حرف العين
عامر عمرو عزيز
أول هدية من عالَم الغيب تغمر قلبَي عمرو وراضية بالفرحة والرضا والفخر، وتؤكد الحقيقة التي يؤمن بها ميدان بيت القاضي وهي أن ليس الذكر كالأُنثى. وجاء مشرقًا بوجهٍ مليح، يقتبس ملاحته من خير ما حظيت به راضية من استقامة الأنف وعلوِّ الجبهة، وما ستُعرف به سميرة فيما بعدُ من دقة القسمات وتناسُقها، ومن أبيه أخذ هدوء الطبع والتقوى ونزعة القيادة والرعاية. طالما جمع أخواته فوق السطح ليقوم بينهنَّ بدور شيخ الكتَّاب، وبيده عصًا منعه من استعمالها الحياء والعذوبة. ونشأ نظيفًا أنيقًا يطوف بالأحياء باسمًا متأمِّلًا ويتربع أمام ضريح الحسين لاهجًا بالدعاء، ونجح دائمًا في كسب الأصدقاء من الجيران، من طبقته ومن الطبقة الأعلى. ولم يستطع الأدنَون أن يتحرَّشوا به أبدًا، وفاز بالحظوة أيضًا في سراي ميدان خيرت وعند آل داود. وشقَّ طريقه التعليمي بالنجاح وتفوَّق في العلوم والرياضة، وبفضل كُبراء الأسرة نال امتياز المجانية فتخفَّف أبوه من عبءٍ لم يكن ليتحمَّله وهو في حَومة تزويج صدرية ومطرية وسميرة … ومنذ صباه حدث المَيل المتبادل بينه وبين عفَّت بنت عبد العظيم باشا داود. حدث فوق السطح في ظلِّ الغسيل المنشور، ونما مع الأيام والزيارات المتبادلة حتى صار حبًّا وحلمًا للمستقبل. وكانت تلك الأمور تقع سرًّا ولكن رائحتها تفوح كالوردة، وانتصر الحُب أول ما انتصر على البنت المُترفعة التي كانت تنظُر إلى أُسرته من علٍ، كأن الله لم يخلق للنُّبل إلَّا أُسرتها. وقالت فريدة هانم حسان لعبد العظيم باشا: نحن نُربي بناتنا في المدارس الإفرنجية ليكنَّ صالحاتٍ لطبيب أو وكيل نيابة من أُسرة.
فقال الباشا: عمرو ابن عمي ولا أعدل به أحدًا.
وكانت الهانم تُشاركه عواطفه، وتُحب راضية، وتحب عامرًا بصفةٍ خاصة فسرعان ما استجابت. وسُرَّ عمرو وراضية بذلك، وكان عمرو تيَّاها فخورًا بأقاربه العظام فاعتبر ارتباطه بهم بالمصاهرة فوزًا كبيرًا. وكان محمود عطا بك يفكر في عامر كزوجٍ لشكيرة، فلمَّا سقط الفتى في أيدي مُنافسيه قال لعمرو: سيكون حامد لشكيرة.
وتمَّت بذلك سعادة عمرو، الأمر الذي عرَّضَه لملامة شقيقه سرور، فأخذ عليه تجاهله لبناته، ودافع عمرو عن موقفه مُتعلِّلًا بجمال بنات أخيه اللاتي لا يُخشى عليهن من البوار، وبفقر أولاده الذين في حاجةٍ إلى دعامة. فقال سرور بمرارة: إنهم يَضنُّون عليك بالذكور.
فتألَّم عمرو، ولكنه قال مستوحيًا طبيعته المتواضعة: رحم الله امرأً عرف قدْر نفسه.
فقال سرور وهو يُداري غضبه: أصبحت يا أخي درويشًا لا تغضب!
وودَّ عامر أن يلتحِق بمدرسة الطب معتمدًا على تفوُّقه العلمي، ليكون أهلًا بكل معنى الكلمة لعفَّت، ولكنَّ أباه اختار له مدرسة المعلمين لامتيازها بالمجانية، قائلًا لابنه المحبوب: المجانية في الطب مُتعذِّرة، والعين بصيرة واليد قصيرة.
وكان عامر مثالًا في الطاعة والتجاوب مع الحقائق مهما تكن مرارتها، فقال لأبيه متظاهرًا بالرضا: المعلمين مدرسة عُليا على أي حال.
وتسامحت عفَّت وآلها، وقالت عفَّت لنفسها إن مُعلمًا تُحبه خير من طبيب لا تُحبه. وهضم عامر خيبة أمله العسيرة ومضى في طريقه مُكللًا بالنجاح والرضا. ولما قامت ثورة ١٩١٩ دخل معبدها مع أُسرته، واشترك في المظاهرات، من قلبه الصافي يحيا سعد. وكان في السنة النهائية فسرعان ما ابتعد عن النشاط المباشر بممارسة حياته العملية. وقد اتفق على الزواج بعد عامٍ واحد من ذلك التاريخ. أصبح ضيفًا في أسرته التي لم يُخلِّف في صدور أبنائها إلا كل طيب، باستثناء المشاحنات التي كانت تقوم بينه وبين أخيه حامد بسبب طبيعة حامد المتمردة وسلوكه الجامح … وكم بذلت راضية من تعاويذها وتمائمها لطرد روح الشر من بين الشقيقين، ولكن ما إن بدآ حياتهما العملية حتى حلَّ الصفاء مكان الكدَر. وكان عبد العظيم داود قد شيَّد لابنته بيتًا في بين الجناين، دخلته الكهرباء والماء والمجاري، وتحلَّى في خلفيته بحديقةٍ صغيرة، فانتقل عامر مع عروسه المُتفرنجة إلى البيت الجديد ليستهلَّ حياةً زوجية سعيدة طويلة. وقد هزَّ الزواج أسرة آل عمرو من أول يوم. وضح تماما أن العروس الجديدة من طرازٍ مُخالف لأخوات عامر، فهي مُتخرجة في الميردي دييه، ترطن بأكثر من لغة، وتتقن اللعب بالبيانو، وتعرف معلومات عن فرنسا وتاريخها وديانتها ولا تكاد تعرف شيئًا عن بلدها تاريخًا أو عقيدة، وتُفاخر بذلك دون خفاء، برغم تفشِّي الروح التي أطلقتها الثورة الوطنية. وكانت ذات شخصية قوية متسلطة فالتهمت شخصية زوجها الوديعة الدمثة، فلم يجرؤ الشاب على تذكيرها بأنَّ الصَّوم واجب في رمضان، وصام وحدَه معتمدًا على نفسه في إعداد سحوره، وإلى ذلك فقد بُهِر برطانتها ومهارتها في العزف. ولما خرج العدليون على سعد زغلول وجد عامر نفسه غريبًا في آل داود، وتجنَّب تكدير الصفو بالدفاع عن وفديته الكامنة فطواها في صدره. ولم تكن عفَّت تهتمُّ بالسياسة أي اهتمام جدي، ولكنها جارت أباها تعصُّبًا له ليس إلا، وكانت تقول لزوجها: لا وجه للمقارنة بين عدلي باشا النبيل وبين زعيمك الأزهري!
فيبتسِم عامر مُتحاشِيًا الجدل، ومرةً سأله عبد العظيم داود: هل تعتقد حقًّا أننا نستطيع تحمُّل أعباء الاستقلال؟
فتساءل عامر: لِمَ لا؟
فأجاب الرجل: حسبنا استقلال ذاتي ولكننا بدون حماية الإنجليز نضيع بلا رحمة.
