حرف الميم
مازن أحمد عطا المراكيبي
أعذب من الورود التي تتلألأ في الحديقة الكبيرة بسراي آل المراكيبي، ازدهرت في شخصه دماثة أبيه أحمد بك وجمال أُمِّه فوزية هانم، وكان من أحب الشخصيات إلى قلوب آل عمرو، بل وسرور وداود. ومنذ صِباه أحبَّ ابنة عمه نادرة وأحبته؛ ولذلك كان أشقى الناس جميعًا بالخلاف الذي مزَّق الأُسرة، وتعرَّض لذلك إلى غضب شقيقه عدنان مفجر الثورة. وكان مُتعثِّر الخطوات في دراسته، ولكنه اختار الزراعة ليستثمر دراسته في حياته العملية كي لا تتكرَّر المأساة مرةً أخرى في المستقبل. ورغم حداثة سنِّه النسبية سعى سرًّا لدى قريبه عمرو أفندي ليُبارك محاولاته للتوفيق بين الشقيقَين الغاضبَين، وحث خفيةً حبيبته وابنة عمِّه على حفظ حُبهما بمنجاةٍ من العاصفة حتى تهدأ. ولما مرض أبوه الطيب مَرَض الوفاة، وانقشعت غيوم الأحزان لم يمنعه الحزن على أبيه من الترحيب القلبي بعودة السلام إلى أركان الأسرة. وقرَّر أن يُعلن خطبته عقب انقضاء عام الحداد، وكان يطوي العام الأخير من دراسته. وفي مطلع الربيع سافر مع بعثةٍ من الطلبة إلى الإسكندرية في رحلةٍ دراسية، وخطر له أن يستحمَّ في الشاطبي مع بعض الصحاب، فخانه الموج فغرق. حقًّا لقد أحدث موته هزَّةً عنيفة في الأسرة، ولكنه ترك في أعماق نادرة جرحًا لم يُقدَّر له أن يندمِل أبدًا. وورثه عدنان، وصار بذلك أثرى آل عطا، ولكنه كان أيضًا الوحيد الذي طُبِّق عليه قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام ثورة يوليو.
ماهر محمود عطا المراكيبي
وُلِد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وكإخوته تلقى التربية الجادة والرفيعة معًا. وكان طويلًا رشيقًا وسيمًا وذا كبرياء طبقية ملموسة. ولم يكن يزور أهله إلَّا في المناسبات، وتجنَّب آل داود بصفةٍ خاصة، ولم تكن حياته الدراسية تُبشر بخير؛ فاختار الكلية الحربية هدفًا لحياته التعليمية. وشغف بالحياة الأرستقراطية في جميع مظاهرها؛ من إيثار العرش على الأحزاب، ومُصادقة أبناء طبقته، واستثمار جماله في عشق الغواني. وأزعج أباه بمطالبه المالية، وكان محمود بك يُحب أن يُنشِّئ أبناءه على الانضباط من غير حرمان، فأزعجه ذلك الابن الخارج عن الخطِّ المرسوم. وفي الوقت نفسه كان يُحبه ويُعجب به، فتغافل عن تحيُّز زوجته له وإسعافه بما يحتاج إليه، وكان الكِبَر قد ألان عريكته، وكذلك المرض. والتحق ماهر بالكلية الحربية وتخرج في مطلع الحرب العالمية الثانية، وبحُكم الصِّلات الشخصية وبتأثير شقيقه عبده انتظم في سلك الضباط الأحرار، مُرتكزًا إلى عواطف سطحية وغير مؤمن إيمانًا جدِّيًّا بما يُقال عن آلام الشعب وصراع الطبقات. ولمَّا قامت الثورة وجد نفسه من المُقربين، ووثب دون عناءٍ إلى منزلةٍ لم يستطع أن يبلُغها بخطواته الدراسية المُتعثرة. ولم يكن مُقتنعًا بقانون الإصلاح الزراعي رغم أنه لم يُطبَّق في أُسرته إلا على ابن عمه عدنان، ولكن مجال الطموح انفسح أمامه إلى آفاقٍ غير محدودة. واستأجر شقةً في الزمالك لغراميَّاته، وعلا نجمه فعُين في الحرس الخاص للزعيم. وظلَّ في مكانه بعد النكسة وحتى وفاة عبد الناصر. وأُحيل إلى المعاش بعد ذلك بقليل؛ فتفرَّغ لشقة الزمالك، وطيلة ذلك العمر لم يكن الزواج يخطر على باله قط. ولما هلَّت طلائع الانفتاح أقنعه بعض الأصحاب بالعمل في الاستيراد، فباع أرضه وانهمك في عمله الجديد، وأثرى من ورائه إثراءً عظيمًا. وجمعت السراي عبده وماهر ونادرة على عُقمٍ من ناحية الذُّرية ومالٍ يتدفق، وكأنما يُعِدُّونه للآخرين.
