في يومه الأخير
في الساعة الثانية بعد ظهر الأحد ٩ مايو سنة ١٩٣٧، نهض الرافعي عن مكتبه في المحكمة منطلقًا إلى داره، يرافقه صديقه الأديب أمين حافظ شرف — وهو كان رفيق أوْبته كل يوم — وتحت إبطه عديد من الكتب والصحف والمجلات، تعوَّد ألَّا يسير إلا ومعه مثلها، وفي يمناه عصًا لا يعتمد عليها، ولكنه تعوَّد ألَّا يمشي إلَّا بها.
أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسبًا ويعقد آصِرة بالعالم الثاني، أم كان ذلك ميعادًا إلى لقاء قريب …!
ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشيًا، واتخذ طريقهما راجلين إلى حيث أرادا، فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما أخذ من وحي الراقصات لفنِّه وأدبه، وأخذ صديقُه ما أخذ …
أفكان الرافعي يريد من هذه السهرة أن يصل ما انقطع من قصة «الجمال البائس» و«القلب المسكين» و«في اللهب ولا تحترق» …؟
… وفي منتصف الساعة الثانية عشرة، كان الرافعي في طريقه إلى بيته، بعدما ودع صديقه في منتصف الطريق، فلما بلغ الدار، خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفًا من الخبز والبطارخ، والبطارخ كان طعامَ الرافعي الذي يحبه ويوثره على كل طعام في المساء؛ لأنه كان يُؤمن بفائدته لأعصابه، وكان يستورده من بورسعيد جملةً.
واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مُصلاه يسبح ويدعو ويتلو قرآن الفجر، وأحسَّ بعد لحظة حُرَاقًا في معدته، فتناول دواء وعاد إلى مُصلَّاه، وصحا ولده الدكتور محمد لموعده، فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئًا مما يعتاده ويعتاده الناس كثيرًا من حموضة في المعدة، فأعطاه ولده شيئًا من دواء وأشار عليه أن ينام، ثم لبس محمد ثيابه ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة كعادته كل يوم، ومضتْ ساعة ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألمًا ولا يشكو وجعًا وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمَّام، فلما كان في البهو سمع أهل الدار سقطة عنيفة أحدثتْ صوتًا شديدًا، فهبُّوا مذعورين ليجدوا الرافعي جسدًا بلا روح!
قال الدكتور محمد: «ولما وجدتُ البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرتُ حيرة شديدة، بلى، قد أيقنتُ أن شيئًا حدث وأن كارثة وقعتْ، ولكن لم يخطر في بالي قط أنه أبي، لقد تركتُه منذ ساعتين سليمًا معافًى قويَّ القلب أقوى ما يكون قلبُ رجلٍ في سِنِّه … كل المفاجآت المروِّعة قد خطرتْ في بالي إلا هذا الخاطر، ولكن … ولكن الذي مات كان أبي …!»
طبتَ نفسًا يا مصطفى! لكم كنتَ تخشى الهرم والمرض والزمانة ولزوم الفراش وثقلَ الأيام التي تُعَد من الحياة وما هي من الحياة! فأيَّ كرامة نلتَ؟ وأي مجاز جزت؟ وهل رأيت الطريق بين الحياتين إلا ما كنت تريد؟ وهل كانتْ إلا خَفْقة نَفَس نقلتْك من ملأ إلى ملأ أرحبَ في كنف الخلد وفي ظلال الجنة؟
يرحمك الله يا صديقي، ويرحمنا!
•••
وحُمل جثمانه بعد ظهر الإثنين ١٠ مايو سنة ١٩٣٧، إلى حيث رقد رقدة الأبدِ في جوار أبويه من مقبرة الرافعي بطنطا، لم يُشيِّعه إلا بضع عشرات من زملائه في المحكمة، أو من جيرانه في الدار!
وبلغ نعيُه أقطارَ العرب وأدباء العربية، فسكتَ القارئ وتلفَّتَ السامع، وتغشَّى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض.
وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتِهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكِّر بما كان وتنبِّه إلى ما ينبغي أن يكون …
وهمس هامس: «يرحمه الله! لقد كان رجلًا للدين وللعربية، هيهات أن تجد بديلًا منه أو ينقضي زمان من عمر التاريخ!»
