هو السبب المباشر الذي ألهب حمية الرافعي، فنزل إلى الميدان مستكملًا أهبته مزوَّدًا بسلاحه، غير مكترث بما قد يناله من غضب الآلاف من القراء الذين يُقدسون العقاد الكاتب تقديسًا أعمى فلا يفرقون بين العقاد السياسي والعقاد الأديب …!
… وأرسل الرافعي يستدعيني إليه ذات مساء، فرحت إليه بعد العشاء بقليل، فإذا هو جالس إلى مكتبه، وعلى مقربة منه «وحي الأربعين» وإن عليه عباءة حمراء في لون عُرف الديك، وفي عينيه فتور وضعف ينبئ عن السهر والجهد العميق، فإنه ليبدو في مجلسه ذلك كأنه عائد لساعته من معركة حمراء …!
قال: «لقد فرغت من قراءة الديوان منذ قليل، وإن لي فيه لرأيًا، فهل تساهرني الليلة حتى أملي عليك ما أعددت في نقده؟»
كانت هذه أول مرة يملي الرافعي عليَّ فيها من مقالاته، فكانت فرصةً سعيدة لي، أشهد فيها الرافعي حين يُلَقَّى الوحي، وأصحبه في سبحاته الفكرية يقتنص شوارد الفِكَر وأوابد المعاني، وكانت فرصة سعيدة له أنْ وجد يدًا غير يده تحمل له القلم حين يكتب لنفسه، ويخلو بفكره، وما تعوَّد قبلها أن يكتب وفي مجلسه إنسان، وإن أثقل شيء عليه أن يكتب بيده، ولكن أثقل من ذلك عليه أن يعرف أن عينًا تلاحظه وهو يكتب، فما زال يكتب لنفسه منذ بدأ، متبرمًا بهذه المهمة، ضيق الصدر بما يبذل في الكتابة من جهد، وإن خطه لأردأ خط قرأتُ في العربية … حتى اصطفاني لهذا الواجب، فلزمتُه ثلاث سنين لا يهم بكتابة مقال إلا دعاني ليمليه عليَّ، حتى انتقلتُ من طنطا فعاد إلى ما كان من عادته، يملي على نفسه ويكتب لنفسه، ولم يسترح إلى كاتب بعدي يُشركه في جلوة الوحي وخلوة الكتابة!
•••
… وجلس فأملى عليَّ مقاله من قصاصات في يده لا تزيد إحداها على قدر الكف، فما فرغ من الإملاء، حتى أذن الفجر، وحتى كانت لهذه القصاصات بضعًا وعشرين صفحة كبيرة، تشغل بضعة عشر نهرًا من جريدة البلاغ، وكانت ليلة تحملتُ فيها من الجهد والمشقة ما لم أتحمل في ليلة غيرها، فقمت منهوك القوة عيان، وقام الرافعي في مثل نشاط الشاب في عنفوانه، كأنما كان عليه عبء فرماه عن كتفيه …
وكان بين البلاغ والعقاد خصام، وكان بينه وبين الرافعي مودة، فما كادتْ تصل إليه مقالة الرافعي في البريد المستعجل ظهر ذلك اليوم، حتى أعلن عنها وبشَّر القراء أن ينشرها في غد … وشغلت من البلاغ ثلاث صفحات في يومين … وكان نقدًا مُرًّا حاميًا اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحِدَّة طبعه، وحرارة بغضائه.
أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية: إن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر وأقربها إلى المثال الصحيح، لولا هفوات قليلة يُعفيه من تبعتها أنه إنسان!
