عود على بدء
كان فيما تحدث به صديقنا المهندس الأديب محمد أ. إلى الرافعي من أسباب عزوبته، أن الزواج عنده حظ مخبوء، فإنه ليخشى أن يحمل نفسه على ما لا تحتمل من العنت والمشقة في سبيل إعداد ما يلزم للزواج، ثم تكون آخرة ذلك أن يجلوا عليه فتاة دميمة لا يجد في نفسه طاقة على معايشتها ما بقي من حياته، أو فتاة فاسدة التربية لا يدخل بها على زوجة، ولكن على معركة …
وقد ظل هذا القول عالقًا بذهن الرافعي يلتمس الوسيلة إلى تفنيده والرد عليه، حتى وقع على قصة أحمد بن أيمن «كاتب ابن طولون»، فأنشأ مقالة «قبحٌ جميل» وهي القصة الثانية مما أنشأ الرافعي لقراء الرسالة، وهي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالاته في الزواج، وفيها توجيه معتبر للحديث الشريف: «سوداء ولود خير من حسناء لا تلد!» يسلك هذه المقالة في باب «الأدب الديني» الذي أشرت إليه في بعض ما سبق من الحديث.
ثم كانت الحلقة السادسة هي قصة «رؤيا في السماء» وتتصل بما سبق من المقالات بأسباب، على أنها تتحدث عن الزواج بمعناه الأسمى، وتدعو إليه الدعوة الإنسانية التي تعتبر الزواج بابًا من الجهاد لسعادة البشرية كلها …
في هذه المقالة، لا أعرف سببًا خاصًّا من مثل ما قدمت دعاه إلى إنشائها، ولكنها جملة الرأي وخلاصة الفكر وأثر اشتغال الواعية الباطنة قرابة شهرين بموضوع الزواج، فهي من الموضوع كالهامش والتعليق، أو الحكم بعد المداولة، أو هي الصفوة الصريحة بعدما يذهب الزبد وتنطفئ الرغوة …
وقد ترجم هذه القصة إلى الفرنسية الأديب المرحوم فليكس فارس، وكانت هي أول الصلة بينه وبين الرافعي ثم اتصل بينهما الود.
•••
لما أنشأ الرافعي «قصة زواج» تحدث بها الأدباء في مجالسهم وتضاعفت رسائلهم إليه معجبين مستزيدين، وتضاعف إعجابه هو أيضًا بنفسه … فاستزاد واستعاد، والتزم الكتابة على أسلوب القصة، فكان على هذا النهج أكثر رسائله من بعد.
وجلست إليه ذات مساء نتحدث حديثنا، فقال وهو يدفع إليَّ طائفة من رسائل القرَّاء: «اقرأ يا شيخ سعيد … أرأيت مثل هذا؟ أيحق لأحد أن يزعم لنفسه القدرة على خير مما أكتب في موضوعه؟ أيملك كاتب أن يرد عليَّ رأيًا من الرأي؟»
ومضى في طرائق من مثل هذا القول عن نفسه وعن طائفة من خصومه، فعرفت أنه في لحظة من تلك اللحظات التي تتنبه فيها النفس البشرية إلى طبيعتها، فتؤمن بنفسها من دون كل شيء مما خلق الله، إيمانًا هو بعض الضعف الإنساني في طبيعتنا البشرية، وهو بعض أسباب القوة في النابغين من أهل الآداب والفنون! ذلك الإيمان الذي نسميه أحيانًا صلفًا وعنجهية وكبرياء، ونسميه في النابهين والعظماء ثقة بالنفس وشعورًا بالقوة!
وكان يلذني في أحيان كثيرة أن أشهد الرافعي في مثل هذه الساعة من ساعات الزهو والإعجاب بالنفس، وأجد في ذلك متاعًا لنفسي وغذاء لروحي؛ لأن الرافعي بما كان فيه من طبيعة الرضا والاستسلام للواقع كان رقيقًا متواضعًا، فلا تشهده في مثل هذه الحال إلا نادرة بعد نادرة، فإذا شهدته كذلك مرة فقد شهدت لونًا طريفًا من ألوانه، يوحي إلى النفس بفيض من المعاني، وكأنما هو يُعدي سامعَه من حالته فيحس في نفسه قوة فوق قوته، وكأنَّ شخصًا جديدًا حلَّ فيه …
… وسرني أن أجد الرافعي كذلك في تلك الليلة، فأصغيت إليه ومضى في حديثه، فلما انفضَّ المجلس ومضيت إلى داري، وسوس لي الشيطان أن أعابثه بشيء … فكتبتُ إليه رسالة بإمضاء «آنسة س»، أرد عليه رأيه في قصة سعيد بن المسيب، وأعيب ما صنع الرجل بابنته، وعمدت في كتابة هذه الرسالة إلى تقليد أسلوب من أسلوب الدكتور طه، يعرفه قراء الرسالة ويعرفه الرافعي …
وبلغتْه الرسالة فقرأها، فنبهته إلى ما كان فيه من أمسه، ووقع في نفسه أن مرسلها إليه هو تلميذ أو تلميذة من تلاميذ طه موحًى إليه بما كتب، فتحمَّس للردِّ، وأنشأ «ذيل القصة وفلسفة المهر»، وجعل أول مقاله رسالة «الآنسة س» وراح يسخر منها ومن صاحب رأيها سخرية لاذعة، ثم عاد إلى موضوع فلسفة المهر.
وقرأ صاحب الرسالة المقالة فرأى فيها تعريضًا بصاحبه لم يرضَ عنه، فكتب إلى الرافعي يطلب إليه أن يُوافق على حذف مقدمة المقالة؛ حرصًا على ما بين الرسالة والدكتور طه من صلات الود … وكان له ما طلب، فنشرت المقالة في موعدها خالية من هذا الجزء، ولكنها لم تخلُ من إشارات مبهمة إلى أشياء غير واضحة الدلالة، وكذلك نُشرتْ من بعدُ في وحي القلم.
•••
ثم كانت قصة «بنت الباشا» وهي السابعة من مقالاته في الزواج، وقد ألهمه موضوعها صديقه «الزبال الفيلسوف» الذي تحدث عنه في هامش هذه المقالة، وهذه المقالة فيما ترمي إليه تعتبر متممة لموضوع «قصة زواج» فهي دعوة اجتماعية لآباء الفتيات إلى الانطلاق من أَسْر التقاليد في شئون الزواج، وفيها إلى ذلك شيء من الحديث عن «فلسفة الرضا» التي أسلفتُ القول عنها في «حديث قطين».
أما هذا الزبال الذي نوَّه به الرافعي في أكثر من مقالة، فهو من عمال قسم النظافة في «بلدية طنطا»، وكان عمله قريبًا من دار الرافعي في الشارعين اللذين يكتنفانها، وكان إذا فرغ من عمله في الكنس والتنظيف اتخذ له مستراحًا على حيد الشارع تجاه مكتب الوجيه محمد سعيد الرافعي، فيقضي هناك أكثر أوقات فراغه، نائمًا أو محتبيًا ينظر إلى الرائحين والغادين من أهل الثراء والنعمة، أو شاديًا يصدح بأغانيه، فإذا جاع بسط منديله على الأرض فيأكل مما فيه، ثم يشعل دخينة ويعود إلى حبوته يتأمل …
كان هذا الزبال صديق الرافعي! بينهما من علائق الود وصفاء المحبة ما بين الصديقين، وكان الرافعي يسميه «أرسطو الجديد»، وأول هذه الصلة بينهما أن الرافعي كان يلذه أحيانًا أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال «محله المختار»، فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس، وكان يحادثه أحيانًا في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة … ويكرمه ويبره، وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر، وصار بعض عادات الرافعي من بعدُ أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه، دخائنَ بنصف قرش، مبالغة في إكرامه …
وكان الرجل أميًّا، ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحيانًا يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوبًا في ورقة، وقد كنتُ الترجمان بينهما مرة، وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث، كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غير عالمه!
ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفةً من الأمثال، ونبَّهه ذلك من بعدُ إلى العناية بجمع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه، كما أفاد الرافعي من صداقة هذا «الفيلسوف الطبيعي» معاني وأفكارًا جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صَنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد ٧١ سنة ١٩٣٤ وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحنًا يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلًا بهذه المقالة احتفالًا كبيرًا، حتى إنه همَّ بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج، وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلَّف من الأوراق.
•••
لم تكن قصة «بنت الباشا» هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه، ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة، جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد، ومنها مقالة «احذري»، وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بإزاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة «لحوم البحر».
