حرف الجيم
جليلة مُرسي الطرابيشي
وُلِدت في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر في باب الشعرية لأبٍ كان يعمل في مصنع الطرابيش الذي أنشأه محمد علي فيما أنشأ من مصانع. وكان الأب قريبًا للشيخ القليوبي وغير بعيدٍ من بيته بسُوق الزلط، فخطب ابنته جليلة لابنه الشيخ مُعاوية الذي بدأ حياته في ذلك الوقت كمدرسٍ مُبتدئ بالأزهر الشريف. هكذا صارت ربة البيت القديم بسُوق الزلط وعُرفت في الحي بجليلة الطرابيشية. وكانت ذات قامةٍ طويلة، جعلتها تنظُر إلى الشيخ من علٍ — الأمر الذي لم يغفره لها أبدًا — سمراء رشيقة ذات جبهةٍ عالية وعينَين بُنِّيتين نجلاوين، وقد أنجبت له مع الأعوام راضية وشهيرة وصدِّيقة وبليغ، وعُرفت بأنها موسوعة في الغيبيَّات والكرامات والطبِّ الشعبي، وكأنما أخذت مِن كل ملَّةٍ بطرف بدءًا من العصر الفرعوني، ومرورًا بالعصور الوسطى. وحاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يُلقنها أصول دِينها ولكنه من خلال المُعاشرة الطويلة أخذ منها أكثر ممَّا أعطاها. فكان يُطاوعها «حين المرض» وكلمَّا دهمَه خطب من خطوب الحياة، يُسلمها رأسه لتَرقيه، أو يستسلِم لبخورها، أو يُردِّد وراءها بعض التعاويذ. وكانت صلبة، عنيفة إذا لزم الأمر، فكانت الجارات يعملنَ لها ألف حساب، ولقد لقَّنت بناتها جميع ما لها من علمٍ وخبرة، فاستجَبْنَ لها بدرجات متفاوتة، وبرعت راضية في استيعاب ميراثها أكثر من الجميع، وحظِيَت بحُبها أكثر من أيٍّ من ذُريتها بما فيهم الابن بليغ. وكلما أراد الشيخ معاوية التسلُّط عليها صمدت له بصلابة، حتى التهديد بالطلاق لا يُخيفها، ولم تغب عنه قوة أخلاقها ومهارتها المنزلية الفائقة، فتراجع راضيًا بالمهادنة والمشاركة. وكانت تُقدس مُعتقداتها لدرجة التفاني والتصلُّب، وتجلَّى ذلك يومَ وفاة زوجها الشيخ معاوية في عصر الاحتلال. كانت خطبة راضية لعمرو، وقد أعلنت عقب اتفاقٍ جرى بين الشيخ معاوية وعزيز زياد والد عمرو وصديق الشيخ. وعقب الوفاة بساعةٍ واحدة، وصُوات ستِّ جليلة يُذيع الخبر المشئوم، وصل نيشان العروس، أُولى هدايا العريس، على غير علمٍ منه بما حدث. وتقبَّلت جليلة الهدية — سمكة في حجم ابنها بليغ — ونفحت حامليها بما قُسِم. وانقبض قلبها لمجيء النيشان وسط هدير الصُّوات، وأشفقت من عواقب ذلك على مُستقبل أحبِّ ذُريتها إليها. ووقفت فوق رأس الشيخ المُسجَّى بلحافه الأخضر وناجتْهُ من قلبها المكلوم: اغفر لي يا معاوية.
وهرولت إلى حجرةٍ في الجانب الشرقي للبيت تُطلُّ من بعيدٍ على جامع سيدي الشعراني وهي تقول لنفسها: لا يفكُّ عقدة النحس إلا استقبال الهدية بما يليق.
وجفَّفت دموعها ووقفت وراء النافذة وأطلقت زغرودة مُجلجلة ترقص على أنغام فرح مُتدفِّق. ورجعت بسرعة إلى حجرة الجثمان وراحت تُصوِّت من أعماق صدرها. ولم يغب ذلك عن بعض الآذان الماكرة، وتهامَسْنَ به، ثم تندَّرْنَ به على مدى العمر وتُنوقِل كشهادةٍ حية على غرابة أطوار المرأة المُثيرة، التي جمعت بين التقوى والحب والجنون. ولكن لم ينل خطب من بُنيانها المَتين ما ناله رحيل زوجها، حزنت عليه بالطول والعرض ولبثت تلهج بمآثره الحقيقية والخيالية طيلةَ عمرها الطويل. فقد عُمِّرت حتى جاوزت المائة … بعشرة أعوم، عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي وعهود إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية وثورة ١٩١٩. ولم يرسب في أعماقها زمن كالثورة العرابية التي اعتبرت من أهم رجالها، وما أكثر ما روت من بطولاته وسجنه لأحفادها، وذهب بها الخيال في ذلك كلَّ مذهبٍ حتى ليُخيَّل للسامع من أبناء وبنات راضية أنَّ الشيخ معاوية هو الذي عرب محمد علي، وهو الذي اعتمد عليه عرابي بعد الله، واختلطت صورة عرابي في رأسها بعنترة والهلالي وآل البيت إكراما قبل كل شيء لذِكرى الشيخ معاوية. ولم تسعد بذُريتها سوى براضية وأبنائها. وحظي عمرو برضاها، وإن لم تزُر بيت القاضي إلا مرَّاتٍ معدودات بسبب طعونها في السن، أما شهيرة وصدِّيقة وبليغ فقد تركنَ في قلبها جراحًا لا تلتئم. أنت تقول لبليغ وهو ملقًى مخمورًا على كنبة المدخل: أنت سكِّير عاصٍ وعارٌ على زِيِّك الشريف.
