من شئونه الاجتماعية
لم يكن الرافعي عضوًا في جماعة من الجماعات، ولا منتسبًا إلى حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف؛ إذ كان يؤثر الوحدة والاستقلال في الرأي، وكان من التعصب لرأيه والاعتداد بنفسه بحيث يأبى أن ينزل عن رأي يراه مجاملة لصديق أو خضوعًا لرأي جماعة ينتسب إليها، وكان له من علته سبب آخر نبَّهتُ إليه عند الحديث عن نشأته، ثم إن الرافعي لم يكن رجلًا اجتماعيًّا يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوبَ الناس فيما يليق وما لا يليق، فهو لا يعتبر إلا رأيَه، أو حاجَته، أو مصلحتَه، فيما يكون بينه ويبن الناس من صِلات، ولم يكن يعرف هذا النفاق الاجتماعي الذي يسميه الناس التقاليدَ، أو الأدب اللائق … فهو بذلك كان عالَمًا منفردًا يسير في نهجه إلى الهدف المؤمل على وحي الفطرة أو هدْي الإيمان، سمِّ هذا شذوذًا في الخُلق، أو سمِّه استقلالًا في الرأي وأسلوبًا من التعبير عن الشخصية المتميزة بخصائصها، فما يعنيني هنا إلا إثبات هذه الحقيقة في التاريخ كما شهدتها في معاملاته وفي صِلاته بالناس، وكما لمحتها في جملة من أحاديثه.
… هذه الأسباب هي أهمُّ ما كان يُباعد بين الرافعي والاشتراك في الجماعات، أو يباعد بينها وبينه!
على أن ذلك لم يكن يمنعه أن يكون هواه مع جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب في وقتٍ ما لسبب ما، ولم يمنعه ذلك أن يكون عضوًا في بعض الجماعات.
وأول أمره في ذلك — على ما أعرف — أنه شرع وهو شاب لم يجاوز العشرين في تأليف جماعة من الشباب تدعو إلى نوع من الإصلاح الديني، وكان معه على هذا الرأي صديقان من أترابه، أذكر منها الأستاذ عبد الفتاح المرقي المحامي بطنطا، وقد اتخذوا «مسجد البهي» في طنطا مكانًا لاجتماعهم وتبليغ دعوتهم، وطنطا كما قد يعرف كثير من القراء، مركز هام من مراكز الثقافة في مصر، وفي أهلها حفاظ وتحرج، ولها صبغة دينية نشأتْ من أن فيها معهدًا دينيًّا كبيرًا في «الجامع الأحمدي» كان في وقت ما يشتدُّ عدْوًا في مسابقة الجامع الأزهر بالقاهرة، والأزهريون في طنطا كالأزهريين في القاهرة، إلى عهد قريب، أكثرُ أهل العلم في مصر حفاظًا على القديم، وأسرعُهم إلى سوء الظن بكل إصلاح جديد، من ذلك لقي الرافعي وصاحباه في دعوتهم ما لقوا من عداء طلبة الجامع الأحمدي وعلمائه، حتى همَّ الطلبة مرة أن ينالوهم بالأذى في أبدانهم … فلم يجد الرافعي وصاحباه في النهاية بدًّا من التسليم، وانحلَّتِ الجمعية الرافعية الصغيرة.
حدثني الرافعي حديث هذه الجمعية في خريف سنة ١٩٣٢ بعد ثلث قرن مما كان، وكنت ذهبت إليه يومئذٍ في وفدٍ ثلاثةٍ ندعوه إلى الاشتراك معنا في جماعة أنشأها بطنطا في ذلك الوقت باسم «جماعة الثقافة الإسلامية» تدعو فيما تدعو إلى العمل على إحياء الشعور بمعنى القومية الإسلامية العربية، واتخذتْ لذلك وسائل وشرعتْ نهجًا، وكانتْ تضم فيمن تضم طائفةً ممتازة من أهل الرأي والعلم والأدب لكل منهم صوت ورأي وجاه في قومه …
ولبَّى لرافعي دعوتنا بعد تمنُّع، وانتظمتِ الجماعة على رأي واحد إلى هدف واحد، فلما استكملنا الأهبة، دعونا الشباب المثقفين في طنطا إلى اجتماع عام في نادٍ كبير، وكان الرافعي من خطباء الاجتماع.