أيضًا فإن راضية غضبت من تعالي عفت واستسلام عامر رغم صداقتها الوطيدة مع فريدة هانم، ورغم إعجابها بجمال عفت، وقالت لابنها: الرجل يجب أن يكون سيدًا في بيته.
وقالت لعمرو: عفَّت تتوهَّم أنها أميرة.
فقال لها الرجل: لا تُحرِّضي على ما يفسد سعادته.
واقتنعت بذلك آخِر الأمر، خاصة بعد أن أنجبت عفَّت شاكر وقدري وفايد الذين أحبَّتْهُم راضية بمجامع قلبها. واستوعب الحُب المكين كافة التناقُضات، واستوت زيجة عامر وعفَّت مثلًا نادرًا في الزيجات المُوفَّقة. زواج لم يعرف الملل أو الانتكاس أو الفكر وأثار الغيرة والحسد، قال حامد عنه: سِرُّ سعادة أخي أنه ذاب في إرادة زوجته، يا له من ثمن.
وعلى عادة سرور أفندي في النقد المُرِّ قال يومًا لزينب زوجته: لقد تزوَّج حامد برجل كما تزوجت عفت بامرأة.
ووُفِّق عامر في حياته المهنية توفيقه في حياته الزوجية، فكان من أحبِّ المُعلمين إلى تلاميذه وأعظمهم تأثيرًا فيهم، ومن القلة التي تعيش ذكراها مع الأجيال التي تُربِّيها حتى آخر العمر. وقد انتفع بذلك في زيادة إيراده بفضل الدروس الخصوصية، وفي تذليل كثيرٍ من الصعوبات بفضل ذوي النفوذ من تلاميذه السابقين، أما أعلى درجة سجَّلَها حظه فقد حدثت بعد قيام ثورة يوليو ووجدان اثنَين من تلاميذه في مجلس قيادة ثورتها. أما عفَّت فقد مَقَتت الثورة لإلغائها باشوية شقيقها ولم تغفر لها استهانتها بالمِهَن الرفيعة كالطب والقضاء، ولكن عامر شعر بأنه — بفضل تلميذَيه — من رجالها رغم وفدِيَّته المكبوتة بين جدران آل داود. ولم تكن سعادة عامر بأبنائه دون سعادته بزواجه. لتفوُّقِهم ونجاحهم، ولكنهم أحدثوا له ولأُمِّهم متاعب، لم تجْرِ لهم على بال، سواء كان ذلك بسبب السلوك الشخصي أم بسبب السياسة، ثم عرف كل أمرٍ مُستقرَّه، واستقبل عامر حياة معاش امتدَّ ربع قرنٍ في بيتٍ صار مثالًا لرفقة الشيخوخة كما كان مثالًا لسعادة الحب. وحافظ الرجل على صحته وحيويته، يقرأ الصحف والمجلات، ويسمع الأغاني، ويشاهد التلفزيون، ولتفوُّقه في الصحة وتدهور زوجته راح يُقدِّم لها الخدمات ويُشرف بنفسه على الخادم والطاهية، ويُلاعب الأحفاد، أو يَخِزُه الحنين فيمضي مع أحد أبنائه في سيارته إلى الحي العتيق، فيزور البيت القديم حيث يُقيم قاسم، ويُصلي في الحسين، ويجلس ساعةً في الفيشاوي، ويتناول غداءه عند الدهَّان، ثم يرجع إلى بين الجناين مُنتشيًا مغرِّد الروح. وعاش حتى قارب التسعين، فطرب لأمجاد يوليو، وانكوى بخمسة يونيو، وأفاق في ١٥ مايو، وطرب مرة أخرى في ٦ أكتوبر المُجلجلة، وانقبض في ٦ أكتوبر الدامية، وفارق الدنيا بهدوء يُغبط عليه كختامٍ حسن. استيقظ صباحًا في ميعاده، مضى إلى المطبخ ليُعِد الشاي لنفسه ولعفَّت، وعاد به ليحسواه في الفراش ولما فرغ من قدحه قال: قلبي ليس على ما يُرام.
واستلقى على ظهره ليستريح، وسرعان ما مال رأسه على الوسادة وكأنما قد غفا.
عبد العظيم داود يزيد
الابن الوحيد الذي بقي من ذُرية داود باشا وسنية الوراق، نشأ في بيت السيدة، وتلقَّى تربية رفيعة من أم هانم وأب يُعتبر من الرجال المعدودين في عصره. ومنذ صغره خالط أهله في الحي العتيق، وأحبَّ بصفةٍ خاصة ابن عمِّه عمرو، ولكنه خالط أيضًا نوعًا آخر من البشر هم الأجانب من أقران أبيه الذين كثيرًا ما تناولوا عشاءهم على مائدته وتبادلوا الأنخاب. تقلَّب بين التراث والمعاصرة ولكن الدِّين لم يلعب في حياته عُشر معشار دوره في حياة صديق روحه عمرو. وكان نحيلًا أسمر وسيم الطلعة كبير الرأس راجح العقل كبير الطموح. وشقَّ طريقه الدراسي بتفوُّقٍ ثم التحق بكلية الحقوق. كان أملُ أبيه أن يجعل منه طبيبًا ولكنه عشق البلاغة والآداب وتخصَّص في القانون المُناسب لأمثاله من أبناء الكُبَراء. وتعيَّن في النيابة دون حاجةٍ إلى وساطة أبيه العظيم، واستحق من أول يومٍ احترام رؤسائه وخاصة الإنجليز. ولعلَّه أول من اختار زوجةً برؤية عينَيه في أُسرته. لمح فريدة في حنطور الأسرة، فسرَّه لونها الأبيض وقسماتها الأنيقة، ثم عرف اسم الأسرة. وذهبت سنية الوراق وراضية ورشوانة لزيارة الأسرة الكريمة، ورفع التقرير عنها. وكان حسام تاجر حرير سوريًّا وذا مال، وزُفَّت إليه فريدة في فيلا شارع السرايات مصطحبة معها جمالًا جديدًا ومالًا واستعدادًا طيبًا للمعاشرة الزوجية. وأنجبت له مع الأيام لُطفي وغسَّان وحليم وفهيمة وعفَّت. وكان عبد العظيم مُمتازًا في عمله وذا اهتمامٍ بالسياسة. وكان من أنصار حزب الأمة، وصديقًا لبعض رجاله المُبرِّزين ومِمَّن يؤمنون بتهريج الحزب الوطني. وتوهَّج فؤاده بالحماس لثورة ١٩١٩، ولكن ما إن انقسمت الجبهة حتى مال بعقله وقلبه إلى عدلي يكن وصحْبِهِ. وكان يرمق انزعاج ابن عمه عمرو مُقهقِهًا ويقول: سحرَكَ المُهرج الكبير.
فيقول عمرو: إنه زعيم الأمة وأملها.
كان عمرو يشعر بدفء الرابطة بينه وبين عبد العظيم عندما يزوره هذا في بيت القاضي، أما إذا ذهب عمرو إلى فيلَّا السرايات فتواتيه غُربة في الجو «الإفرنجي» الذي يسود السلوك والعادات، من ذلك أن عبد العظيم باشا كان يفتح شهيته عادةً بكأسَين من الويسكي، أو يخاطب كريمتَيه فهيمة وعفَّت أحيانًا بالفرنسية! وكان محمود عطا المراكيبي يتودَّد إلى الباشا ويُحب أن يوثِّق علاقته به رغم المنافسة الخفية بين الأُسرتَين. والحق أن عبد العظيم باشا لم يكن يميل إليه، ولكنه تبادل معه الزيارة إكرامًا لابن عمِّه عمرو. وقد أراد محمود بك أن يستعين بنفوذه في إحدى قضاياه الكثيرة فقطَّب عبد العظيم وقال بوضوح: الظاهر أنه لا فكرة لك عن نزاهة القضاء.