من قرأ «على السَّفُّود» فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان يُنزله من نفسه فليقرأ مقال الرافعي في نقد «وحي الأربعين» ليرى الرأي المجرَّد في شعر العقاد عند الرافعي …
ومضى يوم واحد، وظهرت صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد وفيها ردُّ العقاد على الرافعي، وقد نفذ إليه من باب لم يحسب الرافعي حسابه، فتغيَّر وجه الحق، ودارت المعركة حول محور جديد …
كان عنوان مقالة العقاد «أصنام الأدب» فيما أذكر، وكان مدار القول فيها هو الطعن على رجلين، هما: إسماعيل مظهر، والمهذار الأصم مصطفى صادق الرافعي، وكان أكثرها سبابًا وشتيمة وأقلها في الرد والدفاع، على أنَّ العقاد لم يرد رأي الرافعي فيما أخذ عليه من مآخذ إلا في مواضع قليلة، وترك الردَّ في أكثر ما عاب عليه الرافعي، مستعيضًا عن الردِّ بالشتم والسباب …
وإذا كان السبب مفهومًا في طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه، فأي سبب حمل العقاد على أن يُشرك إسماعيل مظهر مع الرافعي فيما وجَّه إليه من الشتم والتهمة؟
جواب ذلك يفهمه مَن يذكر أنَّ إسماعيل مظهر صاحب العصور، هو طابع كتاب «على السفود» وناشره ومروِّجه. أفنستطيع أن نحكم من هذا بأن العقاد لم يكن يعني الردَّ على مقال الرافعي الأخير وحده، ولكنه وجدها فرصة سانحة لتصفية الحساب القديم كله بينه وبين الرافعي وصاحبه الذي أغراه على كتابة «على السفود».
وكان الباب الذي نفذ منه العقاد في الطعن على الرافعي، هو اتهامه في وطنيته، وإيهامه قُرَّاءَه بأن الرافعي لم يكن لينقده إلا لأنه هو العقاد السياسي الوفدي عدو الحكومة المتسلطة على الناس بالحديد والنار! وحسبك بها من تهمة حين يقولها العقاد!
إن للعقاد مفاجآت عجيبة في النقد، تمثل العقاد الكاتب المرن المحتال في أساليب السياسة، أكثر مما تمثله ناقدًا محيطًا يدفع الرأي بالرأي والبرهان بالبرهان!
وقرأتُ مقالة العقاد في الردِّ على الرافعي، فوجدت أسلوبًا في الردِّ يُؤلم ولا يُفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج، فما فرغت من قراءة المقال حتى تمثل لي الرافعي مُرْبَدَّ الوجه من غيظ وغضب، مُزبد الشدقين من حنق وانفعال، فسرني أن أسعى إليه قبل ميعادي؛ لأراه في غيظه وحنقه وانفعاله، فانتهزت ساعة فراغ في الظهر، فمضيت إليه في المحكمة، فما كاد يراني مقبلًا عليه حتى هتف بي وهو يبتسم ابتسامة المسرور، ثم قال: «أقرأت مقال العقاد؟» قلت: «نعم.» قال: «فماذا رأيت فيه؟» قلت: «لقد كان شديدًا مؤلمًا!» فضحك وقال: «والله، ما رأيت كاليوم! لقد ضحكتُ حتى وجعني قلبي من شدَّة الضحك … إنه لم يكتب شيئًا ولم يردَّ على شيء، إنَّ سبابه وشتمه لن يجعلاه عند القرَّاء شاعرًا كما يشتهي أن يكون، وإن حَسِب أنه بذلك يكسب المعركة، وقد حقَّ عليه ما قلتُ فيه، وإنه ليعترف إن فراره من الردِّ إلى السباب والشتيمة ليس إلا اعترافًا بالعجز …»
قلت: «إذن فأنت لا تنوي الردَّ؟»
قال: «وأي شيء تراه يستحق الردَّ فيما كتب؟»
قلت: «ولكن القرَّاء لن يفهموا سكوتك على وجهه، ولن يسمُّوه إلا انسحابًا من المعركة …! أفترضى أن يقال عنك …؟»
وبدا على الرافعي كأنه اقتنع، وهاجتْه كلماتي مرة أخرى إلى النضال، ومعذرةً ثانية إلى العقاد!
إن معركة تدور رحاها بين العقاد والرافعي جديرة بأن يحتفل لها الأدباء، وأن تنال من اهتمامهم أوفى نصيب، وإن لهم فيها لمتاعًا ولذة وفائدة، وما كان لي أن أقنع وقد هجتُ هذه المعركة بما فيها من متاع ولذة وفائدة بأن تنتهي من أول شوط!
