حرف اللام
لبيب سرور عزيز
هو بِكري ذرية سرور وزينب، طالَع الدنيا بوجهٍ مليح مُشرق شبيهٍ بوجه أمِّه وقامة دون المتوسِّط في الطول رقيقة البنيان كأنما أعدَّت لتلقِّي أنوثة عذراء. ومن عجبٍ أنه طُبع منذ طفولته على الهدوء والرَّزانة وكأنما وُلِد بالِغَ الرُّشد. ولم يُجاوز لُعبة الوقوف أمام باب البيت ليُشاهد الأشياء أو يُتابع تحركات ابن عمه قاسم — الذي يصغُره بسنوات — وهو يتعفرت كأمثاله، أو يتمشى في الميدان وهو يُقزقز اللب. وكانت راضية تُناديه فتقول بمحبة: يا صاحب العقل الكامل.
وكانت تقول عنه أيضًا: أبوه موفور الحظ من الحماقة وأُمه عبيطة، فمن أين له هذا العقل؟!
وفي الرابعة من عمره أرسله سرور أفندي إلى الكتَّاب مُتشجِّعًا برزانته وإعراضه عن شقاوة الأطفال، ورأى أنه لن يخسر زمنًا إذا انقضى عام أو عامان قبل أن يستطيع الاستيعاب والإدراك، ولكنه حصل في العامَين معرفة حازت رضا سيِّدنا الشيخ؛ فقال لعمه عمرو أفندي: ابن أخيك لبيب ولدٌ عجيب وعليكم أن تُدخلوه المدرسة الابتدائية.
لم يكن أحد يقترب من المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت دون الثامنة أو التاسعة فقدَّم له أبوه في امتحان القبول بلا اكتراثٍ جدِّي، وجاء نجاحه مفاجأة، وانتظم في الدراسة وهو ابن ستِّ سنوات. ومضى ينجح عامًا بعد عامٍ مُحدِثًا في محيط الأسرة دهشة، والأعجب من ذلك أنه واظب على المُذاكرة بلا حضٍّ أو إغراء، وبلا مُساعدة من أحد، حتى حصل على الابتدائية وهو ابن عشر. وأهَّلَه سِنُّه وتفوقه لدخول إحدى مدارس الخاصَّة المَلَكيَّة بالمجَّان. وشق طريقه في المدرسة الثانوية كالعهد به، ولمَّا ناهز الحلم صدَّ عن أي إغراء جاءه من أركان الأسرة أو الطريق، مطاوعًا تحذيرات أُمِّه، منصرفًا بإرادته عما يُعيق اجتهاده واستقامته، حتى حصل على البكالوريا وهو ابن ست عشرة. وكانت المُعلِّمين العُليا هي المدرسة المُفضَّلة والمناسبة لظروف الأسرة، ولكن الفتى الطموح أعلن عن رغبته في الالتحاق بمدرسة الحقوق. وتمتم سرور وهو بين الخوف والرجاء: إنها مدرسة الحكام!
وقال عمرو: نُشاور عبد العظيم.
وكان الباشا معجبًا بسيرة الفتى فسعى لإلحاقه بالمدرسة وبالمجان أيضًا. وفصل له أبوه بدلةً ذات بنطلونٍ طويل لأول مرة، وذهب إلى المدرسة لتُحدق به الأعين بدهشة، وتحوم من حوله التعليقات الساخرة عن «مدرسة الحقوق الأولية» و«روضة الأطفال الملكية» ولم تتغيَّر النظرة نحوه حتى أثبت تفوُّقه وقدراته، بل لم يتأخر عن الاشتراك في المظاهرات لما اندلعت ثورة ١٩١٩ وتوزيع المنشورات، وإن جرى تَحرُّكه غالبًا في الظل والأمان. ولم يغب عنه شيء من الفوارق الطبقية بينه وبين أقرانه، وخلَّفَت رواسب في النفس ولكنه تجاوزها بهدوء طبعه وحِكمته الفطرية، لم يغتمَّ لبدلته الوحيدة، وعدم مشاركته في أي حياةٍ اجتماعية أو ترفيهية أو لركوبه الدرجة الثانية في الترام، وتجنَّبَ إزعاج أبيه بأي