حرف القاف
قاسم عمرو وعزيز
آخر عنقود ذُرية عمرو وراضية، وُلِد ونشأ في بيت ميدان بيت القاضي، وهو الوحيد من الأبناء الذي لم يُبارحه. وبدا من مطلعه نحيلًا مُتحرِّكًا، ولم يكن به شبَهٌ واضح لوالدَيه، ولكنه إذا ضحك استحضر صورة أبيه الضاحكة، وإذا انفعل ذكَّر المُلاحِظ براضية. وكان السطح ملعبه والميدان بأشجاره الفارعة، وعاش بكل وجدانه في أمطار الشتاء ورياح الخماسين. ولم يُتَحْ له أن يتخذ من أحدٍ من إخوته أو أخواته رفيقًا فما كاد يشبُّ حتى كانوا قد تفرَّقوا في بيوت الزوجية، ولكنه وجد العوض في أبناء عمِّه سرور وأبناء الجيران، كما وجد مراحه في بيوت المُتزوِّجين وعند آل عطا وآل داود. وكان أخلص المُستمِعين لأمِّه وأصدق التابعِين لها في أحلامها وجولاتها الروحية بين الجوامع والأضرحة. وكلما جمح به الخيال وجد عندها الأذن الصاغية والقلب المُصدِّق، ففي إحدى ليالي رمضان أخبرها أنه رأى ليلة القدر كطاقةٍ من نور مُشع انداحت لحظاتٍ في السماء، وأنه اطَّلع في ليلة أخرى من وراء خصاص المشربية على زفةٍ من العفاريت. ومنذ صِباه وهو يتطلَّع إلى بنات الأُسرة بحبِّ استطلاعٍ موسوم بشهوة مُستوفِزة قبل أوانها، وحام بصفةٍ خاصة حول دنانير وجميلة وبهيجة، وإلى بنات الجيران وفتياتهم، ولم يعتق سيداتهم من رغباته الغامضة الآثِمة، مع تديُّنٍ مُبكر وصلاة وصيام. ودخل الكتَّاب على رغمه وتلقَّى فيه المبادئ بقلبٍ نَفور وعقلٍ متمرِّد، ولم يستطع أبدًا أن يُفرق بين المدرسة وسجن قسم الجمالية الذي رأى الوجوه التعيسة تلوح وراء قضبان نافذته. ويسأله عمرو في مجلس الليل بعد العشاء: ألا تُريد أن تكون كأخويك؟
فيقول بصراحة: كلَّا.
فيقطِّب الرجل ويقول مُنذرًا: لا تضطرني إلى تغيير معاملتي لك.
اهتزَّت صورة أبيه في عينَيه من عجزٍ عن دفع الموت عن ابن أخته أحمد، حين تُرك لدموعه غير المُجدية. يُريد الآن أن ينعم بحُضن جميلة رغم ما يعقبه من ألمٍ يقبض على قلبه عندما يُقبل على صلاته. دائمًا تعذَّب بين الحب والعبادة، وأعيُن الرقباء أيضًا مثل بهيجة وأُمِّه، بين الدجاج والأرانب والقطط فوق السطح؛ ضبطتهما راضية مرة، لدى ظهورها انفكَّ الاشتباك فطارت جميلة كالحمامة والدمُ ينبثق من وجنتَيها من شدَّة الحياء، وقطَّبت راضية، ثم أشارت بيدِها المعروقة إلى السماء الحانية فوق السطح وقالت: من هناك يرى الله كل شيء.
وتوارت جميلة عندما جاء ابن الحلال، وألحق قاسم جرح الحب بجرح الموت، وراح يراقب رءوس الأرانب المُطلَّة من فوهة البلَّاص المقلوب. وسرعان ما وجد نفسه حيال أوهامه وجهًا لوجه، ودروس المدرسة الثقيلة، وابتسامة لا تُرى بالعين المجردة آتية من عينَي بهيجة الجميلتَين. وظنَّ الأخت مثل أختها ولكنه وجد قلبًا عذبًا وإرادة صلبة. أيُّ فائدة تُرجى من ذلك الحوار الصامت؟! حتى ست زينب أمها قالت لها: إنكما مُتماثلان في السنِّ فهو غير مناسب.
وقالت له راضية: المُهم أن تشدَّ حيلك في المدرسة.
وبسط عمرو راحتَيه داعيًا: اللهمَّ اجبر بخاطري في هذا الولد.
ومن شدة الحصار بكى قاسم، كان بمجلس والدَيه الليلي فسأله أبوه عما يُبكيه فقال: تذكَّرتُ أحمد!
فقطَّب عمرو وهتف: ذاك تاريخ قديم، حتى أمه نسيَتْه!
ومضى ينظر إلى الأشياء بحزنٍ ويبكي. وقالت راضية لعمرو وهما منفردان: عين أصابت الولد.
فقال عمرو بغيظ: يحسدونه على خيبته!