ثم عاد الصمت، وعاد السكون، إلا النظرات الشاردة، والخواطر المائجة، والذكريات والأماني …
وهتف هاتف في جلال الصمت وفي وحشة السكون: «إن للفقيد لحقًّا على اللغة، وحقًّا على المسلمين، لا يجزئ فيهما أن نقول: يرحمه الله!»
وتدانت الرءوس، وتجاوبت النظرات، وانثالت الأفكار، وتزاحمت الأماني، ثم لم يلبث أن عاد الصمت وعمَّ السكون!
ثم عاد القارئ يقرأ، وأنصت السامع يسمع، وانتحى اثنان يداولان الرأي في شأن من شئون الأدب، وتماسك اثنان يفاضلان بين الجديد والقديم، وغامت في سماء النَّديِّ غائمة، وانعقدت على رءوس السامرين عجاجة، وضجَّ المكان كسالف عهده، واختلطت الأصوات فما يبين صوت من صوت، واشتغل كلٌّ بما هو فيه …
وصاح صائح في نبرة البائس المحزون: «ويحكم يا بني العرب! لقد شغلتْكم دنياكم عن الوفاء، وفتنتْكم الحياة عن ذكر الموت! لقد كان هنا إنسان منكم، وإنه لأرفعكم صوتًا، وأبلغكم بيانًا، وأبعدكم غاية ومدًى، فهلَّا ذكره منكم إنسان!»
وبرقت العيون، واختلجت الشفاه، واهتزت الرءوس، وانبعث صوت السامرين يحوقل ويسترجع في همس خافت، وقال قائلهم: «يرحمه الله! لقد كان …!»
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل وفاء العربية للراحلين من أدبائها، يتهاوَوْن من الذروة إلى بطن الودي فردًا فردًا، وإخوانهم على الطريق ينظرون إليهم في بلادة وصمت، لا تشيعهم منهم قدم، ولا تتبعهم عين باكية، ولا يذكرهم منهم إنسان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل تراث الأديب في العربية لبنيه وأهله، هو حسبهم من الطعام والشراب والثياب وتكاليف الحياة، وفيه العِوَض كلُّ العِوض من عائلهم الذي طواه الموت بين الصفائح والتراب!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا هو الخلود الذي ضمنتْه العربية لمن يموت من أدبائها وهو في ميدان الجهاد يكافح الفقر والمرض وشئون العيال، ويبذل نفسه لينشئ أدبًا يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقًا تسير فيه إلى عظمة الخلد وسعادة الأبدية ومجد التاريخ!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل ما تستطيع العربية من كلمات العزاء، وكل ما يملكه أدباء العربية من أساليب المواساة، وكل ما يقدر عليه ناطق يبين، وصديق يتحبَّب، وحبيب يشعر أن عليه حقًّا لمَن يموت من أهل البيان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
صوت ما له صدًى، وتراث ليس فيه غَناء، وطعام لا يهنأ ولا يمرأ، وخلود لا يدوم إلى غد، وعزاء لا يجفِّف دمْعة ولا يخفِّف لوْعة ولا ينفذ إلى قلب طفل سلبه الموت أباه وسعادة دنياه!
يرحمه الله! يرحمه الله!
… خلُّوا عنكم أيها الأدباء الكبار، وأيها الشعراء العظام، وأيها الخطباء المصاقع، خلُّوا عنكم عناءها، سيرحمه الله وإن لم تقولوها، سيرحمه بما جاهد، وبما بذل، وبما عانى، وبما تحمَّل من جهد التضحية ومشقة الحرمان، وسيرحمه ثانية بما لقي من العقوق وكان بَرًّا، وبما لقي من الغدر وكان وفيًّا، وبما قوبل من إنكار الجميل وكان من أهل الجميل، وسيرحمه بدموع اليتامى، وبأنات الأيامى، وبدعوات كثيرٍ من أهل الإيمان وفَوا له ما وسعهم الوفاء!
