الفصل الأول
(خدر نفيس الفُرش والوسائد والرياش! … فيه ملكة
جميلة، تنظر إلى الباب بلهفة وشوق وقد فُتح ودخلت منه امرأتان
مؤتزرتان.)
الملكة
:
أبطأتما!
الوصيفة
(تخلع إزارها)
:
لم نبطئ، إنما هو حارس لُكَع، استوقفنا عند الأسوار!
الملكة
(للوصيفة)
:
قفي يا «غاضرة» بالباب، كما تقفين، وراقبي! … واحذري أن تغفل
لك عين!
(الوصيفة تخرج … وتخلع الأخرى إزارها فإذا رجل
…)
الرجل
:
إذا خرجتُ من خدرك بعد اليوم سالمًا، فلن أعود إليه أبد
الدهر!
الملكة
:
لماذا يا «وضَّاح»؟! … ما هذا الشحوب على مُحَياك
الجميل؟!
وضَّاح
:
عينا الحارس … لكأنهما اخترقتا الحجاب، ونفذتا إلى السر
المحجوب!
الملكة
:
أوهام شاعر! … ما هي بالزيارة الأولى يا «وضَّاح»! .
وضَّاح
:
ما خالجني هذا الفَرَق إلا اليوم!
الملكة
:
أهو إيذان بانطفاء حبك؟! … المحب لا يعرف الخوف! … الخوف
برد، والغرام ضرام! … ولا يسكن القلب ضدان!
وضَّاح
:
لا تذكري البرد! … فما أنا إلا جمرة توقدها بسماتك!
الملكة
:
تُحسن القول … وهذا بعض ما نُحب منك ونكره!
وضَّاح
:
وما الذي تكرهين منه؟
الملكة
:
لستُ أول من قلتَ فيها شعرًا! … كلما ذكرتَ «روضة» حبيبتك
الأولى! …
«تنشد»:
«إني تهيجني إليـ
ـك
حمامتان على فنن!»
وضَّاح
:
حسبك! … حسبك! … ما أحسن ذلك الشعر! … وما أسخف ذلك الحب! …
إن للشاعر حبين … حبًّا لشعره، وحبًّا لقلبه! … حبًّا للتشبيب
والغزل، وحبًّا للقدَر والأجل!
الملكة
:
وحبك لي؟!
وضَّاح
:
أقلت فيك شعرًا جيدًا؟!
الملكة
:
يوم رأيتني أول مرة، ورأيتك! … يوم خرجت إلى الحج، وقدمت مكة
ومعي من الجواري ما لم يُرَ مثله حُسنًا!
وضَّاح
:
لم أرَ يومئذٍ غيرك! … وقعت عيني عليك، فهَوِيتك!
الملكة
:
ووقعت عيني عليك، فهَوِيتك!
وضَّاح
:
وكتب زوجك الوليد، يتوعَّد الشعراء جميعًا إن ذكرك أحد منهم،
أو تصدَّى لك أهل الشعر والغزل.
الملكة
:
نعم! … جَبُنوا جميعًا وخشوا الخليفة سواك … فقد قلت.
وضَّاح
:
ماذا قلت؟
الملكة
(تنشد)
:
قُرَشية، كالشمس أشـ
ـرق
نورُها ببهائها
زادت على البِيض الحسا
ن
بحسنها ونقائها
لم تلتفت لِلِدَاتها
ومضت
على غَلْوَائها
وضَّاح
:
ما أردأ ذلك الشعر! … وما أرق ذلك الحب!
الملكة
:
ليتني أصدقك! … يُخيَّل إليَّ أنك تُحب فيَّ بهاء الملكة …
ويبهرك مني ضوء المُلك!
وضَّاح
:
وإني ليُخيَّل إليَّ أنك تحبين فيَّ أوهام الشاعر، وتفتنك
أطوار الشاعرية!
الملكة
:
هيهات أن تقدر على تبديد الظنون!
وضَّاح
:
أتعذِّبك الظنون؟
الملكة
:
نعم!
وضَّاح
:
مثلي؟
الملكة
:
يُسعدني أنك تشقى مثلما أشقى!
وضَّاح
:
ما أعجب الحب! … يُخرج لنا سعادةً من الشقاء … وشقاءً من
السعادة! … إني منذ عرفتك، ووقعت عينك في قلبي، كأنها شمس؛ طلع
في سماء ذلك القلب «قوس قزح» يسطع بألوان من: فرح، وحزن، وأمل،
ويأس، ورغبة، ورهبة!