وبخَّرَتْه، وجعل يتشمَّم الشذا الغامض ثم سقط مغشيًّا عليه. ومضى به أبوه إلى الطبيب فقرَّر أنها حالة صرع خفيف لا خوف منه ولكن يلزمه راحة وتغيير هواء. وتذكَّروا مأساة بدرية بنت سميرة. ونظر مرةً إلى الفراغ بحضور والدَيه وقال: سأفعل جميع ما تريدون.
وتساءل عمرو: أهو هذيان مرض؟
فقالت راضية بيقين: بل هو اتصال بأهل الغيب.
وعلم الأهل بحاله؛ فتقاطروا على بيت القاضي يعودونه، وحدجوه بنظراتٍ مليئة بحبِّ الاستطلاع والتوجُّس، وجرى التهامُس في سراي آل عطا فقالت شكيرة لأمها: ما هو إلا عرق الجنون النابض من قديم في أسرة راضية.
وقالت مثل ذلك ست زينب لسرور في بيتها. أما راضية فوكَّدت لعمرو عِلمها بتلك الحال وقالت له بثقةٍ ويقين: لا تخف ولا تحزن وكن مع الله.
ودارت بابنها على الأضرحة، وحرقت البخور في أركان البيت من بابه إلى سطحه. أما قاسم فهجر المدرسة باستهانة، وراح يتجول في الحواري، أو يطوف ببيوت إخوته وأخواته وأقربائه في ميدان خيرت وشارع السرايات وبين الجناين، وفي كل موقع يتناول المشروبات وينثر كلماته الغامضة تنبُّؤًا عن المستقبل كما يتراءى له، وتجيء الحوادث مُصدقة لنبوءاته حتى عرف بينهم بالشيخ، ولم يعُد أحد منهم يجرؤ على السخرية منه. وقال محمود بك عطا لعمرو المحزون: إنها مشيئة الله، وأنت رجل مؤمن، والولد فيه سِرٌّ لا يعلمه إلا الله، إنه يقرأ خواطري حتى بتُّ أعمل له ألف حساب.
فتساءل عمرو: ولكن مستقبله ورزقه؟
فقالت خالته شهيرة وكانت حاضرة: الله لا ينسى مخلوقًا من مخلوقاته، فما بالكم بواحدٍ من أوليائه؟
والواقع أن سُمعته انتشرت في صورة أساطير فأخذ يقصده أصحاب الآمال المُعذَّبة مُحمَّلين بالهدايا ثم النقود، حتى اضطرت الأسرة لإعداد حجرة المعيشة بالدور الأول لاستقبال زوَّاره، وحتى ذُهِل عمرو عندما وجد رزقه ينمو ويفوق رزق أخويه مُجتمعَين. وتلاشت مشكلته بحكم العادة، وكأنما خلق لهذه الولاية، وبدل قاسم بملابسه الإفرنجية الجلباب والعباءة والعمامة، وأرسل لحيته، وقسَّم وقته بين استقبال زواره وبين العبادة فوق السطح، وحتى أمه — الأستاذة العريقة — أصبحت من تلامذته ومُريديه. وفتح صدره لأحزان أُسرته وانغمس في مآسيهم، وشيَّع أمواتهم، وصلى عليهم في جوف مقابرهم. وذات يوم — وكان قد بلغ الثلاثين من عمره — خفق قلبه خفقةً أعادت إليه ذكرياتٍ قديمة مُبلَّلة بماء الورد، وناداه صوت ناعم للخروج من بيته فاشتمل بعباءته وخرج، ومن توِّه توجَّه نحو بيت عمه المجاور. واستقبلته بهيجة بذهولٍ وهي تُسائل نفسها عما جعله يقتحِم وحدتها اليائسة. راحا يتبادلان النظرات كالأيام الخالية، ثم قال: رأيتك في المنام تلوِّحين لي.
فابتسمت ابتسامةً باهتة لا معنى لها فقال: وقال لي هاتف من الغيب آن لكما أن تتزوَّجا.
وقام من فوره فغادر البيت راجعًا إلى بيته وقال لأمه: أريد أن أتزوَّج فاخطبي لي بهيجة.
وقالت راضية لنفسها إن جميع الأولياء تزوَّجوا وأنجبوا. وعندما جاء لبيب لزيارتها أبلغته بالخبر. وشاور لبيب ابنَي عمِّه عامر وحامد فاتفق الرأي على أن قاسم قادر على القيام بأعباء أسرة ولكن الأمر رهن بموافقة بهيجة. والعجيب أن بهيجة وافقت. قيل: إنه اليأس. وقيل: إنه الحب القديم، ومهما يكن من أمرٍ فقد زُفَّت إليه بعد أن تجدَّد البيت القديم بالأثاث الجديد. وتمَّ الزفاف فيما يُشبه الصمت بسبب الإظلام المُخيم في فترة الحرب. واحتفلت به المدافع المضادة للطيارات. ومضت سنوات عُقم ثم أنجبت بهيجة ابنها الوحيد النقشبندي الذي شابَهَ في جماله خاله لبيب. وكان كامل الصحة والذكاء فتخرج مهندسًا في عام النكسة، وأُرسل قُبيل السبعينيات في بعثة إلى ألمانيا الغربية، وكانت حال البلد قد أرهقت صحته النفسية فقرَّر الهجرة، والتحق بعملٍ هام في مصنع صلب بعد حصوله على الدكتوراه، وتزوج من ألمانيا واستقرَّ هناك بصفة نهائية. وحزنت بهيجة لذلك حزنًا شديدًا، أما قاسم فلم يكن يحزن لشيء … وودَّعه قلبه بغير دموع.