صعد الرافعي إلى المنصة، فوقف برهة يُجيل نظره في ذلك الجمع الحاشد، ثم انطلق في خطبته.
وعلى أن الدعوة إلى الاجتماع كانت عامة، وعلى أن موضوعه هو الثقافة الإسلامية، فإنه لم يشهد هذا الاجتماع من شيوخ «الجامع الأحمدي» ومدرسيه غير ثلاثة من الشيوخ، وطائفة غير قليلة من المدرسين غير الشيوخ، ولم يفُتِ الرافعيَّ أن يُلاحظ ذلك، فمال في خطبته إلى هذه الناحية، ينعى على شيوخ الأزهر أن يتجاهلوا واجبهم في مثل هذه الدعوة، وأن يؤثروا القعود على الجهاد! وكان فيما قاله: «إن أديبًا كبيرًا من وزراء الدولة قد قالها مرة منذ ثلاثين سنة: لو قعد حماري في الأزهر خمس عشرة سنة لخرج عالمًا! وما نحب أن يقولها اليوم أحد ليلحد في كفاية طائفة من أهل العلم والدين هم أكرم علينا …!»
قالها الرافعي في حماسة وانفعال وفي لهجة خطابية ثائرة، فسمع المجتمعون همهمة عن يمينه وشماله، أما عن يمينه فكان الشيوخ الثلاثة قد آذاهم ما قال الرافعي، وأما عن الشمال فكان طائفة من المدرسين غير الشيوخ في الأزهر قد خافوا أن تؤوَّل كلمة الرافعي تأويلًا ينالهم بالشر من إخوانهم الأزهريين …
وعلى أن الرافعي كان بريء الصدر فيما قال، وعلى أن الأزهريين كانوا يعلمون قبل غيرهم أن هواه معهم، وعلى أن صدر كلامه وخاتمته لم يكن ينبئ عن قصد الإساءة، فإن هذه الكلمة التي قالها قد أحدثتْ دويًّا بين الأزهريين تهدَّد الجماعة في نشأتها.
وسعى ساعٍ إلى شيخ الجامع الأحمدي «المرحوم الأستاذ محمود الديناري» فأنبأه أن الرافعي قد قال في خطبته: «لو قعد حماري في الأزهر بضع سنين لخرج أعلم من شيخ الأزهر …!»
وكتبها كاتب في رسالة خاصة إلى المرحوم الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر …!
وتسامع بها الشيوخ على ما حكاها الراوي فراحوا يتناولون الرافعي وجماعته بما وسعهم من التجريح في أعراضهم ودينهم ومقاصدهم، وقال قائل منهم، «وما حاجتنا إلى هذه الجماعة فيما تدعو إليه؟ لقد انتشر الإسلام ومد ظلاله في العالم على حد السيف، فما يغني غناءه في هذه الدعوى كاتب يكتب أو خطيب يخطب!»
وامتدت هذه المقالة الطائشة على لسان طائفة …
وعرف الطلاب من الأمر ما عرفوا فأعلنتْ طائفة منهم الحرب، وسعتْ طائفة أخرى في وفد إلى مدير المديرية تطلب إليه أن يقمع هذه الفتنة بسلطانه، واصطبغتِ المشكلة صبغة سياسية؛ إذ كان للأزهريين يومئذٍ في السياسة دولة وسلطان.
وإذا اتصل الأمر بالسياسة، فإن طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة قد فزعوا فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقتْ طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفدًا إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويمحو سوء الظن ويعتذر … ولكن شيخ الجامع رد الوفد ردًّا غير جميل وقال عن الرافعي ما قال …
… وإن شيخًا من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف! وهذا كلام، وسيبقى كلامًا ما دمتَ ساكتًا عنه، فإذا عرضتُ له بالمناقشة فقد تغيَّر وجهُه، لو كان وجه النهار لاسودَّ.
وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه بما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي …
وكان الرافعي جالسًا إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي، فردَّه، وعاد يدعوه ثانية ويلحُّ في الرجاء، فحدَّد الرافعي موعدًا.
وذهب إلى لقاء الشيخ، فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعَوْا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ، قال الرافعي: «ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه «إعجاز القرآن» فما لقيني حتى قال: أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقًا خيرًا منه، إنه زادي وعمادي. ثم عيَّثَ في درج مكتبه قليلًا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إليَّ وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه، لا أجد مَن يصلحها خيرًا منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!»
قال لي الرافعي: «وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي، طاعة لأمر شيخ الأزهر بعد الذي قال عني منذ أيام …»
تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تُبقِ على الجماعة، فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسة يومئذٍ حديث طويل …
ولم يشترك الرافعي — على ما أعلم — في غير هاتين الجماعتين.
•••
ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علمًا أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين — لا أذكر — إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله، فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة ١٩١٢.
على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له، ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به، ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية، فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفرًا بأمنية عزيزة؛ لأنه أتاح له أن يتنقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، حتى ما يكاد يستقر في بلد، فيومًا في القاهرة، ويومًا في الإسكندرية، ويومًا في بورسعيد، يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه، حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية، فأحس شيئًا من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بورسعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد …
وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الإبراشي مما فصَّلتُ مجمله في فصل سابق، وكان الرافعي قد قصد إليه يطلب إليه مدَّ أجل هذا الجواز بعد انتهائه!
وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له؛ ليفيد من ذلك شيئًا يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما …
كان يسمي السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما، فلكليهما أثر متشابه في نفسه، وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!
وكم كان ظريفًا أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلًا: «هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟» يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة؛ لأن كلمة «خارج القطر» كانت عنده عَلَمًا عرفيًّا على السيما لا يحتاج إلى تعليق!
•••
وكان عجيبًا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنَادي الموتى والأحياء، وكان يؤمن بالسحر والعرافة، وكثيرًا ما كنت تسمع منه: «حدثتْني نفسي … أُلقِيَ إليَّ … هَتَفَ بي هاتف.» وكان يعني ما يقول على حقيقته، جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل … وعلى حين غفلة سكت، ثم قال: «كيف صديقنا مخلوف؟» قلت: «لم أره من زمان!» قال: «إنه قادم الساعة … لقد أُلقِيَ إليَّ … أحسبه الآن يصعد في السلم …!» فما كاد يتم حتى دقَّ الجرس، وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفًا: أكان على موعد مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!
وسألني مرة أخرى: «ماذا تعرف عن صديقنا «م»؟» قلت: «لا جديد من أخباره!» قال: «يهتف بي الساعة هاتف أنه في شر!» وفي صباح اليوم التالي كان نبأ شروعه في الانتحار منشورًا في الصحف! وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة ما يبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئًا!
وكان بينه وبين رجلٍ قضية، فغاظه، وجاءني الرافعي يومًا محنقًا وهو يقول: «سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب!» وفي الغد جاءنا نعي الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذٍ، فتندَّتْ عيناه بالدمع، وتناول سبحته وأخذ يتمتم في صوت خافت وشفته تختلج من شدة الانفعال!
هذه حوادث ثلاث رأيتها بعيني، ولعلها من عجائب الأخبار عند بعض القراء، وأحسبني قد رأيت له غير ذلك، ولكني لا أتذكره الآن …
وحدثني أن أباه كان مسافرًا مرة إلى بلد ما، وكان عليه صلاة، فافترش مصلًّى وأخذ يصلي على رصيف المحطة، وإنه لكذلك إذ جاء القطار، قال الرافعي: «وكان أبي حريصًا على ميعاد هذه السفرة، يخشى شيئًا لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره ما يتسع لصلاة الشيخ، ولكن الشيخ استمر في صلاته على وَنًى واطمئنان، وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته واطمأن في كرسيه وحيَّا مودِّعيه ووصَّى، وكان سبب تأخير القطار شيئًا غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة!»
