حرف الشين
شاذلي محمد إبراهيم
الابن الثاني لمطرية ومحمد إبراهيم، وقد وُلد ونشأ في بيت والدَيه بحارة الوطاويط؛ كان جميلًا ولكن دون أخيه أحمد المُتوفى درجة، وحل محل أخيه الراحل في زمالة خاله قاسم، ولكنه لم يفُز بالمنزلة الأسطورية التي فاز بها أحمد. ومن صغره خالط بيت جدِّه عمرو، وآل سرور، والمراكيبي وداود، وثابَر على ذلك في سائر أطوار حياته ناهجًا سبيل أُمه في حب الناس والإكثار من معاشرتهم. ومن صغره أيضًا تجلَّت له مواهب سوف تصحبه في حياته؛ كخفة روحه، ومَيلِه للَّهو، وتطلُّعه للمعرفة، وحبه البنات، وتوفيقه في ذلك كله، رغم أنه لم يُحرز في حياته التعليمية إلا درجةً وُسطى. ولعلَّه ورث عن أبيه حُب الاطلاع ووجد زاده في الكتب والمجلَّات التي يقتنيها. وأضاف إلى معارفه من الأهل أصدقاء جدُدًا من قادة الفكر المُعاصر، أيقظوه من سُباته وألهبوه بالتساؤلات التي لم ينقطع عنها طيلةَ عمره. ورغم ثقافته الإنسانية المُتنامِيَة وجد استعداده في دراسة العلوم الرياضية فالتحق بكلية العلوم، ثم اشتغل مدرسًا كأبيه، واستقر في القاهرة بوساطة آل المراكيبي وآل داود. وواصل حياته مشغولًا بثقافته ولهوه عن المُستقبل حتى قال له أبوه: إنك مدرس، ومهنة التدريس ذات تقاليد، وأرى أن تُفكر في الزواج.
وقالت مطرية: البنات في أُسرتنا كثيرات، بنات خالاتك، وبنت عمِّنا زينة!
وكان قد غازل الكثيرات دون جدية، ولم يشعُر نحو إحداهنَّ بحُبٍّ حقيقي، فقال: سأتزوج بالأسلوب الذي أقتنع به.
فقال أبوه مُحذِّرًا: المدرس يجب أن يكون حسَن السمعة.
حسن السمعة؟! كان يعبُر فترةً من الحياة يتساءل فيها عن معنى كلِّ شيءٍ حتى حُسن السمعة! وكان كلَّما خلا إلى نفسه طرح هذا السؤال: من أنا؟! كان ظمؤه إلى تحديد علاقته بالكون جنونيًّا مُضنيًا. وكان لا يكفُّ عن مناقشة الجميع، خاصة من يأنس فيهم ميلًا للمناقشة، كابن خالته حكيم، وغيره من شباب آل المراكيبي وآل داود وآل سرور. وتجرَّأ بعد ذلك على مقابلة طه حسين والعقاد والمازني وهيكل وسلامة موسى والشيخ مصطفى عبد الرازق، ولم يكن الدِّين موضع رفضه ولكنه أراد أن يعتمد على عقله حتى آخر المدى، وكل يومٍ كان له شأن. حتى خاله قاسم كان يُحاوره ويُناجيه، وحتى الثاوون في مقابرهم من أهله كان يُسائلهم في مواسم القرافة. ولمَّا حُمِل جدُّه عمرو إلى فراشه وهو يودع الحياة، جيء بمُمرضة تُدعى سهير لتحقنه، فأُعجب بها شاذلي رغم تسلُّط الحزن. وراح يساعدها في تسخين الماء تحت مُراقبةٍ خفية من عينَي عفَّت زوجة خاله عامر اللَّتَين ندَّت عنهما نظرة خبيثة ماكرة. وتوطَّدت علاقة حُب بين الاثنين قبل حلول الأربعين. وتبيَّن له أنه جاد هذه المرة أكثر مما تصوَّر، فأعلن رغبته في الزواج منها، وصارحته مطرية قائلة: لك وجه جميل وذوق رديء!