محمود عطا المراكيبي
أول ثمرة لزواج عطا المراكيبي من الأرملة الثرية هدى الألوزي، وُلِد ونشأ وترعرع في أحضان العزِّ والفخامة، ما بين سراي ميدان خيرت وسراي العزبة في بني سويف، ودون أن يعلم شيئًا عن حياة أبيه الأولى. ولكنه خالط أقاربه — أخته نعمة وذُريتها رشوانة وعمرو وسرور — منذ سِنيه الأولى وتشرَّب قلبه بِحُب الحي العتيق. ومنذ نشأته وضحت معالِم شخصيته الإيجابية القوية وزادت معالِمها بروزًا بالمقارنة بشخصية أخيه الأصغر أحمد الوديعة الدمثة. غير أنهما في التعليم كانا على مستوًى واحد لا يُبشر بالاستمرار، فاكتفيا كابني أختهما عمرو وسرور بالابتدائية، ثم ركن أحمد إلى حياة أبناء الذوات، على حين لازم محمود أباه، تلميذًا فطنًا ومُريدًا صادقًا ومساعدًا قويًّا. وتجلى بُنيانه مثالًا للقوة والفظاظة بقوامه الربعة ووجهه الغليظ الحسَن القسمات ورأسه الكبير القائم على عنقٍ قصير مليء، وشفَّت هيئته ونظراته المُقتحمة ومتانة هيكله عن التحدِّي والصراع والبطش. ولم يجد أبوه ما يؤاخذه عليه في شبابه الأول سوى نزواتٍ ممَّا يجري في الحقول، فخطب له ولأخيه شقيقتَين مُهذَّبتَين من آل بكري جيرانه، فبدأ محمود حياته الزوجية المُوفقة مع نازلي هانم، ولم تنحرف عينه إلى امرأةٍ أخرى طوال حياته، ونجحت الحياة الزوجية بفضل تعلُّقه بإلهام، وبفضل تربية المرأة الرفيعة وتقديسها التقليدي للزوج والحياة الزوجية، وأنجبت له مع الزمن حسَن وشكيرة وعبده ونادرة وماهر. ومن بادئ الأمر وبِدهاءٍ فريد قرَّر محمود الاستحواذ على قلب أبيه. عرف فيه البُخل فمثَّل بين يدَيه دور البخيل، وإن كان في ذلك معتدلًا لا هو بالبخيل ولا بالكريم. أما في العمل فقد حاز إعجابه بمثابرته ودقته وحُسن تقديره مع مغالاة في العنف في معاملة الآخرين ورفض التساهُل كأنما هو جريمة أو خيانة. وأبوه نفسه كان يُساوره الجُبن أحيانًا فيقول له: من الحِكمة أيضًا ألا نخلق لنا عدوًّا كلَّ يوم!
فيقول الابن: الجميع يُحبون أخي أحمد، لا أهمية للحب، وبالقوة وحدَها تُصان الحقوق.
حتى قال عطا مرة: لقد أنجبتُ رجلًا واحدًا وامرأتَين!
لم يبالِ محمود بكثرة الأعداء وتصاعُد أعدادهم، وآثر دائمًا أن يكون مرهوبًا على أن يكون محبوبًا؛ سواء لدى الموظفين أم المُتعاملِين، ولا ضجر يومًا من رفع القضايا والتردُّد على المحاكم بصُحبة المُحامين. ولمَّا مات الأب عطا خلا محمود إلى أخيه أحمد بحضور أُمهما وقال له: أصبح من حقِّك أن تُدير نصف الأملاك.
فارتبك أحمد وبانت الحيرة في عينَيه فقال محمود: إنه صراع في غابةٍ من الوحوش، وحظ الطيب فيها الضياع!
فازداد أحمد حيرة وارتباكًا؛ فقال الآخر: أتُوافق على أن أقوم بالعمل وحدي؟
– بكل ارتياح، أنت أخي الأكبر وحبيبي وما عرفنا في حياتنا إلا الحب.
– وأيضًا فإني لم أُهمل فريضةً في حياتي، وأعمل وكأن الله يراني.