الملكة
:
فيمَ تحدِّق هكذا؟
وضَّاح
:
في هذا الصندوق! … إنه مثل قلب محب ساطع بالألوان!
الملكة
:
إنه مثل قلبي!
وضاح
:
لا أنسى يوم خفت من صوت قادم، فواريتني فيه، وأقفلت
عليَّ!
الملكة
:
إني أُداريك دائمًا فيه، وأقفل عليك!
وضَّاح
:
خُيِّل إليَّ أنه قبر أُدفن فيه حيًّا! … ولا خروج لي
منه!
الملكة
:
لقد وضعتك في أعز مكان!
وضَّاح
:
أهو عندك كذلك؟
الملكة
:
إني فيه أُخفي أبهى كنوزي!
وضَّاح
:
لمَّا دخلته أول مرة لم أجد فيه كنزًا.
الملكة
:
لم تجد فيه سواك؟!
وضاح
:
لم أجد فيه غيري!
الملكة
:
أليس هذا يكفي؟
وضَّاح
:
صندوق ملكة! … ما كنت أحسبك إلى هذا الحد فقيرة!
الملكة
:
ما كنت أحسبني بهذا القدر غنية … بعد أن ضمَّتك
جدرانه!
وضَّاح
:
أيتها الملكة العظيمة! … لماذا يُحب مثلك مثلي؟!
الملكة
:
أتحسدني على هذه النعمة؟
وضَّاح
:
ماذا تُخبئ لي أيها القدر؟! … إنها لسعادة لا بد لها عندك من
ثمن!
(يُطرق قليلًا)
الملكة
:
فيمَ هذا الإطراق؟!
وضَّاح
:
لو أَقبض عليَّ الموت الآن!
الملكة
:
لا تذكر الموت يا «وضَّاح»!
وضَّاح
:
شفتاك ترتجفان! … كأنهما ورقتا وردة أرعبهما همس ريح!
الملكة
:
إنك تُرعبني حقَّا … وأمامنا الدنيا في أعطافها
الفرح.
وضَّاح
:
أمامنا فراق … فما في يد الدنيا أن تجمعنا أكثر ممَّا تجمعنا
الآن!
الملكة
:
أهو يا «وضَّاح» تأنيب وعتاب؟!
وضَّاح
:
حاشاي أن أفعل … إني أعرَف منكِ بمكانك … كيف أمد كفي إلى
الشمس، فأنتزعها من سمائها؛ لأمضي بها؟!
الملكة
:
نعم … يجب أن نقنع بما نحن فيه! … ولكن ثق أن من تحسبها
شمسًا، ليست إلا جسمًا يحترق!
وضَّاح
:
إني في نورك أعيش، وفي لفحك أذوب، وبشعاعك أتطهَّر … وما لي
بعد ذلك فيك من مطمع!
الملكة
:
فلنتجلَّد ولنصبر!
وضَّاح
:
إني في محراب حبك أتجلَّد وأتعبَّد!
(ضوضاء في الخارج وصوت «غاضرة» يصيح.)
غاضرة
(من الخارج)
:
خادم الخليفة! … رويدك! … رويدك!
الملكة
:
أسرع يا «وضَّاح» إلى الصندوق! … إلى الصندوق!
(ويهب «وضَّاح» إلى الصندوق فيدخله … وما تكاد تهم
بإغلاقه عليه حتى يُفتح الباب … ويبرز خادم الخليفة ومن خلفه «غاضرة»
تجذبه وتدفعه عن الباب.)
الخادم
(وعينه إلى الصندوق)
:
إني … ما أردت أن أدخل مفاجأة … ولكني فرح بالبُشرى التي
أزفها إلى مولاتي … دعيني أيتها الجارية!
الملكة
(تلتفت إليه)
:
دعيه يا «غاضرة»! … ما هي ذي البشرى؟
الخادم
:
جوهر له قيمة، أُهديَ للخليفة، فبعث به معي إليك، وأمرني أن
أقول لك: إن هذا الجوهر أعجبه، فآثرك به … ها هو ذا!
الملكة
(تتناوله وتتأمله)
:
ما أحسنه! … شكرا للخليفة!