وكان الرافعي في هذه الفترة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشبان اللاهين، كانت تجمعهم قهوة «لمنوس» في طنطا للعبث واللهو والمجانة، فتألَّفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج، وقد قدمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كما كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثًا، ثم يزين له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع، فتراه كما ترى الفتى المراهق، يجد حديث الغزل والحب حريقًا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثًا في أذنيه … فيستزيد مما يسمع وهو صاغٍ ملذوذ، فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال …!
وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني «الجنس» إلى هذا الحد، كان بإيمانه وخلقه وتدينه واعتصامه بالوحدة، قليلَ الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب، فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل، وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتًى وكل فتاة، وكان هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء.
من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة «احذري»، كما كانت توحي إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضوعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق.
•••
وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان، كان بينه وبينهم صداقة ومودة، فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به، والرافعي محدث لبق ظريف المسامرة، فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه … وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هناك جوًّا يوحي إليه ويمده بعلم جديد.
وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى «زيارة مصرية» إلا فيما ندر، على أني كثيرًا ما كنت أصحبه في تلك الزيارات!
وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنًى مما يتصل بفنه وأدبه، وأحسب أن كثيرًا ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه، وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجالٍ في مصر!
وقد صحبتُه مرة إلى زيارة أسرة الآنسة «ق» وهي فتاة ذكية من أهل الفن والأدب، وقد ألحَّ عليَّ يومئذٍ إلحاحًا شديدًا أن أصحبه، ولم أكن أعلم ما يقصد إليه بهذه الزيارة إلا أن تكون تسلية بريئة ومتاعًا من متاع أهل الفن.
وكنت في ذلك اليوم صانعًا أغنية عامية في معنًى من معاني الشباب تعبر عن حال من حالي في تلك الفترة، ودفعتُها إلى الرافعي لينظر فيها، فلما قرأها طواها وجعلها في جيبه …
… وصحبت الرافعي إلى حيث يريد، فاستقبلتْنا الفتاة وأمها وشاب من قرابتها، ثم لم يكد يستقر بنا المجلس، وأهل الدار حافُّون بنا يبالغون في إكرامنا، حتى أخرج الرافعي الورقة من جيبه فدفعها إلى الفتاة …
وقرأتِ الفتاة الأغنية، ثم ردتْها إلى الرافعي وهي تقول: «جميلة! شعر عاشق!»
قال الرافعي وهو يشير إليَّ مبتسمًا: «إنها أغنيته!»
قالت: «إيه …! أعاشق هو؟»
قال الرافعي: «نعم! … ومن أجلك صنع هذه الأغنية!»
ومضتْ فترة صمتٍ، وصبغتْ حمرة الخجل وجه الفتاة، وتولتْني الدهشة مما سمعتُ فما استطعتُ الكلام، ونظر الرافعي إليَّ نظرة طويلة لم أفهمها، وكان بي من الحياء أضعاف ما بالفتاة … وكانتْ دعابة غير مألوفة ولا منتظرة، أوقعتْني في كثير من الحيرة والارتباك …
وقطعتِ الأم هذا الصمت الثقيل قائلة: «أغنية رقيقة!»
وردد الشاب صدى صوتها يقول: «… رقيقة!»
وثبتُّ في مكاني لا أتحرك، ولا أرى أمامي غير تلك الابتسامة الخبيثة على شفتَيِ الرافعي …
ثم نهضتِ الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادتْ بطبق الحلوى فقدمتْه إليَّ، ثم إلى الرافعي، واتخذتْ مجلسها إلى جانبي … وعاد الحديث ألوانًا وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!
وجعلتُ أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظًا: «تُرى ماذا حمل الرافعي على هذا القول …؟»
فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضبًا أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول: «قصة طريفة … لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل … سيكون فصلًا أدبيًّا ممتعًا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعليَّ أن أرويه، لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى بعض الحقيقة …»
وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه، فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول: «أتراك — إن أبيتَ — تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأتِ القصة فما بدٌّ من أن تكون لها خاتمة!»
وضقتُ بهذه الدعابة وثارتْ نفسي فأخشنتُ القول، فزاد به الضحك وهو يقول: «وهذه الثورة أيضًا هي فصل من فصول هذه الرواية …!»
وأعداني مرحُ الرافعي وانبساطُه فضحكتُ، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكتُّ على غيظ ضاحك، ولقيتُ الفتاة بعدها مرتين فتناسيتُ ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها … ومضى الزمان، ثم جاءني الرافعي يومًا يقول: «إن بينك وبين صديقنا الأديب «ج» لشيئًا!» قلت: «ماذا؟»
قال: «أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة «ق»، فإنه لا يعلم أن بينكما عاطفة …!»
وقال لي حَمِيَّ ولم تكن ابنته في داري بعد: «أتُراك كنت مع الرافعي أمس في زيارته فلانة؟» فتوجستُ من سؤاله شيئًا …
وكادتْ تكون قصة كما أراد الرافعي، ولكني حسمتُ أسبابها فرارًا بنفسي!
•••
… من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويُبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة، ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني، ومن هذا الجو زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمتْه من بعدُ أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص: الأجنبية، وسمو الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويُوقظ حسه، فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزيد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها، فإذا همَّ بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالتْ عليه المعاني انثيالًا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد.
•••
ولما قص الرافعي قصة «الأجنبية» وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة وما عاد عليه، فضاقتْ نفسه وبرمتْ به، وأحس في نفسه شعورًا جديدًا ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش مما يحمل في صدره من همٍّ وما يضني جسده من علة، وخفت روحه إلى سمواتها، وتنازعتْه قوتان … وهمَّ أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل … وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرَّقه ليلة …
وتركتُه وروحتُ إلى داري وهو شاكٍ متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي عليَّ «قلت لنفسي … وقالت لي …»
من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها، ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.
إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه، وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكنَّ ها هنا إنسانًا يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثًا كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير، ولا سبيل فيه إلى الخطأ.
وأشهد أني رأيتُه قبل أن يملي عليَّ الحديث وإن في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلامًا، فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف، هذه هي هذه، وكانت حركاتٍ صامتة فصارت عبارة ناطقة.
وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه، وقد نظم شيئًا منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف.
… وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأتْ نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضا، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه، أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنتْ نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرتِ الروح السامية على ما كان يُنازعها من أهواء البشرية …
ثم كان هلال رمضان، فأنشأ مقالة «شهر للثورة» وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقرَّاء الرسالة.
•••
كان خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء، حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره، فلما كان رمضان سنة ١٣٥٣ / ١٩٣٤ الميلادية سألني: «كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر، وأي أوقاته نجعلها للكتابة؟» قلت: «فانظر فيما تراه خيرًا لك، ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء.» قال: «لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر؛ فإنه حيثما امتلأت المعدة، ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر.»
وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم، وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئًا للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلمَّ طائفة من «فتات المكتب» وجعلها الجزء الثاني من «كلمة وكليمة» وبعث بها.
في هذه الكلمات المنشورة بالعدد ٧٦ كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المرحوم نسيم، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى «فلانة»!
ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة «سمو الحب».
أشياء ثلاثة أملتْ عليه موضوع هذه القصة: رمضان، وكتاب الأغاني لأبي الفرج، وما يسمع من أحاديث الشبان عن الحب.
أما رمضان فسما بروحه وأمدَّه بما في القصة من المعاني الدينية التي حكاها على لسان مفتي مكة وإمامها «عطاء بن أبي رباح» والعاشق الزاهد «عبد الرحمن القس بن عبد الله بن أبي عمار».
وأما كتاب الأغاني فأعطاه صلب القصة وأساس البناء في سطور يرويها من خبر «سَلَّامة المغنية» جارية يزيد بن عبد الملك، وقد وقع الرافعي على هذا الخبر اتفاقًا في إحدى مطالعاته في كتاب الأغاني.
وأما أحاديث الشبان فحفزتْه إلى إنشاء هذا الفصل ليضربه مثلًا لسمو الحب يصحح رأي الناس فيه ويكون منه لشباب الجيل درس وموعظة.
في هذا الفصل يجد كل سائل جوابه إن كان يعنيه أن يعرف كيف يجتمع الدين والمروءة والحب في قلب رجل كالرافعي يعرفه الناس فيما يكتب شيخًا من شيوخ الدين فيه تحرج وخشية، ويعرفه من يعرفه من أصحابه مجنونَ لَيْلَيَاتٍ وقيسَ لُبْنَيَات!
… ولكي ينتفع الرافعي بوقته في رمضان كان يتخفف من طعام الفطور، ثم يجلس مجلسه بعد العشاء للإملاء، فإذا فرغ من الكتابة أو الإملاء تناول السَّحور، فيعوض فيه بعض ما فاته من فطوره ثم ينام!