فقال أحمد وهو يتنهَّد في ارتياح: ما في ذلك شكٌّ عندي.
هكذا حلَّ محمود محلَّ عطا، وكان يوما أسود في حياة الموظفين والخفراء والمُتعامِلين، كان يمضي في الحقل أو الدائرة أو السوق مثل وابور الزلط، والأعيُن ترمقه بالحقد، والدعوات تنهال عليه من الرجال والنساء. وذات ليلة وهو راجع إلى السراي انقضَّ عليه مجهولان بهراواتهم حتى تهاوى فاقد الوعي ثم قذفوه في مصرفٍ وتلاشَوا في الظلام. ومرَّت دورية على أثر ذلك فتهادى إلى مسامعها أنين من المصرف فهُرعت إليه وأنقذته وهو على شفا الموت. ونُقل إلى المستشفى، وكلما سمع سامع بالخبر ضرب جبينه غيظًا ولعن سوء الحظِّ الذي بادر إلى إنقاذه في اللحظة الحرجة. وغادر المُستشفى صحيحًا مُعافًى، بإضافاتٍ جديدة من الكدمات وآثار الجراحة في الجبين والخد والعنق ضاعفت من جهامة منظره ووحشية طلعته، ولكنها لم تُغير من طبعه شيئًا وإن زادته تسلُّحًا وحذرًا. وقال له ابن أخته عمرو أفندي — وكان أحب الناس إلى قلبه: لا بدَّ من سياسةٍ جديدة يا حبيبي!
فقال محمود: الناس لم يُخلقوا إلا لسياسةٍ واحدة، والويل للمُتراجع!
وكان يزور بيت القاضي في حنطوره الفخيم مُحملًا بالهدايا، ويطيب له الحديث مع عمرو وراضية، ثم يستغرقه الحديث عن قضاياه التي لا حصر لها. ومرة قال له عمرو ضاحكًا: ستُصبح من فقهاء القانون مثل عبد العظيم!
فيضحك — وكان يُكثر من الضحك في بيت القاضي — ويقول: الموت أهون من التفريط في الحقوق.
فتقول راضية بحماسها المُندفع: ولكن الدُّنيا لا تساوي هذا التعب!
فيقول مُقهقهًا: ما خُلِقنا إلا للتعب يا درويشة!
وكان يزور عبد العظيم داود في العباسية الشرقية، ويسعد بإخباره عن نجاحه وأمواله، ويُناقشه في القضايا، وكان عبد العظيم يقول لفريدة عقب انصرافه: المرض أحبُّ إليَّ من لقاء هذا الجلف.
فتقول فريدة هانم: امرأته جوهرة ثمينة!
فيقول ساخرًا: ربنا يصبِّرها على ما بلاها!
ولم تُقصِّر نازلي التي تُحبه أكثر من أي شيءٍ في دُنياها في نُصحه بالاعتدال، ولكن شيئًا لم يكن يثنيه عن خطه أبدًا. وسألته أيضًا: ألا يُمكن أن ينفعك عبد العظيم داود في قضاياك؟
فقال مُمتعضًا: إنه يتظاهر بالنزاهة ليداري نذالته وانعدام مروءته، وما هو إلا كافر ومُقلد للإنجليز يشرب الويسكي مع الغداء والعشاء!
ولما قامت ثورة ١٩١٩ تحرك قلبه بعاطفة جديدة لأول مرة، ومسَّهُ سحر الزعيم، وتبرع ببضعة آلاف من الجنيهات، ولأول مرة أيضًا يلمس في الفلاحين البسطاء قوةً مَخيفة لم يعهدها من قبل. ولما حصل الخلاف، وتبيَّن أن للعرش موقفه، وللعدليين موقفهم، وللزعيم موقفه، أخذ يُعيد حساباته، واجتمع بأخيه في سراي ميدان خيرت، وسأله: ما رأيك فيما يجري اليوم؟
فقال أحمد ببراءة: لا شك أن سعد على حق.
فقال ببرود: إني أسأل عن مصلحتنا.
فقال أحمد بحيرة: لم أفكر في ذلك، هل تفكر في تأييد عدلي باشا؟
– المركز الثابت هو العرش.
فقال أحمد ببساطة: دائمًا الحق معك يا أخي.
– ماذا يقول أصحابك من السُّمَّار؟
– كلهم سعديون.
– أعلن انتماءك كي يُعرَف على أوسع نطاق.
– وأولاد أُختنا عمرو وسرور مع سعد أيضًا.
