أريد أن أقتل
قصة تمثيلية في فصل واحد
(بهو استقبال صغير في «شقة» يقطنها زوجان وحيدان …
كل شيء فيها ينم على البساطة والهدوء والاطمئنان … وفي وسط البهو منضدة
عليها حقيبة صغيرة مفتوحة لمندوب شركة التأمين على الحياة وهو يقدم إلى
الزوج عقدًا … ويناوله قلمًا من الأبنوس …)
مندوب التأمين
:
وقِّع بإمضائك هنا … بقلمي الأبنوس … فهو يجلب السعد!
الزوج
(وهو يلقي على العقد نظرة أخيرة)
:
إذا مت فإن زوجتي تقبض من الشركة ألفي جنيه؟
المندوب
:
في الحال بمجرد الوفاة.
الزوج
(وهو يتناول منه القلم)
:
إليك إمضائي.
(يوقع على العقد، ثم يضع القلم فوق المنضدة،
ويسلم العقد للمندوب …)
المندوب
(وهو يتناول العقد)
:
مبروك!
الزوج
:
على وفاتي؟!
المندوب
:
على إتمام «البوليصة».
الزوج
:
أهم شيء عندي هو أن زوجتي لا تعلم بخبر هذا التأمين وأنا على
قيد الحياة … إنها رقيقة الشعور … شديدة الإخلاص إلى حد يؤثر
أحيانًا في صحتها … ما من أمر يزعجها في النهار ويؤرقها في
الليل إلا فكرة موتي قبلها … فهي لا تطيق أن تتصور هذا يحدث
يومًا … وإذا مر شبح ذلك بخاطرها صاحت: «اللهم اجعل يومي قبل
يومه …» ولكني أنا أشد منها انزعاجًا، ولا أسأل الله شيئًا إلا
أن يجعل يومي قبل يومها!
المندوب
:
ما شاء الله … إخلاص متبادل.
الزوج
:
لذلك أخشى أن يبْلغها خبر هذا التأمين على حياتي من أجلها
فتتشاءم، ويتملكها الفزع!
المندوب
:
اطمئن … لن يبْلغها شيء من جهتنا … المحافظة على الأسرار أهم
واجباتنا واختصاصاتنا.
الزوج
:
من حسن الحظ أنها الآن فوق … عند الجيران … تعود فتاةً
مريضةً، ولكن … إذا شاءت المصادفة السيئة أن تلقاك هنا أو
تفاجئك … فحذار أن تخبرها أنك مندوب شركة التأمين على
الحياة!
المندوب
:
لا تخف … اعتمد على لباقتي.
الزوج
:
إني معتمد على الله وعليك وعلى الشركة في أن تعيش أرملتي في
سعة وبحبوحة وعزة وراحة.
المندوب
:
لكن في العقد شرطًا، إذا توفيت أرملتك قبلك. أقصد زوجتك. فإن
كل ما دفعته أنت من أقساط، وإن بلغ المئات، يضيع عليك.
الزوج
(فزعًا)
:
صه … صه … تتوفى قبلي … تموت قبلي … وما فائدة حياتي بعدها …
وما قيمة مالي … ولماذا أطالبكم بشيء … وأفكر في شيء … أجننت
أيها المجنون … أيها المندوب.
المندوب
:
عفوًا … معذرة … إني ما قصدت إلا مجرد الإشارة إلى نص من
النصوص.
الزوج
:
كفى … لا أريد أن تقع عيني على مثل هذا النص المؤلم.
المندوب
:
خانتني اللباقة … سامحني … سأحتاط منذ الآن … كل ما أرجوه أن
ترضى … وأن يطيل الله بقاء الست.
الزوج
:
وأن يتوفاني قبلها.
المندوب
:
وأن يتوفاك قبلها … وتقبض هي مبلغ التأمين في خير
وسرور.
(يحمل الحقيبة الصغيرة ويتأهب للانصراف
…)
الزوج
:
تنصرف … ولم أقدم إليك القهوة … لا تؤاخذنا … خادمتنا اليوم
في إجازة … وأنا والست وحدنا في «الشقة» … وهي كما قلت الآن لك
فوق عند الجيران.
المندوب
:
لا داعي للكلفة … إني سعيد أن أكون دائمًا في خدمتك.
الزوج
:
تذكَّر دائمًا … زوجتي لا يجب أن تعلم.
المندوب
:
لن تعلم … إلى اللقاء.
(في هذه اللحظة يدفع باب الشقة المفتوح وتظهر
الزوجة نازلة من عند الجيران … فترى المندوب متجهًا إلى الباب وفي
يده الحقيبة الصغيرة …)
الزوجة
(للمندوب بلهجة سريعة)
:
الدكتور … حضرتك الدكتور؟
المندوب
(مفاجأ)
:
أنا؟
الزوج
(للمندوب بسرعة)
:
زوجتي … زوجتي.
المندوب
:
الست … آه … تشرفنا يا هانم.
الزوجة
:
وحضرتك طبعًا …
الزوج
(بارتباك)
:
نعم … حضرته طبعًا …
الزوجة
:
الدكتور؟
المندوب
(ينظر إلى الحقيبة الصغيرة في يده)
:
دكتور؟
الزوج
(يغمز بعينه للمندوب)
:
نعم … دكتور … ولكن اطمئني … اطمئني … إني في أتم
صحة.
الزوجة
:
الدكتور طبعًا غلط في الطابق … المريضة فوق عند الجيران …
لقد طلبوك بالتليفون من نصف ساعة.
الزوج
:
اصعد يا دكتور … اصعد.
المندوب
:
سأصعد … حالًا.
(يتجه بسرعة إلى الباب كمن يريد أن ينجو بنفسه
من الموقف …)
الزوجة
:
انتظر يا دكتور … حذار أن تقول للمريضة إنك طبيب جاء لعلاجها
… فهي لا تعتقد أنها مصابة بمرض … وهي تتكلم بكل هدوء، وكل
منطق … وقد ترفض مقابلتك إذا علمت أنك طبيب … فيحسن أن تقول
لها إنك … أي شيء آخر … قل لها مثلًا إنك …
المندوب
:
إني مندوب شركة تأمين … جاء يؤمن على حياتها.