على أنه لم يجد راحته في هذا النظام أيضًا، فلما كان الأسبوع الثالث لم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فعاد إلى أوراقه القديمة يبحث بينها عن شيء يصلح للنشر ليستريح أسبوعًا من العمل، فوقع على ورقات من مجلة المقتطف في سنة ١٩٠٥ كان قد نشر بها قصته الأولى: «الدرس الأول في علبة الكبريت»، فعاد إلى قراءتها، فلما فرغ من القراءة التفتَ إليَّ قائلًا: «هذه قصة ينقصها السطر الأخير.» قلت: «وماذا يكون هذا السطر؟» قال: «اسمع! هذا غلام سرق علبة كبريت منذ ثلاثين سنة فحوكم بها وحُكم عليه …» قلت: «نعم!» قال: «فما تظن هذا الغلام الآن بعد هذه الثلاثين؟» قلت: «أراه الآن رجلًا يفلح الأرض أو يعمل بالفأس في حجارة أبي زعبل!»
قال: «هذه الأخيرة أمثل به، لقد تلقَّى الدرس الأول في علبة كبريت فقاده إلى الحبس! فهل تراه بعد هذه الثلاثين إلا قد أتمَّ دروسه ووقف على عتبة المشنقة …؟ اكتب … اكتب …»
وأملى عليَّ مقالة «السطر الأخير من القصة».
لم يُغير الرافعي هذه المقالة عن أصلها فيما عدا الخاتمة وعبارات قليلة، وزاد عليها شيئًا من المحاورة بين الغلام وقاضيه، وما كان حرصه على بقائها كذلك إعجابًا بها، لكن كأنما ردتْه هذه المقالة إلى شيء من ماضيه تروَّح فيه من روح الصبا والشباب؛ فمن ذلك كان إبقاؤه عليها ليبقى فيها روح الصبا والشباب!
وفي الأسبوع التالي — وهو الأسبوع الأخير من رمضان — أملى عليَّ قصة «الله أكبر».
وهي بسبيل مما سمع من أحاديث الشبان عن الحب، ورُقية ثانية من رُقَى الحب الداعر، كانت الرقية الأولى هي كلمة «برهان ربه» في قصة سمو الحب، وكانت الرقية هنا هي كلمة «الله أكبر».
وأول الأمر في هذه المقالة أنني كنت جالسًا إلى الرافعي في القهوة نتحدث في شأن ما، وساقنا الحديث مساقه إلى بعض شئون العيد، ولم يكن بيننا وبين عيد الفطر إلا أيام، وقال الرافعي: «… وأنا لو ارتدَّ إليَّ السمع لن يطربني شيء من النشيد ما كان يطربني في صدر أيامي نشيد الناس في المساجد صبيحة يوم العيد: الله أكبر الله أكبر! يعجُّ بها المسجد ويضج الناس … ليت شعري! هل يسمع الناس هذا التكبير إلا كما يسمعون الكلام؟ الله أكبر! أما إنه لو عقل معناها كل مَن قالها أو سمع بها لاستقامتِ الحياة على وجهها ولم يضلَّ أحد!»
ومضى يتحدث عن روح المسجد وفلسفة التكبير عند الأذان وفي كل صلاة، فما فرغ من الحديث حتى طرقنا زائر من روَّاد القهوة فحيا وجلس …
وتنقل الحديث بيننا من فن إلى فن إلى فنون …
وتهيأ موضوع القصة في فكر الرافعي، فلما دعاني ليمليها عليَّ لم يجد في نفسه إقبالًا على العمل، فوقف في الإملاء عند منتصف المقالة ونسأ البقية إلى غد، ثم كان تمامها.
وفي صبيحة يوم العيد ذهب على عادته إلى المقبرة لزيارة أبويه، وقد كان في الرافعي حرص شديد على ذكرى أبويه، فهما معه في كل حديث يتحدث به عن نفسه، وزيارة قبرهما فرض عليه كلما تهيأت له الفرصة، وما إيثاره الإقامة في طنطا على ضيقها به وجهلها مقداره إلا ليكون قريبًا من قبر أبيه وأمه، وقد نقلتْه وزارة العدل مرة نقلة قريبة، فتمرَّد على أمر الوزارة وأبى الانتقال وانقطع عن العمل في وظيفته قرابة شهرين حتى ألغتِ الوزارة هذا النقل، وكانت كل حجته عند الوزارة في إيثار طنطا أن فيها قبر أبيه وأمه! … وقد مات ودُفن إلى جانب أبيه وأمه، فلعله الآن سعيد بقربهما في جوار الله ولعلهما به …
… ولما عاد من زيارة المقبرة أملى عليَّ مقالة «وحي القبور!»
•••
ثم عاد إلى موضوع الزواج يتناوله من بعض أطرافه، فأنشأ قصة «بنته الصغيرة» وهي الثالثة مما نحل أئمة الصدر الأول من القصص، تحدث في «قصة زواج» عن سعيد بن المسيب، وتحدث في «سمو الحب» عن عطاء بن أبي رباح، وتحدث هنا عن مالك بن دينار والحسن البصري.
في هذه القصة يتناول الرافعي موضوع الزواج على النحو الذي تناوله به في قصة «رؤيا في السماء» على أنه باب إلى السمو بالإنسانية، وفيها — إلى ما فيها من الدعوة إلى الزواج وبر البنات — شيء من الأدب الديني يضمها إلى سابقاتها.
ثم نشر بعد هذه القصة الجزء الثالث من «كلمة وكليمة» — العدد ٨٤ سنة ١٩٣٥ — وفيها كلمات عن السياسة، وحديث عن المرأة، ونظرات في أخلاق بعض الناس أوحى إليه بمعانيها قضية كانت له في المحكمة شغله أمرها وقتًا ما، وقصة ذلك أن الرافعي كان اشترى قطعة أرض للبناء في شمال المدينة، ونقد البائع ثمنها وجعل لها حدودًا مرسومة، ثم أعجزه أن يبنيها فظلت خلاء، وكانت هي كل ما حصَّل الرافعي من الاشتغال بالأدب أكثر من ثلث قرن، ثم طمع البائع أخيرًا فيما باع، فتحيَّف القطعة من أطرافها، واصطنع بينه وبين الرافعي مشكلة قانونية تعجزه عن بلوغ حقه إلا بعد مطاولة تدفع إلى اليأس، وشكاه الرافعي وتأهَّب لمناضلته، واستعان عليه خصمه بواحد من ذوي صهره يعمل مفتشًا في وزارة العدل، فانتدبَ للتفتيش عن أعمال الرافعي الرسمية في محكمة طنطا مهددًا متوعدًا، لعله يحمله بذلك على النزول عن بعض حقه!
طالت القضية بين الرافعي وخصمه، وتعددت جلسات المحكمة، وطالت كذلك دورة التفتيش وكثر تحدي المفتش للرافعي حتى لزمه ثلاثة أشهر يفتش عن أعماله، فحص فيها عن بعض مئات من القضايا التي قدر الرافعي رسومها، لعله يعثر له فيها على غلطة تحمله على الخضوع له، وغلطة في تقدير الرسوم لقضية من القضايا معناها غرامة مالية … ومن أين للرافعي؟
وكنت متعودًا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ، فلما علمت أن مفتشًا عنده أقصرت، فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: «لا عليك وخلِّ عنك هذا الوهم فلا تُغير شيئًا من عادتك!»
وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسيَّ إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبَّى على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يُغادر مجلسه، وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفًا ويتحدث إليه وهو جالس حديثًا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفًا ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!
وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به!
… ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل، ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطرًا كبيرًا من سنة ١٩٣٥، وأوحتْ إليه بكلمات وكليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة.
•••
… ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية «زوجة إمام» الإمام أبو محمد سليمان الأعمش وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.
قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة، وبها تمَّ ما أملاه عليَّ في موضوع الزواج، وعدته ثلاث عشرة مقالة، أولها مقالة «س، أ، ع» وآخرها الجزء الثاني من «قصة إمام».
وددت لو أنَّ الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به، والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة، فإن ذلك كان خليقًا أن يعين الباحث على دراستها مجتمعةً متساوقةً فصولها فصلًا إلى فصل، ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه، فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني، وجعل كل نوع من هذه الثلاثة في بابه، على أنَّ ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمتُ أسبابه وأسبابها معه.
