حرف الباء
بدرية حسين قابيل
وُلِدت في شقة بعمارة حديثة بشارع ابن خلدون، فكانت بِكرية حسين قابيل تاجر التحف بخان الخليلي وسميرةَ كريمة عمرو أفندي والرابعة في ترتيب ذُريَّته. وكان الحيُّ يعبق برائحة اليهود المُتفرنجين. وكانت العذوبة في ملامحها والرشاقة في أطوار سلوكها. وكانت إذا زارت البيت القديم في بيت القاضي بصُحبة والدَيها لفتت الأنظار بنُضجِها المُبكر. ويضحك جدُّها عمرو أفندي ويقول: الظاهر أنها ستستعمِل الحجاب والنقاب قبل الأوان.
فيقول حسين قابيل: ولكنها يا عمِّي ستواصل تعليمها إلى النهاية.
فتقول راضية ضاحكة: يا له من عالَمٍ مجنون، ولكنه لذيذ.
فتقول سميرة: لن نُفرِّق بين البنات والصبيان في شيء.
وتسألها راضية: وإذا جاء عريس في السكة؟
فتقول سميرة دون تردُّد: عليه أن ينتظر أو يذهب مع السلامة.
فيقول الأب مُداريًا اعتراضه بابتسامة: سميرة … أنت خواجاية غريبة في أُسرتنا!
وفعلًا حين المُراهقة رآها تاجِر في زيارةٍ لدكَّان والدها فأراد أن يخطبها، ثم عدل لمَّا عرف أن عليه أن ينتظر حتى تنتهيَ من تعليمها. ولكن جاء زائر آخر عجزوا عن التعامُل معه. كانت قد جاوزت الخامسة عشرة، وكانت تُجالِس أُمَّها وإخوةً لها في الشرفة، عندما سقطت على وجهها مُتصلِّبة الجسد مُرتجفة الأطراف وفُوها ينثُر الزَّبد … آه … إنه الصرع. وكانت مأساة قاسم قد حُفرت في الوجدان … ولكن هذا صرعٌ شديد العنف. واستُدعي الطبيب ونصح بالراحة وتغيير الهواء ومزيدٍ من لِين المعاملة، وانقطعت عن المدرسة، وحلَّت في عينَيها النجلاوين، مكان النظرة المُتألقة، أخرى خابية ذاهلة، وتلاشى الحوار وحلَّ محلَّه هذيان. واستغاثت سميرة بأُمها، وقال حسين قابيل: لو كانت تملك نفعًا لنفعت به ابنها.
ولكن سميرة لم تأخذ بذلك المنطق، وجاءت راضية ببخورها ورُقاها وتعاويذها. وطافت بالبنت أضرحة الأولياء وآل البيت، ومضت الحال من سيئٍ إلى أسوأ، فلم يبقَ منها إلا خيال.
وفي صباح يومٍ من الأيام قالت بدرية لأُمِّها: رأيتُ في النوم أميرًا يدعوني إلى نزهة في القناطر.
فران التشاؤم على قلب سميرة، وعند الضحى احتضرت الفتاة ثُم أسلَمَت الرُّوح. هكذا فقدت سميرة بِكريتها كما فقدت مطرية بِكرِيَّها، ولكنها فقدتها وهي في أوج صِباها، وأحاط بها المُعزُّون من آل عمرو وسرور، ومحمود بك عطا وأحمد بك عطا، وعبد العظيم باشا داود. وشدَّ ما حزنت راضية، وكانت تتذكَّر حال ابنتها وتُناجي ربها قائلة: رحمتك يا رحمن يا رحيم.
وكان سرور أفندي يحنق عليها في باطنه ويتهمها بأنها كانت السبب في عدم اختيار إحدى كريمتَيه لأحد أبنائها، فراح يُشنِّع بها كعادته في ذلك ويقول لزينب زوجته: كل ذلك موروث عن أُسرتها، فما من رجلٍ بها أو امرأة إلا وبه مسٌّ من الجنون، وهي في مُقدِّمة الجميع.