الخادم
:
مولاتي!
الملكة
:
امضِ لمولاك، وبلِّغه شكري وحمدي!
الخادم
:
إني …
الملكة
:
ما بالك لا تمضي؟
الخادم
:
مولاتي … هبيني منه حجرًا!
الملكة
:
ماذا دهاك أيها الغلام؟
غاضرة
(وهي تجذب الخادم بعنف إلى الخارج)
:
هلمَّ قبحك الله!
(تخرج «غاضرة» بالخادم، وتُغلق خلفها
الباب.)
الملكة
(تسرع إلى الصندوق فتفتحه)
:
اخرج يا «وضَّاح»!
وضَّاح
(يخرج من الصندوق)
:
ألك في هذا الخادم ثقة؟
الملكة
:
لماذا تسألني هذا السؤال!
وضَّاح
:
بدا لي أنه لمحني وأنت تخبئينني!
الملكة
:
لم أرَ ذلك … إنه ولا ريب وهم من أوهامك!
وضَّاح
:
ربما … ألَا تُرينني الجوهر الذي أُهديَ لك؟
الملكة
(تبسط له كفها بالجوهر)
:
ما يعنيك أنت من هذا الجوهر؟!
وضَّاح
(ينظر فيه)
:
ما أحسنه حقًّا وما أبدعه! … لقد آثرك به … كلفًا بك … ما
أثمنها عطية، وما أجمل حبه لك!
الملكة
:
إنه جوهر لا يضيء إلا في الحاضر، وفي قصيدك أيها الشاعر من
الجواهر، ما يضيء في الأجيال!
وضَّاح
(يتأمل الجوهر)
:
انظري إلى أشعته وبريقه … لكأنه قطعة لهب!
الملكة
:
قطعة لهب تُعوِزها الحرارة!
وضَّاح
:
يدهشني أنك لا تُحسين منها الدفء!
الملكة
:
ما من حرارة عندي تعدل حرارة الكلمات!
وضَّاح
:
إن الحب الذي لا يتكلَّم يبعث رسولًا فصيح اللسان!
الملكة
:
أين هو؟
وضَّاح
:
تأملي وهج الجوهر … ثلاثة ألسنة تندلع منه … ذات ألون حمراء
وصفراء وزرقاء! … الأحمر يقول: أحب … والأصفر يقول: أغار! …
والأزرق يقول: حذار.
الملكة
:
ما من لسان غير لسانك! … إنك تُنطق هذا الحجر!
وضَّاح
:
بل إني لأصغي إليه!
الملكة
:
أصغِ إليَّ أنا يا «وضَّاح»! … ألقِ الجوهر من يدك، وحادثني
أنا!
وضاح
(يرد إليها الجوهر)
:
ضعيه في هذا الصندوق!
الملكة
:
كلا! … لن أضعه في مكان توضع أنت فيه! … سأجعله تحت هذه
الوسادة! (تدسه تحت إحدى الوسائد.)
وضَّاح
:
تكتمين صوته … وتُخرسين ألسنته!
الملكة
:
لا يصل إلى قلبي إلا صوتك أنت!
وضاح
:
يا لهذه البئر التي يرن فيها صوت حصاة زهيدة ولا يرن صوت حجر
كريم!
الملكة
:
ليست زهيدةً تلك الحصاة، إذا كانت من السماء نزلت!
وضَّاح
:
صه! … أيتها الملكة … هل سمعت؟!
الملكة
(تُرهف الأذن)
:
ماذا؟
وضَّاح
:
خُيِّل إليَّ أني سمعت صوتًا من السماء يناديني!
الملكة
:
ما الذي قال لك؟
وضَّاح
:
لم أتبيَّن قوله الآن … ربما استبان لي ذلك بعد حين!
الملكة
:
لعله وحي!
وضَّاح
:
إن وحيي لا ينزل عليَّ اليوم إلا من سمائك أنت!
الملكة
:
لعله بشير خير!
وضَّاح
(هامسًا كالمُخاطب نفسه)
:
لست أدري … إني خائف!
الملكة
:
ما أكثر اليوم وساوسك!
وضَّاح
:
لو أذنت لي الساعة في الرحيل!
الملكة
:
ضقت بي سريعًا يا «وضاح» … ومَلِلت مجلسي!