•••
كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل، فإذا لم يجد له عملًا في المحكمة انصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة، وكان يزورني أحيانًا في المدرسة ليقضي معي وقتًا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته، وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادة تلهمه الفكر والبيان، ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة …
وزارني يومًا، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان، فكان يصحبه شرطي كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتًى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إليَّ لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا، ونظر الرافعي إليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلع لا يكاد يتقارُّ في موضعه …
ثم انصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، والتفتَ الرافعي إليَّ يسألني: «… وبين تلاميذك كثير من مثل هذا الشَّمعون؟»
وكلمة «شمعون» عند الرافعي هي عَلَم مشترك لكل فتًى جميل، وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر … وكان اسمه «شمعون»، حدثني الرافعي عنه قال: «وكان فتًى جميلًا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى …!» ورآه الرافعي كثيرًا في صحبة الكاظمي، فوعى اسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعدُ عَلَمًا على كل غلام متأنِّث …
… قلت للرافعي: «هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإنَّ من خبره …»
قال الرافعي: «وهذا موضوع جديد!»
فهذا كان سبب إنشائه قصة «الطفولتان».
•••
كان الرافعي يؤمن بالغيب إيمانًا عميقًا لا ينفذ إليه الشك، وكان له عن الشياطين والملائكة، وعن الوحي والإلهام، وعن تجاوب الأرواح في اليقظة والنوم، أحاديث ينكرها كثير من شباب هذا الجيل …
… وكان له — إلى إيمانه وتديُّنه — نزوات بشرية تعقبها التوبة والندم، فكان أكثر وقته على تربص دائم من وسوسة الشيطان، فكان إذا مرتْ أمامه امرأة فأتبعها عينيه، أو سمع حديثًا عن غائب فتعقبه بالحديث عن بعض شأنه أو ناله أحد بمساءة فردَّها إليه، استعاذ وحوقل، وقال: هذا من عمل الشيطان! وإذا همتْ نفسه بشيء تنكره المروءة، أو دعتْه داعية من هواه إلى ما يتحرج منه المؤمن، أو صرفه شأن من شئون الحياة عن واجب من واجبه، حمل نفسه على ما لا تحتمل، وأنكر على نفسه ما همتْ به أو دعتْ إليه أو انصرفتْ عنه، وذم الشيطان وتجنى عليه الذنب، وفي مقالته «دعابة إبليس» حديث يحقق هذا المعنى.
… فإني لَمَعَهُ ذات مساء إذ جاءه البريد برسالة من آنسة في دمشق، ومعها صورتها مهداة إليه، تبثُّه لواعجها وأشجانها، وتشكو إليه أنها … مفتقرة إلى رجل!
ونظر الرافعي إلى صورة الفتاة فأطال النظر، ووقف الشيطان بينه وبين الصورة يحاول أن يزيدها في وهمه حسنًا إلى حسن، ويرسم له خطة …
ثم وضع الصورة في غلافها وهو يقول: «أعوذ بالله من الشيطان … أما إنه …»
وقال شاب في المجلس: «وهل الشيطان إلا هوى النفس؟»
وقال الرافعي: «وهل تنكر؟»
وطال الجدل، ومضى الحديث في فنون …
من هذا الحديث وهذه الحادثة كانت مقالة «الشيطان».
•••
وكان لولده سامي زوج لم يدخل بها، وقد مرضتْ بذات الصدر بعدما سماها وعقد عليها، فأقامتْ زمنًا في مصحَّة حلوان، ثم ارتدتْ إلى طنطا لتقيم بين أسرتها ما بقي، وزوجها حفيٌّ بها قائم على شئونها، ثم جاء أجلُها، فدُعي الرافعي ليراها، فجلس إلى جانبها لحظات وهي تحتضر، فكان له من هذا المجلس القصير مقالة «عروس تُزَفُّ إلى قبرها!»
كنت ليلتئذٍ على موعد معه في القهوة، فظللت أنتظره ساعات، ولم يخلف الرافعي موعده معي مرة من قبل، فلما طال بي الانتظار مضيت لشأني، وفي الصباح جاءني نعي الفتاة فعرفت عذره، فلما كان العصر ذهبتُ في نفر من الأصحاب لتعزيته في دار صهره، والتمسناه فما وجدناه، وسألنا عنه فعرفنا أنه آب إلى داره بعد الجنازة لبعض شأنه، ولقيتُه بعدها، فعرفتُ أنه ترك المأتم والمعزين ليفرغ لكتابة مقاله قبل أن تذهب معانيه من نفسه!
يرحمه الله! لم يكن يمرُّ به حادث يألم له، أو يقع له حظ يُسرُّ به، إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخَّر لفنه، فهي للناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي!
•••
وإذْ ذكرتُ السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة «عروس تُزف إلى قبرها!» أراني مسوقًا إلى ذكر حديث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميتُه فيه من قبل «فلسفة الرضا».
وخطب سامي فتاته، وعقد عقده، وكان حموه يعمل في مال فأكلتْه الأزمة، وقُدر عليه رزقه بعد سَعَة، ثم مرضتِ الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبِّها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!
وتداعتْ فنون الحديث يومًا بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان، فقال لي الرافعي: «انظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ضلَّتِ البشرية إن هي حاولتِ النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس … ليس للإنسان خِيَرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسبابًا بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب مما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء … تُرى مَن ذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطبَّ لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمتْ نظامها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمتُ له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر مرجوٌّ لهذا الواجب من بعد؟ لقد كنتُ مستيقنًا من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة، لأشعر بكثير من الرضا إلى ما كان!»
•••
ثم كتب مقالة «بين خروفين».
وهي تمتُّ بسبب إلى مقالة «حديث قطين» وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن وهو أصغر بنيه، وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب، فما يزال يستحثُّه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمل، وكان «الإيحاء» هو وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل، ويبدو مَثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول ذلك المقال.
وكان الرافعي معنيًّا بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى، وكثيرًا ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدتُ بين أوراقه حديثًا له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجًا ليهيئ نفسه للامتحان لو أنه اتبعه لكان اليوم غير مَن هو!
ومن أجل أولاده أنشأ كثيرًا من المقالات عن عيوب الامتحانات لمناسبات مختلفة كان ينشرها في المقطم، وكانت له طلبات ومقترحات إلى وزارة المعارف أجابت أكثرها ولم ينتفع بها أحد من ولده ومن أجلهم أنشأها!
أنشأ هذه المقالة قبيل عيد الأضحى، وكان اشترى خروفين للتضحية أودعهما فوق سطح الدار إلى ميعاد، فما نزعه إلى كتابة هذا المقال إلا هذان الخروفان، ثم حاجته إلى أن يقدم إلى ولده نموذجًا في الإنشاء يعينه على بعض واجبه المدرسي.
•••
وكان للرافعي رأي فيما تنقل الصحف من أخبار تركيا، تفسره مقالة «تاريخ يتكلم»، وقد دعاه إلى إنشاء هذا المقال أخبار تناقلتْها الصحف في ذلك الوقت عن أحداث تجري في تركيا، رأى فيها مشابهًا من حوادث سبقتْها في مصر قبل ذلك بألف سنة في أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي.
وفي أحيان كثيرة كانتْ تثور نفس الرافعي لما يسمع من أخبار تركيا فيهمُّ أن يكتب، ثم يمنعه ذلك خشيته أن يكون فيما يكتبه شيء يقفه موقف المسئول عن غلطة تُعكر صفاء ما بين الدولتين، ثم جاءت مناسبة هذه المقالة فأنشأها وجعل الحديث فيها عن الحاكم بأمر الله، وهو يعني رئيس الجمهورية التركية لذلك العهد، وكانت هذه التعمية وسيلته ليتهرب من التبعة السياسية، ومنها كان الغموض في كثير من معاني هذا المقال، فمن شاء فليعُد إليه ليقرأه وقد عرف داعيه، فلعله لا يجد غموضًا فيه من بعد.
ومن أجل هذا السبب ولهذا المقصد نفسه، كان مقاله «كفر الذبابة»، الذي أنشأه على أسلوب كليلة ودمنة بعد ذلك بأشهر.
•••
يتحدث الرافعي في قصة اليمامتين عن الفتح الإسلامي، وأخلاق العرب، وتعريب مصر الفرعونية الرومانية، وافتتان القبط بسجايا العرب ومزايا الإسلام، وفيها إلى ذلك حديث عجيب عن الحب والمرأة في قصة خيالية افتعلها ليبلغ بها ما في نفسه من معاني الحب، ثم جعل في خاتمتها «نشيد اليمامة» اليمامة التي تقول الرواية العربية إنها تحرمتْ في جوار عمرو بن العاص فمنعته أن يقوِّض فسطاطه!
كان لهذه القصة عند الرافعي وعند كثير من قراء الرسالة موقع لم تبلغه قصة سعيد بن المسيب، وقد افتتن بها القراء، حتى كان منها أن اهتدى إلى الإسلام أستاذ مسيحي من أساتذة التاريخ في بلاد الجزائر، فكتب إلى الرافعي رسالة يُعلن فيها إليه إسلامه، ويسأله الوسيلة إلى دراسة هذا الدين والتفقه فيه، ولم أعثر على هذه الرسالة بين ما خلَّف الرافعي من رسائل أصدقائه إليه.