وأحسبه ذكر مرة في بعض ما كتب، كيف ثقل نعش أمه على كتفه ثم خفَّ! وأخبرني أنه لما مات أخوه المرحوم محمد كامل الرافعي استحضر روحه فلبَّتْ نداءه، وكان بينهما حديث لا أذكره، وحاول مرة أن يعلمني وسيلة لتحضير الأرواح، ولكني لم أتعلم!
وكان يحفظ كثيرًا من الأدعية والدعوات لأسبابها!
وكان يؤمن إيمانًا لا شك فيه بأن يومًا ما سيأتي فيرتد إليه سمعه بلا علاج ولا معاناة؛ لأن بشيرًا من الغيب هتف بهذه البشرى في نفسه، فهي لا بد واقعة! وقد مات وعلى مكتبه رسالة من صديقه المرحوم فليكس فارس يُشير عليه بتجربة لترد عليه سمعه الذي فقده منذ ثلاثين سنة أو يزيد، ورسالة أخرى من صديقه المرحوم حافظ عامر فيها شيء يشبه ذلك!
وأحسبه قال لي مرة أو مرات وكنت جالسًا أتحدث إليه: «ارفع صوتك بالحديث لعل الساعة الموعودة قد حانت، فأسمع ما تقول!»
ولو أنني ذهبت أستقصي ما أعرف من مثل هذه الأخبار ما وسعني الوقت، وفي بعض ما قدمت الكفاية لمن يلتمس أسباب العلم.
•••
وكان الرافعي ولوعًا بالرياضة البدنية من لدن نشأته، يعالج أسبابها في أوقات رتيبة، وكان المشي الطويل أحبَّ رياضة إليه.
خرجتُ مرة في جماعة من صحبي يوم «شم النسيم» للرياضة بُعيدَ الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بُعد ميل من المدينة والشمس لما تشرق، لمحتُ الرافعي على بُعد يخُبُّ في مشيته على حافة قناة بين زرعين، فلما دنوتُ منه رأيتُه يميل فيبلل كفه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط، وأقبلتُ عليه أسأله، قال: «هذه رياضة تحلو لي كثيرًا، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحيانًا أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان …» قلت: وهذا الندى الذي تغسل به وجهك؟ قال: «إنه ينضِّر الوجه ويردُّ الشباب!» ثم سأل: «وأنتم أين تقصدون؟» قلت: هذه رياضة لا نقوم بها في العام إلا مرة، وإن معنا لطعامًا وماءً وحلوى، فهل تصحبنا؟
قال: «وددتُ، ولكن في غير هذا اليوم … أسأل الله لكم العافية!»
وكان يعالج كثيرًا من وسائل الرياضة غير المشي، وقد أتقن تمرينات «صاندو» الرياضي الفرنسي المشهور …
ولو أن أحدًا دخل منذ سنوات الغرفة التي كان فيها مكتب الرافعي، لرأى «عُقْلةً» تتدلى من السقف، وكُراتٍ وأساطين من الحديد ملقاة إلى جانب، وأثقالًا من أثقال الرياضة مسندة إلى الحائط.
وقد كان إلى قريب يملك عودًا طويلًا من الحديد الغليظ يعلق في طَرَفيه ولديه الشابين سامي ومحمد، ثم يرفعهما بيده كما يفعل أبطال الحمل حين يحملون من أثقال الحديد …!
وكان وَلعُه بالرياضة يحمله على السعي إلى أبطالها يلتمس صداقتهم، ومن أصدقائه المصارع الكبير المرحوم عبد الحليم المصري، والبطل المصري المشهور السيد نصير!
ومن عجائب الازدواج في شخصية الرافعي أنك كنت تنظر على مكتبه ثلاث صور لا تجتمع في مكان: هي صورة المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وصورة الرياضي الفرنسي المشهور صاندو، وصورة … كريمان هانم خالص، ملكة الجمال التركية في وقت ما، واسترعى اجتماع هؤلاء الثلاثة ملاحظتي ذات يوم، فقال وأشار إلى صورتي صاندو والشيخ محمد عبده: «هاتان قوتان تعملان في نفسي: قوة في روحي، وقوة في جسدي!»