وكان محمود بك يؤمن — بوحي حياته العملية — بأن الشعار شيء والواقع شيء آخر، فصدمه جفاء صاحبه ولعنَهُ في سرِّه. ولكنه وجد نفسه معه في جبهةٍ واحدة بعد الانقسام السياسي. وأراد أن يُهوِّن من شأن الخلاف فقال: الولاء للملك أو الإنجليز سيَّان.
فقال عبد العظيم باشا: لا ولاء للإنجليز ولكنها صداقة.
– أليس الملك أفضل؟
– الملك ذو ولاء للإنجليز ونحن دُعاة الدستور.
– ولكن الدستور سيسلِّم الحُكم لسعد.
– ولعله وهْم.
– إنه يسحر الناس بدعوة الاستقلال التام، وبهذه المناسبة، ما رأيك في هذه الدعوة؟!
فقال الرجل وهو يهز رأسه الكبير: المجانين لا يعرفون معنى الاستقلال، الاستقلال مسئولية ضخمة، من أين لنا الإنفاق على الدفاع؟!
أليس الأفضل أن نترك ذلك للإنجليز ونتفرَّغ لإصلاح أحوالنا؟
فقال محمود بك بحرارة: صدقت، واستقلال زغلول خليق بأن يقود إلى ثورة عرابية جديدة.
وقد حقَّق لطفي البكري لأبيه أملَه بخلاف غسَّان وحليم ولكن عبد العظيم يُعتبَر بصفةٍ عامة أبًا سعيدًا. وكاد لطفي ينحرِف عندما مال إلى مطرية بنت عمرو ولكن الله سلَّم، وإن أسف عبد العظيم على موقفه من ابنة حبيبه عمرو. وَوُلِّيَ مع الأيام مناصب قضائية عظيمة ثُم أُحيل إلى المعاش وهو رئيس لمحكمة الاستئناف العُليا. ولقوة حيويته عمل مُحاميًا حتى الخمسينيات، ثم تقاعد بعد أن طعن في السن. ولم يقعد عن الحركة فكان يذهب كل مساءٍ إلى مقهى لونابارك ليلعب الطاولة مع المُعمِّرين من جيله. ولمَّا قامت ثورة يوليو كان قد توغَّل في الشيخوخة للدرجة التي يهون معها الاهتمام بالأشياء. وأصابه التهابٌ حادٌّ في البروستاتا فنُقل إلى المستشفى ولكنه أسلم الروح بعد يومَين.
عبده محمود عطا المراكيبي
وُلِد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وهو الثالث في ذُرية محمود بك ونازلي هانم، واتَّسم منذ صِغره بالوسامة والنجابة. وتربَّى في أحضان العز، وتلقَّن مبادئ الأخلاق والتهذيب والتديُّن على يدِ أمِّه الجميلة المُهذبة، ونما نَفورًا من الاختلاط بصفةٍ عامة؛ فعرف أهله من آل عمرو وسرور ورشوانة، ولكنه لم يتَّخِذ صديقًا منهم. وأُغرم بالرياضة وتفوَّق خاصة في السباحة، وعشق المُطالعة، وشقَّ طريقه في المدارس بتفوُّق أهله للالتحاق بكلية الهندسة. ولمَّا تخرَّج التحق بسلاح المهندسين بالجيش بعد المعاهدة. وبدأ يخرج عن خطِّ الأُسرة السياسي فلم يتشيَّع للملك كأبيه وعمه، ولكنه انضمَّ إلى الجيل القلق الغاضب على الجميع والمُتطلِّع إلى الجديد مثل قريبه حكيم حسين قابيل. واقترحت عليه أمُّه الزواج من آل الماوردي وهم أُسرة إقطاعية، فتزوج، واستأجر لعروسه شقةً أنيقة في الزمالك، غير أن ذلك الزواج لم يُنجب ولم يوفق، ولعلَّ فائدته الوحيدة انحصرت في تعريفه بنفسه وأبعادها. تبيَّن له أنه رغم يُسره لا يطيق الإنفاق ويتألَّم لبذل قرشٍ واحد في غير موضعه ودون حسابٍ وتخطيط. وكانت جولستان من مُحبَّات البذخ والحياة الاجتماعية والتباهي بكافة جماليَّات المظاهر المُبهرة، فعجز كل طرفٍ عن النزوع عن شيءٍ من تقاليده وعاداته، فارتطما في عنفٍ جعل من حياتهما جحيمًا لا يُطاق. وقالت له الفتاة بصراحة: لم نُخلق لحياةٍ مشتركة.
فقال لها مُتلمِّسًا طريقه للنجاة: أوافق على ذلك دون قيدٍ أو شرط!
وهجرت بيت الزوجية انتظارًا للطلاق، ودُرست المسألة على أعلى المستويات، فوجد عبده من والدَيه تأييدًا لموقفه أو على الأقل مُعارضة صريحة لأسلوب جولستان في الحياة. وقال محمود بك: أنا لا أحبُّ الطلاق ولكنه ضرورة لا مهربَ منها في بعض الظروف.
ووقع الطلاق جارًّا وراءه خسائر مادية لا يُستهان بها ما بين مؤخَّر الصداق والنفقة؛ مما حمَل الشاب على اتِّخاذ قرار من الزواج التزمَ به بقية عمره. وعاد إلى حُجرته الجميلة بالطابق الثاني من سراي ميدان خيرت، مُكرِّسًا نشاطه لعمله ومُطالعاته المتنوِّعة. وألَّفَ المزاج بينه وبين أُخته نادرة وأخيه ماهر، وانضم الأخوان في الوقت المناسب إلى الضباط الأحرار. ولمَّا قامت ثورة يوليو وجدا نفسيهما بين رجال الصف الثاني، وكان محمود بك قد تُوفِّي قبل ذلك فنجا الورثة من قبضة الإصلاح الزراعي. وتقلَّد عبده مركزًا قياديًّا في سلاح المهندسين، وعقب النكسة تولَّى رياسة شركة المعادن جزاء ولائه المُستمر لعبد الناصر. ورغم تأثُّره الشديد لهزيمة ٥ يونيو إلا أنه كان ضمن الذين اعتبروا أن خسارة الأرض كارثة تهون بالقياس إلى النصر المعنوي الذي حقَّقه البلد بالاحتفاظ بزعامة عبد الناصر والنظام الاشتراكي. وطبعًا لم يكن سعيدًا بطرد أخيه ماهر لولائه لعبد الحكيم عامر، كما لم يسعد من قبل بإحالة أخيه الأكبر حسن إلى المعاش، وتعزَّى دائمًا بقوله: الوطن فوق كل شيء.
واستُغنِيَ عنه في عهد الرئيس السادات فأوى إلى بيته وأرضه، ولمَّا هل عصر الانفتاح أنشأ مكتبًا هندسيًّا مع بعض الزملاء وأثرى ثراء فاحشًا. ولم يُبارح السراي التي وُلد فيها ولا الطبع الذي قضى عليه بالوحدة، والتزم بالحياة البسيطة رغم إيغاله ويقينه من أنه يكنِز المال للآخرين.