وقال لي الرافعي: «هل توافيني الليلة لأملي عليك؟»
فواعدته، وذهبت إليه في المساء فأملى عليَّ فصلًا من نسخته الخاصة لكليلة ودمنة بعنوان «الثور والجزار والسكين!» ثم أتمَّه مقالًا في الرد على العقاد، وكان فصلًا قاسيًا عنيفًا، ليس من مذهب المقال الأول ولا نهجه؛ إذ لم يكن المقصود به النقد وحسب، بل الرد والسخرية والإيلام، ثم قطع السبيل وتدعيم الدليل وتقرير المعنى فيما قدَّم من مواضع النقد.
ثم رد العقاد ليعلن انسحابه من المعركة شاكرًا اللذين أيَّدوه، معتذرًا من عدم الاستمرار في مناقشة دعوى الرافعي! واستمر الرافعي يكتب حتى فرغ.
وكان النصر للرافعي عند طائفة، ولكن خسر عطف الآلاف من أصدقاء العقاد الكاتب الوطني الكبير؛ إذ لم يرَوْا عداوة الرافعي له في الأدب إلا دسيسة سياسية من خصوم العقاد!
•••
وانتهت المعركة الأخيرة بين الرافعي والعقاد، ولكن الرافعي لم يقتنع بما نال من النصر عند الصفوة من القراء الذين يفرقون بين الأدب والسياسة؛ إذ كان على يقين أنه وإن كانت له الغلبة، قد خسر أكثر الطائفتين من قرائه؛ لأنهم على مذهب العقاد السياسي، فظلَّ مغيظًا محنقًا إلى حين …
ومضت سنتان، وتقلبت السياسة المصرية من تقلباتها، فإذا العقاد الذي كان كاتبَ الوفد الأول خارجٌ على الوفد، يطعن عليه وعلى رئيسه، وأنصارُ الوفد ما يزالون إلى يومئذٍ أكثر الأمة … ووجد الرافعي الفرصة سانحة لينتقم، وليستخدم السياسية في النَّيل من خصمه في الأدب فيكيل له صاعًا بصاع ويحاربه بمثل سلاحه، فكتب مقالًا بغير توقيع في كوكب الشرق، جريدة الوفد، بعنوان «أحمق الدولة»، وكان مقالًا له رنين وصدًى …
ونشر في «الرسالة» يومئذٍ كلمات تحت عنوان «كلمة وكليمة» عرَّض فيها بالعقاد الخارج على الوفد تعريضًا أليمًا يؤذيه، لم يتنبَّه له إلا القليل.
وكان مقاله عن العقاد في كوكب الشرق، وكليماته في الرسالة، سببًا في أن يدعوه الأستاذ توفيق دياب ليحرر في «الجهاد» بأجر كبير، ولكن لم يتم بينهما اتفاق.
ولم تكن تسنح للرافعي سانحة لغيظ العقاد إلا انتهزها، فما كتب الرافعي عن شاعر من الشعراء بعد ذلك إلا جعل نصف كلامه تعريضًا بشعر العقاد، ومن ذلك ما كتب عن الشاعر المهندس علي محمود طه في المقطم، وما نشره عن الشاعر محمود أبو الوفا في الرسالة، ومقالته «بعد شوقي» معروفة مشهورة، وكلها تعريض بشعر العقاد الذي نحله الدكتور طه حسين إمارة الشعر في يوم من الأيام بعد شوقي!
•••
والعداوة بين الرافعي والعقاد من العداوات المشهورة بين أدباء الجيل، ولها أثر أي أثر فيما أنتج كل من الأديبين الكبيرين في أدب الوصف، ولا تداني هذه العداوة في الشهرة إلا العدواة بين الرافعي وطه حسين.