قلت: «وهذه …؟»
قال: «وهذه …! ما أجملها! انظر! ألا تقرأ شعرًا مسطورًا على هذه الجبين؟»
وكان سبَّاحًا ماهرًا، وكانت له جولات في السباحة يشهدها شاطئ سيدي بشر في الصيف، وكان يقصد هو وأسرته للاستحمام جانبًا من الشاطئ غير مطروق لعنفوانه وشدة موجه، وكان يمزح ويسميه «بلاج الرافعي»؛ إذ قلَّ أن يقصد إليه للاستحمام أحد من المصطافين في سيدي بشر غير الرافعي وأسرته.
ولا يطعن في قدرة الرافعي على السباحة أنه أوشك أن يغرق مرة، كان ذلك قبل منعاه بأشهر، وكاد يغرق معه طائفة من أولاده، لولا أن أسرع حارس الشط لنجدتهم.
وللرافعي صورة طريفة تصوَّرها منذ بضع عشر سنة، وتمثله في زي أبطال الرياضة المشهورين، عاري الجسد، بارز العضلات!
وله مقالات مشهورة عن الرياضة البدنية، نشرها مسلسلة في مجلة «المضمار» الرياضية التي كانت تصدر في القاهرة منذ بضع عشرة سنة.
وكانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوته العصبية أيضًا، ومن هاتين كان اصطبار الرافعي على العمل الشاقِّ فيما يعالج من شئون الأدب.
ولكنه وا أسفا! … قد مات بغير علة؛ لأن القدر أقوى من احتيال البشر!
•••
قلت في أول هذا الفصل: «إن الرافعي لم يكن رجلًا اجتماعيًّا يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوبَ الناس فيما يليق وما لا يليق …»
فلعل قراء الصحف المصرية ما يزالون يذكرون ذلك الإعلان المشهور الذي كان يطالعهم في كل جريدة وكل مجلة عن «الفسفورين» وفي رأسه صورةُ الرافعي وشهادة بخطه عن مزايا الفسفورين الذي «شربه فكأنما شرب فيه الكهربا …»
ولعل كثيرًا من الذين قرءوا هذا الإعلان ورأَوْا في رأسه صورة الرافعي وشهادته بخطه، قد عجبوا وسألوا أنفسهم: كيف يرضى رجل كالرافعي أن يضع نفسه هذا الموضع؟
ولعل كثيرًا منهم كذلك كانوا يعتقدون أن الرافعي لم يكتب هذا الإعلان إلا مأجورًا كما يؤجر «نجوم» السيما وملكات الجمال على الإعلان عن صنوف العطر والصابون وأدوات الزينة …!
… ولكن هذا الذي كان يدور في خَلَد جميع القراء، أو أكثر القراء، لم يكن يخطر للرافعي أو يدور بخلده، بل لعله كان يراها مفخرة له على أدباء الجيل أن يؤخذ بشهادته من دونهم جميعًا، وأن تُنشر صورته كلَّ يوم في كل جريدة مع لقب «إمام الأدب وحجة العرب …» الذي نحله إياه الأمير شكيب أرسلان في بعض ما كتب عنه! وأحسبه قال لي مرة: «إن الأديب فلانًا ليأكله الغيظ كلما رأى هذه الصورة مقترنة إلى هذا اللقب الذي لا يتطاول إليه أديب من أدباء الجيل!»
أتُراه كان يعتبرها شهادةً منه بفائدة الفسفورين، أم شهادة من الفسفورين بإمامته …؟
ولكنه — يرحمه الله — لم يكن يعرف من تقاليد الناس ما يُؤهله ليرى أن نشر صورته مع مثل هذا الإعلان عمل لا يليق!
والسبب الذي دعاه لكتابة هذا الإعلان، أنه ذهب مرة ليشتري دواء من صيدلية، فأهدى إليه مَن أهدى شيئًا من الفسفورين زعم أنه يعينه على المجهود العصبي الذي يبذله في معاناة الأدب، ثم دعاه بعدُ إلى كتابة هذا الكتاب، فلما أجابه الرافعي إلى ما طلب، بعث إليه في منزله بهدية من مركبات الفسفور في صندوق … ثم كان كتاب الرافعي — كما رآه القراء — إعلانًا بأبخس الأثمان، وهو راضٍ مسرور!