– هؤلاء لا مصالح لهم، لقد انتهت اللعبة، فلا تتصوَّر أن الإنجليز سيغادرون مصر، ولا تتصوَّر أن مصر تستطيع أن تعيش بغير الإنجليز.
وجزاء ولائه للعرش فاز هو وأخوه برتبة البيكوية، وقال لأخيه: كي يسلم آل داود أن الرُّتَب ليست قاصرةً عليهم.
غير أن ثورةً من نوع آخر اندلعت في الأسرة، وكان قائدها عدنان ابن أخيه. وانشقَّت الأسرة نصفَين مُتخاصمين؛ رجالًا ونساء، وَشَمتَ بها المتنافسون، كما حزنَ لها المُحبُّون مثل عمرو ورشوانة. حتى سرور قال: حلَّت اللعنة بالأسرة الملعونة.
ولم يجتمع لها شمل إلا عند وفاة أحمد. وعقب وفاته بأشهُر استفحل مرض السُّكَّر بمحمود، وكان عمرو وسرور قد رحلا عن الدُّنيا، فحلَّت بقلبه كآبة ضاعفت من تأثير المرض، ووهنت عزيمته، وزهد في العمل، وأقام أكثر وقتِهِ في سراي ميدان خيرت حتى وافته أزمةٌ قلبية ذات صباحٍ فأسلمَ الروح. ولحِقَت به نازلي هانم بعد عامَين، وفي نفس عام وفاتها تُوفِّيت فوزية هانم. ولم يبقَ من ذلك الجيل إلا المُعمِّرون مثل راضية وعبد العظيم باشا وبليغ معاوية، وهم الذين امتدَّ بهم العمر حتى قيام ثورة يوليو.
مطرية عمرو عزيز
وُلِدت ونشأت في بيت القاضي، وهي الثالثة في ذُرية عمرو وراضية، وكانت أشبه الجميع بخالتها المُنتحرة صدِّيقة في جمال وجهها ورشاقة قدِّها وعذوبتها. وكانت أجمل الأخوات، بل لعلَّها كانت أجمل بنات الأسرة جميعًا، ومع أنها ترعرعت في عبير الدِّين والدروشة إلا أن السِّرَّ لم ينفُذ إلى أعماقها، واعتقدت أنَّ حُبَّ الله ورسوله يُعفيها من أداء الفرائض. وكان تفوُّقها في الجمال يُحرك الغيرةَ في قلوب أخواتها، ثم حلَّ الرثاء محلَّ الغيرة مع تقلُّبات الزمن. وعُرفت في صِباها ومطلع شبابها بالظرف والمرَح وحُب الناس، والقُدرة على كسب مَحبَّتِهم فلم ينجُ من سحرها امرأةٌ أو فتاة من آل سرور وعطا وعبد العظيم. أجل لم يشفع لها ذلك كُله عندما أغرى سحرها شابًّا مثل لطفي عبد العظيم بالتفكير في الزواج منها، ذلك أن السحر نفسه له حدود في الوجدان الطبقي. بذلك تحوَّلت أول تجربةٍ سعيدة في حياتها إلى محنةٍ عاطفية ذبحت قلبها الطريَّ وأدمت كبرياءها. وهوَّن من آلامها وَقْدة الغضب التي اندلعت من حولها دفاعًا عنها وعن الأسرة. وهوَّن منه أيضًا أنَّ الحُبَّ لم يكن حَظِيَ بالاعتراف بعد، فدارت المعركة حول الكبرياء وحدَها، وهمدت في هاوية التقاليد العريقة. وما لبثت أن خطبتها صديقة لأُمها، تمَّ تعارُفهما في ضريح سيدي يحيى بن عقب، وتفاءلت بالتعارُف ومكانه، وحكمت بالطيبة على المرأة التي كانت تُقيم غير بعيدٍ في حارة الوطاويط. وكان العريس — محمد إبراهيم — مدرسًا بمدرسة أم الغلام، فهو من ناحيتَي الشهادة والمِهنة مثل عامر، ورأته مطرية من وراء خصاص المشربية فأعجبها وجهه القمحي، وجسمه المليء، والغليون الذي يُدخِّنه كالإنجليز! وزُفَّت إليه في البيت الذي تملكه أُمُّه بحارة الوطاويط، وكان من حُسن الطالِع أن كسبت مطرية قلب حماتها، ونعمت بحُبٍّ صادقٍ جمع بينها وبين زوجها حتى آخِر يومٍ من حياته. وأشرقت أعوام مُتلاحِقة بالهناءة والوفاق، وأنجبت فيها مطرية أحمد وشاذلي وأمانة، وكان ثلاثتُهم كالأقمار في الوضاءة والوسامة، وحُقَّ لكل إنسانٍ أن يَعُدَّ بيت حارة الوطاويط من البيوت السعيدة