ومن اعتداد الرافعي بهذه القصة وبما بلغ فيها من التوفيق، جعلها فاتحة الجزء الأول من كتابه «وحي القلم».
ولم يكفه أسبوع للاستجمام والخلاص مما يعاني من وجع الضرس وتعب الأعصاب، فاستراح أسبوعًا آخر وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من «كلمة وكليمة».
•••
ثم وقعت حادثة اهتزت لها نفس الرافعي اهتزازًا عنيفًا ونقلتْه من حالٍ إلى حال: جلست يومًا إليه نتحدث من أحاديثنا فقال: «… إن صديقنا الأستاذ «م» لم يكتب إلينا من زمان … ليت شعري ما منعه عنا، إن بي قلقًا عليه وفي نفسي أن أراه أو أعرف من خبره!»
وفي صبيحة اليوم التالي طالعتْنا الأهرام بخبر غامض: «… أن شابًّا من الأدباء، هو ابن شيخ كبير من شيوخ الأزهر، قد حاول الانتحار بقطع شريان في يده! …»
وقرأ الرافعي الخبر فاربدَّ وجهه وانفعلتْ نفسه، وقال: «اقرأ، إنه هو …!»
قلت: «مَن تعني؟»
قال: «صديقنا «م» لقد غلبه شيطانه على دينه آخر الأمر. غفر الله له!»
فجزعتُ وطارت نفسي، وقلت له وأكاد أغص بريقي: «م؟ إنك لتتوهم، وإنك مما تفكر في شأنه ليُخيَّل إليك، إن لصديقنا دينًا، وإن فيه تحرجًا وخشية وما أراه في أي أحواله يُقدم على مثل هذه الجريمة.»
ولكن الرافعي لم يلتفت إلى ما أقول، وأخذ يحوقل ويسترجع ويستعيذ بالله من غلبة الهوى وفتنة الشيطان، ثم مدَّ يده إلى مكتبه فكتب رسالة إلى «م» يسأل عن حاله وخبره ويرجو له العافية في دينه ودنياه، ثم يطلب إليه أن يصف له ما كان منه وما حمله عليه وما آل إليه أمره، ولم ينسَ مع كل أولئك ومع ما تفيض به نفسه من الحزن والألم أن يرجوه «الدقة في وصف المرحلة التي كان فيها بين الحياة والموت، فإنها المرحلة التي لا يُحسن أن يصفها إلا من أحسَّ بها …»
وصديقنا الأستاذ م أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية، وقد نشأ في بيت له ماضٍ في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذَّوْد عن حرماته، وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب، وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فإنه من سعة خياله ودقة حسه وحِدَّة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنًى دفينًا من معاني الألم، وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبًا في هذا العالم وبين هذا الناس، فإن له من خياله دنيا غيرَ دنيا الناس، وعالمًا غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض، وكان بينه وبين الرافعي ودٌّ وله في نفسه مكان، فكان له سرُّه ونجواه منذ كان فتًى يافعًا لم يبلغ العشرين.
وكان الرافعي يعتدُّ بصداقته ويقرُّ له ويُعجب بدينه وتقواه ويتوقع له مستقبلًا مجيدًا بين المجاهدين من أهل الأدب ودعاة الإسلام.
فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه في الانتحار جزع وتطيَّر وضاقتْ نفسه، وناله من الهم ما لم ينَلْه لحادثة مما لقي من دنياه، فمن أجل هذه الحادثة أنشأ مقالات «الانتحار».
ولم يكن الرافعي يعلم من أحوال صاحبنا ما دفعه إلى هذه المحاولة الطائشة، فأخذ يتكهَّن وينتحل الأسباب ليبني عليها الحديث والقصة، فما جاء جواب الأستاذ «م» إلا بعد المقالة الثالثة، فأخذ من هذا الجواب مادة الجزء الرابع من هذه المقالات، وجعل الحديث في هذا الجزء على لسان «أبي محمد البصري» وهو يعني به الأستاذ «م» فهو هو، وكلامه كلامه في جملته ومعناه، لم يغير منه الرافعي إلا قليلًا من قليل، فما يدل على حالة صاحبنا إلا المقالةُ الرابعة من هذه المقالات الستِّ، أما ما عداها مما سبق أو لحق، فهي قصص مفتعلة من وحي هذه الحادثة في نفسه.
ومقالات الرافعي في «الانتحار» هي باب من الأدب لم يُنسج على منواله في العربية فيها فن القصصي، وفيها روح المؤمن الذي لم تفتنْه دنياه عن ربه، وفيها إلى ذلك شعر وفلسفة وحكمة، وقلبُ رجل يعيش في حقيقة الحياة.
•••
وكان بين الرافعي والأديب حسن مظهر محرر اللطائف المصورة مودة، فلما تولى تحرير اللطائف كتب إلى الرافعي يرجوه أن يكتب فصلًا لقراء اللطائف عن «سحر المرأة» فكتب فصلًا بديعًا يصف فيه نفسه وصاحبته «فلانة» في أول لقاء بينهما.
فلما فرغ من مقالات «الانتحار» تناول هذا الفصل فزاد فيه ما زاد وبعث به إلى الرسالة بعنوان «ورقة ورد»؛ لأنه سار فيه على نهج كتابه المعروف «أوراق الورد»، فهذا الفصل عنده هو من تمام هذا الكتاب.
•••
وكان من زملاء الرافعي في محكمة طنطا الأديب فؤاد … وهو شاب له ولوع بالأدب، وعلى أنه زوج وأب، فإنه كان بأناقته ولباقته مرعى أنظار كثير من الفتيات، وكان له في الغرام جَوَلان …
ثم فاء إلى نفسه بعد حين، فانصرف عن اللهو والغزل إلى شئون أسرته وولده، وراح ينشر بعض مغامراته الغرامية في إحدى الصحف الصغيرة التي تصدر في طنطا …
وقرأ الرافعي بعض ما ينشر صاحبنا، فرأى «عِلمًا جديدًا» لم يدخل إليه من باب ولم يقرأه في كتاب، فأرسل يستدعي صاحب هذه المقالات إليه؛ ليُفيد علمًا من علمه وتجاربه …
وجلس صاحبنا يتحدث إلى الرافعي ويقص عليه، والرافعي صاغٍ إليه ملذوذٌ بما يسمع، فما انتهى صاحبنا من حديثه حتى كان على موعد مع الرافعي أن يُحضر له طائفة من مذكراته ورسائل صواحبه؛ لعله يجد فيها موضوعًا يكتبه لقراء الرسالة.
فمن هذه المذكرات وتلك الرسائل استملى الرافعي مقالات «الطائشة» و«دموع من رسائل الطائشة» و«فلسفة الطائشة».
هي قصة لا افتعال فيها وليس فيها شيء من صنع الخيال، وما حكى الرافعي من رسائل الطائشة هو من رسائلها نفسها كما نقلها إليه صاحبها، وفلسفتها هي فلسفتها كما فهمها الرافعي من رسائلها ومما كان من أمرها مع صاحبها.
ولقد نال الرافعي من ملامة الفتيات ما ناله بسبب هذه المقالات، وقرأها أكثر من قرأها منهنَّ على أنها قصة من الخيال اخترعها الرافعي ليحتج بها فيما يحتج لمذهبه في الحب والمرأة وتجديد الأخلاق، والحقيقة فيها هي ما قدمت، وقد زاد الرافعي إيمانًا بمذهبه بعد هذا الذي سمع من صاحبه وقرأ من مذكراته ومن رسائله!
ولم يكتب الرافعي قصة «الطائشة» على أنها قصة؛ إذ كان صاحبها قد كتب قصتها على طريقة من فنه، فآثر الرافعي أن يتناولها من أطرافها ليحكم بها حكمه ويتحدث عن رأيه في طائفة من فتيات العصر، فترك صلب القصة ليكون حديثه تعليقًا وحاشية.
وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها، فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفًا بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته، ونبض قلبه، وإحساس روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئًا من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب، وكان هذا دليل الصدق عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته.
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان «فلسفة الطائشة».
ثم أملى عليَّ مقالة «كفر الذبابة» يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية، وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة.
وكانت مقالة «كفر الذبابة» هي آخر ما أملى عليَّ من المقالات، وذلك في صيف سنة ١٩٣٥، ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في سيدي بشر، وتهيأتُ للسفر إلى القاهرة لبعض شئون العمل المدرسي، وانتقلت بعدها إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع، فأسبوعًا أزوره في طنطا، وأسبوعًا يزورني في القاهرة، على أنَّ الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة ١٩٣٧، قبل موته ببضعة أشهر، ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، وكان آخر مجلس لنا في قهوة «پول نور» بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، والسيد زيادة، ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه أشياء …!