الزوج
(للمندوب)
:
ألم تجد شيئًا آخر غير هذا؟!
الزوجة
:
لا بأس … لا بأس … فلينتحل أي صفة يراها … المهم أن يخفي
عنها أنه دكتور.
المندوب
(بسرعة وهو منصرف)
:
لن تعلم … لن تعلم.
الزوجة
:
انتظر يا دكتور … انتظر … إنك ستجدها الآن منفردة في حجرتها
… مستغرقة في تأملاتها … فهي كثيرة العزلة … تعيش وحدها مع
أمها … لا تخرج كثيرًا، وتقرأ طويلًا … وقلَّما أراها عندما
أصعد زائرة … ولكني أرى أمها المسكينة التي تحدثني عن أمرها
العجيب ودموعها تسيل … وما من خادمة أو خادم يطيل المقام عندها
خوفًا على حياته.
المندوب
:
خوفًا على حياته؟!
الزوجة
:
نعم يا دكتور … لقد أصبحت هذه الفتاة خطرة … وإن كان ظاهرها
لا يدل على ذلك … بالعكس … إنك ستراها حسناء وديعة دمثة مؤدبة
مثقفة، ولكنها ما تكاد تنفرد بخادم في المطبخ وفي يدها سكين …
حتى تلمع عيناها ببريق غريب … وتهم بطعنه … ولولا صياحه وفراره
وظهور الأم.
المندوب
(في خوف)
:
يا مغيث!
الزوجة
:
ماذا تسمي هذه الحالة يا دكتور عندكم في الطب؟
المندوب
(مرتبكًا)
:
هذه الحالة تسمى … تسمى …
الزوج
(بسرعة)
:
تسمى من غير شك اختلالًا عصبيًّا أو على الأقل اعتلالًا
نفسانيًّا.
الزوجة
(لزوجها)
:
دع الدكتور يتكلم … إنه أدرى بمهنته … ما رأيك يا
دكتور؟
المندوب
:
رأيي أن هذا شيء مخيف جدًّا!
الزوجة
:
بماذا تشخصه … بماذا تعلله … بماذا تعالجه؟
المندوب
(بارتباك)
:
من رأيي أن المستحضرات الطبية تعالج الآن كل شيء … ومخازن
الأدوية مملوءة بالعقاقير … وكل يوم يظهر اختراع جديد …
والأمراض في انقراض … والأعمار تضاعف طولها في المتوسط … حتى
أصبحت شركات التأمين …
الزوج
(همسًا)
:
مالنا ومال التأمين؟!
الزوجة
(للمندوب)
:
قصد الدكتور أنه يوجد مستحضر طبي لعلاج هذه الحالة؟!
الزوج
(لزوجته)
:
أتطلبين من الدكتور أن يتكلم عن حالة لم يفحصها بعد.
المندوب
:
هذا صحيح … لا أستطيع الكلام عن حالة لم أفحصها بعد.
الزوجة
:
عفوًا يا دكتور … اعذرني … إن الفضول دفعني إلى كل هذه
الأسئلة؛ بل شيئًا آخر أكثر من مجرد الفضول … هو شفقتي على
الأم المسكينة … لا ينبغي أن أحجزك هنا أكثر من ذلك … إنهم فوق
في انتظارك … وأرجو أن يتم لهذه الفتاة الشفاء على
يديك.
المندوب
:
شكرًا … ليلتكم سعيدة!
(يتحرك للانصراف.)
الزوجة
:
انتظر يا دكتور … خذ حذرك من الفتاة … لقد أخبرتني أمها منذ
لحظات أنها لمحت في حجرتها شيئًا يشبه المسدس.
المندوب
:
مسدس؟!
الزوجة
:
نعم … لقد خرجت الفتاة في الصباح؛ كما قالت لي أمها … ولم
تعد إلا في الظهر … ولا تدري الأم من أين جاءت ابنتها بهذا
المسدس … ولماذا جاءت به؟
المندوب
(مسرعًا بالانصراف)
:
سلام عليكم!
الزوجة
:
انتظر لحظة يا دكتور … هل تعرف أين هي شقة هؤلاء
الجيران؟
المندوب
(باندفاع)
:
لا.
الزوجة
:
تعالَ معي … أنا أُريك الشقة … وأصعد بك إلى هناك.
المندوب
(بفزع)
:
لا … لا … أرجوك … أنا أعرفها … أعرفها … سأسأل عنها … لا
داعي لتعب حضرتك.
الزوج
(يبادر إلى إنقاذه فيمسك زوجته)
:
نعم … لا داعي لتعبك أنت يا عزيزتي … دعي الدكتور يذهب
بمفرده … وابقي معي هنا … أريد أن أحدثك بشيء.
الزوجة
(للمندوب)
:
الشقة يا دكتور فوقنا مباشرة … على اليمين.
المندوب
(وهو يخرج مهرولًا)
:
سأنزل حالًا … أقصد … سأصعد … أشكركم!
(يخرج بسرعة.)
الزوجة
(تتجه إلى زوجها)
:
والآن … حدثني.
الزوج
:
بماذا؟
الزوجة
:
ألم تقل إنك تريد أن تحدثني بشيء؟
الزوج
:
آه … نسيت … نسيت ما كنت أريد أن أقول لك.
الزوجة
:
أهو شيء مهم؟
الزوج
:
لا أذكر.
الزوجة
:
أهو شيء يتعلق بك؟
الزوج
:
لا.
الزوجة
:
يتعلق بي؟
الزوج
:
لا …
الزوجة
:
إذن لا تفكر ولا تهتم … كل ما خرج عنا نحن الاثنان لا قيمة
له.
الزوج
:
صدقت يا عزيزتي … نحن الاثنان كل الدنيا … وكل الكون … روح
في جسدين، وحياة في شخصين … وهذا سر عذابي!
