حرف الغين
غسان عبد العظيم داود
وُلِد ونشأ في فيلَّا شارع السرايات وهو الثاني في ذُرية عبد العظيم باشا داود. ولعلَّه الوحيد من أبناء عبد العظيم باشا الذي لم يقتبس من رواء أمِّه فريدة هانم حسام شيئًا. كان مائلا للقِصَر، نحيفًا، غامق السُّمرة، مُتجهم الوجه غالبًا، وغالبًا يحمل طابع المُتقزِّز كأن ليمونة تعصر في فيه! وكأنما خُلق ليشمئز من الدنيا ومن عليها، فهو في الفيلَّا مُنفرد بنفسه في حجرته، أو يتمشَّى في الشوارع الشرقية الصامتة تحت ظلِّ أشجارها الفارعة، أو يتوغَّل في الصحراء الخالية، لم يُعرَف له صديق واحد من الجيران، ولا نمت بينه وبين أخويه لطفي وحليم أو حتى فهيمة وعفت وشيجةٌ أخوية، وفي المرات النادرة التي لاعب فيها أخاه حليم سواء في حديقة الفيلَّا أم في الشارع انتهت بسوء تفاهُمٍ وخصام، وختمت مرة بمشاجرة هُزم فيها رغم أنه الأكبر. واصطحبه أبوه معه لزيارة أهله خاصة آل عمرو، ودُعِي مرة مع الأسرة إلى سراي آل عطا بميدان خيرت، فكان يُشاهد بعينَيه ولا يكاد ينبس بكلمةٍ ولم يفُز بصديقٍ واحد. وأطلقوا عليه «عدو البشر»، وتهكَّموا بوجهه الصامت المُشمئز، وعُوده النحيل، ونفوره الدائم، وكبريائه المتوحِّد. أجل كانت عيناه تعكسان شعاع النهم وهما تنظُران إلى البنات الجميلات من قريباته، ولكنه لم يصل النظرة بابتسامة ولا بأي إشارة. ويقول له أبوه: يجب أن تخرُج من عُزلتك.
فيقول بنبرة قاطعة: إني أعرف أين تُوجَد راحتي ولا أهمية لشيءٍ وراء ذلك.
– وماذا تفعل في حجرتك المغلقة؟
– أسمع أسطوانات … أو أقرأ.
ولكنه لم يكشف عن أي موهبة ذوقية أو فكرية. وقد تابع رؤية أبيه السياسية ربما لأنها وافقت تعالِيه واحتقاره الطبيعي للعامة، واعتبر المطالب الوطنية والزعامة الشعبية ألوانًا من التهريج المُبتذَل. ولم يغب عن حاسَّته تدنِّي صورته الكئيبة بين صور أُسرته الرائقة، وتحدَّى عزة نفسه قدْرٌ من الغباء أعجزه عن بلوغ التفوُّق الجدير في نظره بمركزه الاجتماعي وكبريائه الطبقي. وقد قسا على نفسه وكلفها من الاجتهاد ما لا تطيق، وسهر الليالي في المذاكرة فلم يظفر إلا بالنجاح العادي الذي بالكاد ينقله من مرحلةٍ إلى مرحلة في ذَيل الناجحين. سام نفسه العذاب ليتفوَّق دون جدوى، ورمق المتفوِّقين بالحقد والاحترام، وأترع قلبه بالأسى لعجزه. كيف يُعاشِر هذا العجز على حين أن جدَّه باشا وأباه باشا وشقيقه الأكبر باشا؟! وتراءى له المستقبل كخصومةٍ عارية مُفعمة بالتحدِّي والاستفزاز. ولم يجد في الدِّين أيَّ عزاء؛ لأنه كسائر إخوته لم يعرفوا الدين إلا عنوان هوية بلا مضمون، فعبَدَ العمل عبادةً ووهبه نفسه كلها ليقنع في النهاية مُرغمًا بأقل ثمرة تُنبتها أرضه القاحلة. ولما التحق بالحقوق وجد هناك قريبه لبيب بن سرور أفندي مُحاطًا بهالة من الإعجاب لتفوُّقه وحداثة سنِّه فضاعف ذلك من كآبته وتعاسته، واحتجَّ على الأقدار التي ميَّزت قريبه الفقير ابن الفقير بالموهبة وحرمَتْهُ منها هو سليل الباشوات والمهن القضائية والطبية الرفيعة. ولعلَّ من أسباب احتقاره للوطنية كان حماس أهله الفقراء — وآل عمرو وآل سرور — لها، فلم يتحمَّس لثورة ١٩١٩ في إبانها وسرعان ما لاذ بجناح الخارجين عليها مع أبيه وأُسرته. وعند التخرُّج رأى قريبه يتعيَّن في النيابة، ووجد نفسه رغم العرَق والسهر في الذَّيل. وبسعيٍ من أبيه المستشار الكبير عُين في قضايا الحكومة بوزارة المعارف فالتحق بالعمل ساخطًا مُتبرمًا رغم أنه لا يستحقُّه. واشتُهر في حياته العملية بالانطواء والاجتهاد والغباء، ولدى كلِّ حركة ترقيات كان أبوه يُسعفه، ومضى في عُزلته ما بين الديوان والفيلَّا، بلا صديقٍ ولا حبيبة، لا يكاد يبرح مكتبته التي كونها عامًا بعد عام إلا حين الضرورة القصوى. وربما رؤيَ وحيدًا في حديقة عامة أو في النادي، وربما تسلَّل في حذَرٍ تامٍّ إلى بيتٍ راقٍ من بيوت الدعارة السرية. وقالت له فريدة هانم حسام: آن لك أن تُفكِّر في الزواج.
فرمقها بدهشةٍ وامتعاض وتمتم: لم يبقَ إلَّا هذا.
أكثر من سبب كرَّه إليه فكرة الزواج؛ في مُقدمتها انغماسه في وحدته المُقدَّسة وعجزه عن الخروج منها، وخوفه أن ترفضه الفتاة اللائقة بمركزه وأُسرته للمآخذ الكثيرة التي لا تغيب عن وجدانه. ولم تكُفَّ فريدة هانم عن القلق عليه، خاصة بعد وفاة عبد العظيم باشا وشعورها بدنوِّ الأجل، وبأنها ستترُكه في فيلَّا كبيرة خالية. يُضاف إلى ذلك ما صبَّته عليه ثورة يوليو من أحزان جديدة لم تخطر له على بالٍ من قبل. تساءل في جزع: أيبلُغ بنا التدهور أن تحكُمَنا مجموعة من العساكر الأُميِّين؟!
وراقب ما حاق برُتَب أُسرته وقيمها القانونية والطبية بفزع، وتساءل: هل أبكي اليوم رعاع الوفد؟!
وقالت له فريدة: غدًا ألحق بأبيك، يلزمك زوجة وأبناء.
فقال لها بخشونة: العُقم هو العزاء المُتبقي لنا!
وأصرَّ على عناده الحقود، ولم يتزعزع تصميمه بعد وفاة أُمِّه، وأُحيل على المعاش في أوائل السبعينيات فواصل حياته في وحدته كالشبح، وكأنما لم يحظَ من دُنياه إلا بصحَّةٍ متينة صامدة قانعًا من مسرَّات الدنيا بالطعام والكتُب ثُم بالتلفزيون والخادمة الجديدة.