بليغ معاوية القليوبي
هو آخر عنقود الشيخ معاوية القليوبي، وشقيق راضية زوجة عمرو أفندي، وقد وُلِد في بيت الشيخ بسُوق الزلط بباب الشعرية، ولعلَّه المولود الوحيد الذي أنجبه الشيخ بعد خروجه من السجن. ونشأ من صِغَره نشأةً دينية، وألحقه أبوه بالأزهر في سنٍّ مُبكرة. ويزور شقيقته في بيت القاضي فيلفت الأنظار بشبابه وجُبته وقفطانه وعمامته، ويُحدِث في أسرة راضية إثارة تجمع بين الاحترام والفكاهة معًا، وهو بطبعه يُشبع الناحيتَين، فيُرتِّل القرآن بصوتٍ جيد استجابة لأُخته، ويُداعب البنات والصبيان بالمُلَح. وكان ذا وجهٍ قمحي مُستدير جذَّاب الملامح، ولا يُخفي حُبَّه للطعام اللذيذ، وخبرته بصنوفه لا تقل عن خبرته بالدِّين الذي يُدرِّسه. وتقول له راضية بلسانها اللاذع: الأصلح أن تكون طباخًا من أن تكون عالمًا من علماء الدِّين كأبيك.
فيُقهقِه قائلًا: أنا رجل حائر بين أبٍ عالِم وأختٍ مُؤاخية للعفاريت.
في ذلك الوقت كان الشيخ معاوية قد انتقل إلى جوار ربه، وقد تمَّت خطبة راضية على يدَيه ولكنه لم يشهد دُخلتها. وعقب وفاته لم تجد غرائز بليغ من يكبحها. وفي جلسةٍ جمعت راضية مع جليلة أُمِّها العجوز فوق الكنبة، في مدخل البيت الذي يتصدَّره الفرن وتقع البئر في جناحه الأيسر، في جلسةٍ حزينة لاحظَت راضية أن أُمها غارفة في بحرٍ من الغم على غير عادة، ولمَّا سألتها عما بها قالت: أتُصدِّقين يا راضية؟ … أخوك الشيخ الأزهري بات يرجِع كلَّ ليلةٍ سكران فاقد الوعي؟
وفزعت راضية وهتفت: أعوذ بالله.
– أنا … أمامه بلا حول.
ووجدت راضية نفسها أعجزَ مِن أُمِّها حياله … واستعانت بعمرو أفندي ولكنَّ بليغ كان يتظاهر بالندم ويتمادى في ضلاله. وأثار فيما حوله استهجانًا عامًا وسخطًا مُتصاعدًا، فترامت الأنباء إلى إدارة الأزهر، وانتهى الأمر بفصله وطرده بدون أن يحصل على العالِمية. وجد نفسه ضائعًا وبلا مورد. وكانت أُمُّه تملك قطعة أرض فضاء فنزلت له عنها فباعها، وقرَّر أن يستثمرها في بقالة الجملة. وسافر إلى أهل أبيه في قليوب وراح يشتري الجبن والسمن، ويحملها إلى القاهرة ليُوزعها على البقَّالِين، وقامت الحرب العُظمى الأولى فأثرى ثراءً مَذكورًا وتحسَّنت أحواله. ومن يومها أخذ نجمه في التألُّق والصعود. وفي تلك الفترة تزوَّج من أمينة الفنجري؛ أسرة ذات مال واحترام، ولمَّا قامت الحرب العُظمى الثانية بلغ غايته من الثراء، فشيَّد العمائر، وبنى لنفسه سرايَ في القبيسي عُرفت في الحي ﺑ «عابدين القبيسي» لعظمتها وفخامتها، ولم يُنجب إلَّا ولدًا واحدًا رآه من كبار القُضاة، وأثبت أنه تاجر ماهر، ولكنه لم يتخلَّ عن الداء الذي طُرد من أجله من الأزهر حتى آخِر عمره. وكان يزور بيت القاضي في الحنطور تارةً أو السيارة فيما بعد، مُحمَّلًا بالهدايا، مُشيعًا في الخلق الأثر الذي يُتابعه خفيةً بسرورٍ لا مزيد عليه. وكان يُحافظ على صَلاته وصومه وزكاته مُحافظته على كأسه، ويُثابر على الاستغفار مُثابرته على الغرور والفخار. وقد امتدَّ به العمر حتى مشارف الخمسينيَّات، بعد أن رحل أحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا وجليلة أمُّه وأخواته نهيرة وشهيرة وصدِّيقة فلم يبقَ بعدُ إلَّا أخته الكبرى راضية مؤاخية العفاريت. وقد أصيب بتليُّف الكبد، ولازم الفراش الوثير نصف عامٍ ثُم فارق الحياة وهو نائم، أو هكذا خُيِّل لزوجته أمينة الفنجري.