عدنان أحمد عطا المراكيبي
وُلِد ونشأ بسراي آل المراكيبي بميدان خيرت، وتلقَّى في أحضان النعيم مبادئ التربية الرفيعة والدِّين. وبالرغم من أنه نما بين والدٍ وديع دمث وأمٍّ هانم جليلة المقام والخلق (فوزية هانم شقيقة نازلي هانم)، إلا أنه كان أشبه بعمه الجبار محمود بك في صلابته وميله إلى السيطرة، وكان أكثر ذلك الجيل حُبًّا لآله الآخرين عمرو وسرور ورشوانة، وتعلقًا بالحي العتيق. ومن بادئ الأمر تمرَّد باطنه على عمه الجبار الذي يفرض سطوته على السراي بما فيهم أسرة شقيقه أحمد. وما كاد يُناهز الحلم حتى أعلن سخطه على وصايا عمه واستئثاره بإدارة الأرض كأنه مالكها الوحيد. وسأل أُمَّه عن سِرِّ ذلك فقالت: أبوك راضٍ بذلك.
فانقلب إلى أبيه يُحاوره، حتى نغَّص عليه صفوه، وقال له بصراحة: إنه لوضع مُهين!
وما زال وراءه حتى أخرجه من جنَّتِهِ؛ فكان ما كان فبدأ الخصام الذي قسم الأسرة العريقة إلى جبهتَين مُتعادِيَتَين، فأنكر الأخ أخاه والأخت أختها وأبناء العم والخالة أبناء عمِّهم وخالتهم، وتحدَّى عدنان عمَّه فبصق هذا على وجهه، وتبادل عدنان وحسَن الضرب في حديقة السراي، فأظلَّت الأسرة غمامة سوداء ما زالت تحجب النور والدفء عنها حتى تلاشت عند احتضار أحمد بك. وتسلَّم أحمد بك أرضه وهو على جهلٍ تامٍّ بكل شيء، وحدثت خسائر لا مفرَّ منها، حتى ختم عدنان دراسته الزراعية وهُرِع إلى بني سويف فتسلَّم العمل من أبيه وأنقذه من التلَف. وكان عدنان بخلاف أخيه وأبناء عمه يعشق بنات البلد، فأحبَّ أرملةً في الخامسة والثلاثين على حين لم يكن جاوز الثلاثين، وأعلن رغبته في الزواج منها غير مُلقٍ بالًا إلى جزَع أُمِّه، وحقق رغبته وجاء بستِّ تهاني إلى السراي ثم حملها إلى سراي العزبة. وقد أنجبت له فؤاد وفاروق ثم انقطعت عن الحمل. وكانت كلما ضاقت بالريف سافرت إلى القاهرة لتُنكِّد عيشة فوزية هانم. ولما قامت ثورة يوليو كان عدنان — لأكثر من سبب — الوحيد الذي طُبِّق عليه قانون الإصلاح الزراعي، ولم يكن يختلف عن أبيه وعمِّه ولاءً للعرش وكراهية للثورة، ولكن لم ينِدَّ عنه قولٌ أو فعل يُعرِّضه للمؤاخذة. وقد نجح فؤاد في أن يصير زراعيًّا كأبيه ويعاونه؛ أما فاروق فلم يوفق في الدراسة واحترف الإجرام على الأسلوب الريفي حتى قُتل رمْيًا بالرصاص وهو يغادر المسجد عقب صلاة الجمعة. وقد سعِدَ عدنان بالاعتداء الثلاثي ولكن سعادته انتكست، وسعد أكثر في ٥ يونيو، وتمَّت سعادته في سبتمبر ١٩٧٠، وبتولي السادات رجع الرجل إلى الشعور بالولاء نحو الحاكم، وشاركه بقلبه انتصاراته في ٦ أكتوبر والسلام، أما الانفتاح فقد اعتبره بابًا من أبواب الجنة، وعمل في تربية العجول والدجاج والبيض وربح أرباحًا خيالية، ولم يكتفِ بذلك فانضم إلى الحزب الوطني وانتُخِب عضوًا في مجلس الشعب.
عزيز يزيد المصري
وُلِد ونشأ في الدور الأول من بيت الغورية في ظل بوابة المتولي، وهو بِكري يزيد المصري وفرجة الصياد، وقد أنجب الزَّوجان ولدَين وأربع بناتٍ فماتت البنات وهُنَّ في المهد وبقي عزيز وداود، وتمتع الولدان بصحةٍ جيدة ونموٍّ يُبشر بالقوة مع وسامةٍ في الخَلق ووضوح في الملامح، واتَّخذوا من الطريق العامر بالناس والحوانيت وعربات اليد، المحفوف بالجوامع والمآذن ملعبًا ما بين البوابة ووكالة الورَّاق في الجمالية حيث كان يشتغل أبوهما خازنًا بوكالة الوراق. وجاءت الحملة الفرنسية وذهبت قبل أن يبلغ الشقيقان الوعيَ فمرَّ بهما نابليون بونابرت كما يمرُّ بيَّاع الفجل أو بيَّاع الدوم. ولما استوى عزيز طفلًا ناضجًا قال عمر يزيد المصري بلكنته الإسكندرية: آن أوان الكتَّاب.
فاعترضت فرجة الصيَّاد قائلة: بل أرسله إلى أُمِّي في السوق.
فقال: فكُّ الخط هو الذي يَسَّر لي عملي في وكالة الوراق.
وكانت فرجة تؤمن بالسوق التي جاءت منها، ولكنها لم تستطع أن تثنيه عن رأيه. وبارك رأيه فضيلة الشيخ القليوبي في قهوة الشربيني، فقال: نعم الرأي … وبعد الكتَّاب إلى الأزهر.
ولاذ الصديق الثالث عطا المراكيبي بالصمت؛ وعطا المراكيبي كان ساكن الدور الثاني ببيت الغورية هو وزوجه سكينة الفرارجي وابنته الوليدة نعمة. وقد تمَّ التعارُف بين الرجال الثلاثة في دُكان عطا المراكيبي في الصالحية، ثم صارت تجمعهم قهوة الشربيني بالدرب الأحمر فيشربون الزنجبيل ويُدخِّنون الحشيش. وكان الشيخ القليوبي مدرسًا في الأزهر وقد دعاهما على الغداء أكثر من مرةٍ في بيته بسوق الزلط. رأوا وليدَه معاوية وهو يلعب بين البئر والفرن، وتساءل عطا المراكيبي: هل تُدخله الأزهر بعد الكتَّاب؟
فقال يزيد: يفعل الله ما يشاء.
لكنه كان يقنع من الدين بالفرائض المتاحة كصديقِه عطا ولا طموح له بعد ذلك. والتحق عزيز بالكتَّاب ثُم لحق به داود فحفِظا أجزاء من القرآن وتعلَّما مبادئ القراءة والكتابة والحساب. وفي تلك الأثناء وقع داود في مصيدة التعليم ونجا عزيز بمعجزةٍ ظلَّ يحمد الله عليها حتى آخر عمره. وكان من حياة داود ما كان، أما عزيز فلمَّا بلغ سنَّ العمل سعى له الشيخ القليوبي في ديوان الأوقاف فتعيَّن ناظرًا لسبيل بين القصرَين. ارتدى الجلباب والمركوب وشملةً من الكتَّان صيفًا وأخرى من الصوف شتاء، ولكنه استبدل بالعمامة الطربوش فعُرف في الحي بعزيز أفندي على سبيل الفكاهة، ثم التصقت به على مدى العمر. وتقرَّر له مليم على كل قربة فقال له يزيد: منَّ الله عليك بوظيفةٍ مهمة.