بكلِّ معنى الكلمة. وكان محمد إبراهيم ثاني رجلٍ ينضم إلى آل عمرو بعد حمادة القناوي، ولكنه كان مهَّذبًا دمث الأخلاق ومُربِّيًا مُثقفًا ذا مكتبةٍ متنوعة المصادر، وشتَّان بين حديثه المنضبط وثرثرة حمادة وخيلائه القائمة على غير أساس. ولم يستطع محمد إبراهيم أن يتَّخذ من حمادة صديقًا حقيقيًّا، وجاملَه كثيرًا إكرامًا لصدرية التي حظيت بإعجابه ولم تخْفَ عن فطنته مزاياها كستِّ بيت. تلك الأعوام السعيدة خلدت في وجدان مطرية بتفاصيل حياتها اليومية، بدفء عواطف الزوج وحنان أُمِّه وتسامُحها وبريق الأبناء المبشِّر بالنور والانبهار. وتلقَّت بعد ذلك أول ضربةٍ من ضربات القدَر بوفاة أحمد وهو في الخامسة، جرَّبت عذاب الأم الثَّكلى وحزنها العميق، وانبسط القبر أمام عينَيها الدامعتَين في هالةٍ من العواطف الجديدة بعد أن سكنه جزءٌ من قلبها النابض ونفحةٌ من خيالها المحروم. وتضاعف حبها لقاسم بعد أن تجلَّى حزينًا لا يتعزَّى عن فقد الراحل الصغير. وتحوَّلت أمومتها الجريحة إلى شاذلي وأمانة. ولكن قلبها لم يسعد السعادة المأمولة بزواجهما. ورحلت حماتها في الثلاثينيَّات فورثت أعباء لم تعتدْ حملها، ثُمَّ نُكِبت بوفاة أبيها قُبيل الحرب العالمية، ووفاة عمها سرور بعده بأعوام، فكابد قلبُها آلامًا حقيقية لشدة وفائه للعواطف الأُسرية. واعتبرت زواج شاذلي خيبةً ظالمة وضعتْها في كفةِ حظها العاثر حتى قال لها محمد إبراهيم: ليس الأمر بالسوء الذي ترين.
فقالت مُتشكِّية: كان يستحقُّ عروسًا أفضل.
فقال الرجل: إنه أدرى بما يُسعده.
وتابعت نجاح أمانة في دراستها بارتياحٍ وأمل؛ وإذا بزوجها المحبوب يُصاب بتليُّف في الكبد، فيلزم الفراش وتتدهور حاله، ثُم يُسلِم الروح في العطلة الصيفية بعد نجاح أمانة في البكالوريا. تلقَّت مطرية أقسى ضربات حظها، ووجدت نفسها أرملةً دون الخمسين. واضطرَّت إلى تزويج أمانة من عبد الرحمن أمين، ومكثت في بيت حارة الوطاويط مع خادمتها، وحيدةً حزينة، وضاعف من همومها ما صادفته أمانة في حياتها الزوجية من متاعب. وكانت تتسلَّى بزيارة الأهل؛ أمها وأخواتها وإخوتها وبنات عمِّها وآل عطا وآل عبد العظيم داود، وفي مُقدِّمة الجميع شاذلي وأمانة. ومضت تذبُل وتجفُّ، وتتغيَّر معالمها، ولكنها أبقت على ميزتها الفريدة وهي تبادل الحُب مع الأهل والناس. ولعلَّها الوحيدة من أُسرتها التي لم تنقطِع صِلتها بشكيرة زوجة أخيها حامد بعد أن فصل الطلاق بين الزوجَين. وشدَّ ما أحزنها الموت المُبكِّر لأبناء شاذلي، ولمَّا نجا ابنه محمد من قدَرِهِم دعت الله أن يُبقِيَه لأبيه ولها، وتوسَّلت إلى أُمِّها راضيةً أن تحميه بكل ما لدَيها من وسائل. وكانت ضربةً قاضية لها عندما وافتها أنباء استشهاده في الاعتداء الثلاثي. واشتدَّ بها الذُّبول والجفاف، وتبيَّن أنها مُصابة بسرطان. وما زالت تتدهور وتسير من سيئٍ إلى أسوأ حتى أسلمت الروح وهي في الستِّين. كانت أول من يموت من الجيل الثاني في آل عمرو، بل في الأسرة كلها. واقتضت الظروف ألا يحزن عليها كما ينبغي أحبُّ الناس لها؛ شاذلي لم يترك له حُزنه على ذُريته فائضًا، وراضية كانت في الثمانين وحزن الثمانين سريع الزوال، وقاسم كان قد استوى لدَيه الحزن والسرور … فلم تجد أمانة من يُشاركها البكاء واللَّطم.