بهيجة سرور عزيز
شهد ميدان بيت القاضي ملاعب طفولتها مع أخيها لبيب وأختها جميلة، ومنذ نشأتها خالطت بنات وأبناء عمِّها عمرو. وجمع الطبع الهادئ بينها وبين أخيها الأكبر لبيب وابنة عمِّها سميرة، وإن ماثلَت في العمر ابن عمِّها قاسم. تبدَّى وجهها في هالةٍ بيضاء كأمِّها ست زينب مُشربة بحمرة. صافية العينَين الخضراوين، في صوتها دسامة تُذكِّر بصوت والدها سرور أفندي. وفي سجيَّتِها رزانةٌ فطرية جرَّتْ عليها تُهمةً ظالمة بثِقَل الدم، ومُحافَظةٌ على التقاليد وَتَدَيُّنٌ حَصَّناها ضد عبث الصبا. واكتفى في تعليمها بالكتَّاب كبنات عمِّها وأُختها جميلة. وتفرَّغت مِثلهنَّ لفنِّ البيت من طهيٍ وحياكة وما يجري مجراهما، وأخذت موضعها منذ وقتٍ مُبكر في محطة الانتظار التقليدية، انتظار ابن الحلال. ولعلَّ أنسب أحدٍ لها من الأسرة كان حامد ابن عمِّها، ولكن آل عطا المراكيبي استولوا عليه بوضع اليد ممَّا أثار أشجان سرور أفندي وزوجته زينب هانم. وكانا قد مرَّا بالتجربة نفسها عندما راودتْهُما الأحلام في زواج عامر من جميلة. وعلى ذلك قام سرور لشقيقه عمرو: ألم تُفكِّر في بهيجة قبل أن تُهدي حامد لمحمود المراكيبي؟
فقال له عمرو: نحن يا سرور فقراء على باب الله ونبحث لطيورنا عن ريش، وابنتُك جميلة والحمد لله ولن يطول انتظارها.
من أجل ذلك تناقضت عواطف سرور حيال شقيقه الأكبر بين الحُبِّ والمرارة، كعواطفه حيال أهله جميعًا ممَّا أطلق لِسانه فيهم كالخنجر بلا رحمة، وممَّا أنزله في النهاية من قلوبهم منزلةً لا تُقارن بحالٍ بالمنزلة التي حظي بها أخوه عمرو. وغضبت زينب زوجته لذلك الجواب الناعم المُحبِط الذي يلطمهم به للمرة الثانية، وقالت بسخطٍ شديد رغم أنها لم تخرج عن برودها السطحي: أنا أعرف السر وراء ذلك كله!
فقال سرور: المسألة أنَّ أخي شديد الشعور بضعته بين أقاربه الأغنياء، ويتحرَّق دائمًا على التعلق بفروعهم العالية.
– ولا تَنْسَ راضية ربيبة الجان والسحر أنها تغار مِنِّي وتضنُّ عليَّ بالخير.
لم تكترث بهيجة لضياع حامد … كانت تنفر من خشونته وابتذاله. في الوقت نفسه راقبت بازدراءٍ شديدٍ العبث الفاضح الذي تُمارسه أختها جميلة مع ابن عمِّها قاسم. كانت أختها ابنة ست عشرة وابن عمِّها في الثانية عشرة أو يزيد قليلًا، فما هذا الذي تضبطه أحيانًا فوق السطح أو تحت بئر السلم؟! الأخلاق تأباه والدين يتوعَّده وهي تكتُمه خوف العواقب. ولمَّا خُطِبت جميلة وعقلت وجدت نفسها تُفكر في قاسم بدورها. لم تكن كأختها النزقة المجنونة. خفق قلبها بعاطفةٍ رقيقةٍ ولكن داخل قفصٍ ذي قضبان صلبة من الحياء والتقاليد. وقد انتبه الفتى لها وقرأ في عينيها الصافيتَين النداء الصامت، وسرعان ما لبَّى مفعمًا بالشهوة والأمل في أن يواصِل معها العبث الذي انقطع بضياع جميلة. ولكنه وجد قلبًا وإرادة من فولاذ. وحام حولها كالمجنون حتى قالت لها أمُّها: إنه من سِنِّك فلا يصلح لك.