وأحسب أنه كان في الإمكان أن يجتمع العقاد والرافعي في تحرير الرسالة لولا ما كان بينهما من خلاف وعداوة، قال لي الأستاذ الزيات صاحب الرسالة مرة قُبيل موت الرافعي: «وددت لو يكتب العقاد في الرسالة، ولكنما يمنعني من دعوته إلى ذلك أنني لا أستطيع أن أنشر له وللرافعي في عدد واحد!»
قلت: «فماذا يمنع؟»
قال: «أنت تعرف أخلاق الرافعي، وأنا أعرف أخلاق العقاد، وإن لكل منهما اعتدادًا بنفسه بإزاء صاحبه، فأي المقالين أقدم وأيهما أؤخر في ترتيب النشر؟ إن تقديم مقال على مقال ليس شيئًا ذا بال، ولكنه مع الرافعي والعقاد له شأن أي شأن!»
وظل صاحب الرسالة معنيًّا بهذا الأمر، حريصًا على أن يجمع بين الأديبين الكبيرين في مجلته، وهو يلتمس السبيل إلى ذلك فلا يُوفق، حتى مات الرافعي فانحلَّت المشكلة، ودخل العقاد، ولكن بعدما خرج الرافعي!
رحم الله الراحل، ونفع بالباقي!
فترة جِمام
نفض الرافعي يديه من المعركة بينه وبين العقاد، ثم فاء إلى نفسه، وعاد إلى دار كتبه يطالع ويقرأ ويتزوَّد … واختفى اسمه من الصحف والمجلات أشهرًا، كان في أثنائها يتهيأ لإتمام كتابه «أسرار الإعجاز»، ويعمل في الوقت نفسه على جمع ما نشر من المقالات في الفترة السابقة وترتيبها، ليخرجها كتابًا يسميه «قول معروف …»
على أن عنايته بشأن هذين الكتابين: أسرار الإعجاز، وقول معروف، لم تمنعه أن يكون له في كل يوم ساعات محدودة للقراءة والاطلاع، وكانت هذه الساعات المحدودة في أكثر لياليه تمتد من المغرب إلى منتصف الليل، وأستطيع أن أقول: إن هذه الفترة على ما كان يبذل فيها من جهد، كانت فترة جِمام وراحة لم ينعم بمثلها فيما بقي من حياته، وكنت بصحبته يومئذٍ قريبَ العهد، ولكني كنت ألصق أصحابه به، فكان لي معه كل يوم ساعات، يقرأ لي وأستمع إليه في داره، أو أماشيه في الخلاء، أو أجالسه في القهوة، أو أصحبه إلى السيما، وكان عليَّ في هذه الفترة وفيما بعدها من الزمن، أن أقرأ ما يهدَى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يجدي عليه أن يقرأها؛ ضنًّا بوقته على قراءة ما لا يُفيد، وكثيرًا ما كان يدفع إليَّ بعض ما يرد إليه من الرسائل؛ لأرى رأيي فيه وأُشير عليه بالجواب، أو أتولى ذلك بنفسي، وكانت هذه الفترة ذات أثر كبير في تكويني وتوجيهي في الأدب توجيهًا لم أكن أقصد إليه، كما تأثر هو بصحبتي في هذه الفترة تأثرًا وجَّهه في الأدب والإنشاء توجيهًا لم يكن يُعرف به منذ نشأ في الأدب قبل ذلك بثلاثين سنة، فبدا أسلوبه أكثر استواءً عند عامة القراء، وكان قبلها يُتَّهَم بالغموض والتعقيد، كما عالج القصة فنجح فيها إلى حد بعيد؛ إذ كانت القصة — وما تزال — أحبَّ ألوان الأدب إليَّ، على حين كان الرافعي لا يؤمن بفائدة القصة ولا يعترف بخطرها بين أبواب الأدب الحديث، فما هو إلا أن حملتُه على محاولتها فأنشأ قصته الأولى، ثم كأنما اكتشف نفسه من بعدُ فصار ما ينشئ من القصص هو أحبَّ منشآته إليه، وخطا بها إلى نفوس القراء خطوات …
ومن طريف ما يُذكر في هذا الباب أنني كنت أنشئ القصص لمجلة الرسالة، لا أكاد أُعنى بشيء غيرها من موضوعات الأدب، وكان حُسن وقْعها عند القرَّاء يدفعني إلى الإجادة والاستمرار، ولكن قارئًا واحدًا كان يعيب عليَّ ما أكتب، ولا يرضى مني أن تكون القصة هي كل ما أعالج من فنون الأدب؛ ذلك هو الرافعي، وكثيرًا ما كان يقول لي: «يا بني، إن لك بيانًا وفكرًا ومعرفة، فلماذا لا تحاول أن تكون أديبًا؟ إنه لا يليق بك أن تكون القصص هي كل ما تحاوله من ضروب الإنشاء، وإن فيك استعدادًا لأكثر من ذاك …!» وما زال يلحُّ عليَّ ويكرر هذه الملامة، حتى وقع في نفسي أنني أسيء إلى نفسي بمحاولتي أن أكون قصصيًّا، فانصرفتُ عن القصة وكانتْ أحبَّ إليَّ، إلى فنون أخرى من الأدب، إلا ما أنشئ من «القصص المدرسية» التي أؤلفها لتلاميذي على أنها وسيلة من وسائل التربية لا باب من الأدب، ثم لم يمضِ بعد ذلك إلا قليل، حتى كانتِ القصة هي أكثر ما يعالج الرافعي من أدب الإنشاء، وكان له فيها فَوَاق وسبْق، وحلَّت القصة محلها من تقديره بين أبواب الأدب …!