الزوجة
:
أنت أيضًا يا عزيزي فؤاد؟
الزوج
:
نعم … إني أعيش في خوف دائم من أن يصيبني سوء … فتفجعي … ومن
أن يصيبك سوء … فأموت.
الزوجة
:
إذا كان لا بد للسوء من أن يصيب أحدنا … فإني أفضل دائمًا أن
أكون لك الفداء.
الزوج
:
إنك لن تنقذيني بذلك … فأنت تعرفين النتيجة!
الزوجة
:
حقًّا … هي روح واحدة … لنا معًا … لا يمكن لأحدنا أن يستقل
بها.
الزوج
:
لو كان لنا أطفال يا لطيفة … لكانت لك فيهم أرواح أخرى
وحيوات عدة.
الزوجة
:
إني لست آسفة.
الزوج
:
ولا أنا بآسف.
الزوجة
:
تكفينا هذه الروح الواحدة يا فؤاد، نتقاسمها معًا … ولا
يستأثر بها واحد منا … وإذا انطفأت عند أحدنا …
الزوج
:
انطفأت في الحال عند الآخر.
الزوجة
:
كفى يا فؤاد … أرجوك … اترك هذا الموضوع … إني أحس الدوار
وأشعر بالدنيا تسودُّ في عيني … اللهم اجعل يومي قبل
يومك!
الزوج
:
لا تسمع منها يا رب!
الزوجة
:
لا تقل ذلك … لا تقل ذلك!
الزوج
:
اللهم اجعل يومي أنا قبل يومها!
الزوجة
:
لا تسمع منه يا رب!
(تظهر فتاة في الثامنة عشرة … رشيقة أنيقة …
آتية متسللة من جهة باب الشقة.)
الفتاة
:
إنه لن يسمع من أحدكما دون الآخر!
الزوجة
(مأخوذة)
:
سهام!
الزوج
:
مَن هذه؟
الزوجة
(بخوف)
:
فتاة الجيران!
الزوج
(همسًا في رعدة)
:
المجنونة!
الفتاة
(تبرز مسدسها من جيبها)
:
أرجو منكما أن تجلسا ها هنا أمامي … أحدكما بجوار الآخر …
وأن تصغيا مليًّا إلى ما أقول.
(تشير لهما بطرف المسدس إلى الأريكة … فيجلسان
متلاصقين وقد عقد الخوف لسانيهما.)
الفتاة
:
اسمحا لي أولًا أن أجلس على هذا الكرسي أمامكما.
(تجلس على الكرسي المجاور للمنضدة … بحيث تكون
المنضدة فاصلًا بينها وبين الزوجين.)
الفتاة
:
وأْذنا لي في أن أشكر الظروف التي شاءت أن يكون بابكما
مفتوحًا … فتُهيأ لي هذه الفرصة السعيدة!
(الزوجان في صمت وذهول.)
الفتاة
:
لقد وصل إلى علمي أنكما وحدكما اليوم في هذه الشقة … وهذا
أيضًا من حسن ظني! تعرفان طبعًا الغرض من زيارتي
المفاجئة.
(الزوجان يهزان الشفاه … دون أن ينبسا
بجواب.)
الفتاة
(بهدوء)
:
المسألة في غاية البساطة: جئت لأقتل … أقتل أحدكما.
الزوجة
(بصوت مرتجف)
:
سهام … سهام!
الفتاة
(بأدب)
:
إني متأسفة … إني في شدة الأسف … ولكن لا بد من أن أفعل
ذلك.
الزوجة
(بتوسل)
:
سهام!
الفتاة
:
مضطرة … رغبة جامحة … قوة قاهرة تدفعني إلى أن أقتل
شخصًا.
الزوجة
(بلفظ مرتجف)
:
نحن جيرانك يا سهام … إني صديقة والدتك … إنك مثل أختي
الصغيرة … كيف يطاوعك قلبك أن تلحقي بنا شرًّا؟!
الفتاة
:
إني لا أريد أن ألحق بكما شرًّا … ولا أفكر في الضرر الذي
يصيبكما … ولكني أفكر في خنق هذا الصوت الصارخ في نفسي: أن
أقتل … أقتل … أقتل.
الزوجة
(برجاء)
:
… اعقلي يا سهام … أرجوك … أرجوك!
الفتاة
:
إني أعقِل ما أفعل … إني في أتم قواي العقلية.
الزوجة
:
لو كنت تعقلين ما كنت تقْدمين على هذا الفعل الشنيع.
الزوج
(يغمز زوجته ويهمس)
:
لا تثيري غضبها.
الفتاة
:
إني أعلم أنه فعل شنيع … ولكن ما حيلتي؟ ليس في استطاعتي أن
أمتنع عن فعله … لقد حاولت كثيرًا أن أصد نفسي عنه … لطالما
استعنت بإرادتي وبحكمي … وقاومت وحاربت … وقاومت في نفسي معارك
طويلة … ولكني هُزمت … ما من شيء تغلَّب على هذه الرغبة
الجارفة عندي: أن أقتل … أقتل.
الزوج
(بصوت مهزوز)
:
يا آنسة … كلمة.
الفتاة
:
تفضل.
الزوج
:
إنك آنسة مهذَّبة … وكثيرًا ما كنت أقابلك في السلم فأحييك
وتحييني بكل احترام … ألا تذكرين؟
الفتاة
:
وإني لم أزل أحمل لك كل احترام.
الزوج
:
أيرضيك إذن أن ترفعي يدك نحونا بسوء؟!
الفتاة
:
لا يرضيني ذلك بالطبع، ولكني مدفوعة إلى ذلك على الرغم مني …
لا بد أن أقتل الليلة شخصًا … وإلا جننت … علاجي الوحيد لما
أنا فيه من ضيق هو أن أقتل.
الزوج
:
تريدين قتل أي شخص؟
الفتاة
:
نعم.