لم تعترض ولكنها لم توافق فقالت الأم: أمامه مرحلة طويلة ولا تنسَي أمَّه.
وشعرت بالتعاسة. ولمَّا ألمَّ بالفتى ما ألمَّ فاعتبر مفقودًا غرقت في التعاسة حتى قمة رأسها. ولم ترَ بدًّا من العودة إلى محطة الانتظار. ولكن انتظارها طال دون سببٍ حتى وضعتها ألسنة الأسرة في سلةٍ واحدة مع دنانير بنت عمَّتِها رشوانة. البنت جميلة ومثال كريم للأخلاق الفاضلة، فلِمَ صدَّ عنها الخُطَّاب؟! وطال الانتظار وانكسار القلب حتى تُوفِّي عمُّها عمرو وأبوها سرور وأمُّها زينب.
وجاء عام ١٩٤١ وهي وحيدة في بيتهم القديم المجاور لبيت عمِّها في بيت القاضي، تعاونها أم سيد، وينزل بها أخوها لبيب كالضيف الذي أقصاه عمله عن القاهرة. وجعلت تقترب من الثلاثين وهي تمضغ اليأس ليلَ نهار، وليس لها من الدُّنيا إلا نصيبها من معاش أبيها. وفجأة — وكأنما بوحي — انتبه لها الشيخ قاسِم من جديد وقال لأُمِّه: أريد أن أتزوَّج من بهيجة!
واعتبرت راضية الطلَب كرامةً من كراماته، وأمرًا تنزَّل يُحيط به الغمام، فحدَّثت لبيب في أول زيارة. ففكَّر الرجل طويلًا. ابن عمِّه لا ينقصه المال ولكن …! وعرض الأمر على أُخته فتلقَّى الموافقة. أهو اليأس؟ أهو الحُب القديم؟ … أهو الخوف من الوحدة؟
وتمَّ الزواج الذي تندَّرت به الأسرة طويلًا في ليلة تعرَّضت فيها القاهرة لغارةٍ جوية طويلة وزلزلت أركانها بدويِّ المدافع المُضادة.
وانتقلت بهيجة إلى بيت عمِّها، لأن قاسم أُمِر بألا يُغادر بيته. ومضت أعوام دون أن تنجِب ولكن قاسم طمأنها قائلًا: سوف تُنجبين ذكرًا عندما يرضى القمر.
وقد أنجبَتْه في عام ١٩٤٥ وأسماه أبوه النقشبندي، بدأ حياته التعليمية عقب قيام ثورة يوليو، وثمل طوال عهد دراسته بالعظمة والمجد، وحظي بوجهٍ مشرق وقوامٍ رشيق وذكاء لمَّاح، وتخرج مُهندسًا عام ١٩٦٧. وتقرَّر إرساله في بعثة، ودعَت له راضية وهي في قمَّة شيخوختها، وقال له أبوه: الله معك، إني أودِّعك بلا دموع.
وسافر النقشبندي إلى ألمانيا الغربية بعد مُضي أشهر على ٥ يونيو، مَهيض الجناح حزين الفؤاد، وعلِم هناك بموت الزعيم فلم يحزن، ولمَّا حصل على الدكتوراه عدل نهائيًّا عن العودة إلى مصر، وعمل في ألمانيا وتزوَّج من ألمانية ثم تجنَّس بالجنسية الألمانية، ولمَّا علم أبوه بذلك قال مرةً أخرى: الله معك، إني أودِّعك بلا دموع.
وبعد رحيل راضية بقي قاسم وبهيجة في البيت القديم وراء شجرة البلخ التي شهدت حُبَّهما القديم، وما زال قلباهما ينبضان بالحُب والعزلة.