لم يكن يُحزنه في تلك الأيام السعيدة سوى عثرة حظِّ أخيه، وتضاعف حُزنه حين تقرَّر إرساله إلى فرنسا. وسأل صديقه الشيخ معاوية الذي حلَّ محلَّ أبيه في الأزهر بعد تقاعُد الرجل لكبره: ما ذنب داود يا شيخ معاوية؟
فأجاب الشاب: ليس كل علوم الكفَّار بكُفر ولا الإقامة في بلاد الكفار، وليحفظه الله.
ودخل عزيز في فرن المُراهقة، وتسلل إليه — رغم تقواه — الخطأ فقال يزيد لفرجة: علينا أن نزوجه!
فقالت فرجة: نعمة بنت صديقك عطا مليحة ومناسبة.
وزُفَّت إليه البنت في بيت أبيه بالغورية، وعقب عامَين تزوَّج صديقه الشيخ معاوية من جليلة الطرابيشية في بيت سوق الزلط. وعاش يزيد المصري وفرجة حتى شهِدا مَولد رشوانة وعمرو وسرور، ثم مات يزيد في أثناء عمله بالوكالة ودُفن بحوشه الذي بناه على كثبٍ من ضريح سيدي نجم الدين، بعد حلمٍ رأى فيه الشيخ وهو يدعوه إلى جواره، ولحِقَت به فرجة الصياد بعد عام واحد من وفاته. وحدثت أمور ذوات شأن؛ فقد ماتت سكينة أم نعمة، وتزوَّج عطا المراكيبي من أرملةٍ غنية كانت تُقيم في الدور الأعلى للبيت المواجه لدُكانه، وانتقل الرجل فجأةً إلى طبقةٍ عالية، فشيَّد سراياه بميدان خيرت، وابتاع عزبةً ببني سويف، وأنجب على كبر محمود وأحمد، واستهلَّ حياةً جديدة كأنما هي حلم من الأحلام. ووجد عزيز أفندي نفسه صهرًا لرجل عظيم من الأعيان كما وجدت نعمة زوجته نفسها ابنه لذلك الرجل العظيم. ولهجت الألسنة بقصة عطا المراكيبي وحظه وذوبان الزوجة الغنية تحت جناحه، ولكن نعمة لم يُصبها من ذلك كله خير، لا هي ولا أُسرتها، فيما عدا بعض الهبات في المواسم. وقال الشيخ معاوية لصديقه عزيز: إذا سبقت الزوجة زوجها في الوفاة ورِثها مع ابنَيه، فتَرِثه زوجتُك، أما إذا سبق هو فلا حظَّ لحرمك!
وكان آل عطا وآل عزيز يتبادلون الزيارات، ويختلط عمرو وسرور ورشوانة بمحمود وأحمد، ويقلب عزيز عينَيه في الحديقة والتحف ويُغمغم في نفسه: سبحان المُنعم الوهَّاب!
ويقول لصديقه الشيخ معاوية: إنه جلف لا يستحقُّ النعمة.
فيقول الشيخ: لله في خلقه شئون!
وفي أثناء ذلك، رجع داود من فرنسا طبيبًا، ثم تزوَّج من حفيدة الوراق وأقام في بيت السيدة وأنجب عبد العظيم. وعلَّم عزيز أفندي ابنَيه عمرو وسرور فتعين عمرو في نظارة المعارف كما تعين سرور في السكك الحديدية، وتزوَّجت رشوانة من صادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش وزُفَّت إليه في بيته ﺑ «بين القصرين»، وتزوَّج عمرو من راضية كبرى بنات الشيخ معاوية، كما تزوَّج سرور من زينب النجار، وانتقل الأخوان إلى بيتَين متجاورَين في ميدان بيت القاضي. ولمَّا قامت الثورة العرابية اشترك فيها عزيز بقلبه ولكن الشيخ معاوية أسهم بقلبه ولسانه، وحُكم عليه بالسجن بعد تصفية الثورة.
وقد تمَّ زواج عمرو من راضية في الفترة التي أعقبت الإفراج عن الشيخ، ولكن لم يتسنَّ للشيخ شهود الزفاف، فقد وافاه الأجل بعد أسبوع من إعلان الخطبة وقراءة الفاتحة. وحظي عزيز أفندي بالصحة وطول العمر والراحة الزوجية ولم يُعانِ الفقر أو الحرمان، وتمتَّع بدفء الوشائج العائلية ما بين ميدان خيرت والسيدة وسوق الزلط، وتقدَّست منزلته عند ذُريته كما فرح بتعليمهم وانتسابهم إلى الحكومة وخطرانهم في البدلة والطربوش. ولم يخلُ مع الأيام من اعتزازٍ بمنزلة شقيقه الأصغر ورُتبته، خاصة بعد أن اطمأنَّ إلى إيمانه ومحافظته على الفرائض وولائه الودود له، وجلوس الأسرتَين حول الطبلية، كما آنسه بالزيارة وطوافه معه بالحسين والقرافة. ومنَّ الله عليه فشهد مولد أحفاده، وأكرمه أخيرًا بميتة طاهرة، فأسلم الروح وهو ساجد فوق سجادة الصلاة في صباح يوم من أيام الخريف في بيت الغورية … ودفن إلى جوار أبيه في حوش الأسرة الذي أصبح يُعرَف بحوش نجم الدين.