وضَّاح
:
أهذا فهمك أنت، ينطق بهذي الكلمات؟!
الملكة
:
أيغضبك ذلك مني؟!
وضَّاح
:
ما الذي يحملك على أن تقولي ما لا تعتقدين؟!
الملكة
:
ابقَ إذن قليلًا، ولا تُسرع بالبعد عني!
وضَّاح
«في رِعدة»
:
صه! … أسمعت الآن؟ … هذا صوت لغط يستبين!
الملكة
(تُنصت)
:
إنها «غاضرة»!
(الباب يُطرَق ويُفتَح ويبرز رأس «غاضرة» فزعةً
مرتاعة.)
غاضرة
(قائلة بلهفة)
:
الخليفة قادم!
الملكة
(تنهض إلى الصندوق)
:
هلمَّ يا «وضَّاح»! … كن هادئ الرَّوع، رابط الجأش … لن يطول
مكثه ها هنا … إنها لحظة وينصرف!
(تغلق عليه الصندوق، وتسرع إلى وسائدها وتتشاغل
بتمشيط شعرها … ولا تمضي هنيهة حتى يدخل الخليفة «الوليد بن عبد
الملك».)
الوليد
:
كيف حال أم البنين؟
الملكة
:
على خير ما أتمنى.
الوليد
:
أتعرفين لمَ جئت بهذه العجلة؟
الملكة
:
لا.
الوليد
:
جئت أراه بين يديك.
الملكة
:
تراه؟!
الوليد
:
أين هو؟ … أين واريته؟!
الملكة
:
واريته؟!
الوليد
(يبحث بعينيه في القاعة)
:
في مكان حريز ولا ريب … لا تقع عليه العيون!
الملكة
:
عمَّ تبحث هنا بهذه النظرات الشائعة؟!
الوليد
:
إذا صدقت فِراستي … فإنك قد وضعته في هذا الصندوق!
الملكة
(تدنو برفق)
:
مهلًا يا مولاي! … لست أفهم من مرادك شيئًا!
الوليد
(يداه على ذراعيها)
:
القشعريرة في بدنك!
الملكة
:
إنها من لمسات يديك القويتين!
الوليد
(يرفع يديه عنها وينظر إليها)
:
أهما حقًّا بتلك القوة التي تتخيلين؟!
الملكة
:
ألست بهما تقبض على مُلك ضخم، وتُشيع الرِّعدة في قلوب
شعوب!
الوليد
:
حسبتهما على كتفيك حمامتين على فنن!
الملكة
(في رِجفة)
:
ماذا أسمع منك؟!
الوليد
:
تهتزين كغصن تهزه الريح!
الملكة
:
إني أعترف أنك تستطيع أن تعصف بي!
الوليد
:
يا له من اعتراف!
الملكة
:
تعلم من أمري كل شيء إذن؟
الوليد
:
ليس كل شيء! … ولكن …
الملكة
:
إذن قد هلكت!
الوليد
:
اعتراف آخر … ولكني أبغي دليلًا!
الملكة
:
ما أراك في حاجة إلى دليل!
الوليد
:
ما بال وجهكِ قد اصفر، كورقة غصن، هبَّت عليها ريح الخريف؟ …
غير أن الشحوب يزيدك جمالًا!
الملكة
:
هذا الهدوء منك يزيدني عذابًا! … وَدِدت لو أنك انقضضت
عليَّ، وأنشبت أظفارك في عنقي! … أسرع ولا تقف هكذا ترسل إليَّ
هذه النظرات التي لا أدرك فيها سرًّا … ولا أسبر لها غورًا …
افعل بي ما شئت! … ولكن بربك عجِّل! … لا تبسم هذه البسمات! …
حطِّمني بيدك تحطيمًا! … واهدمني هدمًا، واجعلني بددًا أو
عدمًا! … اصنع أيَّ شيء بي! … ولا تُطل انتظاري!
الوليد
:
يا له من انتصار بخس! … كلا! … لست أريد أن أكون إعصارًا
يحطِّمك ويهدمك!
الملكة
:
ماذا تريد إذن؟
الوليد
:
وددت لو أنك قلت لي إن نفخةً من فمي تكفي لانهيارك!
الملكة
:
أقل من نفخة فمك يكفي لذلك!
الوليد
:
قبلة إذن؟!
الملكة
(دَهِشة)
:
قبلة؟!