وإلى القراء هذا الإعلان أثبته هنا طرفةً أدبية لا يقع القراء على كثير من أمثالها …!
إلى المهندس النابغة الأستاذ رمسيس …
عزيزي الأستاذ رمسيس
تأملتُ رسمك الجميل الذي وضعتَه لمنزلي، وتتبعتُ مواضعَ الاتصال فيه بين قريحتك المبدعة، وبين شكل الطبيعة وروحها، فأشهدُ لكأن هذا الرسم بما فيه من القوة يُحاول أن يحيا في نظر من يتأمله.
إنك بهذا الذوق السلم الحيِّ لتعطينا السرورَ في شكل من الفن، حتى لو مَلَكَ المالكُ رُقعة من الأرض كالبقعة من الظلمة لوضعتَ لها من هندستك غُرةَ فجر يضيء عليها.
وأراك بهذه الدقة وهذا العلم كأنما تُرغم الطبيعة أن تقدم لك حسابًا عن كل مكان تتناوله منها، وأحسبها لو هي صنعت بناءً كما تصنع ثمارها وأزهارها لجاءت به في موضعه على الرسم الذي تتخيَّله أنت لموضعه، كأنك أُعطيتَ بالعلم سرَّ إظهار الجمال في أشكاله كما أُعطيتْ هي بالقدرة سرَّ تكوين الأشكال في جمالها …
ما أبدعَ ما تمزج أيها الساحر بين القريحة والمادة! وما أدقَّ ما تصلُ بين الجمال والمنفعة! وما أكمل ما تحققُ بين المخيلة والواقع! إن هذه الخطوط التي رسمتها لتكون مِيلادَ بيت جميلٍ، هي نفسها ميلادُ فنٍّ بليغ يقيمُ لك بناء فخمًا من إعجاب محبك!
وقد طبع الأستاذ رمسيس من هذا الكتاب آلاف الصور؛ ليكون إعلانًا عن فنه بشهادة الرافعي، وحسبك بها من شهادة!
•••
ولئن كان في هذين الإعلانين الكفاية لإثبات ما قدمت من وصف أخلاقه الاجتماعية، إن في الحادثة التالية لشاهدًا حقيقًا بالنظر: عاد الأستاذ حافظ عامر من الحجاز ذات سنة في إجازته، فأهدى إلى الرافعي سُبْحة نادرة لمناسبة عودته، زعم له أنها تساوي بضعة جنيهات.
وعرض الرافعي السبحة عليَّ وقال: «كم تساوي؟» قلت: «لا أدري!» قال: «فهل لك أن تقومها في السوق؟» فذهبت بها — ولم أكن أعرف أنها مهداة إليه — فلم أجد لها شبيهًا في السوق، ولكن تاجرًا أنبأني أنها لا تُساوي أكثر من جنيه!
وأنبأت الرافعي بما سمعت، فما لبثَ أن تناول قلمه وكتب رسالة إلى صديقه يعتب عليه أن يُغالي بقيمة الهدية إلى خمسة أمثالها!
وعلمتُ بعدُ بما كتب الرافعي فتألمتُ لذلك ولم أكتم عليه رأيي، فنظر إليَّ مدهوشًا، وهو يقول: «أتراه خطأ أن أكتب إليه بهذا …؟»
قلت: «نعم!» فسكت هنيهة ثم قال: «وهل تراه يغضب لهذا؟»
قلت: «أظن!»
فعاد إلى سكوته وفي وجهه الأسف!
وجاءه بعد يومين جواب صديقه بالبريد، فيه عذْل، وفيه عتاب، وفيه ورقة بجنيه يطلب إليه أن يشتري به سبحة مثلها إن وَجَد …!
وقرأ الرافعي رسالة صديقه، وكان حريًّا أن يشتد به الأسف لجواب صديقه، لولا أن هذا الجنيه قد محا ما كان في نفسه … فاستبقاه لنفسه …!