الزوج
:
لماذا إذن لا تهبطين الشارع وتقتلين أي شخص يصادفك؟
الفتاة
:
فكرت في ذلك بالفعل … وكنت في طريقي إلى تنفيذه … ولكني وجدت
بابكما مفتوحًا، وتذكرت أنكما وحدكما.
الزوجة
:
يا لسوء بختنا!
الفتاة
:
بل هذا من حسن بختي أنا … لأن الشخص الذي أقتله في الشارع
سيحدث ضجيجًا يجمع حوله الناس، فلا أستطيع أن أجني بهدوء ثمرة
هذا الفعل.
الزوج
:
أهناك ثمرة تجنينها من مثل هذا الفعل؟
الفتاة
:
بالتأكيد … لقد ألحفت على نفسي في السؤال لماذا تضطرم فيها
شهوة القتل هذا الاضطرام … فكان جوابها: إني أريد أن أعرف شعور
الإنسان وهو يموت … وشعور القاتل وهو يحدث الموت … وإذا كانت
هناك صلة معرفة بين القاتل والمقتول؛ فإن هذا الشعور يتضح
ويبرز ويأتي بنتيجة … لذلك أرى فيكما خير مثال لمطلبي … ها أنا
ذا قد شرحت لكما حالي باختصار … كي تعذراني وتُساعداني … إن
شفائي في يد أحدكما … إني سأكون شاكرة طول حياتي معترفة
بالجميل لمن سأقتله منكما … والآن استعدا.
(ترفع مسدسها … فيلتصق الزوجان رعبًا ويدرآن
بيديهما.)
الزوجة
(صائحة)
:
سهام!
الزوج
(متوسلًا)
:
يا آنسة …
الفتاة
:
إني لا أريد أن أقتلكما معًا … لأن هذا لا يلزمني … بل قد
يفوت غرضي … ويشتت ذهني … أريد أن أقتل واحدًا منكما فقط … أما
الحي منكما فسينفعني أجزل النفع … لأني سأقرأ على وجهه من
مختلف الشعور، ما لا يقل عما أطالعه في وجه المقتول …
الزوجة
(بصوت باكٍ)
:
يا سهام … يا حبيبتي سهام … إني لم أصنع لك شيئًا … نحن لكم
خير الأصدقاء وخير الجيران … وأنت عندي أعز من كثيرات من
قريباتي … لكم تمنيت أن تكون لي بنت مثلك … لطالما قلت ذلك
لوالدتك … وامتدحت أدبك وسلوكك ورقتك … أتفعلين ذلك
بنا؟!
الفتاة
:
بالرغم مني.
الزوج
:
نحن يا آنسة أبرياء … تذكري أنك تريدين سفك دماء بريئة … نحن
لا نحمل لك غير الود. أتعتدين على أناس وادعين طيبين
أبرياء؟!
الفتاة
:
نعم … أنتم أبرياء وهذا عين مطلبي … لأن رغبتي في القتل ليس
باعثها الانتقام … وأنتم في غاية الطيبة والوداعة … لأنكم لو
كنتم أشرارًا وأهل سوء، لحُمل باعثي على أنه عقاب … لا … لا …
إن فعلي لا باعث له على الإطلاق … ولا ينبغي أن يكون له باعث …
إنه شهوة القتل لذاتها … مجردة عن أي باعث.
الزوجة
:
أأنت قاسية القلب بهذا المقدار؟!
الفتاة
:
إنك تعرفين أني لا أطيق سماع مواء قطة جائعة!
الزوجة
:
حقًّا يا سهام … سمعت ذلك من والدتك … ورأيتك بعيني تصومين
وتصلين، ويتمزق قلبك رحمة بالطفل البائس ابن الكناس، فتصنعين
له بيدك ثوبًا يكسو عريه.
الزوج
:
يا آنسة … لك مثل هذا القلب، ولا ترحمين زوجين متحابين
وحيدين مثلنا؟!
الزوجة
:
ألم تحدثك والدتك عنايات يا سهام؟ ألم تقل لك إننا أخلص
زوجين؟
الفتاة
:
أعلم ذلك.
الزوج
:
وتريدين بعد ذلك أن تهدمي هذه الأسرة الصغيرة!
الفتاة
:
إنكما لم تفهما بعد موقفي … ولم تدركا ما أنا فيه … اعلما
جيدًا أن في أعماق نفسي الآن صوتًا يغطي على رحمتي وحكمتي وعلى
أصوات توسلاتكم وحججكم … ليس يهمني الآن هذا العالم بناسه
وجيرانه ورحمته ومنطقه وبراهينه وثوابه وعقابه وخيره وشره … لا
… لا … لا يهمني كل ذلك الساعة … كل ما يهمني في هذه اللحظة هو
أن أخنق هذا الصوت الخفي، الذي لا أدري من أين هو صاعد … صوتًا
يقول لي: اقتلي … يجب أن تقتلي … هذا الصوت لا مفر لي من أن
أطيعه.
الزوج
:
هذا الصوت … لم يقل لك لماذا يأمرك بذلك؟
الفتاة
:
لا … إنه لا يفسر ولا يعلل … إنه يأمر … ما من شك أن هنالك
أناسًا غيري سمعوا في حياتهم أصواتًا تأمرهم بفعل أشياء … فلم
يجدوا بدًّا من فعلها … ولعل من بين تلك الأشياء ما كان له
معنًى … أو ما كان له غرض عظيم … فغيَّروا بذلك مصير البشر …
كما أن من بين تلك الأشياء ما ليس له معنًى على الإطلاق …
فيحار الناس في تأويله … صوتي هو من هذا النوع الأخير … إنه
يأمرني بشيء، حِرت في معناه ومغزاه … شيء لا خير فيه … ولكن لا
قِبل لي بالامتناع عنه … لا بد أن أحققه وأؤديه لأستريح … هل
فهمتما وأدركتما حقيقة موقفي؟ الآن اسمحا لي أن أطلق
النار.
(ترفع المسدس … فيتراجع الزوجان رعبًا …
ويرفعان الأذرع توسلًا.)