وإذ كان في أُذُنَيِ الرافعي ذلك الوقر الذي يقطعه عن دنيا الناس، فإن أسلوبه في الكتابة كان بعيدًا عن فهم الكثير من ناشئة القراء، فلما اصطفاني بالودِّ، أخذت على نفسي أن أكون أُذنه التي يسمع بها ما يقال عنه وما يرى القرَّاء في أسلوبه، فكنت إذا جلست إليه ليملي عليَّ، حاورتُه فيما يدق على الأفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القرَّاء، ثم لا أزال به حتى يُغير العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع، وكان يُنكر ذلك عليَّ أولَ أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحيانًا يوشك أن يغضب، وأنا أتلطف له وأحتال عليه، ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي عليَّ العبارة من المقال، ثم يسألني: «ماذا فهمتَ مما كتبت؟» فإذا كان ما فهمت يُطابق ما في نفسه، مضى في إملائه، وإلا عاد إلى ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد، وبلغ في النهاية أن يسميني — على المزاح — العقل المتوسط من القرَّاء …!
•••
لم يُنشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتَّاب الصحف الأسبوعية، وكان له بطانة من هؤلاء الكُتَّاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثًا فيملي عليهم جوابه، ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره.
في هذه الفترة، وكَلَ إليه الأديب حسام الدين القدسي الورَّاق تصحيح كتاب «ديوان المعاني» لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح له أغلاطه ويتم نقصه، على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب.
وقَبِل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره؛ ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه، وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوى عليها إلا القليل من الأدباء، ومضى في هذا العمل شهرًا أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي، فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءًا غير قليل، وقد استطعتُ في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب، أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية، وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة، من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بإزاء مكتبة دقيقة الترتيب منظمة التوبيب ما شئتَ من بحث هدتْك إليه قبل أن تبحث عنه، على أنه كان أحيانًا يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمة، فيضع فِكْره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام، وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور، وقد حدث مرة أن ظلَّ الرافعي يبحث يومًا كاملًا عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية، فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب، وفجأة ترك ما هو فيه وقال: «اسمع! ناولني ذلك الكتاب!» فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ يتصفحه قليلًا ثم قال: «لقد وجدته … هذا هو البيت الذي كنت أبحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!» وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي بين يدي، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر … أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان …؟
•••
- (١) كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة «كوكب الشرق» كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة، فبدا له يومًا أن يكتب في الموازنة بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وقول العرب: «القتل أنفى للقتل!» فانزلق إلى رأي … وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو مَن هو عند الرافعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه بقدس القرآن … ولم يكن الرافعي يواظب يومئذٍ على قراءة كوكب الشرق.
وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن، ودفع إليَّ الرافعيُّ برسالة شاكر وهو يقول: «أتصدِّق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود، أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟»
ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها، فما كاد يقرؤها حتى ارْبَدَّ وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضبًا إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى عليَّ مقالة طويلة بعنوان: «كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!»
وكانت مقالة من عيون مقالات الرافعي، نشرتْها البلاغ في صفحتها الأدبية، وقد أورد فيها بضعة عشر رأيًا في بيان إعجاز الآية ومبلغها من البلاغة بإزاء الكلمة الجاهلية، وقد جعلها من بعدُ فصلًا من شواهد كتابه «أسرار الإعجاز» الذي لم يُطبع بعد …١٥وقرأ القاياتي مقال الرافعي في الرد عليه، وأحسبه قد اقتنع بما قرأ واعترف على نفسه في خلوته، ولكنه لاذ بالصمت، وكانت كرامته الأدبية أعز عليه من كرامة القرآن، فلا هو ردَّ عليه ولا هو اعترف علانيةً بما كان من خطئه فيما انزلق إليه …!
وفتح مقال الرافعي أبوابًا من القول لطائفة من الأدباء؛ إذ كان فيما ردَّ به الرافعي أن كلمة «القتل أنفى للقتل» ليست جاهلية كما يعرف أكثر قراء العربية، ولكنها نشأتْ في العصر العباسي لمثل ما استعملها له القاياتي في معارضة القرآن، وأسندها مخترعها إلى حكيم الجاهلية أكثم بن صيفي ليتمَّ له قصده، وجازت دعواه على كثير من قراء العربية حتى كشف الرافعي عن زيفها بعد ألف سنة!
كان تاريخ هذه الكلمة ميدانًا للقول والمعارضة أيامًا بين الرافعي وبعض الأدباء، وكان أول من عَرَض لمناقشة رأي الرافعي هو أخونا الأستاذ عبد العزيز الأزهري، ولكنه لم يلبث أن شعر بالإعياء من أول شوط، فكتب إلى الرافعي رسالة خاصة في البريد يستعفيه ويعتذر إليه بأنه مشغول البال بالاستعداد للزواج …!
- (٢)
وفي هذه الفترة تم إنشاء «المجمع اللغوي» وكان الرافعي يُمنِّي نفسه بأن يكون من أعضائه، فحال بينه وبين ما يتمنى أنه لا يسمع، وإن لم يكن يمنعه ذلك أن يكون عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، واختير له هو والمرحوم حافظ بك إبراهيم قبل ذلك بسنوات، فلم يشهد جلسة من جلساته، ولم يشترك في قرار قرره، ولم يبعث إليه برسالة واحدة في موضوع من موضوعات العلم العربي.
وساء رأي الرافعي في المجمع اللغوي من يوم إنشائه، ولم يمنعه من الحملة عليه أنه كان موعودًا بأن يُختار فيه عضوًا مراسلًا كما أنبأه صديقه فارس نمر باشا عضو المجمع.
وافتتح المجمع، وكان أول محرراته الأدبية برقية بالشكر إلى المرحوم الملك فؤاد، ولقيتُ الرافعي ذات مساء، فإذا هو يرفع إليَّ جريدة البلاغ قائلًا: «اقرأ، هذا أديب صغير يهاجم المجمع اللغوي في يوم إنشائه، ويزعم أنه لم يستطع أن يكتب برقية بريئة من الخطأ ليشكر بها منشئه …!»
وقرأت، فإذا نقد عنيف، وتهكم مر، وسخرية لاذعة … كانت كلمة صغيرة، ولكنها ذات شأن، وقد اختار كاتبها أن يكون توقيعه «أديب صغير» مبالغة في السخرية والتهكم، وأخذ الكاتب على المجمع بضع غلطات لا يتنبه لمثلها إلا أديب دارس له في العربية مكان.
