حرف الفاء
فاروق حسين قابيل
الخامس في ذُرية سميرة وحسين قابيل، وُلِد ونشأ في شارع ابن خلدون، واستقبل الدنيا بجسمٍ رشيق قوي ووجهٍ وسيمٍ مثل إخوته وأخواته، وذكاء وقَّاد يُبشر بكل خير، ولكنه نما في مناخ الانضباط الذي ساد الأسرة بعد وفاة حسين قابيل. ومنذ صغره حلم بأن يكون طبيبًا وبعزيمة قوية حقَّق حلمه عابرًا عقبات التنسيق. وقد توزَّع قلبه الحماس لثورة يوليو بحُكم مولدِه وميلًا مع أخيه حكيم، والنفور منها أحيانًا عطفًا على الإخوان وحبًّا في أخيه سليم الذي قُذِف به في السجن. ووجد الخلاص من التناقضات في الاهتمام بمهنته، فحصل على الدكتوراه، وفتح عيادة خاصة إلى جانب عمله في المستشفى، وجمع الحبُّ بينه وبين زميلة هي الدكتورة عقيلة ثابت، فتزوجا وأقاما في شقةٍ حديثة بمصر الجديدة. وشدَّ ما حزن فاروق على مصير شقيقه حكيم، وغربة شقيقه سليم، فقد عرف أبناء سميرة بقوة تماسُكهم، كما عرفوا أيضًا — كأُمِّهم — بالصمود حيال المصائب. ولكنه تجنب الجهر بآرائه السياسية خارج مُحيط أُسرته اتِّعاظًا بما أصاب أخويه حكيم وسليم، متفرغًا لمهنته. وفي هذا المجال أحرز منزلةً فريدة كجرَّاح، كما وُلِّيت زوجته مناصب رفيعة كمولدة، وقد أنجبت له بنتَين توجَّهتا بكفاءة نحو الطبِّ أيضًا. وكان فاروق من القلَّة التي آمنت بسياسة السادات فيما عدا الانفتاح غير المُنضبط الذي فتح أبوابه باندفاعٍ جرَّ على البلد ويلات اقتصادية لا يُستهان بها. ولم يكن ضمن القطاع الذي سُرَّ لمصرعه، وقال مرةً لخاله عامر: لقد ولي السادات نيابة عن عبد الناصر ثُم قُتل كذلك نيابة عنه!
وممَّا يُذكَر له كطبيب معدود ومقصود أنه لم يتهاون في جانب المبادئ، فلم تجاوز تسعيرة أتعابه حدود المعقول أبدًا.
فايد عامر عمرو
الابن الثالث لعامر وعفَّت، وُلِد ونشأ كأخويه في بيت بين الجناين، وكان كثير الشَّبَه بجدَّته فريدة حسام في بياض البشرة وجمال العينَين، ورشاقة القد. وقد رضع غير قليلٍ من تُراث راضية وعمرو والحي العتيق، ولكنه تشبَّع بتقاليد جدَّته فريدة وجدِّه عبد العظيم باشا داود. ومنذ صِباه عشق القانون والمجد القضائي، كما عشق الثقافة الحديثة، ثقافة السينما والراديو ثم التلفزيون، ورغم حُبه لجدَّيْه عمرو وعبد العظيم فلم يكترث لا للوفد ولا للأحزاب الأخرى، ولمَّا تخرَّج في الكلية كان من المتفوِّقين، وبفضل تفوُّقه ومنزلة عبد العظيم باشا تعيَّن من فوره في النيابة. ولعلَّه الوحيد من أبناء عفَّت وعامر الذي لم يُكدِّر صفوهما بسلوكه أو فكره مثل أخوَيه شاكر وقدري، ولمَّا أعلن ذات يوم أنه يُحب بنتًا تُدعى ماجدة العرشي طالبة بكلية الحقوق اضطربت عفَّت لمرارة التجارب الماضية، ولكنها سعدت عندما توكَّدت من أن البنت كريمة لطبيبٍ وحفيدة لطبيبٍ أيضًا، وأن الأسرة على مستوًى طيب جدًّا ومُناسب جدًّا. وقالت عفَّت لعامر: أول زيجة تبلُّ الريق!
وتزوَّج فايد ودخل في شقة بمصر الجديدة. ولمَّا قامت الثورة لم ينفر منها رغم إهدارها لرُتَب جدِّه وخاله، بل ربما مال إليها ولم يُخْفِ ذلك عن أُمِّه وأبيه … قال: جاءت في وقتها تمامًا.
وترقَّى فايد في درجاته المعهودة حتى درجة المستشار، ولم يتغير موقفه من الثورة وزعيمها، حتى محنة ٥ يونيو لم تُغيره وإن مزَّقت قلبه تمزيقًا. أما السادات فقد أيده في حربه وفتحه صفحة الديموقراطية من جديد، وشك كثيرًا في خطوة السلام، ثم لعنه بسبب الانفتاح والنكسة الديموقراطية، ومع أنه لم يوافق على الاغتيال إلا أنه لم يحزن عليه، واعتقد أنه نال ما يستحقُّه تمامًا. ولم يُنجب فايد سوى بنتٍ وحيدة، وقد تخصَّصت في الكيمياء، ودَعَتْها عفت باسم أُمِّها فريدة.
فرجة الصياد
عرفتها الغورية في الرابعة عشرة؛ قوية الجسم، مليحة الوجه، تجول في جلبابٍ أزرق، وعلى رأسها مقطف فيه سمك وميزان. اضطرَّت إلى الخروج من مسكنها في السُّكَّرية بعد وفاة أبيها وعجز أُمِّها عن الحركة، ورعتها تقاليد الجيرة والتقى. وذات يومٍ ناداها رجل قوي ذو لهجة غير قاهرية ليبتاع سمكًا فأنزلت المقطف إلى الأرض وقرفصت وراءه وراحت تزِن له رطلًا. ونظر إليها مليًّا ثم قال: أنت حلوة يا شابة.