وكان يرد على العتاب بالضحك. وقالت مطرية: أصلها واطي، وجمالها مُبتذل.
فقال لها: استعدِّي للفرح.
وسلم محمد إبراهيم بالأمر الواقع دون اكتراث، ولم تُفكر مطرية في إغضاب ابنها أكثر مما قالت، واختار شاذلي شقةً في عمارة جديدة بشارع أبو خوده واستقبل حياة الحُب والزوجية. واستقالت سُهير من عملها وتفرَّغت لحياتها الزوجية، وأثبتت أنها فتاة لبِقَة وطيبة، وسرعان ما حازت رضا حماتها. وكان شاذلي سيئ الحظ في ذُريته، تُوفي له خمسة في سنِّ الرضاعة، وعاش محمد وحدَه، وصار ضابطًا في الجيش، ولكنه استشهد في الاعتداء الثلاثي، وعاش شاذلي حياته مُنقِّبًا عن ذاته، يقرأ ويناقش ويتساءل ثم يصطدم بجدار اللَّاأدرية فيبدأ الشوط من جديد. ولم يهتم بالسياسة إلا باعتبارها حوادث تدعو للتأمُّل والمعرفة، فلم يقع تحت سحر الوفد، وتابع تقلُّبات ثورة يوليو كما يتابع فيلمًا سينمائيًّا مثيرًا، ولكنه حزن على ضياع محمد حزنًا لم يبرأ منه طيلة عمره. وقال مرةً لشقيقته أمانة: كِلانا لم يُخلق للسعادة الصافية.
ووجد شيئًا من العزاء في حُب ذُريتها، أما سليم ابن خالته وزوج هدية بنت أخته فكان يُخيفه بصرامته وحدَّته. لم يجد في حواره متاعًا ولا لذة.
وقال له سليم: حيرتك مُستوردة ولا يجوز لمُسلم أن يقع فيها.
وظلَّ على ودِّه لقاسم رغم ما طرأ عليه، وكان يصطحبه أحيانًا إلى الكلوب المصري حيث تنهمر عليهما ذكريات الآباء والأجداد، وكمُعلم راح يُراقب الأجيال المُتعاقبة بذهول، وقال مرة يُحادث نفسه: لا أحد يشغل باله إلا بلُقمة العيش والهجرة، فما جدوى العذاب؟!
شاكر عامر عمرو
وُلِد ونشأ في «بين الجناين» وهو شارع تقوم على جانبَيه بيوت حديثة، وتمتدُّ شرقِيِّه وغربِيِّه الحقول المزروعة بالخضراوات وأشجار الحناء. وهو بِكري عامر وعفَّت وحفيد عمرو أفندي من ناحية، وعبد العظيم باشا داود من ناحيةٍ أخرى. وكان دخْل أبيه من مُرتبه ودروسه الخصوصية، بالإضافة إلى ملكية أمِّه للبيت الصغير الأنيق ذي الحديقة الخلفية بتكعيبة العنب وشجرة الجوافة وشُجيرات القرنفل، كل أولئك هيَّأ معيشة حسنة المستوى للأسرة، كما وفَّر لشاكر البِكري مظهرًا جميلًا وتدليلًا لا يفتقر للإرشاد القويم. وبالرغم من تفوُّقه الرياضي شقَّ طريقه في المدارس بنجاح. ولمَّا لحق به في الوجود أخواه قدري وفايد لعبت الغيرة دورها بين الإخوة، ولم تخلُ من معارك، ونزاع مع الوالدَين، ولكنها اعتبرت رغم ذلك أُسرةً مُتماسكة يغلب عليها الوفاق. وكان للحُب المتبادل بين الزوجَين نفحاته الزكية في إضفاء جوِّ السلام ونشر المحبَّة، وبقدْر ما تجلَّى الأب صديقًا أبدت الأم محاولاتها في التسلط. وأحب شاكر جده عمرو وجدته راضية وتظاهر دائمًا باحترام غيبياتها، كما أحبَّ جدَّه عبد العظيم باشا وجدته فريدة هانم حسام. وتلقَّى عن آل داود احتقارهم التقليدي لآل المراكيبي الذي اشتدَّ بعد أن صارت شكيرة سِلفةً لعفَّت أم شاكر. ونشأ شاكر، وانتماؤه لأسرته وذاته يغلب فيه أي انتماءٍ لوطنٍ أو لحزبٍ من الأحزاب. ورِث ذلك عن أُمِّه التي كانت غير مُنتمِية بحُكم تربيتها وإن أعلنت في المناسبات ولاءها للعدلِيِّين مُتابَعَةً لأبيها، أما الأب فلم يعُد له من وفْدِيَّته القديمة — في بيت الزوجية — إلا عاطفة باهتة أخفاها في أعماقه فلم يمتدَّ تأثيرها إلى أولاده، والتحق شاكر بكلية الطب، وخاض أول تجربة عاطفية جادة في حياته بِحُبه صفاء بنت عمته سميرة. وكانت لهما قصة ترامت أنباؤها إلى عفَّت أُمِّه فجن جنونها. لم يكن في صفاء ما يعيب، فهي جميلة وطالبة في الآداب، وقريبته. ولكن عفت، رغم علاقتها الطيبة بآل عمرو ابن عم أبيها، إلا أنها كانت تراهم دون مستواهم، وأن عروس ابنها يجِب أن تكون من درجةٍ أعلى بمراحل. وثار غضبها ولم تُخْفِه، وعلمت به سميرة وآل عمرو، وأحدث ما أحدث من استياء، وفي الوقت نفسه لم يُبْدِ شاكر مقاومة جدِّية لأُمه. فنصحت سميرة ابنتها صفاء بقطع علاقتها بابن خالها. وغضبت الفتاة لكرامة أُسرتها وقطعت العلاقة بعد اقتناعٍ بعدم جدِّية شاكر، لم يخرج شاكر من تلك التجربة مَهيض الجناح ولكنه لم يخلُ من حنق على أُمِّه. وقد تخرج طبيبًا، وبفضل خاله الدكتور لطفي باشا عبد العظيم عُين في وظيفة بالمعامل بوزارة الصحة، ثم أمكنه فتح عيادة خاصة لأمراض الدم بعد بضع سنين. وراحت أُمُّه ترسم خطة لتحقق حلم الزواج الجدير به في نظرها. وكان هو يتردَّد على ملاهي الهرم القديمة فأحب راقصةً هنغارية، واكترى لها شقةً في الهرم، وتحوَّلت العلاقة إلى حُبٍّ حقيقي فتزوَّج منها سرًّا، ولم يجرؤ على مُكاشفة أُمه بالحقيقة ولكنه كاشفَ بها أباه. وصعقت عفت، وثارت ثورةً عَلِم بها القاصي والداني وكثر الشامتون. وانتقل الدكتور إلى مأواه الجديد وأنذر الحالُ بالانفصال الكُلي عن أُسرته. وقالت راضية لعفت: لا يجوز أن تخسري ابنك والزواج في النهاية قسمة ونصيب.
ومع الزمن رجعت العلاقات في أضيق الحدود. وقامت ثورة يوليو وانقلب المجتمع رأسًا على عقب، وطارت الباشوية من آل داود، وهبطت قيمة الأطباء والقضاة، فحقد شاكر على العهد الجديد حقدًا أفسد عليه أعصابه. ودبَّر أمره للهرب، فانتهز فرصة حضور مؤتمر طبي في شيكاغو، وهاجر إلى الولايات المتحدة وأقام بها قاطعًا علاقته بوطنه وأهله. وقد رجع في منتصف الثمانينيَّات مُصطحبًا زوجته وأولاده فزار والدَيه وأخويه وجدَّته راضية كضيفٍ أجنبي، ثم سرعان ما رجع إلى وطنه الجديد.
شكيرة محمود عطا المراكيبي
فتحت عينَيها على سراي ميدان خيرت برياشها وتُحَفها وحديقتها الغنَّاء، من سُوء حظِّها أنها اقتبست أهمَّ معالِمها من أبيها محمود بك مُتجاهلة أصل أُمِّها نازلي هانم المُترع بالجمال والعذوبة، ربعة قوية الجسم، كبيرة الرأس، خشنة القسمات، عنيدة مُتطرِّفة في أحكامها مُتعصِّبة لرأيها، لا تتزحزح عن عاطفة، مع تدَيُّن قَوِي وأخلاق مَتينة وعادات مُهذبة رفيعة. لولا ذلك ما خطب أبوها حامد عمرو لها بنفسه وقايةً لها من الانتهازيين. ورغم الفارق الشاسع بين الأُسرتَين فلم يتحمَّس للزواج أحد من آل عمرو سوى عمرو نفسه. وأطلقوا على شكيرة منذ إعلان الخطبة «شكير بك عطا.» وبِكُل أمانةٍ أحبَّت شكيرة زوجها الشاب من أول يوم، وكانت على أتمِّ استعدادٍ لفتح قلبها لآله جميعًا. أجل لم يغب عنها ما يحمِل في طيَّاتِهِ مِن ذوق وتقاليد ومعاملة بعيدة بِشعبِيَّتِها كُلَّ البُعد عن تربيتها الرفيعة المُهذَّبة، ولكنها قالت لنفسها: كل شيء قابل للتغيير!
ولكنها لاحظت أيضًا أنَّ عاطفته كانت نهَمًا عابرًا، وأن طلائع الفتور لاحت في شهر العسل نفسه، ودهمها ذلك كصاعقةٍ فآلمها أشدَّ الألم وطعن برأسه السامِّ المَسنُون حُبَّها وكبرياءها، ولم تكن تُخفي عن أُمِّها شيئًا؛ فقالت نازلي هانم: هذه أحوال تمر، كُوني لَبِقةً كيِّسة.
وحدَّثَتْها حديث الهوانم المُجرِّبات طاويةً قلقَها في قلبِها. وقالت لها أيضًا: إنه من بيئة شعبية، وبحكم عمله كضابط شُرطة لا يتعامَل إلَّا مع الساقطين!
وكان حامد يعمل حسابًا لجبروت حميه ولإقامته بين أفراد قبيلته فلم يرتفِع له صوت، ولكنه كان يدسُّ بداوتَهُ دسًّا رفيقًا ومُؤذِيًا في آن. وغضبت مرةً فقالت له: كثيرون لا يعرفون النعمة إلَّا بعد زوالها!
فقهقه ساخرًا وقال: إن زواجك منِّي هو النعمة حقًّا لك أنت!
– إذن، لماذا رضيت؟!
– الزواج قسمة ونصيب.
– وطمع وجشع أيضًا.
هكذا بدأ عراك لم ينقطع على مدى السنين حتى حسمَه الطلاق فيما بعد. وارتفع درجةً في حرارته فصاحت به مرة: إنك تنضح بالقذارة.
فسألها مُتهكِّمًا: ألم يُحدِّثوكِ عن جدكِ بياع المراكيب؟!
ولكن شكيرة رغم غضبها وصلابتها لم تخلُ من حكمة، فظلَّت أسرار حياتها الزوجية التعِسة خافيةً في أضيق الحدود، حتى نازلي هانم لم تعلم بكلِّ تفاصيلها … بل يُمكن القول بأنها لم تنضب من حبٍّ له رغم كل شيء حتى وفاة أبيها، وأنجبت له وحيدة وصالح، وأمَلت كثيرًا أن يستقيم حاله مع الزمن ولكن دون جدوى. ولم تكن علاقتها مع أُسرته بأحسنَ من علاقتها معه؛ كانت تَعتبِر راضية — قبل زواجها — امرأة غريبة الأطوار، ثم حكمت بعد ذلك بجنونها، وتبادَلَا كراهيةً ماحِقة رغم الصداقة الجميلة بين راضية ونازلي. وقالت نازلي: حَذارِ أن تُغضِبي حماتك، إنها مُؤاخية للجان!
فقالت شكيرة: اعتمادي على الله وحده.
كذلك تبادلت كراهيةً مع عفَّت زوجة عامر ضاعفت ما بين آل عطا وآل داود من غيرةٍ ومُنافرة. ولمَّا رحل جيل الكبار تنفَّس حامد وتطاير سخطه في الهواء بلا ضابط، وانتهى الأمر بالطلاق. وقد كرهت شكيرة حامد وأهله كراهية عميقة لم تخف حِدَّتها أبدًا. وواظبت على لعنه وتشريحه حتى بعد موته. وفي وحدتها استغرقها التديُّن وحجَّت أكثر من مرة، وكانت تحرص على الفرائض من صلاةٍ وصوم وزكاة، كما تحرص على لعْنِ أعدائها والدُّعاء عليهم في الدنيا والآخرة.
شهيرة معاوية القليوبي
هي الابنة الثانية للشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، وُلِدت ونشأت ببيت الأُسرة القديم بسوق الزلط بباب الشعرية، وملعبهنَّ كان مدخل البيت ما بين الفرن والبئر وكنبة المعيشة، هو الذي جمع بين راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. وفيه سمعت وصايا الشيخ الأب، وجرت كلمات جليلة مُحملة بغيبيات العصور الخوالي. ومن بادئ الأمر لم تستجِب شهيرة للدين وفرائضه ولكنها استقبلت التراث الغيبي بحماسٍ وأضافت إليه من خيالها الكثير، وكانت تُشبه راضية جسمًا ووجهًا مع مَيل أكثر إلى البياض وتفوُّق في العُنف وسلاطة اللسان وتمادٍ في غرابة الأطوار التي تُماسُّ حافة الجنون. وعقب وفاة أبيها بعامَين خطبها أحد تلاميذه من قرَّاء القرآن الكريم، ذو صوتٍ عذبٍ ومنظرٍ وجيه ورزق موفور، فزُفَّت إليه في مسكنه بباب البحر غير بعيدٍ من بيت الأُسرة. وأنجبت منه ولدًا جميل الصورة، أسماه أبوه عبده تيمُّنًا باسم سي عبده الحامولي الذي كان مُولعًا بصوته. ومضت حياتها الزوجية في توفيقٍ رغم حدَّة طبعها وسلاطة لسانها، ولكن الشيخ علي بلال — الزوج — كان يُعلِّق على ذلك بدُعابة قائلًا: هذه توابل الحياة الزوجية.
وقد توطَّدَت مودَّته لعمرو أفندي وآله، وكلما زار بيت ميدان بيت القاضي رجاه عمرو أن يُبارك البيت بتلاوةٍ منه فيتربَّع في حُجرة الاستقبال عقب الغداء واحتساء القهوة ويقرأ ما تيسَّر من القرآن الكريم بصوته العذب، وأغراه صوته وأصدقاؤه بإنشاد المدائح النَّبوية في المواسم، فاتَّسع مجال رزقه وكثُر المُعجبون به حتى دُعِي لإحياء بعض الأفراح بإنشاد المدائح، وفي ذلك الجوِّ المُعبق بالأفراح، والليالي الملاح جُرَّتْ رِجلُه لتدخين الحشيش. وأخيرًا اقترح عليه أحد المُلحِّنين أن يتحوَّل إلى مُطربٍ مُتنبِّئًا له بمُستقبلٍ وردي، واستجاب للدعوة بقلبٍ طروب، ولم يجد بأسًا في هجر السُّوَر الشريفة ليُغني: «اوع تكلِّمني بابا جي ورايا.» و«ارخي الستار اللي في ريحنا.» و«الهف يا لا بف يا سمك مقلي.» ونجح في ذلك نجاحًا مرموقًا وسجل أسطواناتٍ راجت في السوق وأذاعت اسمه على الألسنة، وضرب عمرو أفندي كفًّا بكفٍّ وقال: يا للخسارة.
وبدأت شهيرة تخاف على مكانتها الزوجية من إغراءات الوسط الجديد فقالت له: تزوَّجتُك شيخًا مُباركًا فانقلبت إلى عالمة!
وثمل الرجل بنجاحه وصار واسطة العقد في كثيرٍ من جلسات الحشيش، ولم يتورَّع بعد ذلك عن مُعاقرة الخمر وتبخير بيته آخر الليل برائحتها الكريهة النفَّاذة مُذكِّرًا شهيرة بمأساة أخيها بليغ، فغطَّى صوتها على مُؤذِّن الفجر في زَجْرِه وسلقِهِ بِلِسانِها الحاد. ثُمَّ ترامى إليها أنه بدأ يُغازل العوالِم فانقضَّت عليه بوحشية فتحت له أبواب الجحيم على مصاريعها؛ فقرَّ عزْمُهُ على تطليقها، ولكنه قبل أن يُنفِّذ عزمه أفرط ليلةً في البلبعة فكبست على قلبه وأسلم الروح في مجلس أُنس وهو يُداعِب أوتار عوده. وأدَّت شهيرة طقوس الحزن بلا مشاركة وجدانية، وأجَّرَت البيت ودُكَّانَين أسفله، وحملت عبده راجِعةً إلى بيتها القديم لتُشارك أُمَّها وحدتها.
وقالت لها راضية: ليكن عبده لك قُرَّة عين.
ولكن عبده انخطف في حُمَّى كحلمٍ بعد أن عُرِفت أُمُّه في الحي بأُمِّ عبده، والتصق بها اللقب حتى آخر عهدها بالحياة. وولعت بتربية القطط، وكرَّست حياتها للعناية بها حتى ملأت عليها فراغ حياتها، وزحمت البيت القديم … وراحت تُؤكِّد أنها باتت خبيرةً بلُغتها وبالأرواح التي تسكن أجسادها، وأنها عن طريقهِنَّ تتَّصِل بعالَم الغيب. ووجدت في راضية خيرَ صديقةٍ لها، وكان اجتماعهما سواء في بيت القاضي أم في سوق الزلط تمهيدًا طبيعيًّا لعقد جلسةٍ غريبة تتبادل فيها الخبرات عن عوالم الجان والغيب وأبناء الأسرار الخفية، كانتا في ذلك قلبًا واحدًا وعقلًا واحدًا رغم سوء ظنِّ راضية بها واتِّهامها لها بحسدها على ذُرِّيتها وزواجها الموفق. واشتهرت في حي سوق الزلط بشخصيتها الغامضة المرهوبة ولسانها السليط، ولم يُعرف عنها أنها أدَّت فريضة، وكانت تجهر بإفطارها في رمضان وتقول: الواصل ليس في حاجةٍ إلى فريضة تُقرِّبه من الله.
ولمَّا رحلت أُمُّها غرقت في وحدتها وانغمست في دُنيا القطط حتى قمَّة رأسها الأشيب، وكان أخوها بليغ يتعهَّدها برعايته، ويدعوها لزيارة قصره المُنيف ولكنها كرهت زوجته بلا سبب، ولم تكن تُغادر القطط إلَّا لزيارة سيِّدي الشعراني أو زيارة راضية … وفي عام ١٩٤٧ أصابها وباء الكوليرا فنقلت إلى مستشفى الحميَّات بعد أن أوصت جارةً بالذهاب إلى راضية للعناية بالقطط. وماتت في المستشفى مُخلِّفةً حوالي أربعين قطةً وقطًّا. وبكى أبناء وبنات راضية الخالة التي كانت تُثير ضحكهم في حياتها.