مطلبٍ يتحدَّى قدراته، كان دائمًا صاحب العقل الكامل كما قالت راضية. وجني من صبره واجتهاده الثمرة فحصل على الليسانس وهو ابن ثماني عشرة معدودًا بين العشرة الأوائل. ولم تعترض النيابة على قبوله بسبب الأصل إكرامًا لعبد العظيم داود، ولكنها أبت تعيين معاون نيابة قاصر! فاتُّفِق على إلحاقه بوظيفةٍ كتابية في محكمةٍ حتى يبلغ سن الرشد. والْتحق بعد ذلك بالنيابة رافعًا رأس آل عزيز، وظافرًا لهم بمركزٍ في البيروقراطية العالية، في مواجهة آل داود وآل عطا، ومُحدِثًا في الوقت نفسه انفعالاتٍ من الغيرة والحسد والإعجاب في فروع الأسرة جميعًا حتى أقرب الناس إليه وهم أبناء عمِّه. وشمخ سرور أفندي برأسه عالِيًا كأنما أصبح النائب العمومي، فازداد لسانه حدة، وأثره سوءًا في أنفس الآخرين، وبات ثقيلًا لا يُطاق، وبخلاف المظنون والمنطقي هبَّت على لبيب رياح الهموم. أجل أثبت دائمًا كفاءة ونزاهة كوكيل نيابة وقاضٍ فحاز الثقة والاحترام، ولكن ظروف أُسرته حتَّمت عليه تأجيل الزواج حتى يُعاون في تربية إخوته وتزويج أخواته. من ناحية أخرى انطلقت غرائزه المكبوحة لتستعيض عما فاتها في الطفولة والصبا والمُراهقة، وإذا به يُولَع بالخمر والنساء، فيُمارس العربدة والفسق مع المحافظة على تقاليد مِهنته ما وسعه ذلك. وألِف تلك الحياة حتى عشقها لِذاتها، ولم يفكر في تغييرها لمَّا فرغ من واجباته العائلية، على تهديدها لِسُمعته وإنهاكها لصحَّته. ولمَّا قامت ثورة يوليو، واهتزَّ مركز القانون ورجاله، غزَتْهُ الكآبة كوفدِيٍّ قديم من ناحية، وكرجلٍ من رجال القانون من ناحيةٍ أُخرى. ولم ينقطع أبدًا عن زيارة أُسرته في جميع فروعها، وراح يُتابع أثر الثورة فيها مع الحِرص التام في الإفصاح عن ذاته. وربما كان حامد ابن عمه أقربَهم لنفسه فهمس له مرة: ما الحيلة؟ … أمامنا رجل يَدَّعي الزعامة وبيدِه مُسدس!
ولمَّا رُقِّي إلى رياسة محكمة استئناف الإسكندرية وقارب سنه المعاش تفجَّر تغيير في داخله في صورة طفرة عارمة فاندفع بكل قواه في طريق العبادة والزواج. مارس العبادة لحد الدروشة، وفكر أول ما فكر في الزواج من دنانير بنت عمته. لم ينسَ أنه حاول يومًا في غَيِّه أن يُرافقها لولا رفضها الحاسم له، ولكن منظرها الذي آلت إليه أثار نفوره. فاتَّجه نحو امرأةٍ من بنات الهوى عرفها مُطربة من الدرجة الرابعة بملهًى ليلي على عهد الشباب. ولم يقطع صِلته بها على كثرةِ مَن تقلَّبَ في حُبهنَّ من النساء. وكانت في ذلك الوقت قد كفَّت عن الحرفة لكبر سِنِّها، ولكنها لم تعطل تمامًا من الأنوثة. وسرعان ما تزوَّجا، وأقاما بشقةٍ أنيقة بمصر الجديدة. وأدَّيا معًا فريضة الحج، وعاشا معًا في سلامٍ زُهاء عام. وكانت الخمر قد استهلكت كبِدَه فأصابه نزيف داخلي وهو يرأس المحكمة. وحُمِل من الإسكندرية إلى بيته في القاهرة حيث أسلم الروح. وغادر الحياة ومصر في عزِّ مجدها الناصري قُبيل هزيمة يونيو بأشهر.