الزوجة
(باكية)
:
ستفعلين … ستفعلين!
الفتاة
:
الوقت أزف … يجب أن أكف عن الكلام … وأن أعمل … وأسرع في
العمل.
الزوج
(مرتجفًا متوسلًا)
:
لحظة يا آنسة … لحظة … لحظة.
الفتاة
:
ثقا أنه لا فائدة من المناقشة ومن التوسل ومن البكاء … سأطلق
الرصاص على أحدكما … هذا أمر مفروغ منه … أيكما …
أيكما؟
الزوجة
(برعب)
:
أينا؟!
الفتاة
:
نعم … أيكما … على أيكما أطلق … بسرعة … يجب أن يقع الاختيار
على أحدكما.
الزوج
(في رعدة)
:
أَسَتختارين؟
الفتاة
(وهي تتأمل كل واحد منهما)
:
يجب أن أختار واحدًا منكما وهذا ليس بالأمر السهل … كيف أرجح
بلا مرجح … وأنتما هكذا جامدان متلاصقان … ما من واحد حاول
الهرب أو هَمَّ بحركة، حتى ألاحقه برصاصي … وأطرح عن نفسي مشقة
التخيُّر … إنكما تضعان على كاهلي عبئًا ثقيلًا … من أختار
منكما؟ الزوجة؟ والزوج؟
الزوجة
(تشهق)
:
أسنموت الآن … حقًّا سنموت … اللهم الرحمة … الرحمة …
الرحمة!
الزوج
:
أنموت هكذا يا رب بهذه السرعة … أهو إذن الموت … ارحمينا
أيتها الآنسة … الرحمة!
الفتاة
(كالمخاطبة نفسها)
:
كلما ذكرتما الموت، تأججت شهوتي لإحداثه. أزف الوقت (صائحة)
أسمع صوتًا … يجب أن أقتل … أيكما؟ أيكما؟ يجب أن أقرر الآن …
يجب أن أختار مَن؟ مَن؟
(ترسل نظرات حائرة بين الزوج والزوجة …
بينما يتبعان هما نظراتها واجفين والشفاه منهما تهتزان
فرقًا.)
الفتاة
(صائحة في تصميم)
:
أنت أيتها الزوجة … تقدمي.
الزوجة
(فزعة منهارة)
:
أنا! لا … لا … لا!
الفتاة
:
لا تريدين أن تموتي؟
الزوجة
:
لا … لا أريد أن أموت!
الفتاة
:
إذن فليتقدم زوجك بدلًا منك … أيها الزوج … تقدم.
الزوج
(فزعًا)
:
أنا … لا … لا يا آنسة … لا … أتوسل إليك دعيني أعش!
الفتاة
:
لا تريد أن تموت؟
الزوج
:
لا … لا أريد … أرجوك!
الفتاة
:
هذا مستحيل. هذا الوضع مستحيل؛ لا بد لأحدكما أن يموت. لا بد
أن أطلق الرصاص على أحدكما. على مَن؟ على مَن؟ لا توقعاني في
الحيرة … ساعداني … عاوناني … سأطلق المسدس على أحدكما في
الحال كيفما اتفق … (ترفع المسدس في يدها) فليكن عليك أنت أيها
الزوجة.
الزوجة
(صائحة برعب)
:
لا … لا يا سهام … لا تطلقي عليَّ أنا … يجب أن أعيش … يجب
أن أعيش لأني … لأني … لأني حامل.
الفتاة
:
حامل؟ لماذا لم تقولي ذلك من قبل … حمدًا لله الذي نجَّاك في
الوقت المناسب … حقًّا يجب أن تعيشي أنت لطفلك … أي جرم كنت
ارتكبته لو أني قتلتك وفي بطنك جنين … ستعيشين … وليتقدم
زوجك.
الزوج
(مرتجفًا من الهلع)
:
يا آنسة … لا تقتليني أنا … لا تقتليني!
الفتاة
(وهي تصوب المسدس نحوه)
:
لا مفر من قتلك أنت … لم يبقَ غيرك … وقد رجَّحت كفة … وليس
من المعقول ولا من المقبول أن تبقى أنت حيًّا وتموت زوجتك وهي
حامل!
الزوج
:
إنها ليست حاملًا … إنها تكذب … أقسم بالله إنها
تكذب.
الفتاة
:
تكذب؟ أأنت واثق من ذلك؟
الزوج
:
أحلف بأغلظ الأيمان … لقد أكد لها كل الأطباء أنها لا يمكن
أن تأتي بأطفال.
الزوجة
(لزوجها)
:
يا لك من وغد!
الفتاة
(للزوجة)
:
تكذبين هكذا لتنقذي حياتك؟!
الزوجة
(تشير إلى زوجها)
:
بل هو الذي يحتال لينقذ حياته.
الفتاة
:
يُخيَّل إليَّ أني سمعت من أمي أنك عاقر … مهما يكن من أمر
فقد أوقعتماني في الحيرة من جديد … ها أنا ذي لم أخطُ بعد خطوة
… وما من واحد منكما يريد أن يموت … أو يقبل أن يتقدم بدلًا من
الآخر … ماذا أصنع الآن؟ لا بد من العمل السريع … هل أطلق
الرصاص في تجاهكما ولتصب النار منكما مَن تصيب؟
(ترفع المسدس وتصوبه نحوهما فيدرآن بأيديهما
صائحين)
الزوجة
:
لا … لا … لا تطلقي!
الزوج
:
لا تطلقي … لا تطلقي!
الفتاة
:
لا بد أن أطلق هكذا عليكما معًا … إذن … اتفقا فيما بينكما
على وضع … من منكما يتطوع بتلقي الرصاصة عوضًا عن
صاحبه؟
(الزوجان يصمتان.)
الفتاة
(بعد لحظة)
:
أمخيف الموت إلى هذا الحد؟ أحلوة الحياة إلى هذا الحد؟!