عفت عبد العظيم داود
وُلدت ونشأت بفيلا الأسرة بشارع السرايات بالعباسية الشرقية. وبها ختم عبد العظيم باشا داود وفريدة حسام ذُريتهما المكونة من لطفي وغسان وحليم وفهيمة وعفَّت. وُلِدت عفَّت على وسامةٍ لا يستهان بها، امتزج في وجنتَيها بياض أُمِّها الشامية وسُمرة أبيها فأسفرا عن لونٍ قمحي مورَّد وعينَين لوزيَّتَين سوداوَين لا تخلو نظرتهما من تسلُّط ومكر، وتقلَّبت في نعيمٍ في فيلَّا أنيقة تُحدِق بها الرُّتَب والنياشين فنهضت — كسائر أعضاء أُسرتها — على قوائم راسخة من الكبرياء والتعالي والغرور … ومن بادئ الأمر لم يرضَ الأب لكريمتَيه الأُميَّة أو شبه الأُميَّة كبنات الفروع الأخرى، كما لم يُفكِّر في تعليمهما تمهيدًا للعمل، الأمر الذي رآه أولى ببنات الفقراء من عامة الشعب، فاختار لهما التعليم التهذيبي في نظره الذي يُعِدُّهما للزواج من الكُبَراء. ووجد بُغيته في المدارس الأجنبية والميردي دييه بصفةٍ خاصة. وتعلمت عفَّت الفرنسية والإنجليزية والآداب وفن البيت والموسيقى، وتشرَّبت روحها بتراثٍ غريب حتى لَيُخيل للرائي أنها إفرنجية ذوقًا وعقلًا وتراثًا. ومع أنها لم تنطق بكلمة تخدش إيمانها إلا أنها عاشت حياتها وهي تجهل دِينها وتُراثها جهلًا تامًّا، ولا تجد في ذاتها أي انتماء إلى وطنها رغم مُعايشتها لثورة ١٩١٩، لولا تعصُّب سطحي لموقف أبيها السياسي انطلقت إليه من منطلق الكبرياء والأسرة. ولكن الغريزة تمرَّدت على ذلك كله فأمالت قلبها منذ الصِّغر نحو عامر قريب أبيها. في ذلك الزمان كانت رابطة الأسرة أقوى من الطبقة والرُّتبة والجاه والثروة، وكانت زيارة بيت القاضي تُعَدُّ في وجدان آل داود من الرحلات المُمتعة، بمناظرها الطريفة وأغذيتها البلدي وغيبيات راضية، رغم أن شعورهم بالتعالي لا يُمكن أن يُفارقهم. ولم يجد الميل المتبادل بين عامر وعفَّت مُعارضة في بيت عبد العظيم، بل لعلَّه وجد ترحيبًا. وعلى أي حال فالنظرة إلى البنت تختلف عن النظرة إلى الولد، فإهداء بنتهم إلى ولدٍ من آل عمرو لا بأس من قبوله، أما أن يرغب ولدٌ من آل داود في بنتٍ من بنات عمرو أو سرور فانحراف خطير يجب أن يُكبَح بكلِّ حزم. ودماثة أخلاق عمرو هوَّنت عليه التسامُح مع ذلك الموقف وتلمُّس الأعذار له، أما سرور فلم يُعفِه من لسانه الحاد الذي أبعده درجاتٍ عن قلوب آل المراكيبي وآل داود جميعًا. كان عند الضرورة يقول مُتهكمًا: لماذا ينسى آل عطا العظام المراكيب ودُكان الصالحية؟ … ولماذا ينسى آل داود عمِّ يزيد وفرجة السماك؟
ولمَّا آن لعفَّت أن تتزوَّج شيَّد لها الباشا بيتًا جميلًا في بين الجناين استقبلت فيه حياتها الزوجية السعيدة التي حطمت منطق أعداء الزواج. أجل فمنذ اليوم الأول سلكت عفَّت سلوك أميرة وضعتها الظروف بين الرعية، فلم تخلُ الحياة الجديدة من توتُّرات بين عفَّت وأخوات عامر، أو بنات سرور، أو شكيرة عندما صارت سلفةً لها، بل حتى راضية نفسها على ما بينها وبين فريدة حسام من مودة، ولكن لم ينعقد الخصام لحد القطيعة أو العداوة، وغلب دائمًا هوى المودَّة القديمة الراسخة، أما ما بين الزوجَين فقد مضى في عذوبةٍ وسلام، وتسليم كُلي من جانب عامر لإرادة محبوبته القوية فلم يرتفع له صوت غضب أكثر من مرَّاتٍ معدودات، ولم يبيتا أبدًا على خصام. وقد أنجبت له شاكر وقدري وفايد، ولم تستطع أن تمدَّ فوقهم مظلة سطوتها، فجرح شاكر كبرياءها، وحرَّك قدري مخاوفها وإشفاقها، ولكن ثلاثتهم كانوا أمثلةً طيبةً للنجابة والنجاح. وقامت ثورة يوليو وتعاقبت الهزائم ثم هلَّ النصر والسلام وتجمعت سُحب الفتن والجريمة، وهي لائذة بحصن المُتفرِّج لا يعنيها شيء إلا بقدْر أثره المباشر على أُسرتها أو أبنائها. وتقدَّم بها العمر وهدأت نوازع كبريائها ونعمت رغم جريان الأحداث برفقة حبيب العمر والأبناء والأحفاد، حتى غاب عامر عن دُنياها في غمضة عين وهو يُحادثها، ومن ثم استقبلت حياةً صامتة تعلوها كآبة دائمة.
عطا المراكيبي
في الأصل كان صبيًّا في دُكان الصالحية لصاحبها المغربي جلعاد المغاوري، التقطَه الرجل يتيمًا وربَّاه وأذن له بالبيات في دُكانه، وأثبت الصبي جدارةً وأمانة، ولزم صاحِبَه حتى صار شابًّا يافعًا قوي الجسم ربعة غليظ القسمات ضخم الرأس، فزوَّجه من ابنته الوحيدة سكينة وجعله نائبه في الدُّكان. وأقام معه في مسكن الغورية جارًا للمعلم يزيد وابنه عزيز. ولمَّا رحل جلعاد وزوجه، ورثت سكينة الدكَّان شرعًا وورثها عطا فعلًا، وكان مُتحلِّيًا بأخلاق التجَّار الدمثة يُغطي بها خشونة سجاياه، فأمكنه أن يكون صديقًا ليزيد والشيخ القليوبي. أما سكينة فكانت على قدْرٍ من الوسامة وبنيانٍ هلهلَهُ الضعف، فتلكَّأ إنجابها فترة، ثم أنجبت نعمة عقب ولادةٍ عسيرة كادت تبذُل فيها حياتها. وورثت نعمة عن أمِّها عينَيها السوداوَين النجلاوَين ونعومة بشرتها السمراء، وغزارة شعرها الكستنائي مع صحَّةٍ جيدة. وكانت سكينة جارةً حسَنة الجوار ففازت بقلب فرجة السمَّاك ومهَّدت بذلك الطريق لزواج نعمة من عزيز في الوقت المناسب. وجمع مقهى الشربيني بالدرب الأحمر بين الشيخ القليوبي ويزيد وعطا ليلةً بعد أُخرى، وشهد الرجال نابليون بونابرت على جواده وهو يسير على رأس جنوده أمام المشهد الحُسيني، وعاصروا تقلُّبات حملته، وخاصة ثورتَي القاهرة، وكاد يزيد يهلك في الثورة الثانية، وعاصروا بعد ذلك ولاية محمد علي ومذبحة المماليك. والثورة التي أحدثها الوالي في البلد وأهله. ورغم أن الشيخ القليوبي كان يمتاز بثقافته الدينية إلا أنَّ الوشائج الشعبية والتراثية كانت تُقربه من وجدان صاحبَيه، ولم يغبْ عنه ما طُبعا عليه من حرصٍ وجهل، ولكنه كان يأخذ الناس على علَّاتها ويقنع منها بالجانب الأليف والمودة المتاحة. وقد دعاهما مراتٍ إلى بيت سوق الزلط في مقابل مرة يتيمة دُعي فيها إلى بيت الغورية، وكان يزيد أحب إليه من عطا، ولمس فيه أركانًا من الرجولة والشهامة والتقوى افتقدها في الآخر، ومع ذلك لم يضِق أبدًا بعطا ولا فكَّر في نبذِه. وظلَّ عطا على حاله من القناعة والرقة حتى تُوفِّيت امرأته سكينة بعد عامٍ من زواج ابنتها نعمة من عزيز أفندي ابن المعلم يزيد. وإذا بالحي كله يُفاجأ بزواجه من الأرملة الثرية هدى الألوزي. كانت تُقيم في بيتها العتيق على الجانب المواجه لدكَّان المراكيبي فهل كان للقصة تمهيد قديم لم يفطن إليه أحد؟ وقال القليوبي ليزيد: ستحدُث أمور، لا يمكن أن توافق هدى هانم على بقاء زوجها في دكانه.