وفي صبيحة الغد بدأتِ المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول «وحي القلم».
… ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني، وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه، حتى جاءني نعيه … غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله؛ لتخفف عني وقع المصاب من بعد، أو لتحملني — غير محمول من أحد غير واجبي — على كفارة الذنب الذي أذنبتُ بهذه القطيعة، فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ لعلِّي أقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت عن وفائه في حياته. يرحمه الله!
•••
… لم يُمْلِ عليَّ الرافعي شيئًا بعد مقالة كفر الذبابة، ولكنه طلب إليَّ أن أنسخ له صورة من مقال كان نشره في المقتطف قبل ذلك بسنوات عنوانه «سر النبوغ في الأدب».
فلما سافر إلى مصيفه بعث إلى الرسالة بمقاله «كلمات عن حافظ» لمناسبة ذكراه، ثم أصابتْه قرحة في كفِّه منعتْه من العمل، فأخذ مقالة «سر النبوغ في الأدب» فجعل عنوانها «الأدب والأديب» ثم جعلها مقالة الأسبوع التالي، وهي مقالة من مقالات الرافعي الفريدة، تهم الباحث الذي يريد أن يدرس الرافعي صاحب «تاريخ آداب العرب».
•••
ثم توالتْ مقالات الرافعي يمليها على نفسه ويكتبها بخطه، على أني بما كنت ألقاه وبما كان بيني وبينه من الرسائل إلى ما قبل موته بأشهر، لم يفُتْني أن أعرف دوافعه إلى كثير مما كتب بعد ذلك من المقالات لقراء الرسالة، فسأحرص — تمامًا لهذا البحث — على أن أذكر ما أعرف من دوافع بعض المقالات التي أنشأها وحده من بعد، غير معتبر ترتيبها في النشر؛ إذ لا عماد لي فيما أكتب عنها إلا الذاكرة.
من هذه المقالات: الجمال البائس، القلب المسكين، المشكلة، المجنون، أحاديث الباشا.
أما مقالات «الجمال البائس» فقد أملاها عليه حبٌّ جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي: «… وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعًا في الهواء، لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني، ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنًى أكبر من المرأة، أكبر منها، غير أنه هو منها!
… ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه، فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس، ما تطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك، ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا.
حُبٌّ هو سموٌّ بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السموات يتنور في عوالمها الخفية نورَ الإنسانية في حقائقها العالية.
بدأ ذلك الحب في صيف سنة ١٩٣٥، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر، ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانًا؛ ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ عامر — رحمه الله — وكان بينهما صلات من الودِّ ترجع إلى نحو عشرين سنة منذ كان الأستاذ حافظ محاميًا في طنطا.
وكانا يتواعدان على اللقاء في ملهًى من ملاهي الإسكندرية على شاطئ البحر، حيث تتهيأ لهما الفرصة، من هدوء المكان في النهار وقلة إقبال الناس عليه، لما هما فيه من عمل.
في هذا الملهى كانت تعمل فرقة الراقصة المشهورة «ببا» فيعج كل مساء بمَن يفِد إليه من طلاب اللهو والهوى، ليفرغ للرافعي وصاحبه في النهار يُداولان الرأي في شئون الأدب والدين والفلسفة، وشتان ليلُه ونهارُه!
وكثر تردد الرافعي وصاحبه على هذا الملهى حتى ألفهما المكان وألفا ما فيه، وألفهما فيمن ألِف فتاة من راقصات الفرقة، هي الإيطالية الحسناء «ﺑ …» فما كان بينها وبين الرافعي إلا نظرة وجوابها ثم كانت قصة حب …
وجلس الرافعي إليها يتحدثان ذات نهار، وكشفتْ له عن صدرها وكشف لها، فكان بينهما حديث طويل، شهده المرحوم حافظ عامر من بدايته إلى منتهاه، ثم ترك الرافعيَّ لهواه وتركتْه صاحبتُه …
وذاق الرافعي مرة أخرى لوعة الحب وبُرَحاء الهوى، وكانت محبوبته الأخيرة راقصةً من بنات الهوى تعمل في مسرح هزلي من مسارح الصيف المتنقلة بين شواطئ الإسكندرية …!
تلك هي صاحبة «الجمال البائس».
•••
وانتهتْ أشهُر الصيف وعاد الرافعي إلى طنطا، وعادتِ الفرقة الراقصة إلى القاهرة، وشتَّ ما بين الحبيبين!
ولقيتُ الرافعي بعدها، فحدثني حديثه والكلمات ترتعش على شفتيه وفي عينيه بريق عجيب، ثم رقَّ صوته وتهدج وهو يقول: «مسكينة! ليتني أستطيع أن أبلغ ما في نفسها لأعلم ما تشكر من حظها وما تُنكر … ليس موضعها هناك، ولكنه القدر!»
ولقيته في القاهرة ذات مساء، وقد فرغ من مقالات «الجمال البائس» فدعاني أن أصحبه إلى الملهى الذي تعمل فيه ليراها من بعيد، وأرسل مَن يطلب له تذكرتين عند شاب من أبناء عمومته يعمل في «دار الهلال» وأبطأ عليه الرسول فلم ينتظر، فنهض ونهضتُ معه واتخذ طريقه إلى «عماد الدين» …
ووقف بالباب ينظر الصور ويقرأ الإعلان وهو يسألني: «أين اسمها؟ وأين صورتها؟ وأين … وأين هي؟»
وطالتْ وقفته وهو ينظر إلى صورتها في إطار كبير إلى جانب الباب يضم صورتها إلى صور شتى من راقصات الفرقة، ما منهن إلا لها جمال وفتنة، ولكن عينيه كانتا تنظران إلى صورة واحدة، إلى صورتها!
ثم تحول عن الباب مسرعًا عجلان وهو يجمجم بكلام لا يبين.
وقال لي وقد أسرعتُ إليه حتى حاذيتُه: «أيليق أن ندخل هذا المكان؟ أتراه من المروءة؟ وددت لو رأيتها، ولكن …»
وانتهينا إلى قهوة «پول نور» فجلس وجلستُ، ومضى يتحدث عن السحر والشعر وفتنة الجمال، فما هي إلا لحظة ثم مرت بنا منحدرة من شارع فؤاد إلى شارع سليمان باشا، فأتبعها عينيه من نافذة إلى نافذة حتى توارتْ في مزدحم الناس، ثم عاد إلى نجواه وشكواه …
وجلس مرة يتحدث إلى الأديب حسن مظهر محرر «اللطائف» عن ذات «الجمال البائس»، فأهدى إليه صورتها، فظلت هذه الصورة معه إلى أخريات أيامه لا تُفارقه.
ولقد كان يحسن الظن بعِلْمها وفهمها، حتى ليحسبها من قراء الرسالة، فمن أجلها كتب مقالات الجمال البائس؛ لتعرف موضعها من نفسه!
وكان لا ينفك يسأل: «أتراها علمتْ …؟ أتراها قرأتْ …؟»
وما أحسبه لقي صاحبًا من أصحابه إلا تحدث إليه عن صاحبة الجمال البائس … جلستُ منذ قريب إلى الأستاذ توفيق الحكيم نتحدث عن الرافعي ونذكر من خبره فقصَّ عليَّ، قال: «كان الرافعي يجلس على هذا الكرسي، من هذه الغرفة، وكان ذلك قبل منعاه بأشهر قليلة، ومضى الحديث بيني وبينه حتى جاء ذكر صاحبة الجمال البائس، فأخذ الرافعي يصفها لي وصفًا لا أجد أبلغ منه ولا أجمل من صاحبته، وطاوعه القول على تصويرها كما هي في نفسه، فما كانت عندي بما وصف إلا امرأة قد اجتمع لها من ألوان الجمال وفنون الحسن وسحر الأنوثة ما لم يجتمع مثله لامرأة، وتمثلتْ صورتها لعينيَّ كما أراد أن يصف، فلما بلغ آخر الحديث عنها، قدَّم إليَّ صورتها في ورقة لأرى بعيني مصداق ما سمعت …»
قال الأستاذ توفيق الحكيم: «ونظرت إلى الصورة التي صورها لي حديث الرافعي وإلى الصورة التي في الورقة، فكأنما استيقظتُ من حلم جميل! … يرحمه الله، لقد كان شاعرًا …!»
كذلك كان سلطانها في نفسه وأثرها في خياله!