لطفي عبد العظيم داود
هو بكري عبد العظيم داود وفريد حسام، كان في الجمال صورةً من أمِّه وشقيقته فهيمة كما حظي بذكاءِ أبيه وجدِّه داود. وفي صباه ومراهقته توثقت أسباب المودة بينه وبين آل عمرو وخاصة عامر، كما هام بالحي العتيق وأطوار راضية الغريبة الخارقة للمألوف، وفتَنَه جمال مطرية كما فتنها جماله، فنشأت قصة حُب حيية في تقاليد ذلك الزمان. وتفتحت القلوب وربت لاستقبال أمطار الأنباء السعيدة. ولكن ما كاد لطفي يُشير من بعيدٍ إلى رغائبه حتى كأنه فجر قنبلة في فيلَّا آل داود بشارع السرايات. تناسَوا القُربى، وحبَّ عامر وعفَّت، وأخوَّة عمرو وعبد العظيم، واعتبروا الإشارة زلَّةَ ذَوقٍ ضلَّ الهُدى وتردَّى في هاوية الانحطاط. وحُوصِر لطفي حتى خُطبت مطرية وتلاشى الخطر. وغضبت راضية وصبَّت لعناتها على من لا أصل لهم، وتوجَّع قلب عمرو واحتقن وجهه بالدم، وحرض سرور أخاه قائلًا: ما ينبغي لغضبك أن ينطفئ.
غير أن صداقة فريدة حسام تكفَّلت براضية، وأحسن عمرو — كالعادة — الحوار مع انفعالاته. وغلبت رابطة الأسرة طوارئ نزواتها. ما أكثر ما يقول بنات داود في بنات عمرو وسرور وما أكثر ما يقول بنات عمرو وسرور في بنات داود، وما أفظع ما يتهكَّم به آل داود على آل عطا، وما أقسى ما يتندَّر به آل عطا على آل داود، ولكنَّ متانة الأساس كانت تصمد للزوابع والأعاصير التي تهبُّ على البيت الكبير. وفي تلك الأيام الغريبة كان الحب يُنسى في مواعيده المعقولة. وسرعان ما انشغل لطفي بدراسة الطبِّ حتى حصل على إجازته. وسافر في بعثةٍ إلى ألمانيا ثم رجع ليستهلَّ حياته العلمية الفريدة في وزارة الصحة، وأثبت نبوغه في الإدارة والعلم، وظفر بمكانةٍ مرموقة بين الأحزاب المُتخاصمة رغم انتماء أُسرته المعروف، ولكنه كان أدنى إلى الاستقلال منه إلى الحزبية، ولم يتردَّد في إعلان ولائه للعرش كموظفٍ كبير أمين، وبذلك ظفر بالبكوية ثم الباشوية، وهو ما بين الشباب والكهولة، وقد لعب عمرو دورًا تاريخيًّا في تزويج لطفي؛ ذلك أنه كان صديق صِبًا لرجُل أصبح رئيسًا للقومسيون الطبي هو بهجت بك عمر. ورأى كريمته آمال خريجة الميردي دييه، وذات الجمال الفريد، فخطر له، انسياقًا مع طبيعته الدمثة، وحرصه على كسب القلوب أن يخطبها للُطفي؛ فسعى سعيَهُ الجميل بين آل عبد العظيم وآل بهجت، وتمَّت على يدَيه زيجة من أسعد الزيجات، وأصبح بها صاحب الفضل المُعترَف به في الأُسرتَين. ونشأت الأسرة الجديدة في فيلَّا بالدقي، ولم تتردَّد تلك الأُسرة المصرو-أوروبية عند زيارة مُنشئها عمرو أفندي في بيته العتيق بميدان بيت القاضي. وفُتنت آمال بالحي العريق وبراضية، وأضافت إلى زوَّار البيت الكبراء أمثال آل عطا وداود وآل بليغ معاوية وردةً جديدة فوَّاحة بعبيرٍ إفرنجي وسحرٍ من نوع جديد فتن الأهل والجيران بمِثل الجذبة الصوفية، وقد أنجبت له فريدة وميرفت وداود، وعاشوا — عقب المراهقة — في الخارج، فريدة وميرفت زوجتَين لرجُلَين في السلك السياسي، وداود طبيبًا في سويسرا وتزوَّج من سويسرية. ولمَّا قامت ثورة يوليو كان لطفي من القلَّة التي لم يمسها سوء من طبقته حتى أُحيل إلى المعاش وهو وكيل وزارة. ولكنه خسِر جُلَّ مُدخراته الموظفة في أسهم وسندات عند التأميم، وقد تُوفِّي عقب وفاة أبيه في السبعين بسرطان المعدة، وهي سِنٌّ تُعتبَر من الشباب في أسرة عبد العظيم المعمرة.