مقالات منحولة
كثيرًا ما تدعو الدواعي كاتبًا من الكُتَّاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه، ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالًا في صحيفة من الصحف غير معزوٍّ إلى قائله أو مرموزًا إليه رمزًا ما، ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكُتَّاب مقالة أو فصلًا من كتاب، أو كتابًا بتمامه، ثم ينسب ما يُنشئه إلى كاتب غيره وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك، فثمة مقالات ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي من إنشائه وكدِّ فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهدًا عنها أو التماسًا للنفع من ورائها، ولو أني أردت أن أستقصي ما عرف من ذلك لأغضبتُ كثيرًا من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم، ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصًا على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخًا بعيدًا عن التهمة، لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، ومعذرة إلى أصدقائي …
•••
في سنة ١٩١١ أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبتْ عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكفِ الرافعي، ففي ذات يوم قصد إلى جريدة «المؤيد»، فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلًا عنه، فقال زكي باشا: «وماذا تريدني أن أكتب؟» قال الرافعي: «تقول وتقول …» قال زكي باشا: «فاكتب ما تشاء وهذا إمضائي …!» وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة فكتب ما شاء أن يُنسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة …
وقرأ الناس في اليوم التالي مقالًا ضافيًا بإمضاء «أحمد زكي باشا» في تقريظ «تاريخ آداب العرب» شَغَل الصفحةَ الأولى كلها من الجريدة، ولكن أحدًا من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!
وقد ظل هذا «التعاون» وثيقًا بين المرحومين زكي باشا والرافعي إلى أخريات أيامهما، ومنه أن زكي باشا كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول ألفها الرافعي بتمامها وأعدَّها للإمضاء … ولكن المنية أعجلت المرحوم أحمد زكي باشا عن إصدار هذا المعجم، وأحسبه ما يزال محفوظًا بين مخلفاته المخطوطة.
•••
•••
في الحادثتين السابقتين إشارة إلى بعض الأسباب التي كانت تحمل الرافعي على أن ينحل أصدقاءه بعض ما يكتبه، وهنالك أسباب أخرى:
في سنة ١٩١٧ وقعتْ في طنطا جريمة قتل مروعة، وكانتِ القتيل امرأة عجوزًا مسموعة بالغنى والشح والكزازة، تزوجها قبيل مقتلها شاب من الشباب العابثين طمعًا في مالها، فلم يلبث معها إلا قليلًا ثم وقعت الجريمة!
وتوجهت التهمة أول ما توجهت إلى زوجها الشاب، ثم انصرفت عنه إلى أختها وزوج أختها فسيقا إلى قفص الاتهام، وكانا شيخين عجوزين، فيهما بلاهة وغفلة، فلم يستطيعا الدفاع عن نفسيهما وهيَّآ بغفلتهما وبلاهتهما الفرصة للمجرم الحقيقي أن يحوك حولهما الشبكة، وأن يُصوِّب عليهما أدلة الاتهام لينجو هو من العقوبة …
كان المجرم الحقيقي معروفًا للجميع، ولكن المحكمة بما اجتمع لديها من براهين مصنوعة لم تجد أمامها غير هذين البريئين المغفلين، فألقتْ بهما إلى السجن المؤبد، وقضيا في السجن بضع سنين!
شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلى ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثمًا … ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الاحترام، فلم تبقَ إلا الرحمة الإنسانية شفيعًا من قسوة القانون.
وسعتْ أسرة السجينين إلى المحامي الأديب المرحوم حافظ عامر تطلب إليه أن يكتب استرحامًا في أمرهما إلى أمير البلاد، لعلَّ في عطفه ما يأسو الجرح ويخفف وقع المصاب، وجعلتْ له أجرًا على ذلك مائة جنيه!
وماذا يقول المحامي في قضية فرغتِ المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟
ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتِّب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض، لقد فات أوان ذلك كله فلم تبقَ إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدرُّ العبرة ويحسن الاعتذار عن النفس البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد، ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة.
وقصد المرحوم حافظ عامر إلى صديقه الرافعي؛ ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفَّق في مسعاه.
وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب …
وبلغت صيحتُه حيث أراد فأُفرج عن السجينين في مايو سنة ١٩٢١.
في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لونٌ من أدب الرافعي غير معروف لقرائه، وفيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السموِّ، وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مثلها في أساليب الأدباء.