الوليد
:
آه! … لو أنكِ اعترفت لي مخلصةً صادقة أن قبلةً مني تستطيع
حقًّا أن تعصف بك، وأن تهز قلبك!
الملكة
(تتنفس الصُّعَداء)
:
أهذا كل الاعتراف الذي أردته مني؟!
الوليد
:
هنالك أمر كنت أود أن تبادريني به عند دخولي.
الملكة
:
أي أمر؟!
الوليد
:
ولكنك أسدلتِ على وجهك نقابًا، فلم أُطالع بعدُ فيه ما جئت
أُطالع!
الملكة
:
إني سافرة كما ترى … ولك أن تطالع في وجهي ما شئت!
الوليد
(يتناول وجهها ويتأمله)
:
صفحة بيضاء! … لا رضًا أرى فيها ولا فرحًا!
الملكة
:
أحر الشعور ما خفي!
الوليد
:
ما من شكٍّ عندي في أنك تُخفين عني شيئًا!
الملكة
(مرتاعة)
:
أنا؟!
الوليد
:
حبكِ لي!
الملكة
(تهدأ)
:
نعم!
الوليد
:
يا للنساء! … ما أبرعهن في الإخفاء!
الملكة
(بقلق)
:
ماذا أُخفي عنك أيضًا؟
الوليد
:
تخفين حتى ما تعرفين أني عالِم بوجوده!
الملكة
:
عالِم بوجوده؟!
الوليد
:
هنا في هذا الصندوق! … إذا أصاب ظني … وهو قلَّما
يطيش.
الملكة
:
دائمًا هذه الابتسامة! … هذه الابتسامة الرقيقة، كحد
السيف!
الوليد
:
ما هذا البريق في عينيك؟ … أهو غضب أم خوف؟ … أم يأس أم
بأس؟!
الملكة
(كالمُخاطِبة نفسها)
:
افعل بي ما شئت … إني كفأرة في مخلب سنور!
الوليد
:
ماذا تقولين؟ … فيكِ اليومَ شيء مُغلق لا أتبيَّنه!
الملكة
:
وأنت أيضًا!
الوليد
:
إن موقفي لواضح … لقد جئت إليك لأراه! … أخرجيه لي
لأراه.
الملكة
(ناظرةً إليه بفزع)
:
أُخرجه لك لتراه؟
الوليد
:
نعم! … وأتأمَّله، وأنظر أهو حقًّا جدير أن تُعجَبي به وأن
تحبيه؟!
الملكة
:
وإذا أبيت؟!
الوليد
:
أبحث عنه بنفسي، وأستخرجه!
الملكة
:
وإذا فعلت … فماذا أنت به صانع؟!
الوليد
:
يا للعجب! … أوَتخشين مني عليه؟!
الملكة
:
مولاي! … زوجي!
الوليد
:
ما هذه النبرات المتوسلة؟ … والنظرات المستعطفة؟!
الملكة
:
اقتلني قبل أن تمسَّه يدك!
الوليد
:
أثمين عندك هو بهذا القدر؟ … ما كذب ظني قط! … لقد أدركت أنه
يقع من نفسك هذا الموقع! … وها أنت ذي قد جعلتِه سريعًا كنزك
المفضل؛ خبَّأتِه عن العيون، كما يفعل البخيل بكنزه الذي
ادَّخره طول دهره! … ولكن لا تخشَي شيئًا! … إنه هنا في هذا
الصندوق! (يتجه إليه.)
الملكة
(ترتمي على وسائدها مرتاعة هامسة)
:
رحمتك!
الوليد
(يضع يده على غطاء الصندوق ليفتحه)
:
صندوق فاخر يليق به!
الملكة
(تغطِّي رأسها وعينيها بوسادة كيلا
ترى)
:
رباه!
الوليد
(يلتفت إليها)
:
أين أنت؟ (يلمح الجوهر يبرق بجوارها وقد رفعت عنه الوسادة
التي دسَّت فيها وجهها) ما أشد حماقتي! … كان ينبغي أن أُدرك
أنه بجوارك، يكاد يلتصق بجلدك! … يا له من منظر نادر! … امرأة
رشيقة ممدودة، لدنة، كأنها ثعبان يحرس كنزه!
الملكة
(ترفع رأسها عن الوسادة)
:
ماذا تقول؟
الوليد
:
ها أنت ذي قد كشفت عنه بيدك! (يشير إلى الجوهر).