•••
وكانت نشأة هذه الفتاة في طنطا لأول عهدها بالرقص، وكانت تعمل مع فرقة قروية أقامت «خيمتها» في طنطا بضع سنين، ولم يكن الرافعي يعلم ذلك من خبرها يوم التقيا في الإسكندرية في صيف سنة ١٩٣٥، فما عرف ذلك إلا مني حين رأيتها في فرقة «ببا» ونظرتُ صورتها، فلما عرف من ماضيها في طنطا ما عرف، أغمض عينيه وراح في فكر عميق … أتراه قد لقيها من قبلُ في طنطا ولم يكن يذكر، أم كان ينظم شعرًا لم يجهر به ولم يسمعه أحد؟
والعجيب أن الرافعي وهو في غمرة هذا الحب الجديد لم ينسَ صاحبته «فلانة» ولم يفتر حبه لها، بل أحسبه كان أكثر ذكرًا لها وحنينًا إليها مما كان، وكأنما كان قلبه في غفوة فأيقظه الحب الجديد وردَّه إلى ما كان من ماضيه.
لقد كان قلب الرافعي عجيبًا في قلوب العشاق، ليت لي من يستطيع أن يكشف عن أعماقه!
وبسبيل وحي هذا الحب الجديد وما أذْكَرَه من ماضيه، كانت قصة «القلب المسكين» التي نشرها في الرسالة نجومًا من بعد، ثم ضمها إلى أصول الجزء الثالث من وحي القلم الذي طُبع بعد وفاته.
•••
كان ذلك في الخريف من سنة ١٩٣٥ حين جمعتْني ظروف العمل بصديقي الأستاذ كامل، فلم يمض على تعارفنا أيام حتى استودعني كل السر …
… فقدَ أمه وهو غلام، فلم يلبث غير قليل حتى حلت غيرها محلها في بيت أبيه، وكان أكبرَ ثلاثةِ إخوة، فاقتضاه حق أخويه عليه أن يستشعر معاني الرجولة وما يزال في باكر الشباب، ورأى أبوه أن عليه شيئًا لهذا الرجل الصغير، فسمَّى عليه بنت خاله قبل أن يدرك، ورأتْ تقاليد الريف الذي نشأ فيه أن عليها دورًا في هذه القصة، فحجبتِ الفتاة عن خطيبها ولمَّا تبلغِ التاسعة وأغلقتْ دونهما الباب … ومضتْ سنوات وسنوات وسنوات وهو لا يراها ولا تراه، وفرغ من حسابها بينه وبين نفسه، ثم نسي ما كان وما ينبغي أن يكون، وكان يبغضها بغضَ الطفل والطفلة، فلما باعدتْ بينهما السنون انقطعتْ بينهما أسباب الكره والمحبة فلا يذكرها ولا يذكر شيئًا من خبرها …
وانتهى الفتى إلى مدرسته العالية، وابتعد عن أعين الحراس والرقباء في القرية، فمضى على وجهه في القاهرة العظيمة يلتمس لذَّات الشباب …
وكان له فكر وفلسفة، وفيه خلق ودين ومروءة، وبين جنبيه قلب يحس ويشعر ويتأمل، وعلى أنه كان يهيئ نفسه ليكون من أساتذة «العلوم» فإنه كان ولوعًا بالأدب مشغوفًا بمطالعاته، فكان له من ذلك روح وعاطفة، وكان في دمه ثورة وغليان، وكان في عقله مثال يريد أن يحققه، وكان في رأسه شِعر يحتاج إلى بيان، وكان له من كل أولئك قلب يتحفز لوثبة من وثبات الشباب في قصة حب، ثم لم يلبث أن اشتبك في الملحمة …
وأحب فتاة من بنات القاهرة وأحبته، فما كان له من دنياه إلا الساعة التي يلتقيان فيها، وما كان لها …
وأجمع أمره على أن يتزوجها لينعما بالحب ويحققا المثل الذي ينشدانه، وكان قد مضى على الباب المغلق بينه وبين الفتاة المسماة عليه بضع عشرة سنة … فما يذكرها ولا يفكر فيها …
وكان نائمًا يحلم حين ترامى الخبر إلى أبيه بما أجمع أمره عليه، فما وجد أبوه وسيلة لإنقاذه إلا تعجيل زفافه إلى بنت خاله وفاءً بوعد مضى في ذمة التاريخ …!
غضب الفتى واحتجَّ وثارتْ كبرياؤه ورجولته، وأبى أن ينزل على رأي أبيه في شأن هو من خاصة شئونه، ولكن الكثرة من أعمامه وأخواله قد غلبتْه على إرادته، وساقتْه في عماية إلى دار خاله ليزف على عروسه ثم يصحبها في السيارة من ليلته مرغمًا إلى بيته في القاهرة … وابتدأتِ المشكلة …
… هذه الفتاة هي بنت خاله، وهي زوجه أمام الله والناس، ولكنه لا يحبها، ولكنه لا يطيق أن ينظر إليها، وإن فتاةً أخرى تنتظره، وإن عليه لها واجبًا تحتمه عليه رجولته …
وما أطاق أن يمنح زوجه نظرةً أو يبادلها كلمة على طول الطريق حتى بلغتِ السيارة بهما الدار في القاهرة … كانت إلى جانبه ولكنه هناك، عند صاحبته التي فتنتْه واستولتْ عليه، فما نظر إلى وجه زوجه لأول مرة منذ بضعَ عشرة سنة إلا حين همَّتْ أن تنزل من السيارة لتدخل داره …
وكان حريًّا أن تئوب إليه نفسه حين نظر إليها فيعود إلى الحقيقة التي كتب عليه القدر أن يعيش فيها، ولكنه لم يفعل، وما رأى زوجته حينئذٍ إلا سجَّانه الذي يحرمه أن يستمتع بالحرية التي وهبها له الله يوم وهب له الحياة، وتأرَّثتْ في نفسه البغضاء من يومئذٍ لهذه المسكينة …!
وعاشت في بيته بضعة أشهر كما يعيش الضيف، لا يقاسمها الفراش، ولا يؤاكلها على المائدة، ولا يؤنسها من وحشتها بكلمة … فما تراه ولا يراها إلا في الصباح حين يخرج إلى عمله، وفي المساء حين يعود إلى داره قبل منتصف الليل، وما كان بينهما من صلة تجمعهما إلا البغضاء التي تؤج في صدره، والحسرةُ التي تتسايل دموعًا من عينيها، وإلا هذه الخادم التي تقوم لسيدها بشئونه وتقوم لها …
ولم يفتر صاحبنا عن لقاء صاحبته والاختلافِ إلى ملتقاهما.
على أن ذلك لم يزده إلا ولوعًا بحبيبته وتبرمًا بزوجته … ومضتِ الأيام تُباعد من ناحية لتقرِّب من ناحية، حتى جاء اليوم الذي وجد صاحبنا فيه أنه غير قادر على احتمال هذه الحياة أكثر مما احتمل … فمضى يدبر أمرًا للخلاص من هذه المشكلة، ولكن المشكلة زادت تعقيدًا على الأيام ولم يجد وسيلة إلى الحل …!
كان كل طريق يفكر فيه للخلاص محفوفًا بأشواك، فلا هو يرضى أن يطلق زوجه، ولا هو يطيق أن يهجر حبيبته، وليس في استطاعته أن يجمع على نفسه همَّين، وكان تفكيره في ذلك همًّا ثالثًا يُضنيه وينهك أعصابه ويعرق عظامه!
وكتب إلى الرافعي يستفتيه في مشكلته …
كنت مع كامل حين كتب قصته إلى الرافعي، وفي مساء اليوم التالي كنت في مجلس الرافعي بطنطا وبين يديه قصة صاحب المشكلة لم يفضَّ غلافها بعد …
وقرأ الرافعي الرسالة ثم دفعها إليَّ وهو يقول: «ماذا ترى حلَّ هذه المشكلة؟»
قلت: «لقد جهدتُ جهدي قبل اليوم فما أفلحت!»
قال: «أوتعرف صاحب المشكلة إذن …؟»
قلت: «نعم، وما كتب إليك هذه الرسالة إلا برأيي.»
وأطرق الرافعي هنيهة يفكر وفمه إلى الكركرة (الشيشة) كما هي عادته حين يستغرقه الفكر، ثم رفع رأسه إليَّ قائلًا: «تعرف؟ إنَّ صاحبك لمفتون بصاحبته إلى درجة الحمق والسفه، وما تنحلُّ هذه المشكلة إلى أن يكون له مع نفسه إرادة صارمة ويكون له سلطان على هواه، وهيهات أن يكون له! فما هنا إلا وسيلة واحدة ترده إلى رشاده فتنحل المشكلة …»
قلت: «فما هذه الوسيلة؟»
قال: «أن تدخل بينه وبين صاحبته دخول الشيطان، فتفرِّق بينهما … أتراك تستطيع؟»
فضحكت وقلت: «ثم ماذا؟»
قال: «فإذا بدا له من سيئاتها ما يُنكر، وإذا بدا لها … انتهى ما بينهما إلى القطيعة فيعود إلى زوجه نادمًا، وإنَّ مرور الأيام لخليق أن يؤلف بينهما من بَعد.»