تكلما … لا تريدان الاتفاق … اسمعا إذن … ما رأيكما في أن أجري
القرعة بينكما؟ وليحكم الحظ وحده فيكما بما يرى … أخرج من جيبك
قطعة عملة صغيرة أيها الزوج … وليختر أحدكما وجهًا من وجهيها …
ولتلقَ العملة على هذه المنضدة فمن كانت له الصورة أُنقذ، ومن
كان له الرقم قُتل.
(الزوج يُخرج من جيبه عملة صغيرة.)
الزوج
:
أنا اخترت الصورة.
(يهم بإلقاء العملة على المنضدة.)
الزوجة
(تمسك)
:
لا … لا تلقِ أنت … إني الآن لا أثق بك.
(يظهر عندئذٍ مندوب التأمين مطلًّا برأسه،
آتيًا من جهة باب الشقة … وينقر بأصابعه على باب القاعة
منبِّهًا.)
المندوب
:
لا مؤاخذة … نسيت هنا قلمي «الأبنوس» … وهو تذكار
ثمين!
الزوجة
(ترى المندوب فتصيح به)
:
الدكتور … أنقذنا يا دكتور!
المندوب
:
المريضة … فوق … بخير … اطمئني!
الزوجة
(تغمزه مشيرة إلى الفتاة هامسة)
:
ها هي …
الفتاة
(ملوحة بالمسدس)
:
حضرته دكتور؟ يا دكتور اجلس بكل هدوء إلى جانب البك والست …
دون أن تجادل أو تناقش.
المندوب
(بخوف)
:
لا … لا داعي للمناقشة!
(يجلس حيث أشارت له الفتاة بالجلوس.)
الفتاة
:
أنتم الآن ثلاثة … لا اثنان … وهذا قد يجعل المسألة بالنسبة
إليَّ أشد تعقيدًا أو أكثر بساطة … على كل حال سأنفض يدي …
وسأترك لكم أنتم اتخاذ القرار النهائي.
المندوب
:
أي قرار نهائي؟!
الفتاة
:
واحد منكم أنتم الثلاثة يجب الآن أن يموت.
المندوب
(مذعورًا)
:
يا حفيظ!
(يتلفت حوله.)
الفتاة
(تلوح بالمسدس)
:
أي حركة في ذاتها قرار … وقد تريحني وتعفيني من حيرة
الاختيار.
المندوب
(يثبت في كرسيه)
:
إني تمثال من حجر!
الفتاة
:
لا تحاولوا أن تضيعوا وقتًا. ها أنا ذي أحذركم فقد تأتي لحظة
مفاجئة لا أتمكن فيها من التحكم في الموقف. فأطلق النار على
غير هدًى.
الزوجة
(هامسة بلا حراك)
:
يا دكتور … أما من علاج؟
المندوب
(هامسًا)
:
علاج لي أنا؟ أين هو؟ دمي هرب!
الزوجة
(همسًا بدون أن تتحرك)
:
أوَتتركها تقتلنا هكذا يا دكتور؟!
الزوج
(بصوت عالٍ)
:
إنه ليس بدكتور … إنه مندوب شركة تأمين على الحياة!
الزوجة
:
ليس بدكتور … حضرته …
المندوب
(للزوج همسًا)
:
تذكر أن الست زوجتك لا يجب أن تعلم …
الزوج
(بصوت مرتفع)
:
فلتعلم … فلتعلم لم يبقَ هناك محل لأن نخفي عنها … فكرة موتي
لن تفزعها أو تفجعها أو تصيبها بمكروه!
الزوجة
(للزوج)
:
وفكرة موتي … هل هزت منك الآن شعرة؟!
الفتاة
(صائحة فيهم)
:
وأخيرًا … وأخيرًا إنكم تلعبون بالنار! إنكم لا تقدِّرون أني
قد أخرج عن طوري وأرتكب عملًا طائشًا … فيه فناؤكم جميعًا …
قلت لكم أريد واحدًا منكم فقط … وعليكم أن تعينوه … أنتم الآن
ثلاثة … حكِّموا فيكم الأغلبية … كما يحدث في المحاكم … يكفي
أن يتفق اثنان منكم على قرار ليصبح هو النافذ … أسمعتم … لن
أقف منكم غير موقف المنفِّذ … اثنان منكم يستطيعان أن يُصدرا
حكم الإعدام في الثالث … هلموا … تداولوا … وانطقوا بالحكم …
سريعًا … سريعًا.
(الزوج والزوجة يتبادلان النظرات.)
الزوج
:
هذا معقول.
الزوجة
:
هذا عدل.
الزوج
(يشير إلى نفسه وإلى زوجته)
:
نحن الاثنان متفقان.
الزوجة
:
نعم … أنا وزوجي من رأي واحد.
الفتاة
:
حكمتما طبعًا على …
(تشير إلى المندوب.)
الزوج
(ومعه زوجته في صوت واحد)
:
نعم.
المندوب
(صائحًا)
:
حكما عليَّ أنا … بماذا؟
الفتاة
(وهي ترفع مسدسها)
:
بالموت.
المندوب
(يرفع يديه صائحًا متوسلًا)
:
يا ست … يا آنسة … لا تطلقي … لا تطلقي … كلمة … كلمة واحدة
… كلمة لا غير.
الفتاة
(تتمهل)
:
ماذا تريد أن تقول؟
المندوب
(وهو يتنفس)
:
فهموني من فضلكم … ما هذا الحكم … وما هذه المحكمة … وما
جنايتي … أنا رجل مسكين … مندوب تأمين … جئت هنا أؤمِّن على
الحياة … فأجد أمامي الموت؟!
الفتاة
:
لم يبقَ عندي وقت لأقص عليك أنت أيضًا القصة من جديد … نعم …
أنت رجل مسكين … ومندوب تأمين …
المندوب
:
وزوج أمين …
الفتاة
:
وزوج أمين …
المندوب
:
ووالد أطفال صغار …
الفتاة
:
ووالد أطفال صغار تعولهم وتربيهم … ولا جريمة لك ولا ذنب …
وما من سبب يدعو إلى قتلك … ولم تسئ إليَّ … ولم أحمل لك أنا
ضغنًا … كل هذا أعلمه علم اليقين … ومع ذلك لا بد لي من أن
أقتلك.