الملكة
(ثائبة إلى رشدها)
:
نعم! … فهمت (تنقَض على الجوهر فتحضنه، كأنه حقيقة كنز تذود
عنه).
الوليد
:
إني لمزهو أن أُهدي إليك شيئًا تحرصين عليه كل هذا
الحرص!
الملكة
:
خفت أن تكون قد جئت تسترده … وأن يكون قد بدا لك أن تؤثر به
غيري!
الوليد
:
من غيرك خليق بمثله؟ … إني الآن لأحار … أيُّكما أنقى ضوءًا،
وأصفى نورًا! … ما عهدته من قبلُ بهذا التألق! … لكأني بك، وهو
منك دانٍ، تُفيضين عليه بهاءً … إنه بدونك قمر لا شمس
له.
الملكة
(تنظر إليه هامسة)
:
لا شمس له!
الوليد
:
لماذا تصوِّبين إليَّ هذه النظرات؟
الملكة
:
أنا؟! … إني أُنقِّب عن كلمة حمد أهديها إليك!
الوليد
:
ما أسخاك! … أُهدي إليك جوهرًا، وتهدين إليَّ كلمة؟!
الملكة
:
أفي وسعي أن أُهدي إليك سوى ذلك؟!
الوليد
:
لديك صندوق فيه جوهر!
الملكة
(مرتاعة)
:
أين؟
الوليد
:
إنه أقرب الأشياء إليك!
الملكة
(تنظر إلى الصندوق من طرف خفي)
:
أين؟ … أين؟
الوليد
(يشير إلى قلبها)
:
هنا بين جنبيك!
الملكة
:
أي جوهر في مثل هذا الصندوق؟!
الوليد
:
حبك!
الملكة
(تُطرِق)
:
لو كان في مقدوري أن أنزعه من مكانه!
الوليد
:
إذا نُزع من مكانه فقد نُزعت عنك حياتك! … وليس هذا ما أريد
… فليبقَ إذن في موضعه … ولن أمد إليه يدي! … ولن أحاول … حتى
وإن صار في كفي أن أفتحه لأرى ما فيه!
الملكة
:
أتعتقد أن ليس فيه ما يرضيك؟
الوليد
:
أعتقد أن الله لم يدفن سوى قلوبنا في أعماق الصدور!
الملكة
(تطيل إليه النظر)
:
لن تسألني إذن شيئًا؟
الوليد
:
إذا أردت أن تكوني كريمة، فإنك تستطيعين أن تُهدي إليَّ
شيئًا ممَّا في حجرتك هذه!
الملكة
:
أأتخيَّر أنا لك الهدية؟!
الوليد
:
دعي لي الخيار!
الملكة
:
لك ما تريد إذن.
الوليد
(يجول بعينيه في المكان ثم يقول)
:
أريد هذا الصندوق!
الملكة
(مضطربة)
:
هذا الصندوق؟!
الوليد
:
نعم!
الملكة
:
ماذا يعجبك فيه؟ … إنه من رديء الخشب!
الوليد
(يذهب إليه ويجسه ويفحصه ثم يجلس
عليه)
:
حسبي أنه من الخارج بديع الطلاء، حَسَن الرواء! … ماذا
يعنينا من البحر إذا طوى في جوفه الزوبعة، ما دام على وجهه
الصفاء!
الملكة
:
ما أراها هديةً تليق بأمير المؤمنين! … عندي منديل نفيس من
خَز، ووشي، وديباج!
الوليد
:
لقد اخترت هذا الصندوق!
الملكة
:
لديَّ صندوق آخر صغير من نضال!
الوليد
:
ما أريد غير هذا الذي اخترت!
الملكة
:
ماذا تصنع به؟
الوليد
:
هبيني إياه … وأنت تعرفين!
الملكة
:
لقد أنزلتُ، كما رأيتَ، هديتَك لي خير مكان!
الوليد
:
وسأُنزل أنا أيضًا، كما سترين، هديتَك لي خير مكان!
الملكة
(مُطرِقة هامسة)
:
لك ما تريد!
الوليد
(ينهض)
:
هذا الصندوق قد صار لي إذن … لي أن أُلقي فيه بما عندي من
أشياء!
الملكة
(شاردة هامسة)
:
نعم!