قلت: «فهمت، ولكن ماذا تراني أقول حتى أبلغ من نفسه ومن نفسها ما تريد؟ وهبْني عرفتُ أن أقول له، فمن أين لي أن أستطيع لقاءها فأتحدَّث إليها؟»
قال: «اسمع، أتراها تقرأ؟»
قلت: «إنني لأعرف مما حدثني عنها أنها قارئة أديبة، وأنها من قراء الرسالة، وقد كان فيما أهدى صاحبها إليها كتابُ أوراق الورد، وأحسبها تنتظر ما تكتبه في هذه المشكلة، فقد حدثها صاحبها أنه كتب إليك …»
قال: «حسن! فسأجرب أن أكون شيطانًا بينهما، بل مَلَكًا يحاول أن يرد الزوج الآبق إلى زوجته بوسيلة شيطانية …!»
•••
وكتب الرافعي المقالة الأولى من مقالات المشكلة، وكان مدار القول فيها أن ينتقص صاحب المشكلة ويعيبه وينسب إليه ما ليس فيه مما ينزل بقدره عند صاحبته، ثم نشر أجزاء من رسالته إليه وأن فيها لَما يعيبها ويثلبها ويضعها بإزاء صاحبها موضعًا لا ترضاه، فلما فرغ مما أراد جعل حديثه إلى القراء يسألهم أن يشاركوه في الرأي ويحكموا حكمهم على الفتى وفتاته بعدما جهد في تصويرهما الصورة التي أراد أن يكون عليها الحكم في محكمة الرأي العام، وترك الباب مفتوحًا لترى صاحبة المشكلة رأيها في القضية فيمن يرى من القراء.
ولقيتُ صاحب المشكلة من الغد، فسألني: «هل رأيت الرافعي؟»
قلت: «نعم!»
قال: «ورسالتي إليه!»
قلت: «بلغتْه!»
قال: «وماذا يرى؟»
قلت: «ستقرأ رأيه في الرسالة بعد أيام!»
وأخفيت عنه ما كان بيني وبين الرافعي من حديث وما دبَّر من خطة … ونُشرت المقالة الأولى من «المشكلة» ومضى يوم، وجاء صاحبي غاضبًا يقول: «كيف صنع الرافعي هذا؟ لقد نحلني من القول ما لم أقل، أتراني قلت عنها كما يزعم، لقد خلطتْني بنفسها حتى لو شئتُ أن أصل إليها في حرام وصلت …! لقد ساءها ما نحلني الرافعي من الكلام، وقد تركتها الليلةَ غاضبة لا سبيل إلى رضاها!»
… وتحقق للرافعي بعض ما أراد، وانثالتْ عليه رسائل القراء يرون رأيهم في هذه المشكلة، وجاءه فيما جاءه من الرسائل، رسالة من صاحبة المشكلة نفسها …
وفعل برسالة صاحبة المشكلة ما فعل برسالة صاحبها، ولكنه تلقاها تلقِّيًا حسنًا، ومضى يتحدث عنها حديثًا ليس فيه من رأيها ولا مما تقصد إليه، ولكنه إيحاء، إيحاء إلى الفتاة بأنها في مرتبة أعلى، وأن ما بها ليس حبًّا وإن زعمتْ لنفسها هذا الرأي، ولكنه شيء يشبه أن يكون صورةً عقلية لخيال بعيد تظنه من صور الحب وما هو به … ثم مضى يفسح لها الطريق إلى الفرار من هذه المشكلة بالإيحاء والإغراء والحيلة …
وكانت المقالات الثلاث الأخيرة تعليقًا على آراء القراء وسخرية ونصيحة.
وفرغ الرافعي من مقالات المشكلة فما هو إلا أن تلاشى الصدى حتى عاد فلان وعادت فلانة، وما تزال المشكلة تطلب من يحلها، ومضتْ سنوات وفي الأتون ثلاثة قلوب تحترق … وعلى مقربة من النار صبي يحبو ينادي أباه، وأبوه في غفلة الهوى والشباب، أترى إلى هذه المشكلة وقد دخل فيها هذا العضو الصغير الجديد قد أوشكتْ أن تبلغ نهايتها، فيكون حلها على يدي هذا الصغير وقد عجز الكبار عن حلها بعد مجاهدة سنوات؟ أم هو قلب رابع سينضم إلى القلوب المحترقة في أتون الشهوات …؟
ومعذرة إلى صديقي كامل …!
•••
فالتفتَ الفتى مغضبًا يسأل: «أوليس يعرفني؟ أوينكر موضعَ نابغة القرن العشرين …؟
… ثم كان مجلس طويل وصفه الرافعي فيما وصف من مجالس المجنون.
وهو فتًى كان طالبًا في مدرسة المعلمين الأولية بطنطا، ثم أصابه ما أصابه فانقطع عن المدرسة، ولكنه لم يقطع صلته بالأدب، وصديقنا الأستاذ حسنين مخلوف يعرف هذا النابغة، فإنه كان بين تلاميذه في مدرسة المعلمين.
أما المجنون الآخر الذي وصف الرافعي من حاله ما وصف بعدُ، فهو طالب في إحدى كليات الأزهر، ولم ألقَه أو أعرفه إلا بعد أن كتب الرافعي عنه ما كتب.
كنت يومًا في إدارة الرسالة، حين دخل علينا فتًى أزهري في جلباب حائل اللون، فحيَّا وقال: «ألست تعرفني؟»
فحيرني هذا السؤال ولم أدرِ بمَ أجيبه، فقال: «إن بيننا نسبًا وقرابة، وإن بيني وبين الرافعي … إنني أنا الذي يكتب عنه الرافعي مقالات المجنون!»
قال ذلك وفي وجهه أمارات الجد، وبدا لي كأنه يفاخرني بما يقول! قلت: «ولكني أعرف نابغة القرن العشرين معرفة النظر!» قال: «نعم، فهل عرفتَ الآن من يكون الآخر …؟»
وقد كانت صلة الرافعي بهذين الفتيين بابًا من العبث والمجانة، على أنهما قد استطاعا أن يحملاه على العناية بأمرهما والتفكير في كتابة شيء عن المجانين …
وقد احتفل لهذه المقالات احتفالًا كبيرًا، فبعث إليَّ في القاهرة لأشتري له نسخة من كتاب «عقلاء المجانين»، ثم بعثني بكتاب خاص إلى الدكتور محمد فؤاد مدير قسم الأمراض العقلية بوزارة الصحة — وكان زميله في المدرسة الابتدائية — يرجوه أن يأذن لي في زيارة مستشفى المجانين لأكتب إليه عن بعض طرائفهم، لعله يجد فيها مادة تعينه على تمام موضوعه.
ولم يَفُتْه مع ذلك أن يلتمس علم ما لم يعلم عند كثير من الأطباء، فكان له حديث طويل عن المجانين مع الدكتور محجوب ثابت، والدكتور محمد الرافعي، والدكتور عبد الحميد المحلاوي طبيب الأمراض العقلية بمستشفى الخانقاه.
وقد أفاد من حديثهم بعضَ النوادر الطريفة التي حكاها في مقالاته ونسبها إلى نابغة القرن العشرين وزميله، على أن أكثر ما في هذه المقالات هو صحيح في جملته وفي نسبته إلا بضع نوادر!
•••
أما «أحاديث الباشا» فأكثرها خيال وأقلها حقيقة، وقد اختار الرافعي أن يجعل بعض حديثه في الشئون الاجتماعية على هذا النظم حتى لا يُمِلَّ قراءه.
وقد تخيَّل أخاه الأستاذ محمود الرافعي المحامي بدمنهور، كاتمَ سر الباشا الذي سَمَّاه ونسب إليه؛ لأنه كان يستوحيه كثيرًا من الحقائق فيما يكتب، وقد كان الأستاذ محمود الرافعي في صدر أيامه زعيمًا من زعماء الشباب في طنطا، يقودهم ويرى لهم الرأي في مسائل الوطنية وتدبيرات السياسة في إبان الثورة المصرية سنة ١٩١٩ وكان يومئذٍ طالبًا في مدرسة الحقوق.
أما «م» باشا فلا أحسب له شخصية حقيقية كان منها وكان مما روى الرافعي، ولكنها شخصية من تأليفه هو اصطنعها ليقول بلسانها ما قال.
على أن أكثر ما روى الرافعي من الروايات على لسان «م» باشا هو حقائق، ولكنها لا تنتسب جميعًا إلى شخص واحد.