سأقول وإن لم يطلبها أحدٌ إليَّ …
أما المال فلا سبد ولا لبد، وأما الأدب فثروة للرواة ومحزنة للولد، وأما العيال … فوا حَزَنا لو كان يُجدي الحزن!
هذا «سامي» كبيرُهم في بعثة الجامعة بأمريكا ما يزال بينه وبين الغاية خطوة، وهذه «سعدية» الصغيرة تلثغ في الراء وتضم شفتيها على الباء، وبينهما ثمانية يقوم على شئونهم «محمد»! الله لهذا الشاب العائل! لم يكد ينعم بقرب الأهل بعد فراق سبع سنين، حتى كان عليه عبء الأسرة كله، فكأنما كان هو في تلك الغربة وديعةً إلى أجل، وذخيرةً إلى ميعاد، وعاجلتْه تبعاتُ الحياة ولم يزل في باكر الشباب!
والحكومة …؟ خلِّي عنك يا وزارة الحقانية، خلِّي عنك يا وزارة المعارف، خلِّ عنك يا وزير المالية … الله أكرم!
لقد تصرَّم من عمر الرافعي في خدمة الحكومة ثمانٍ وثلاثون سنة، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين، فأي مكافأة نالها وأي جزاء؟ بضعة عشر جنيهًا في كل شهر تأبى الحكومة إلا أن يكون لها فيها ميراث …!
إنه الرافعي، إنه الرجل الذي كان اسمه في مقدمة الأسماء المصرية التي تؤكد زعامة مصر للأمم العربية، وترفع اسمها، وتبني مجدها الممتاز، وتسنُّ طرائقها التي يحتذيها الأدباء في العالم العربي. إنه هو … ولكنها هي مصر!
ولكن الله أكرم …!
«يرحمه الله! يرحمه الله!»
ذلك كان جواب الحكومة المصرية …!
لقد مضى عام وأوشك عام، فهل تذاكر أدباء العربية فيما عليهم للرافعي؟
وهل ذكرت الأمة والحكومة ما عليهما من واجب الوفاء للرافعي؟
لقد تداعى الأدباء إلى ميعاد يحتفلون فيه بتأبين الرافعي، وجاء الميعاد وتخلف المدعوُّ والداعي، وترادف ميعاد وميعاد وميعاد، ومضى عام، وعلى مكتب كل أديب دعوةٌ لتأبين الرافعي، وفي ذيل كل دعوة جواب المدعو بخطه أو بلسانه: «يرحمه الله! يرحمه الله!»
وقال الطابع والناشر والوراق: «يرحمه الله! يرحمه الله!»
وعلى مكتب الرافعي كتبٌ لم تُطبع، وقصاصات لم تُرتَّب، وثمرة عقل خلَّاق كان يجهد جهده ليُضيف كل يوم إلى العربية ثروة جديدة وفكرًا جديدًا.
وقلنا: «يا وزارة المعارف، هذه كتب إن لم تخرج للناس سبق إليها العث والفيران، فيضيع على العربية كنز ما لها منه عوض! ولكن وزارة المعارف في أحلامها الهنيئة لا تسمع ولا تجيب، إلا همسًا في أمثال أنفاس النائم تُردد قول الناس: «يرحمه الله! يرحمه الله!»»
وفي الأمة مع ذلك أدباء، وفي الأمة كُتَّاب وشعراء، وفي الأمة ناشئة غافلة وما تزال ترجو الخلود في الأدب …
وفي الأمة عقول ناضجة في أجسام مهزولة من الفقر والجوع، وفي الأمة رءوس ممتلئة على أناسيَّ تضطرب كل مضطرَب للبحث عن القوت.
وفي الأمة رءوس فارغة على أجسام تكاد تتمزق شبعًا وريًّا، وفي الأمة قلوب خاوية في أناسيَّ تتمرغ بين وسائد الدمقس وحشايا الحرير …
وفي الأمة مع ذلك من يتساءل مدهوشًا: «لماذا … لماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكُتَّابًا ومنئشين كبعض مَن نقرأ لهم من أدباء الغربيين …؟»
يرحمك الله يا مصطفى … بل يرحمك الله أيتها الأمة!