الوليد
:
أفارغ هو، أم لك فيه حوائج؟
الملكة
(تتجلَّد)
:
يا أمير المؤمنين!
الوليد
:
سيان عندي … أتعرفين ما سأُلقي فيه؟
الملكة
:
لا!
الوليد
:
إذن فاسمعي! … لقد حمل إليَّ أحد الحكماء ذلك الجوهر الذي
أُهدي لي، وآثرتك به، فلمَّا سألته عن حكمته قال: «أنتَ كالبحر
أيها الملك وأعقل من البحر! … إذا أردت لنفسك الصفاء الدائم،
فانزع منها كامن الزوابع، وألقِ بها في صندوق! … واطرحه بعدئذٍ
في قرار سحيق تعِش حياتك بَاسِم الثغر … لك العمق، وفي جوفك
اللؤلؤ، ولا يعرف صدرك سحب البحر!
الملكة
:
أين تطرحه؟
الوليد
:
لقد اخترته بهذا الحجم ليسع ما أضع فيه!
الملكة
:
أين تطرحه؟
الوليد
:
ستعلمين الآن.
(يتجه إلى الباب.)
الملكة
(بلهفة)
:
أتذهب؟
الوليد
:
كلا … كلا … بل أدعو خدمي (يفتح الباب وينادي): إليَّ يا
رجالي!
الملكة
(تتجلَّد هامسة)
:
اللهم صبرا!
الوليد
(يعود إلى الصندوق)
:
أيها الصندوق! … ما أدري والله أفارغ أنت أم ملآن؟ … ولكني
ألقي فيك بكل ما بنفسي … إلى آخر الزمان!
(العبيد يدخلون ويصطفون ويتقدَّم من بينهم
خادم.)
الخادم
:
لبيك يا أمير المؤمنين!
الوليد
:
احملوا هذا الصندوق دون أن تفتحوه، وإلا وجأْت أعناقكم! …
احملوه إلى خير مكان عندي … أتعرفون ما خير مكان عندي؟ … هو
مجلسي الذي يقوم فيه عرش الملك … اذهبوا به إليه … ونحو البساط
حيث أجلس … واحفروا إلى الماء … وضعوا هذا الصندوق في الحفرة …
وأهيلوا عليه التراب … وسَوُّوا الأرض ورُدوا البساط إلى حاله
لأجلس عليه بعدئذٍ كما يجلس البحر على دفين ماله!
(الملكة ممتقعة اللون، تضع طرف غِلالتها في
فمها لتكتم صرخة الفزع … بينما يذهب الرجال إلى الصندوق ويحملونه
كما يُحمَل النعش، خارجين به على أنغام موسيقى خفية … ويخيِّم صمت
إلى أن يخرج العبيد بحِملهم، تاركين «الوليد» وزوجته
منفردَين.)
الوليد
(بعد لحظة)
:
يا أم البنين! … ألك في أن نلعب النرد؟!
الملكة
:
مشيئتك يا أمير المؤمنين!
الوليد
:
أعلم أن هذا يسرك!
الملكة
:
نعم!
الوليد
:
أحضريه من مكانه وضعيه على هذا الفرش … ولأخلع نعلي!
(تأتي الملكة بالنرد من أحد أركان الحجرة ويجلس
«الوليد» على الفرش، ويخلع نعليه وتضع الملكة النرد بين يديه وتجلس
أمامه.)
الملكة
:
أأدعو القِيان يجلسن ويغنين؟!
الوليد
:
حسبي الآن صوتك!
الملكة
:
ابدأ اللعب!
الوليد
(أثناء اللعب)
:
أعلمت أني أُلاعب ابننا «عبد العزيز» فأغلبه؟!
الملكة
:
ما شككت قط في ذلك!
الوليد
:
إني أرى كل شيء في وجهه والنزال محتدم!
الملكة
:
أمَّا وجهك … فإني ما رأيت فيه قط أثرًا لشيء!
الوليد
:
ولن تري حتى يفرِّق بيننا الموت!
الملكة
:
إنك لبارع!
الوليد
:
أنت أيضًا … ما لاعبتك قط إلا غلبتك مرة، وغلبتِني
أخرى.
الملكة
:
ما أذكر أني غلبتك!
الوليد
:
ما أشد تواضعك! … إنَّا في البراعة متكافئان!.