وراح عطا يُفكر بعقلٍ مُدبِّر لم يجد من قبل الفرصة المناسبة لاستغلال مواهبه. وشاور في أمره أهل الحلِّ والعقد في تلك الشئون من جيرانه الأغنياء واليهود المُدرَّبين. وفي الحال اقتنى أراضي فضاء، وشرع في تشييد السراي الكُبرى بميدان خيرت، وعقب مرور زمنٍ اشترى عزبته في بني سويف وأقام فيها السراي الريفية. وأنجبت له هدى هانم الألوزي محمود وأحمد، ومضى يدرُس الزراعة ويوثِّق علاقاته بجيرانه الجُدد، والحق أن الثروة كشفت عن مواهبه الكامنة وقوة شخصيته، كما هتكت حِرصه وشُحَّه وجشعه اللانهائي إلى الثراء. وبخلاف الظنون فرض سيطرته الكاملة على امرأته والمُتعامِلين معه حتى شبَّهه الشيخ القليوبي بالوالي الذي جاء مصر جنديًّا بسيطًا ثم تعملق فوق هامة إمبراطورية مُترامية، بل كانت نهاية إمبراطور بني سويف خيرًا من نهاية الوالي ألف مرة. ووهنت علاقته بأصدقائه القُدامى، ولكنه لم ينقطع من زيارة نعمة وعزيز في الغورية، يغزو الحي في حنطوره طاويًا نظرات الحسد تحت حذائه، مُقدمًا الهدايا العابرة في المناسبات، ويدعو الأسرة إلى سراي ميدان خيرت، الأمر الذي ربط بالمَحبة قلوب رشوانة وعمرو وسرور ومحمود وأحمد. ولكن نوبات كرمه تلك لم تجاوز حدودها أبدًا، بل بدا أن ابنَيه أحنُّ على أختهما الفقيرة نعمة منه هو. وطبعًا دفع بابنَيه إلى المدارس ولكن أنفاسهما انقطعت بعد الابتدائية كابنَي أُختهما عمرو وسرور، ولم يأبه لذلك وراح يُعدهما للزراعة إلى جانبه، أما محمود فقد شرح صدره بقوة استجابته وصلابة شخصيته، وأما أحمد فقد خاب أملُه فيه حتى تركه يائسًا لحياته الوادعة. وكان بكري العرشي ربُّ أسرة مملوكية تُجاور عزبته وكانت له بنتان، نازلي وفوزية، مثالان في الجمال والتهذيب، فخطبهما لابنَيه محمود وأحمد، واحتفل بزواجهما في فرحٍ واحدٍ أحياه عبده الحامولي وألمز. وعمر عطا في الوجود حتى أدرك الثورة العرابية، ولم تغزُ وجدانه من مدخلٍ وطني ولكن من زاوية أملاكه وأمواله، فلمَّا صعدت موجتها حتى ظن لها النصر المبين أعلن تأييده لها، وتبرع بشيء من المال طاويا آلامه في صدره، ولما تكالبت عليها القوى المُعادية ولاح فشلها في الأفق أعلن ولاءه للخديو. وجاء عصر الاحتلال البريطاني فساوره القلق مرةً أخرى من تلك الأحداث التي لا يدري ما عُقباها على أرضه. وقال له نسيبه بكري العرشي: لن يُغادر الإنجليز هذا القُطر، ولن نخرج ما حيينا من الإمبراطورية البريطانية.
ولمَّا شعر بأنه يمضي نحو النهاية قال لابنه محمود: سأترك لك نصيحة هي أغلى من المال، اعتبر العزبة وطنك وهبها كلَّ نقطة إخلاص في قلبك، وحذارِ من الخُطَب والشِّعر.
ومات الرجل بالشيخوخة وحدَها، ولحقت به زوجته بعد أشهر، فورث الثروة كلها محمود وأحمد، وانطفأ أمل عزيز ونعمة إلى الأبد.
عقل حمادة القناوي
في خان جعفر وُلِد، وفيما بين بيت القاضي وبين القصرَين وحارة الوطاويط وابن خلدون والعباسية الشرقية وبين الجناين وميدان خيرت، لعب وطاف وساح وصادق وأحبَّ. وهو الثاني في ذُرية صدرية وحمادة القناوي، اقتبس من أُمِّه عينَيها الجميلتَين، ومن أبيه أنفه الأفطس وقوة جسده مع ميلٍ شديد إلى القِصَر. وعشقه أبوه وكرَّسَه بكل فخارٍ وليًّا للعهد. وتابع نجاحه في التعليم بسعادةٍ وزهو، فعوَّضه عن جهله وأُمِّيته خيرًا وأي خير. وعشق منذ صباه الدِّين والهندسة، والتحق بكلية الهندسة، ولم ينقطع عن القراءات الدينية، ومال إلى الفلسفة الدينية أيضًا، ثم جرفه تيار من الأفكار المُتضاربة فاستقرَّ عمرًا في مقام الحيرة. وفي تجواله في فروع أُسرته أعجبته هنُّومة بنت خالته سميرة فأراد أن يحجزها لنفسه ولكن البنت قالت لأمِّها: أنا أطولُ منه بصورةٍ واضحة فهو غير مناسب!
وصدمه ذلك وأشعل في جوارحه الغضب. وظلَّ مواظبًا على الصلاة والصوم رغم شكوكه؛ لم يستطع أن يؤمن ورفض أن يكفُر، ولاذ بالفرائض. وتفشَّى الشكُّ في خلاياه فلم يستطع أن ينتمي. انتبه إلى الوفد في عصر هبوطه، وكرِه انغلاق الماركسيين، واحتقر تهريج مصر الفتاة، ولمَّا قامت ثورة يوليو نفر منها رغم عدم مساسها له؛ لشعوره بعداوتها لطبقة المُلَّاك التي ينتسِب في النهاية إليها. وحزن كثيرًا على أُخته وردة كما حزن على أبيه. ولمَّا تخرج توظف في مكتبٍ هندسي وفكر جادًّا في الزواج لعله ينتشِله من الخواء الذي يَخنقه. وأعجبته أختٌ لزوج أخته نهاد فخطبها وتزوَّج منها، وأقام معها في شقةٍ في عمارةٍ صغيرة مُجاورة لبيت خاله عامر ﺑ «بين الجناين». وكانت لهفته على الإنجاب حارَّةً كآل أبيه، ولكن تبيَّن له أنه عقيم لا يُنجب، وشدَّ ما أحزنه ذلك وأوجعه. وقالت له جدته راضية: لا تُصدِّق الأطباء ولا تيأس من رحمة الله.
وتبدَّت له الحياة في صورة رغائب مُستحيلة، دائمًا حبيبة ومستحيلة. ولمَّا خلا بيتُ أُمِّه من الأنيس وانفردت صدرية بوحدتها قال لها: تعلمين كم أُحبك، أقيمي معنا في بين الجناين.
فقالت باسمة: لا أترك الحُسين ولا جدتك.
وحرص أكثر على أداء الفرائض وعلى جني أرباح موهبته المعمارية. وذات يومٍ قال لحكمت زوجته: لا أحبُّ أن تبقي معي يوما واحدًا دون رغبة حقيقية.
فتجهَّمت دقيقةً ثم قالت: إني راضية تمامًا والحمد لله.
فالشكُّ أخذ يُساوره في مستقبل علاقته بزوجته، كما مضى يملك عليه تفكيره بالنسبة لمستقبل وطنه الذي يتزحزح من مأزقٍ إلى مأزق. ولم يُعاوده تنفسُّه الطبيعي إلا في عهد السادات. ووجد في الانفتاح فرصةً لأعمالٍ كبيرة تُنسيه الوساوس والهواجس. واختار الشُّقَقَ ميدانا لتجارته مُستفيدًا من مُدخراته وبيع نصيبه من ميراث أبيه. وربح أموالًا طائلة، وعمل بنشاط فائق حتى عبر الستِّين، وعند ذاك تساءل: وبعد؟!