معاوية القليوبي
وُلِد ونشأ في بيت سوق الزلط، وتربَّى تربيةً دينية خالصة، واقتبس من أبيه معلومات وسلوكًا حتى قبل أن يُجاور في الأزهر، وأبدى نجابةً وتفوقًا، وغرامًا خاصًّا بالنحو الذي راح يُدرِّسه في الأزهر بعد حصوله على العالمية. وقُبيل وفاة والده بأشهُر زوَّجه الرجل من جليلة الطرابيشية، وهي كريمة سلمان الطرابيشي الذي كان يعمل في مصنع طرابيشي الباشا. وكان معاوية يزاول نشاطًا إضافيًّا في جوامع حَيِّهِ، ممَّا أضفى على شخصه مهابةً ومحبة. وكانت جليلة تفُوقه طولًا وكانت ذات أطوارٍ غريبة، وعصبية حادة، وتراث حافل بالغرائب، فصمَّم الرجل على أن يُلقِّنها مبادئ دِينها الصحيحة، ونشب بينهما صراع ودِّي طويل، فأعطاها وأخذ منها، وكلما أصابته وعكةٌ سلَّم نفسه إلى طبِّها الشعبي دون مُنازع، وذاعت شُهرتها في الحي حتى كادت تُغطي على شهرته. وقد ربط الحب بينهما، وبفضله استمرت الحياة الزوجية، رغم حدَّة طبعها وتعصُّبها لأفكارها، وأنجبت له مع الأيام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. ولمَّا قامت الثورة العرابية تحمَّس لها الشيخ، ومال إلى تيَّارِها، وأيَّدَها بالقلب واللسان. ولمَّا فشلت الثورة واحتلَّ الإنجليز مصر قُبض عليه فيمن قُبِض عليهم، وقُدِّم للمحاكمة فقضت عليه بالسجن خمسة أعوام. وراحت جليلة تطوف بأضرحة الأولياء داعيةً على الخديو والإنجليز، ودبَّرت شئون أُسرتها بشيءٍ من المال ورثته عن أبيها. وغادر الشيخ معاوية السجن ليجد نفسه في دُنيا غريبة، فلا أحد يذكُر الثورة أو أحدًا من رجالها، أو تُذكَر بعض الأسماء مصحوبةً باللعنات، ولم يجد عينًا تنظر إليه بعطفٍ سوى عين يزيد المصري صديقه القديم وناظر سبيل بين القصرَين. شعر الرجل بغربةٍ وأسًى وانطوى على نفسه حتى وجد وظيفة معلم بمدرسة أهلية. وقال له صديقه عزيز ذات يوم: ابني عمرو مُوظف في نِظارة المعارف في العشرين من عمره وأوَدُّ له أن يُكمل نصف دِينه. فأدرك الشيخ ما يرمي إليه وقال: على بركة الله.
فقال عزيز: ستتم على يدَيك بإذن الله ومن بيتك.
فقال الشيخ: راضية بنتي وعمرو ابني!
وذهبت نعمة عطا وابنتها رشوانة لخطبة راضية، ورجعتا مَبهورتَين بجمال صدِّيقة وراضيتَين عن جمال راضية ووجهها الشامخ، غير أن نعمة تساءلت: أهي أطول من عمرو؟
فقالت رشوانة باطمئنان: كلَّا يا أمي، هو الأطول.
ولكن الأجل عاجَلَ الشيخ قبل أن يشهد زفاف كريمته، وصادف وصول نيشان العروس يوم الوفاة، الأمر الذي أدَّى بجليلة من خلال اجتهادها الشخصي مع تُراثها إلى أن تُطلق زغرودة من نافذة ثُم تواصل صواتها على الراحل العزيز، وتصير بذلك نادرة الحي على مجرى العمر. ودُفن الشيخ في حوشه القريب من حوش عزيز في رحاب سيدي نجم الدين.