نسبه ومولده
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من «طرابلس الشام»، يعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجدُّه والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته «مسلم»، لا يعرف له أرضًا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم، فأنت لم تكن تسمعه يقول: «الوطنية المصرية …» أو «الوطنية السورية …» أو «الوطنية العراقية …» إلا كما تسمع أحدًا يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتًا من البلاد والمدائن، وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم: هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعًا كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديدًا من البلاد.
ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة ١٢٣٠ﻫ بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين — رضي الله عنه — في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.
وقد تخرَّج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثرُ علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر، ومن تلاميذهما الأدنَيْنَ المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق.
ولما تُوفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذٍ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلًا زاهدًا ورعًا فيه تحرُّج وخشية، فلم يجد في نفسه هوًى إلى قبول هذا المنصب؛ تحرُّجًا من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس … فلما بلغتْه دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه همٌّ، وهو يدعو الله ألَّا يئول إليه هذا الأمر ضنًّا بدينه ومروءته … وتمتْ مراسيم التولية وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة «مفتي الدولة»، ثم نزل إلى عربته فركبها عائدًا إلى داره وهو يتمتم ويدعو، فلما بلغ الدار نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد … واستجاب الله دعاءه …!
وكان الشيخ عبد الرازق رجلًا ورعًا له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما معاصروه من شيوخ طنطا.
حدثني نسيب قال: «كنت غلامًا حدثًا، وكان الشيخ عبد الرازق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الأجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحيانًا في متجر جاره وصديقه المرحوم حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودربُ الأثر يومئذٍ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية، ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرازق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمرَّ به رجل ينفث الدخان من فمه وبين أصبعه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرازق، حتى اندفع إليه، فانقضَّ عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى «القسم»؛ لينال الحدَّ على إفطاره في رمضان في شارع عام، وما أجدى رجاءُ الرجل ولا شفاعة الشفعاء، فسيق الرجل إلى القسم في «زفة» من الصبيان، ليتولى الشيخ حدَّه بنفسه على إفطاره، وما كان القانون يأمر بذلك، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام.»
وحوادث الشيخ عبد الرازق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!
واسم «الرافعي» معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون، وأحسب أن هناك صلةً ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي، وقد سألت الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول ما عُرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله؛ فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيهًا له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.
والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتدُّ به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.
وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائمًا يحب أن يُسنِد إليها الفضل فيما آل إليه أمره، وقد تُوفيتْ في أسيوط ودُفنتْ بها، ثم نُقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا.