حرف الصاد
صالح حامد عمرو
نشأ في سراي ميدان خيرت في الجناح المُخصص لحامد وشكيرة. وهو وأخته وحيدة يُمثِّلان أول جيلٍ للأحفاد في آل المراكيبي؛ ولذلك حظِيا بتكريمٍ خاص من الجدود والأخوال. وكانت الحديقة الكبيرة ملعبه وحلمه، أحبَّها في الربيع وهي تجود بأخلاط روائحها الزكية، كما أحبَّها في الشتاء إذا غسلتها مياه الأمطار النادرة. وارتبط بأُمِّه أكثر من أبيه لانشغال أبيه بعمله، وارتبط بها أكثر كلَّما لمس آثار مِحنتها مع أبيه، وكان قويَّ الجسم كأبيه حسَن الملامح كجدِّه، ولكن أُمَّه ربَّته تربيةً دينية أرستقراطية رفيعة فنشأ ذا ضميرٍ ومبادئ تقوى، وكان عنيدًا كأمِّه مما أضفى عليه شُبهة غباء هو في الحقيقة أبعد ما يكون عنه. وأكد ذلك تشدُّده في الحكم على الناس، بالقرآن والسنة، دون تسامُح أو لِين. وربما كان أبوه أولى ضحاياه رغم حُبِّ الرجل الشديد له، هو أيضًا كان يُحب أباه ولكنه رآه مُبتذلًا ووضعه في خانةٍ واحدة مع الخطأة والساقطين مع إيلائه حقَّه الكامل من البر والولاء. ولم يغب موقفه عن غريزة حامد، وشكا أمره إلى أخيه عامر قائلًا: شكيرة أنشأتهم على النفور منِّي.
ومن أجل ذلك قال عامر لصالح مرة: أنت رجل صالح يا صالح فلا تنسَ البرَّ بأبيك.
فقال صالح: ما أهملتُ له حقًّا أبدًا.
– لعلَّه لا يقنع بالرسميَّات.
فقال بصراحته الحادة: إنه يظلم ماما يا عمي.
وقرَّب ذلك الخلق بينه وبين سليم ابن عمته، مع فارقٍ وهو أن سليم كان يقرِن العاطفة بالعمل، أما صالح فكان يقول لنفسه: حسبي القلب، وهو أضعف الإيمان.
لذلك أحب الإخوان دون أن ينخرِط في سلكهم، وأدان ولاء آله — آل المراكيبي — للملِك كما أدان الأحزاب جميعًا، وبمتابعة الصراع الدائم بين والدَيه نفر نفورًا عامًّا من آل أبيه، آل عمرو وسرور، كما احتقر آل داود، وآمن مع أُمِّه بأنَّ جدَّتَه راضية ما هي إلا امرأة مخبولة! وبنجاحه المُتواصل في المدارس قال له حامد: عليك بالطب وأنت أهل لذلك!
ولكن شكيرة قالت: بل الزراعة ولك أرضي بعد ذلك تعمل بها.
وطابت له فكرة أُمِّه فلعنهما حامد في سِرِّه. وبعد تخرُّجه في الزراعة سافر إلى بني سويف مُصمِّمًا على خلق مزرعةٍ حديثة من أرض أمِّه التي ورثتها بعد وفاة جدِّه الجبار. وخطب إحدى قريبات جدَّتِه نازلي هانم وتُدعى جلفدان، وتوفر للعمل في الأرض بهمَّة عالية، كما ربَّى العجول وأقام مَنحلًا للعسل، وارتدى ملابس أعيان الريف. ولم يكن يرتدي البدلة إلا حين زيارة القاهرة. ولمَّا قامت ثورة يوليو عاداها بقلبه رغم أنها لم تمسَّهُ بسوء، ورغم أنه وجد خالَيه عبده وماهر من رجالها. وفي عهد الانفتاح اتسع رزقه وكثرت ذُريته وظلَّ على ولائه لمبادئه، وازداد استياءً من أبيه بعد تطليقه أُمَّه وزواجه الثاني، ولكنه لم يخلُ من حزن صادقٍ لدى وفاته. وتأقلم بالريف وأحبَّهُ وعشق عمله ونجاحه وأصبح يُطلِق على القاهرة «مدينة العذاب».
صدرية عمرو عزيز
قيل عنها بحق: نحلة آل عمرو. كالآخرين وُلدت ونشأت في البيت القديم بميدان بيت القاضي، بلونٍ ضارب لسُمرة أعمق، وقامةٍ أمْيَل للقِصَر، وجسم نحيل حسن التكوين، وقسمات مقبولة، استُقبلت بفرحةٍ يشوبها فتور إذ انعقد الأمل بمولد ولَد، ولكنها بحُكم سنِّها مارست الأمومة لإخوتها وأخواتها منذ الصبا. وكانت نجية أمِّها ووريثة تراثها، ولم تخلُ أيضًا من قدْر من الدِّين الصحيح. أما براعتها في فنون البيت من طهيٍ وتنظيف وشغل الإبرة فكان مضرب الأمثال، وتعلمت في الكتَّاب أشياء وفكَّت الخط ولو أنها رُدت إلى الأمية لعدم الاستعمال. ولم تكن تكفُّ عن العمل ولا عن الغناء رغم أنها لم تُرزق أي ميزةٍ في حنجرتها، تُرى في المطبخ مساعِدةً لأُمِّها أو حالَّةً محلَّها، أو جالسة إلى ماكينة الخياطة، أو فوق السطح تتفقَّد أحوال الدجاج والأرانب. وعندما اكتظ البيت بعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم، لعبت دورَ نائبة الأم وأسهمت في اللعب والسرور والصراخ والعراك وتفوَّقت في كلٍّ. وقد اكتسبت منزلة لم يُشاركها فيها أحد، وحافظت عليها حتى آخر العمر، وقاسمت الجميع همومهم رغم ثقل همومها، وآمنت بأمِّها واعتبرتها من صاحبات الكرامات. وما كادت تبلغ الخامسة عشرة حتى تقدَّم لطلَب يدِها صعيدي من الأعيان يُدعى حمادة القناوي فتحقَّق الحلم الذي راودها منذ جاوزت العاشرة! وكان ذهابها يُمثل أول فراق في الأُسرة وأول فرح لها. وكان حمادة من معارف عمرو، وكان من عشَّاق القاهرة فأقام بها مع أُمِّه — عقب وفاة أبيه — مؤجِّرًا أرضه البالِغة ثلاثين فدانًا لعمِّه في قنا. وقد زارت رشوانة وراضية وزينب حرم سرور بيتَ الرجل بدرب القزازين، وقالت رشوانة لأخيها عمرو: أمُّ حمادة امرأة تقيَّة لا تفوتها فريضة.
وفي مجلسٍ ببيت عمرو جمع بينَه وبين سرور ومحمود بك عطا قال سرور أفندي: العريس عاطل لا عمل له وهذا شيءٌ رديء.
فقال عمرو: إنه يملك ثلاثينَ فدَّانًا.
فقال سرور بغروره الخاوي: ولو … إنه لا يكاد يفك الخط.
فقال محمود عطا: قيمة الرجل في ماله.
وقال عمرو: وأُسرته محافظة طيبة.
وارتاحت صدرية إلى منظره ذي الطول والقوة، وأناقة جُبته وقفطانه، ورجولة ملامحه، كما تراءى لها من وراء خصاص المشربية. وزُفَّت إليه في بيتٍ اكتراه في خان جعفر من أملاك الدهل الحلواني. وقد أهداها محمود عطا حجرة الاستقبال كما أهداها أحمد بك عطا حُلِيًّا وثيابًا، وأهداها عبد العظيم داود ثوب العرس. وبدأت صدرية حياتها الزوجية مع حمادة القناوي مُعتمدةً على وصايا أُمها وبركاتها ومهارتها الفائقة كستِّ بيت. وكان حمادة مشكلة متعددة الأطراف. أجل تبادلا استجابةً مفعمة بالمودة، وشعر كلاهما بأنه في حاجةٍ متينة إلى الآخر، ولكن صدرية كانت ذات حساسية وحدَّة في الطبع والعناد لا يُستهان به، وكان الرجل ثرثارًا ضيق الذهن مُحبًّا للفخر والسيطرة، وهيَّأ له فراغه غير المحدود التدخُّل فيما يعنيه وما لا يعنيه. لم تعتد أنَّ رجلًا يغطُّ في نومه حتى الضحى، ويستيقظ فيوقف نشاطها المنزلي ليُحدِّثها حديثًا لا أول له ولا آخر عن أُسرته وأمجادها وأمجاده هو الخيالية، ويُلاحِقها بملاحظاته الغبيَّة عن عملِها الذي لا يفقه فيه شيئًا. ولم يكن يعرف من دِينه إلَّا اسمه، فلا يُصلي ولا يصوم، ولا تكاد تمضي ليلة دون أن يسهر في البارزيانا فيشرب النبيذ ويتعشَّى بالمزة. لم يَكُفَّا عن الزوجية والإنجاب؛ فأنجبت له «نهاد وعقل ووردة ودلال» ولم ينقطِعا عن الجدل العقيم، فيُفاخر بأُسرته من الملَّاك، وتُساق إلى المفاخرة بآل عطا وداود والشيخ معاوية بطل الثورة العرابية، وأحيانًا تحتدُّ المناقشة فيتبادلان أقسى الكلمات.
وكانت صدرية حريصةً على كتم بخار حلتها تحت غطائها المُحكم، وعلى حلِّ مشاكلها بنفسها دون إشراك أهلها فيها. ولكن راضية كانت تفطن إلى أشياء بوحي غريزتها، وأيضًا بما لمسته في الرجل من ثرثرة مُوجعة للرأس. وقالت لابنتها: الزوجة يجب أن تكون طبيبة!
فقالت صدرية: عليك بزيارة الأضرحة المفيدة لهذه الحال.
فقالت راضية: وما جدوى زيارة الأضرحة في هذه الحال؟ … العلاج الناجع في قطع لسانه!
والواقع أن أذى ثرثرته لم يقتصِر على زوجته ولكنه جاوزها — بزياراته — إلى آل عمرو وسرور والمراكيبي وداود حتى صار نادرةً في الأسرة كلها. وتبيَّن لها بعد ذلك أن عينه لا تعرف الحياء، فهي تمتدُّ إلى أي امرأةٍ جميلة ذاهبة أو آئبة فتُنغِّص عليها صفوها أكثر وأكثر. وتسأله مُستنكرةً: أليس عندك حياء؟
فيقول ساخرًا: لا ضرر من النظر.
ولكنها ضبطت إشاراتٍ مُتبادلة بينه وبين أرملة حسناء تُقيم في البيت المُواجِه لها. واشتعلت بها نار طيَّرَت النوم من عينَيها فظلَّت مُتيقِّظة حتى ميعاد عودته من سهرة البارزيانا. وغادرت بيتها إلى الطريق مُتلفِّعةً بالظلام وبيدِها وعاء مملوء بالماء، وجاء الرجل يشق الظلماء فأحسَّت بباب بيت الأرملة وهو يُفتَح وشبحها يتخايل في مدخله، وتوقف الرجل، ثم مال نحوها، وتقدَّمَت هي بسرعة إلى منتصف الطريق وقذفت بالماء على شبح المرأة فصرخت وتهاوت في الداخل. وذُهل الرجل ونظر نحوها مُتسائلًا: من؟
فقالت بصوت مُحتدِم: إلى بيتك يا قليل الحياء.
وكان تلك الليلة يترنَّح. ودخل صامتًا، وهتف غاضبًا: سأُثبت لك أني رجل مُتوحِّش عند اللزوم.
ولكن الضحك غلبَهُ في سُكره فارتمى على الكنبة وهو يقول: أنت امرأة مجنونة مثل أُمك!
وخاصمَتْهُ زمنًا، ثم رجعا إلى المُعاشرة والمناقرة، ولم يحسم الأمر بينهما إلا المرض؛ أصابه ضغط دم أثَّر في سلامة قلبه فاضطر إلى الامتناع عن الشُّرب وحل به خمولٌ عام يُشبِه — في بعض مظاهره — الحكمة. ووفدت الأحزان، ففقدت صدرية ابنتها وردة في عزِّ شبابها، ثُم أباها، وأختها مطرية، وأخيرًا مات حمادة وهو في زيارة لأهله في قنا، وبقيت صدرية وحيدةً في خان جعفر رافضةً الانتقال إلى بيت ابنها عقل رغم برِّه الشديد بها، ولمَّا شعرت راضية بتدهور صحتها قالت لصدرية: أريد أن تكوني إلى جانبي حتى تغمضي عينيَّ.
فأغلقت بيتها راجعة إلى البيت الذي شهد مولدها لتكون إلى جانب الأم التي فضلتها على الجميع؛ كانت الأم قد جاوزت المائة بسنواتٍ والابنة قد اقتربت من التِّسعين رغم تماسُكِها ونشاطها. وتقضَّت تلك الأيام الأخيرة في حومة الذكريات، وردَّدتِ الأم أُغنيةً كانت تُردِّدها في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر ثُم أسلمت الروح، فأغمضت صدرية عينيها وهي تود أن تبكي فلا تستطيع.
صديقة معاوية القليوبي
ثالثة بنات الشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، وجاء مولدها بالبيت القديم بسوق الزلط بعد سجن الشيخ بنصف عام، وفاقت شقيقتيها راضية وشهيرة بجمالها، بل كانت بوجهها المائل للبياض وخدَّيها الموردتَين وقسماتها المُتناسقة وشعرها الأسود الغزير وقدِّها الطري الرشيق مثالًا للحُسن بغير مُنازع في الحي كله، ولم يفُقْها في الأسرة سوى مطرية بنت عمرو وراضية التي شابهتها في الأصول وتجاوزتها في الخفة والتهذيب. وكانت الوحيدة التي لم تنَلْ حظَّها من تربية الشيخ الدينية، فنشأت ثمرة خالصة لتراث جليلة، مع عذوبة في المعاملة وحُبٍّ للغناء تُزكيه حنجرة لا تخلو من جودة في الأداء؛ ولجمالها وعذوبتها حظيت بأكبر قسطٍ من حُب أبناء راضية وبناتها، وتقدَّم لها بعد وفاة أبيها بأعوام وبعد زواج شهيرة بعامٍ واحد طبيب أسنان شامي من سكان الحيِّ فزُفَّت إليه، وأقاما في عمارة جديدة بالفجالة. وسرعان ما دهمتها الخطوب فمات زوجها قبل أن تحبل، ومرضت بالسل، ورجعت إلى حضن جليلة تنشُد الأُنس والشفاء. واهتزَّت قلوب الأُسرة لفجيعتها، وذوى جمالها وتغيَّر حالها وتكالبت عليها الآلام دون أي أملٍ في الشفاء، وشعرت بأنها تنحدِر نحو الهاوية، وضاقت باليأس والألم والأرق والسُّعال، وفي لحظة يأسٍ مُدلهمَّة رمت بنفسها في البئر. وصوَّتت جليلة فهُرع إليها أهل النجدة من الجيران، وانتشلوا صديقة وهي في الرمق الأخير. وقضت ساعات عذابٍ من ليل طويل محموم، يُحيط بها أُمُّها وأختاها راضية وشهيرة، وقد اكتظ المدخل بالرجال من الأسرة والجيران، وفاضت روحها بعد نضالٍ مُعذب قبيل الفجر، وهي في عز الشباب واليأس والألم. وحزنت جليلة عليها طويلًا، وأمرت بتغطية البئر بغطاءٍ متين من الخشب والاستغناء عنها كلية. وكانت تحلم بها من حينٍ لآخر وقالت مرة لراضية: في ليلة سيدي الشعراني رأيتُ صديقة على مقربةٍ من البئر واقفة في سحابة بيضاء مُشرقة الوجه بابتسامة.
فصدقتها راضية بإيمان عميق وسألتها: هل حدثتك يا أمي؟
فقالت جليلة: سألتها عن حالها فقالت لي: إن الله غفر لها انتحارها، وإنها تُخبرني بذلك ليطمئنَّ قلبي.
فهتفت راضية: الحمد لله الرحمن الرحيم.
فقالت جليلة: رأيتها في غايةٍ من الجمال كالأيام الماضية.
صفاء حسين قابيل
هي الثانية في ذُرية سميرة وحسين قابيل، وُلدت ونشأت في بيت ابن خلدون، ورضعت في مهدها اليُسر والهناء مُستظلة بأيام العز والهناء وخمائل حديقة الظاهر بيبرس. ومع أن جميع أبناء سميرة عُرفوا بالجمال والصحة والنجابة؛ فإن صفاء كانت أوفرهنَّ جمالًا ومرحًا. كم لاعبت جدتها راضية ورقصت بين يدَيها ونفثت حرارتها الزكية في كل مكانٍ تحلُّ فيه. ونمت بسيطةً ومتسامحة، تحبُّ الحياة أكثر من المبادئ التي توزَّعت إخوتها وأخواتها. وهام بها حسين قابيل هيامًا واعتدها تحفة أجمل من جميع التحف التي يتاجِر بها. ومضت في الدراسة بنجاحٍ حسن، والتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ومات حسين قابيل تاركًا في قلبها جرحًا عميقًا، وشعرت بعناء أمها وهي تعدُّ الأسرة لمستوًى جديدٍ من المعيشة، فخيَّم على مرحها ظلام أشدُّ من ظلام ليالي الحرب والغارات. وتلاقت في تجوالها بشباب الأُسرة ما بين آل سرور، والمراكيبي، وداود، ولكن شاكر ابن خالها عامر كان الذي ألقى عليها شباك اهتمامه وإعجابه؛ كان طالبًا بالطب فأمكنهما أن يلتقِيا كثيرًا بعيدًا عن تقاليد الأسرة، وبلغ قلبها فطامه على يديه، فاعتقدت بأنه فتى المستقبل المأمول لإسعادها. ولم يغب عنها حرصه على إحاطة علاقتهما بالسِّرية، ولم تُدرك لذلك مغزًى، فسألته مرة: ممَّ تخاف؟
فأجاب بصراحةٍ وسخط: ماما!
فعجبت لشأنه وشأنها وحدست أنه ليس الرجل كما ينبغي له. ورجعت ذات يوم من كليتها فوجدت أمَّها واجمةً مُتجهمة فأدركت لسابق معرفتها بقوة انضباطها أن حدثًا قد حدث.
وقالت سميرة باستياء: عفَّت زوجة خالك!
وخنق قلبها وشعرت بتلاشي أملِها. وقالت سميرة: صارحتني بلا حياءٍ بأن عليَّ أن أمنعك عن ابنها.
فهتفت صفاء بغضب: ولكني لا أُطارده.
فقالت سميرة بأسًى: أغلِقي هذا الباب بالضبة والمفتاح.
أجل. لا مفرَّ من ذلك. ولا نجاة من الألم، ولكن لماذا؟ وواصلت سميرة: ينظرون إلينا من فوق، وقديمًا حصل ذلك مع خالتك مطرية!
تساءلت بحنق: كيف يتصوَّرون أنفسهم؟!
– ما علينا، أريد أن أطمئن عليك.
فقالت باستهانة: اطمئني تمامًا.
وقد تجرَّعَت ألمًا ومهانة ولكنها لم تخلُ من بعض سجايا أمِّها الفريدة، وهي القُدرة على التصدِّي للكوارث. وانقطعت العلاقة مشفوعةً بالازدراء. وتخرَّجت، وتعيَّنت مترجمة إدارة الجامعة بوساطة الأكابر من أهل أمِّها! ورآها السكرتير المساعد للإدارة فرغب في الزواج منها؛ كان يكبُرها بحوالي عشرين عامًا ولكنه ذو درجةٍ عالية ودخلٍ لا بأس به، ووزنت العرض فوجدَتْهُ مناسبًا لحالها تمامًا، وتبين لها أنها «عملية» أكثر مما ظنَّت. وزُفَّت إلى صبري بك القاضي بفيلته بحدائق القبة. ووهبتها حياتها الجديدة ما تُحبُّ من عيشة رغدة وزوج مُحب كريم وأمومة قنعت بولدَين علي وعمرو. ولمَّا قامت ثورة يوليو لعبت بأُسرتها كما شاءت فرفعت شقيقها حكيم وضيَّعت سليم، ومن حُسن حظِّها هي أنَّ صبري القاضي كان قريبًا لضابطٍ مُهم فترقَّى في مدةٍ قصيرة حتى شغل وظيفة وكيل وزارة التربية، وأُحيل إلى المعاش لبلوغه السن، ولكنه دفعها مرات حتى وصلت إلى درجة مدير عام. وأشرفت بنفسها على تربية علي وعمرو حتى التحقا بالسلك السياسي. هكذا تألق هذا الفرع في عقد البيروقراطية الماسي ونجا من شرِّ العواصف.