وقال الرافعي: «ماذا رأيت؟» قلت: «نقد مر لا يبلغ به هذا المبلغ على إيجازه إلا أديب كبير!» قال: «فمن تظنه؟» وكان سؤاله مشعرًا بجوابه، ولكنني كذبت نفسي … أيكون هو؟ وما يحمله على أن يُخفي عني؟ لقد كان معي أمس، وأمس الأول، فلم يحدِّثني بشيء في ذلك؟
وقلت للرافعي: «أوتعرف كاتبه؟» قال: «حاول أن تفكر، لقد حاولت فلم أُوفق.» وكان حسبي هذه الكلمة ليزول كل شك في نفسي، فما كذَب عليَّ الرافعي قبلها قط …! ولم أعرف إلا بعد أيام أنه هو …
وردَّ المرحوم الشيخ حسين والي عضو المجمع، وعاد الرافعي يردُّ ويتهكم ويسخر، ويتحدَّى المجمع اللغويَّ كله أن يرشده إلى الأطوار الاجتماعية التي مرَّت بها كلمة «حظِيَ» حتى ساغ للمجمع من بعدُ أن يستعملها بمعنى «ظفر» في برقية الشكر إلى جلالة الملك … وسكت المجمع، وسكت الشيخ حسين والي، وظل الرافعي «الأديب الصغير» يكتب حتى جاءه الرجاء أن يسكت فسكت!
مقالات «الأديب الصغير» في نقد المجمع اللغوي، هي آخر ما كتب الرافعي في النقد على أسلوبه وطريقته.١٨ - (٣)
ومما كتبه الرافعي في تلك الفترة بحث طويل في البلاغة النبوية أنشأه إجابةً لدعوة جمعية الهدايا الإسلامية بالعراق، لتنشره في ذكرى المولد النبوي، وقد لقي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا أحسب غيره يقوى عليه، وحسبك أن تعلم أنَّ الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا الفصل حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يومًا، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العَجِل أن يقرأ فيه صحيح البخاري قراءة تلاوة، فكيف به دارسًا متمهلًا يقرأ ليتذوَّق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ذلك ليس عجيبًا من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يوجعه قلبه! وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إليَّ لأكتبه بخطي ولم يمله عليَّ، فأنفقتُ في كتابته ثلاثة أيام أخرى.
هذا الفصل يملأ نحو أربعين صفحة من مثل هذا الكتاب، ويصلح أن يكون خاتمة لكتاب إعجاز القرآن — لو قدِّر لإعجاز القرآن أن يُطبع طبعة جديدة — فإنه أشبه بموضوعه وفيه تمامه.١٩ - (٤)
وما فرغ الرافعي من كتابة هذا الفصل، حتى أحس بحاجته إلى الراحة بعد ما بذل من جهد، فأغلق دار كتبه وخرج إلى الشارع يشم الهواء، ثم لم يكد يأتي المساء حتى جاءه البريد برسالة من جمعية الكشاف المسلم بالشام، تطلب إليه أن يعدَّ لها موضوعًا تنشره في صحيفتها لمناسبة المولد النبوي كذلك …!
وضاقت أخلاق الرافعي، فهمَّ أن يلقي الرسالة ليفرغ لنفسه بضعة أيام للاستجمام، ثم تحرَّج، فعادتْ إليه ابتسامته وهو يقول: «سأفعلها قُرْبَى إلى محمد ﷺ، ولو رمى بي هذا الجهد المتواصل إلى تهلكة!» وعاد إلى مكتبه وهو متعب مكدود … ثم أملى عليَّ مقاله «حقيقة المسلم» الذي أعاد نشره في الرسالة بعد ذلك وجمعه إلى وحي القلم.
وله في هذه الفترة بضع مقالات أخرى نشرها في مجلة المقتطف، ثم دعتْه الرسالة ليكتب فصلًا عن الهجرة في العدد الممتاز الأول لسنة ١٣٥٣ﻫ، فكان ذلك أول عهده بالكتابة فيها، ثم اتصل بها حبله.