وقد ظل هذا «التعاون» الأدبي متصلًا بين الرافعي وصديقه الأستاذ حافظ عامر إلى ما قبل موت الرافعي، ولكن هذا «التعاون» قد خرج من نطاق القضايا والمحاكمات إلى نطاق أدبي آخر ليس من حقي أن أتحدث عنه اليوم … وعند الأستاذ الزيات بقية الخبر، تحدث به الرافعي إليه في مجلس ضمنا نحن الثلاثة …
•••
فإذا صح هذا الذي رويناه — ونحن نميل إلى تصحيحه — فإن عمل الرافعي في تلك الرسالة التي نشرها المرحوم حافظ عامر منسوبة إليه، لا يعدو عمل المنشئ وصاحب البيان لفكرة زعم له صديقه أنها فكرته!
•••
ونعود إلى حديث المقالات المنحولة فنقول: في شهر ديسمبر من سنة ما، قصد الأستاذ جورج إبراهيم صديقه الرافعي، يطلب إليه أن يُعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسية في ليلة عيد الميلاد …
وكتب الرافعي المسلم كلمة مسلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه، وألقتْها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين المثقفين فخلبتْ ألبابهم واستحقتْ منهم أبلغ الإعجاب.
وفي الشهر التالي كانت هذه الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في «المقتطف» منسوبة إلى الفتاة، وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلًا من الإنجيل.
هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة، فنقح فيه ما شئت، واضبط لها الكلام، والسلام.
وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة، والمضرة، والمعرة يا عم جورجي.
وكان المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي — صهر الرافعي — من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المقربين، وكان أدنى إليه منزلة من كثير من تلاميذه، على أن تأثره به كان من الناحية الأدبية وحسب، على حين كان تلميذه المقرب المرحوم السيد رشيد رضا مخصوصًا بالرواية عنه في الناحية الدينية، فكلاهما من تلامذة الأستاذ الإمام، ولكن لكل منهما نهجه وشرعته.
قال الرافعي: «فابدأ العدد الأول بما شئت من حديثه أو مجالس درسه!»
قال البرقوقي: «ولكني لا أجد عندي ما أرويه عن الإمام، لقد ترك الشيخ في نفسي أثره، ولكنه لم يترك في ذاكرتي من حديثه ومجالسه شيئًا يستحق الرواية.»
قال الرافعي: «… ولا بد من ذكر شيء عنه في البيان؟»
قال: «بلى، وإلا غلبني رشيد رضا واستطال عليَّ عند قرائه بأنه هو وحده تلميذ الإمام وراويه!»
وضحك الرافعي وأطرق هنيهة، ثم تناول قلمًا وورقة وكتب …
وصدر العدد الأول من مجلة البيان، وفيه حديث يرويه البرقوقي عن الشيخ محمد عبده في مجلس من مجالس درسه، بأسلوب من أسلوبه وروح من روحه وبيان في مثل بيانه، وما قال المرحوم الإمام شيئًا من ذلك ولا تحدث به، ولكنه حديث مصنوع وضعه الرافعي على لسان الأستاذ الإمام ونشره البرقوقي ليقضي لبانة في نفسه …
… ألقى إليَّ الرافعي هذا الحديث ساخرًا، ثم دفع إليَّ العدد الأول من مجلة البيان وهو يقول: «اقرأ، أترى هذا الحديث من مهارة السبك بحيث يجوز على القراء أنه من حديث الأستاذ الإمام؟»
… واستمرَّ هذا «التعاون» أيضًا بين الرافعي والبرقوقي طول المدة التي كانت تصدر فيها مجلة البيان، فأي مقال قرأت من أعداد هذه المجلة فشككت في نسبته إلى مُذيله باسمه، فاحمله على أنه مما كتب الرافعي من الأدب المنحول …
ومن ذلك مقدمة شرح ديوان المتنبي الذي نشره البرقوقي.
ويدخل في هذا الباب كثير من المقالات كان الرافعي يكتبها بأسماء طائفة من ناشئة المتأدِّبين؛ ليدفع عن نفسه في معركة، أو يدعو إلى نفسه لمغنم، أو ليعين صاحبًا على العيش، أو ليوحي إلى «صاحب الإمضاء» إيحاءً يدفعه إلى الاستمرار في الأدب والأمل في أن يكون غدًا من الكتَّاب المشهورين … وليس يعنيني في هذه الناحية أن أسمي أحدًا أو أشير إليه؛ إذ كان الذي كتبه من ذلك ليس له من القيمة الأدبية ما يدعونا إلى الحرص على تصحيح نسبه، وأكثره لغو مما يُنشر في بعض الصحف لملء الفراغ.