قدري عامر عمرو
وُلد ونشأ في بيت بين الجناين وهو الابن الأوسط لعامر وعفَّت. من صغره كان شعلةً في اللعب والجد والخيال. ومن صغره أيضًا أولع بالاطلاع والاهتمام بالحياة العامة بخلاف أخويه، ثُم وجد نفسه في اليسارية. وعشق الفن والأدب رغم موهبته العلمية، ووضع حجر الأساس في مكتبته الخاصة وهو في أولى سِني الدراسة الثانوية. وكاد يكون صورةً من أبيه غير أنه كان أفرع طولًا وأقوى بنيانًا، إلى طبيعة إيجابية ضاربة جرَّت عليه المتاعب. وكم كانت دهشة عامر كبيرةً عندما قُبض على ابنه ضمن نفرٍ من اليساريين، وهُرع الرجل إلى حميه عبد العظيم باشا فسعى الرجل إلى الإفراج عنه بحجة حداثته ولكن الباشا ذُهل وقال لعامر وعفَّت: كيف تكوَّن هذا الولد في بيتكما؟
فقال عامر في حياء: نحن لا نُقصر في تربيتهم ولكن الآخرين يتسلَّلون إلى حياتهم فيفسدونها.
ودخل قدري كلية الهندسة وهو مُسجل في الصفحة السوداء في جهاز الأمن. ونبَّه حليم أخته إلى خطورة الوضع على مُستقبله، وهذا ما فعله حامد مع شقيقه عامر. وتكرَّر اعتقاله والإفراج عنه وهو طالب في الهندسة. وانجذب ذات يومٍ إلى شاذلي ابن عمته مطرية لجامع الثقافة بينهما ولكنه وجده بلا أدريَّته وصوفيَّته العقلية نقيضًا له فضاق به وهجره. ولما تخرج مهندسًا تجنَّب التوظف في الحكومة، فاشتغل في مكتبٍ هندسي لأحد أساتذته المُحالين على المعاش. وكان مهندسًا كفئًا ولكنه سيئ السمعة من الناحية السياسية؛ وأرادت أمُّه أن تزوِّجه ليستقيم أمره من ناحية، وليعوضها عن خسارتها في شاكر، ورحب من ناحيته بالفكرة. وأرادت أن تزوِّجه من إحدى بنات خاله لطفي باشا ولكنها لم تلقَ الحماس الذي حلمت به وحدست ما وراء ذلك من سُمعته السياسية. وتضاعف همُّها عندما رفضه جيران لها لشكِّهم في إسلامه وبالتالي في بطلان الزواج! وغضب قدري على فكرة الزواج كغضبه على البورجوازية بعامة، وآمن بحِكمة خالَيه غسَّان وحليم في إضرابهما عن الزواج. ولمَّا قامت ثورة يوليو كان قد كفَّ عن نشاطه العملي في السياسة ولكن ظلَّ مُبقيًا على اعتقاده وأصدقائه فلم تتبدَّد من حوله عتمة السمعة. وتقدَّم في عمله تقدمًا ملموسًا ومبشرًا بالمزيد، ولكنه اعتقل للمرة الثالثة، واستنجد أبوه ببعض كبار الضبَّاط من تلاميذه السابقين فأكرموه بالإفراج عنه. ومنذ ارتبطت الثورة بالكتلة الشرقية مال إليها ومضى يرى في خُطاها ما لم يكن يراه من قبل. ولعل ذلك مما هوَّن عليه بعض الشيء مُصاب الوطن في ٥ يونيو باعتباره كان مدخلًا حاسمًا لترسيخ النفوذ السوفييتي في مصر ومُقربًا إلى الثورة الشاملة حين تنضج أسبابها. ولعل ذلك ما جعله يستقبل نصر ٦ أكتوبر بسخطٍ لم يستطع أن يُخفيه، وبذله أقصى ما عنده من منطقٍ ومعلومات ليُفرغه من مضمونه أو تصويره في صورة التمثيلية المُفتعلة، وقال لنفسه: انتصار البورجوازية يعني انتصار الرجعية!
ومن أجل ذلك ناصب السادات العداء منذ تجلَّى للعين خَطه السياسي وأضمر له الكره حيًّا وقتيلًا، رغم إقبال الثراء عليه بغير حسابٍ في عصر انفتاحه. وقد اعتقل في طوفان سبتمبر ١٩٨١، وأفرج عنه مع الجميع ليواصل عمله الناجح وآماله الحبيسة، وكان ذلك قبل وفاة أبيه بأيام.