- (٥)
بعدما أنشأ الرافعي مقالة «وحي الهجرة في نفسي»، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه «الملاح التائه» وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه، وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأتْ في مكتب الأستاذ صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله، وهناك يلتقي الرافعي، وصروف، وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف؛ وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب، ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة، أحبُّ إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية، من بعدُ حين اتصل سببه بالرسالة، فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة، ولم يلتقِ إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه «وحي القلم».
قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسمًا (تصميمًا) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت، ولهذا البيت قصة لم تتم؛ لأن هذا البيت لم يتم … فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعًا وثلاثين سنة، بضعَ مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتًا يسكنه — إذ كان وما زال إلى أن مات يسكن بيت أبيه — وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهرَه ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل، ثم جاءتِ الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعًا لم تُبقِ منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدَّين، فلم يبقَ للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرضُ الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوطٌ تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومةً على ورقة زرقاء …!
… وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي، فدفعهما إليَّ؛ لأختار له ما يقرأ من كليهما، ولم أكن أعرف يومئذٍ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه، فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه …
وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثًا يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه، ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح … وكان مؤمنًا بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة٢٠ كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين …وتناول المازني ديوان «الملاح التائه» في البلاغ بعدما تناوله الرافعي، فعاب عليه أشياء كان الرافعي يمتدحها، وأخذ على الشاعر أنه كثير العناية باللفظ والعبارة والأسلوب، فكانت مقالة المازني حافزة للرافعي على أن يُنشئ مقالة للرسالة في الرد عليه، جعل عنوانها «الصحافة لا تجني على الأدب، ولكن على فنِّيته»، فبهذه المقالة كان الرافعي يقصد المازني؛ دفاعًا عن صديقه الشاعر، أو دفاعًا عن مذهبه في الشعر، وكانت هذه أولى مقالات الرافعي في الرسالة بعد فترة من مقالة «وحي الهجرة»، وقد أنشأها على نهجه القديم، وحاول فيها فنًّا من التهكم في قصة اخترعها عن الأصمعي الراوية.
•••
كان الرافعي مفتونًا بمقالاته الثلاث التي أنشأها في هذه الفترة: البلاغة النبوية، وحقيقة المسلم، ووحي الهجرة، وكان حُسن وقعها عند كثير من القرَّاء حافزًا له على الاستمرار في هذا الباب من الأدب الديني، فعقد النية على أن يكتب السيرة النبوية كلها على هذا النسق الفلسفي؛ ليجعلها كتابًا بعنوانه، يتناول سيرة النبي المعظم ﷺ على طريقة من التحليل والفلسفة، لا على نسق من الرواية، فأنشأ بعد ذلك مقالاته: «سموُّ الفقر»، و«الإنسانية العليا»، ثم بان له من بعدُ أنَّ هذا الفنَّ من الإنشاء عسر الهضم عند كثير من القرَّاء، فتركه إلى موضوعات أخرى يعالج بها بعض مشاكل الاجتماع في الحياة المصرية، على أن يكتب ما يتيسر له من المقالات النبوية نجومًا في فترات متباعدة حتى لا يملَّ قراءَه أو يُثقل عليهم، وسأتحدَّث من بعدُ عن كل مقال من المقالات التي أنشأها «للرسالة» في الفترة التي صحبتُه فيها، لعل ذلك يعين على فهم أدب الرجل ودوافعه ومعانيه، ولعله يبلغ بي الوسيلة إلى الذين لا يفهمون أدب الرافعي، ثم يحاولون أن يتحدثوا عن أدب الطبع وأدب الذهن، أو الأدب الفني والأدب النفسي …٢١ولكن عليَّ قبل أن أبدأ هذا الحديث، أن أصف الرافعي حين يهم بموضوعه، ثم حين يفكر فيه، ثم حين يتهيأ لكتابته، ثم حين يمليه عليَّ من القصاصات المبعثرة على مكتبه، فإن ذلك من الموضوع فاتحته وأوله.