المندوب
:
يا مغيث يا رب!
الفتاة
(وهي ترفع المسدس)
:
هل عندك كلام آخر بعد ذلك؟
المندوب
(يرفع يديه)
:
انتظري يا آنسة … انتظري … لحظة … لحظة أخرى.
الفتاة
:
تفضل … إني كما ترى هادئة الأعصاب إلى حد أُحسد عليه …
تكلم.
المندوب
:
افرضي يا آنستي أني لم أحضر الآن … ولم يرجعني إلى هنا قلمي
الأبنوس النحس … ماذا كنت ستصنعين؟
الفتاة
:
كنت سأقتل أحد هذين الزوجين.
المندوب
:
اجعلي إذن أني غير موجود … وامضي في إجراءاتك
السابقة.
الفتاة
:
هذا غير ممكن … لأنك موجود بالفعل وصدر عليك حكم
الأغلبية.
المندوب
:
الأغلبية؟! إن هذه الزوجة لا تدري ما ينفعها … ولو أنها عرفت
مصلحتها لحكمت معي ضد هذا الزوج … فإنها بمجرد موته تقبض ألفين
من الجنيهات.
الزوج
:
أيها المندوب … لا تلجأ إلى هذا الإغراء الوضيع … إنك في
قرارة نفسك تتمنى موت الزوجة … لأن شركتك تكسب بذلك كل ما دفعت
أنا من أقساط … ولا بد أن يكون لك من وراء ذلك عمولة.
الفتاة
(صائحة)
:
كفى … كفى … لقد ضقت بهذا الجدل … أريد التنفيذ … أريد العمل
… أريد أن أقتل … تقدم أيها المندوب!
المندوب
:
يا آنستي … رحماك … أقبِّل قدميك … لا تقتليني بهذه السرعة …
أبقي عليَّ دقيقة … ألا تعرفين الرحمة؟
الفتاة
:
أعرف الرحمة … ولطالما غمرت قلبي.
المندوب
:
ألا تعرفين الله؟
الفتاة
:
أعرف الله … ولطالما صمت له وصليت.
المندوب
:
ألا تعرفين الحب؟
الفتاة
:
الحب؟! ماذا تعني؟
المندوب
:
الحب … أعني الحب … الذي يجعلك تعيشين … وتدركين للحياة
معنًى نابضًا راقصًا … ذلك الحب الذي شعرت به عندما رأيت زوجتي
أول مرة وهي فتاة … خُيِّل إليَّ يومئذٍ أني أحيا لأول مرة،
وأن كل شيء ألمسه يحيا تحت لمساتي … وكل منظر أراه يحيا تحت
نظراتي … الحب ذلك الشعور الذي يحيي الأشياء والأشخاص.
الفتاة
:
ما هذا الكلام؟ إني ما سمحت لنفسي قط، وما سمحت لي أمي أن
أجعل لمثل هذه العواطف مكانًا في قلبي … إني لم أزل في الثامنة
عشرة من عمري … ومنذ صغري وأمي تحذرني من هذا الشعور الأثيم
الذي تجرؤ أنت فتطريه هذا الإطراء.
المندوب
:
آه … لقد قتلت فيك حب الحياة … فحل فيك حب الموت.
الفتاة
:
احتفظ بهذه الأفكار لنفسك … لست أنت على كل حال من يقدر أن
يرى ما تنطوي عليه نفسي … من ذا الذي يستطيع أن يعرف حقيقة ما
يحب ومدى ما يحب … إليك زوجين هما مثال الإخلاص والوفاء …
طالما لمحت ذلك منها بعيني وسمعت من أمي.
الزوجة
:
أوَكان يدور بخاطري أن زوجي يخدعني هذا الخداع؟!
الزوج
:
أأنا الذي خدعك أم أنت التي خدعتني؟!
الفتاة
:
ما من واحدٍ منكما خدع صاحبه … إنما كان كل واحد منكما يَخدع
نفسَه … أو نفسُه هي التي تخدعه … لأنه ما من إنسان هبط إلى
قاع نفسه ليرى ما فيها … هذا البحر ذو الوجه الصافي الذي تختلط
في جوفه الرمالُ بالأعشاب والصخورُ بالأسماك واللآلئُ بالعقارب
… هكذا قال لي الطبيب الذي ذهبت إليه هذا الصباح.
الزوجة
:
أوَذهبت إلى طبيب هذا الصباح؟
الفتاة
:
نعم … طبيب من أبرع الأطباء في الحالات النفسية … لم أرَ
بدًّا من أن أستشيره اليوم … دون أن أخبر أحدًا، حتى ولا أمي …
لقد استشرته في أمر هذا الصوت الداخلي الذي يأمرني
بالقتل.
الزوجة
:
وبماذا أشار عليك؟
الفتاة
:
أشار عليَّ بأن أطيع الصوت … ولا أخافه ولا أكبته … وأن
أقتل.
المندوب
(صائحًا)
:
قال لك اقتلي؟!
الفتاة
:
قال لي إذا قتلت فإنك تشعرين في الحال بأنك استرحت … وأعطاني
هذا المسدس.
المندوب
:
أعطاك المسدس وقال لك اقتلي؟! هكذا بكل بساطة! كما لو أعطاك
برشامة «أسبرين» وقل لك اشربي!
الفتاة
:
لقد أكد لي أن هذا هو الدواء … ولا يجوز لي أن أهمل تعليمات
الطبيب … ويحسُن بك أن تساعدني على الشفاء … لأقدِّر لك هذه
الخدمة فيما بعد … تقدم.
(تصوب المسدس نحوه.)
المندوب
(في ذهول)
:
فيما بعد! أين؟ ومتى؟ وأنت تخطفين الآن روحي … (يفيق ويصيح)
لا تصوبي نحوي … انتظري … انتظري!
