بين أهله
إذا رأيتَ رجلًا موفَّقًا فيما يحاوله، مُسدَّد الخطا إلى الهدف الذي يرمي إليه، فاعلمْ أن وراءه امرأة يحبها وتحبه!
إنني لا أعرف — فيمن أعرف — أحدًا تنطبق عليه هذه الحكمة انطباقها على حياة الرافعي؛ فالواقع الذي يعرفه كل مَن خالط الرافعي وعرف طرفًا من حياته الخاصة، أنه ما كان ليبلغ مبلغه الذي بلغ لولا الحياة الهادئة التي كان يحياها في بيته، فإلى زوجه يعود فضل كبير في نجاحه وتوفيقه وهدوء نفسه، هذا الهدوء الذي هيَّأه لدراسة نفسه ودراسة من حوله والتفرُّغ لأدبه وفنه، لا يشغله عنهما شاغل مما يشغل الناسَ من شئون الأهل والولد.
وقد تزوَّج الرافعي في الرابعة والعشرين من عمره، ولزواجه قصة فيها طرافة وفيها مجال للفكر والنظر، وما دمتُ قد أخذتُ على نفسي أن أكتب عن الرافعي في كل أطواره، فلا عليَّ أن أقول ما أعرف من قصة زواج الرافعي، ولا أحسبني بذلك أتجاوز ما لي من الحق أو أتعرَّض لعتب أو ملامة، لقد خرج الرافعي من ملك نفسه وأهله إلى حكم التاريخ، وللتاريخ حق واجب الوفاء.
حدَّثني المرحوم الرافعي قال: «… كنت في الرابعة والعشرين، وكنت أعرف عبد الرحمن البرقوقي نوعًا من المعرفة التي تربط بين شابين ترافَقَا في الطبع، واتفقا في الغاية، وكان عبد الرحمن طالبًا أزهريًّا ولوعًا بالأدب، له حظوة ومكان عند الأستاذ الإمام؛ إذ كان من تلاميذه الأدنين، وكنا نلتقي أحيانًا، فسرَّني منه ما سرَّه مني، وكان يعيش عيشة مترفة ليست منها حياة الأزهريين؛ إذ كان له من غِنَى أبيه ومن جاه أسرته عزٌّ وكرامة … فما تعارفنا حتى تصافينا، ثم اتصل بيننا الودُّ، فكنت له — وكان لي — أصفى ما يكون الصديق للصديق …
لم أكن أعرف أخًا له أو أختًا، ولم يجرِ في بالي قط أنَّ الصلة بيننا ستتجاوز ما بيننا، حتى كان يومٌ جلست فيه أتحدَّث إلى نفسي، فكأنني سمعت صوتًا من الغيب يهتف بي أنَّ صديقي عبد الرحمن هو صهري وأخو زوجي … وانتبهتُ وأنا أسأل نفسي: أله أخت؟ يا ليت …! لو كان إنني إذن من السعداء …
وكانت نفسي في الزواج، فما هي إلا أن تحرَّك في نفسي هذا الخاطر حتى سعيتُ إلى صديقي عبد الرحمن، وقلت له وقال لي، وجرَّنا الكلام إلى حديث الزواج، فقلت لصاحبي: مَن لي يا أخي بالزوجة التي أريد؟ ووصفتُ له الفتاة التي تعيش في أحلامي، فلما فرغتُ من حديثي قال صاحبي: أنا لك بما تريد. قلت: أتعرف؟ قال: هي هدية أقدِّمها إليك، قلت: مَن؟ قال: أختي!»
قال الرافعي: «وغشيتْني غشية من الفرح، فما تلبثتُ حتى مددت إليه يدي فقرأنا الفاتحة، وما وقع في نفسي وقتئذٍ أنني أمدُّ يدي لأخطب عروسي لنفسي، ولكني أمدها لأتعرَّف إلى العروس التي خطبتْها عليَّ الملائكةُ وأثبتتْ نبأ الخطبة في لوح الغيب.»