فقالت له بخشونة: تُريد السمك أم الميزان يُحطِّم وجهك؟
فشخر الرجل بعفوية فانتصبت واقفةً مُستعديةً أهل المروءة. وانقضَّ على الرجل الغريب رجال وتحرَّج الموقف، ولكن برز من الجمع رجل يعرفونه هو عطا المراكيبي وهتف: صلُّوا على النبي.
وضحك قائلًا: إنه إسكندري، جاري في بيتي، لا يعرف عادات البلد، والشخر عندهم كالتنفُّس عندنا.
وأنقذ جاره ومضى به إلى دُكَّانه.
وعطا نفسه تشاءم من مقدم الرجل؛ لأنه جرَّ وراءه جيش الكفار، جيش نابليون، وقد سأله: ماذا جاء بك؟
فأجاب: قتَلَ الوباء أهلي فعزمتُ على هجر الإسكندرية.
وتغير الحال عندما تزوَّج عطا من سكينة ابنة مُعلمه فتفاءل بمقدمه وأحبَّه وقال له: قدَم خير يا عم يزيد!
ولم ينس يزيد المصري فرجة الصياد فقال لصاحبه: أريد أن أُكمل نصف ديني ببياعة السمك.
وخطبها عطا المراكيبي من أُمِّها ثم زُفَّت إليه في شقته ببيت الغورية. ويقول عطا المراكيبي إنه بمجرد أن أُغلِق الباب على العروسين سمع المدعوون في الصالة الخارجية شخرةً تنفُذ من ثُقب الباب مثل قرقرة الماء في النارجيلة!
وقد وُفِّق يزيد المصري في زواجه وأنجبت له فرجة ذُرية كثيرة لم يبقَ منها إلا عزيز وداود. وامتدَّ العمر بالزوجَين حتى شهدا مولد الأحفاد. وفي ليلةٍ رأى يزيد رجلًا في المنام قال له: إنه نجم الدين الذي يُصلي أحيانًا في ضريحه ونصحه قائلًا: شيِّد قبرك جنب ضريحي لنتلاقى كما يتلاقى المُحبُّون.
ولم يتردَّد الرجل فبنى حوشه الذي دُفن فيه، وما زال حتى اليوم يستقبل الراحِلين من ذُريته المنتشرة في أنحاء القاهرة.
فهيمة عبد العظيم داود
كانت تُدعى بعاشقة الورد من طول مُكثها في حديقة الفيلَّا بشارع بين السرايات. وكانت أجمل ذُرية عبد العظيم باشا داود، وفي الجمال فاقت فريدة هانم حسام. وربما كانت في الذكاء دون عفَّت ولكنها كانت أطيب قلبًا وأصفى روحًا. وقد تربَّت معها في الميردي دييه، ولنفس الهدف أي إعدادها للحياة الزوجية الرفيعة. وجاء زواجها تقليديًّا رغم ذلك فَخُطبت — عن طريق جارة — لوكيل نيابة يُدعى علي طلعت. وشيد عبد العظيم باشا داود لها بيتًا في بين الجناين كما فعل لعفَّت وزُفَّت فيه إلى العريس. وكانت الزيجة في غاية من التوفيق، وأنجبت له داود وعبد العظيم وفريدة، ولكن سوء البخت الذي تربَّص بالأسرة بعد ذلك صار مضربًا للأمثال. فقدت فهيمة ذُريتها بعد أن اكتمل لها الشباب وأضاء الأمل؛ مات داود بالتيفود وهو طالب في السنة الثالثة بكلية الحقوق، ومات عبد العظيم بالكوليرا بعد تخرُّجه من العلوم بأشهر، وماتت فريدة بروماتيزم القلب وهي في الثانوية العامة. وأذهل الأسى العميق الوالدَين لدرجة الزهد في الحياة، فطلب علي طلعت الإحالة إلى المعاش وهو مستشار في استئناف القاهرة وتفرغ للعبادة والقراءات الدينية في عُزلةٍ دائمة ما بين بيته والقرافة، أما فهيمة — وهي من أُسرة يقبع الدِّين فيها مُنزويًا على هامش حياتها — فقد بدأت تتساءل عن المصير، وعن اليوم الذي تجتمع فيه بذُريتها الهالكة مرةً أخرى، وراحت تقتني من السوق جميع ما فيها من كتب الأرواح وتحضيرها والقوى الخفية، وآمنت أخيرًا براضية وتراثها الذي كانت تتابعه فيما مضى بابتسامةٍ وسخرية. وقال لها أبوها عبد العظيم باشا: الصبر يا بنتي، وددتُ لو كنتُ الفداء لأبنائك.
فقالت له: أنت الخير والبركة يا بابا، ربنا يطول لنا في عمرك.
وكان كلما شيع جنازة شابٍّ من أبنائها فتقدم المُشيِّعين بشيخوخته الطاعنة شعر بحرجٍ وما يُشبه الذنب، وتضايق من النظرات المُحدقة به في إجلال صامت. وما لبث علي طلعت أن انتقل إلى رحمة الله مصابًا بأنفلونزا حادة فوجدت فهيمة نفسها وحيدةً في ملكوت أرواحها، وقد عمَّرَت طويلًا بعد وفاة والدَيها وأقاربها من ذلك الجيل العريق المُقدَّس للتقاليد ووشائج القربى، فباتت نسيًا منسيًّا فيما عدا كلمة تتبادلها في التليفون مع شقيقتها عفت.