الفتاة
:
انتظرت أكثر مما يجب … أريد أن أستريح … أريد أن
أستريح.
المندوب
:
تتعاطين الدواء!
الفتاة
:
نعم … وبسرعة … وأرجو أن تتلطف معي وتترفق بي … ولا تؤخرني
عن مباشرة العلاج.
المندوب
:
ارحموني يا ناس … سأجن قبل أن أموت … تريد مني أن أترفق بها،
ولتطلق رصاصها في صدري!
الفتاة
:
نعم … ترفق بي وأرحني … أرحني … عالجني … امنحني الراحة
والشفاء.
المندوب
(صائحًا)
:
بموتي … بدمي!
الفتاة
:
وأي غرابة في ذلك؟! إن دماء البعض علاج للبعض … وليس هذا
بالشيء الجديد تحت الشمس … أرجوك أن تتقدم خطوة حتى لا تصيب
الرصاصة غيرك … إني سأطلق.
(تصوب المسدس.)
المندوب
(صائحًا بفزع)
:
يا آنسة … ارحميني … ارحمي الأيتام!
(يسرع إلى الزوجين
فيلتصق بهما.)
الزوج
(يدفعه عنه)
:
ابعد عنا … ابعد.
المندوب
(يتشبث به)
:
أبعد عنك الآن … وأنت سبب المصيبة … يا زبون الشؤم!
الزوج
(يحاول التخلص)
:
اتركني … اتركني.
المندوب
(يستميت في التشبث به)
:
لن أتركك أبدًا … فلنمت معًا … لن أموت وحدي … ما ذنبي أدخل
بيتك لأؤمِّن عليك … فإذا أنت الزبون تعيش … وإذا أنا المندوب
غير المؤمَّن عليه أموت؟!
الزوج
(لزوجته)
:
خلصيني … خلصيني منه!
الزوجة
:
كيف أخلصه … وذراعاه قد ماتتا عليك؟!
الزوج
:
حاولي … ابذلي مجهودًا … لا تقفي هكذا تشاهدين!
(يتماسكون
جميعًا.)
الفتاة
(وهي تراقبهم)
:
آه … المسألة قد تعقدت فيما أرى … ووقتي ضيق وأنفاسي تكاد
تقف … أشعر أني أختنق … لا … لا بد من العمل حالًا … لأستعيد
تنفسي … لن أموت من أجلكم … ولا من أجل أحد … تماسكتم وأصبحتم
كتلة … ربما كان في ذلك انفراج العقدة … سأطلق رصاصة واحدة على
كتلة أجسامكم المتلاصقة … ولتصب منكم مَن تصيب … كلٌّ وحظه …
ها أنا ذي أقتل واحدًا من بينكم … أي واحد … أقتل … أقتل …
أقتل.
(تقول هذه الكلمة من بين أسنانها وتلمع عيناها
ببريق عجيب … وتطلق عيارًا ناريًّا، يدوي في القاعة على الثلاثة
وهم متكتلون يتدافعون.)
الثلاثة
(يسقطون على الأرض صائحين)
:
قتلتنا!
الفتاة
(تتجه إليهم)
:
من منكم الذي أصيب؟
الزوجة
(صائحة)
:
أنا … أنا مت!
الزوج
(صائحًا)
:
أنا توفيت!
المندوب
(صائحًا)
:
أنا انتقلت إلى رحمة الله!
الفتاة
:
مستحيل … مستحيل أن تموتوا جميعًا … أنتم الثلاثة من رصاصة
واحدة! فيكم اثنان على الأقل في صحة جيدة … انهضوا لأرى … واحد
من بينكم فقط هو الذي أصيب.
(الثلاثة ينهضون على أقدامهم … وهم يجسون
أعضائهم فاحصين.)
الفتاة
(وهي تنظر إليهم)
:
ما هذا السواد في وجوهكم وعلى ثيابكم؟!
المندوب
(هباب.)
:
البارود!
الفتاة
:
والرصاصة؟ أين الرصاصة؟ من منكم استقرت فيه الرصاصة؟
الزوج
(وهو يفحص جسمه ويبحث في جيوبه)
:
أوَتُلقين علينا أيضًا عبء البحث عن رصاصتك؟!
الفتاة
:
هذا لا يحتاج إلى بحث … أمَا من دم سال من أحدكم؟ …
الزوجة
(وهي تمسح عرقها)
:
وهل بعد كل هذا يبقى في أحدنا قطرة دم؟!
(المندوب يتناول المسدس حيث كانت قد وضعته
الفتاة على المنضدة بعد الطلقة … ويفحصه ويصيح)
المندوب
:
المسدس لم يكن محشوًّا بغير البارود!
الفتاة
(تلتفت نحوه)
:
أأنت واثق؟
المندوب
(يقدم إليها المسدس)
:
خذي وانظري بنفسك!
الفتاة
:
هذا إذن تدبير من الطبيب … مهما يكن من أمر فإني أشعر حقًّا
أني استرحت … وكأن كابوسًا انزاح عني.
المندوب
:
وعني أنا أيضًا … اسمحي لي يا آنسة بالانصراف … توبة إلى
الله … لن أدخل هذا البيت … قبل أن أؤمِّن على حياتي لمصلحة
الأولاد!
(يحمل حقيبته الصغيرة … ويلتقط قلمه الأبنوس
الذي كان قد نسيه فوق المنضدة … ويخرج بسرعة.)
الفتاة
(للزوجين)
:
آسفة … أزعجتكما كثيرًا … اعذراني … وافهما حالتي … إني على
كل حال شاكرة لكما أجزل الشكر … لقد استرحت حقًّا بعد أن أطلقت
النار … واعتقدت أني قتلت.
(تشير بالتحية منصرفة بينما تتجه الزوجة مطرقة
إلى باب حجرتها على اليمين دون أن تنظر إلى زوجها.)
الزوج
(للفتاة المنصرفة)
:
لقد قتلت سعادتنا الزوجية!
(ستار)