وبنى بأهله، وعاشا أهنأ ما يكون زوج وزوج، ثلاثًا وثلاثين سنة — ثلث قرن — لم يدخل الشيطان بينهما، ولم يتخاصما لأمرٍ، إلا مرة …
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لقد حضرتُ عُرْس الرافعي، وصحبتُه طوال يومه حتى صعد إلى جلوة العروس، وشهدتُ اضطرابه وخَجْلته، واستمعت إليه من بعدُ يتحدَّث عن سعادته ويغبط نفسه على حظه وتوفيقه، فما شكا إليَّ مرة واحدة همًّا ناله، ومضى عام … وجاءني ذات يوم، فجلسنا نتحدَّث، وتسرحنا في الحديث، ولكن وجه الرافعي كان ينمُّ على سر يطويه، ثم لم يلبث أن أفصح، قال: يا جورج، لقد عزمتُ على أمرٍ … سأطلِّق زوجي! وراعني هذا النبأ ونال مني، قلت: تطلِّقها! لماذا؟ قال: إنَّ إخوتها يجحدون حقها في تركة أبيها لا يريدون أن تستمتع منها بشيء … قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم! قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟ … مصطفى، إنك جبار، أوْ لا، فاذكر أنَّ الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي، أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أنَّ أهل «طرابلس الشام» لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة مَعيبة وقعتْ مرة ولن تتكرَّر من بعد … فكن بعضَ أهلك يا صاحبي …»
قال: «وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحَسِبْتَني أفعلها؟!»
قال: «ولم يدخل الشيطان من بعدُ بينه وبين أهله؛ إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه … ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شعر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.»
•••
كان الرفاعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية، فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما يجب ان يكون الأب، وما كان منكورا لأحد من أهله إن الرافعي ليس موظفًا كسائر الموظفين، عمله في الخارج وحسب، بل كانوا جميعًا يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهنئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان، كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية، يملك ولا يحكم، ويعيش في جوٍّ من الاحترام والرعاية والطاعة فوق الأحزاب وفوق المنازعات، فمن ذلك لم تكن «سياسة» البيت تشغله أي شغل أو تَشْغب على هدوئه وتُعكر صفوَه، فكان خالصًا لنفسه، منقطعًا لفنه وعمله الأدبي، فدارُ كتبِه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعيٌّ مضبوط.
على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلًا عاليًا من الحب والوفاء، وأنا ما عرفت أبًا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حبًّا بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أبًا فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد ناصحًا برفق حين يحسن الرفق، مؤدبًا بعنف حين لا يُجدي إلا الشدِّة والعنفوان.
•••
وما دمت بصدد الحديث عن الرافعي في أهله، فإنَّ واجبًا عليَّ أن أتحدَّث هنا عن شيء من «حب الرافعي» أراه يتصل بهذا الموضوع:
في فترة ما من حياة الرافعي — سيأتي الحديث عنها بتفصيل أوفى فيما بعد — كان للرافعي هوًى وغرام، ووقع له في هواه ما يقع للمحبين من ضرورات الحب ودافع نفسه ما دافع فلم يجد له طاقة على المقاومة، واحتال على الخلاص فما أجدتْه الحيلة إلا همًّا على همٍّ، وكان حبه أقوى منه، ولكن دينه وأخلاقه كانتْ أقوى من حبه.
وقال لنفسه: «ما أنا وهذا الحدَث الذي يعترض طريقي ويغلبني على إرادتي؟ إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني — والحب عند الرافعي لا يأبى الشركة — وإن لها عليَّ حقًّا ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي! ماذا يكون من أمري وأمرها غدًا أمام الله حين يطلب كلُّ ذي حق حقه؟ أأقول لها: نعم، قد ضيعتُ حقك وأعطيتُ من قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك؟ ويلي! إنها الخيانة والإثم والعار!»
وذهب إلى زوجه فحدَّثها وحدَّثتْه، وأفضى إليها بخبره وكشف لها عن نفسه، ثم قال: وأنت يا زوجتي، هل يخفى عليك مكانك مني؟ ولكن …
واستمعتْ إليه زوجته هادئة مطمئنة … ثم أذِنَتْ له … وكتب الرافعي رسالته الأولى إلى صاحبته التي غلبتْه على قلبه، وقرأتْ زوجته الرسالة وطوتْها وأرسلتْ بها إلى صندوق البريد …
وجاء جواب صاحبته فقرأتْه زوجتُه كما قرأتْ رسالتَه، وصار هذا دأبهما من بعد … لا ترى زوجته لها حقًّا عليه إلا أن تعرف، ولا يرى على نفسه في ذلك ملامة ما دامتْ زوجته تعرف …!
وأنشأ هذا الحب سلسلة من الطرائف في الأدب العربي تمَّ بها نقص العربية في فلسفة الحب والجمال، هي «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» و«أوراق الورد»، ولكن أحدًا لم يقرأ القصة الأخرى … قصة هذا الوفاء وهذه التضحية؛ لأن الرافعي لم ينشرها فيما ألَّف من الكتب في فلسفة الجمال والحب …!