وفكر طويلًا ثم قال لحكمت: مللتُ العمل وآن لنا أن نستمتع بأموالنا.
فتساءلت ببراءة: ماذا ينقصك؟
فضحك ساخرًا وقال: السياحة، علينا بالسياحة، سنرى الدنيا ونذوق أجمل ما فيها.
فارتبكت. إنها لم تعرف من دُنياها إلا قرية أبيها وبين الجناين ولا رغبة لها في المزيد.
ولما لمس حيرتها قال: لن تحتاجي معي إلى ترجمان.
وقال لنفسه: إذا كرِهَت الفكرة مضيتُ لها وحدي. ولكنها كالعادة طاوعته ومضت تجهز الحقائب. وانطلقت من جوفه شرارة شكٍّ فتأمَّلَ ما حوله قليلًا ثم قال لنفسه: لا يبعد أن تحترق بنا الطائرة، إني خبير بمنطق الحوادث!
ولكن الطيارة لم تحترق والوساوس لم تخمد.
عمرو عزيز يزيد المصري
وُلِد ونشأ في بيت الغورية، بين رشوانة وسرور، وتشرَّب قلبه رحيق الحي بحبٍّ وشغف، فاختالت في نفسه تقاليد أهل البلد، وانتشر من أردانه عبير الروح والدين. ولعلَّه كان أحبَّ الثلاثة إلى عزيز ونعمة لشبهه بأبيه بجسمه المليء في اعتدالٍ وبشرتِه القمحية وعينيه الواسعتَين الصافيتَين. وكان العقلَ المُدبر الكابح لرشوانة وسرور في لعبهم وتجوالهم بين بوابة المتولي وسبيل بين القصرَين، وعرف فيما بعدُ بالحكيم الذي يُرجَع إلى رأيه في شتَّى الأمور. وحظي بنفس المنزلة بين خالَيه محمود وأحمد وابن عمه عبد العظيم. وقد أخلص لفرائض الدِّين منذ صِغره، ولعب دور الشرطي في حياة سرور المحفوفة بالنزوات. ودخل الكتَّاب فحفظ ما تيسَّر له من القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم دخل المدرسة الابتدائية في الثانية عشرة من عمره فحصل على الابتدائية بعد بذل أقصى ما يملك للتعلُّم. وبسعيٍ من داود باشا عُين في حسابات نظارة المعارف. وحاز دائمًا تقدير الرؤساء والزملاء، وأثرى حياته بصداقة الأصدقاء، ونوَّرها بقراءة القرآن وكُتب الأولياء، ونوَّع مجال حركته بأريحية مُعطرة بحبِّ الدِّين والدُّنيا، فكان يشهد الأذكار في الصنادقية، ويسمع الحامولي في الأفراح، ويُجالس الأحباب في الكلوب المصري. وكان هادئ الطبع، ينال بالحلم ما لا يناله بالقوة والغضب، وما كان أبوه يُزكي له فكرة الزواج حتى رحَّب بها ترحيب شابٍّ قوي تقي. وتمَّ اختيار راضية له، كبرى بنات الشيخ معاوية صديق أبيه، فزُفَّت إليه في بيتٍ حديث البناء بميدان بيت القاضي، حيث استهلَّ حياةً زوجية مُوفقة مُثمرة، وجد في راضية شخصيةً مناقضة لذاته، بعصبيتها وعنادها، وغيبيَّاتها التي لا ضابط لها، ولولا هدوء طبعه وحلمه ما جرت الأمور في مجراها الآمِن مع عدم إهدار شيءٍ من مهابته في بيته. ولكنه لم ينجُ من تأثيرها فآمن بتُراثها وطبِّها الشعبي، واضطرَّ إلى أن يسمح لها بزيارة أضرحة الأولياء، رغم أنه كان يُفضِّل أن تستكنَّ في بيتها أسوةً بزينب امرأة أخيه والهوانم زوجات محمود وأحمد وعبد العظيم. قالت له في اختيال: كلهنَّ هوانم طيبات، ولكنهنَّ جاهلات لا شأن لهنَّ بأمور الغيب.
وفي مقابل ذلك جعلت له من بيته مُستقرَّ رحمة ومودة، وأنجبت له صدرية وعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم. وكان عمرو — بخلاف سرور — فخورًا بأهله، بسراي ميدان خيرت وفيلَّا شارع السرايات والأراضي والأملاك والرتب؛ ولذلك حظي بيته بعطف الجميع، وطاف به الحنطور تلوَ الحنطور، يحمل إليه أعيان بني سويف وهوانمهم وآل داود وهوانمهم، يجلسون حول طبليته، ويغمرونه بالهدايا، ويستمعون إلى نوادر راضية وتُراثها مُنوِّهين ببطولة أبيها بطل الثورة العرابية. وتلك المودة العميقة هي التي فتحت باب المصاهرة إلى آل عطا وآل داود فزادت منزلته رفعةً وقوة، وأثارت من سوء التفاهُم بينه وبين سرور ما كان خليقًا بأن يُفسد العلاقة بينهما لولا متانة الأساس وعُمق الذكريات. وطالما قال سرور بحسرة: لو ماتت هدى الألوزي قبل عطا المراكيبي لكنَّا من الوارثين!
فيقول: لا اعتراض على المشيئة الإلهية.
تغلَّب على تلك الوخزة بسماحة إيمانه، وكان دأبه إذا ناوشته نقمة أن يُذكِّر نفسه بالنعم الكثيرة المُتاحة كالصحَّة والأولاد. أجل تفجَّر غضبه يوم وأد آل داود مَيل لطفي لمطرية وترك راضية تهدُر قاذفةً لعناتها وقال لنفسه: صدَقَ من قال إن الأقارب عقارب!
ولكنها كانت غمامةً ما لبثت أن تلاشت تحت أشعة شمس دائمة واتَّسع قلبه أيضًا للعواطف الوطنية. فاته أن يشارك أباه خيبته لنكسة الثورة العرابية، ولكنه كثيرًا ما رأى جنود الاحتلال وهم يطوفون بالحيِّ العتيق كالسائحين. وأفعم وجدانه فيما بعدُ بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله في ثورة ١٩١٩، وعشق زعيمها، واشترك في إضراب الموظفين، وحافظ على ولائه للزعيم رغم انشقاق أهله العظام محمود وأحمد وعبد العظيم عليه. وتابع خليفة الزعيم — مصطفى النحاس — بكل وجدانه، ووزع الشربات يوم عقد المعاهدة. وأيَّدَ الزعيم بقلبه ضدَّ الملك الجديد، وغضب مع الغاضبين لإقالته من الحُكم رغم أنه كان يُعاني ضعف القلب الذي أودى به بعد ذلك بقليل، وقد تحمَّل عبء الأولاد وهم في رعايته، وشارك في همومهم بعد أن استقلَّ كلٌّ بِبَيته. وكان يقول: نحن نحلم بالراحة دائمًا ولكن لا راحة مع الحياة.
ثم يلوذ بإيمانه تاركًا الخلق للخالق. وكم ناط بقاسم من آمال، وماذا كان المصير؟! ولمَّا أُحيل إلى المعاش غشِيَته وحشةٌ لم يكن يُفيق منها أبدًا، ثم دهمه مرض القلب من حيث لم يحتسِب فحدَّد حركته ومسرَّاته الحميمة وغاص به إلى قعر الكآبة. وذات مساء وهو جالس في الكلوب المصري أُغمِي عليه، فحُمِل إلى فراشه في حال احتضار، وأسلم الروح قُبيل الفجر على صدر راضية.