ولمَّا أورقت شجرته وصار تاجرًا مرموقًا قالت له: وهبك الله الثروة ليمتحنك فاحذر امتحانه.
وكان بليغ يُحبها ويشكُّ في سلامة عقلها، وقد رجعت شهيرة إلى بيتها طريدةً فملأته قططًا، أما صدِّيقة فوا أسفا عليك يا صدِّيقة.
وكان قاسم أحبَّ الأحفاد إلى قلبها؛ يغمرها بقبلاته، ويُنصت لحكاياتها، ويُصدِّقها بقلبه وحواسِّه، ولمَّا حصل ما حصل، لم تجزع وقالت لراضية: أبشري، ربنا وهبك وليًّا.
وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمرها نهاية الربع الأول من القرن وعند مشارف الثلاثينيات، أقعدها الكِبَر، وسُدَّت المنافذ بينها وبين الوجود ففقدت السمع والبصر، وبقي لها الوعي فكانت تعرف الأحباب بأناملها، وقامت شهيرة بخدمتها ما استطاعت حتى ضاقت بها، وكانت أحنَّ على القطط منها على أُمِّها. وكانت تشكوها إلى راضية كلما قامت بزيارةٍ لها، فتُعاقب راضية شقيقتها وتُذكِّرها بوصية الرسول بالأم فتقول شهيرة: ما أسهل الوعظ، ولكنكِ تعيشين مُكرَّمة في بيتك وتُلقِين عليَّ وحدي تنفيذ الوصية!
وفي إحدى الزيارات وجدت راضية المدخل يموج بالقطط، تموء وتتداخل بأسلوبٍ وحشيٍّ يُنذر بالدهشة، ورأت جليلة مُلقاةً على الكنبة مُسْلِمةً الروح، وكانت شهيرة نائمة في الدور الأعلى.
جميلة سرور عزيز
لم يرَ ميدان بيت القاضي وأشجاره المُثقلة بأزهار «ذقن الباشا» أجمل منها إلَّا تكن مطرية ابنة عمها عمرو، وهبَتْها أمُّها بشرتها العاجية وعينيها الخضراوين النجلاوين، وفاقت أُمَّها بفيها الأنيق كالقرنفلة وجسمها المدمج. وبخلاف أُمها كانت تموج بالحيوية والخفَّة واستمدَّت من غرائز أبيها لفحاتٍ حارة خضَّبت وجنتَيها بماء الورد الأحمر، وسبقت زمنها لا بالتعليم، فلم يُجاوز نصيبها منه محو الأمية كأختها وبنات عمها، ولكنه بالتحرُّر التلقائي المُنطلق بقوة نُضج مُبكر ونداء الأشواق المُبهمة، فتلوح في النافذة لتسقي أصيص الورد، أو تخطر بنصف نقابٍ فيما بين بيتها وبيت عمِّها المجاور، أو تُلاقي النظرات الجائعة بدلالٍ مُتمرِّد، في طفولتها كانت تجول في الميدان بصُحبة أخيها الأكبر لبيب، وانضمَّ إليهما بعد سنواتٍ قاسم. كانت تكبُر قاسمًا بسنواتٍ ولما ناهزت الحلم لم تجد سواه لعبةً لقلبها المُتحفِّز. وكلما خلت به لاعبَتهُ لتُوقِظه من براءته فتبعها في حيرةٍ ثملة مُمتعة كرؤية جمال الفجر لأول مرة، ولمس بأنامله المُتشنجة جواهر حالَ الجهلُ بينه وبين معرفة قيمتها. ولمَّا قارب الثالثة عشرة سقط في الشهد قبل الأوان. وتفتح على راحتها الناعمة المُخضبة بالحناء كالوردة وأخلد بكل عذوبة إلى نفثات صدرها المُضطرم، وبسببٍ من تلك الرعونة تصدَّى لها أخوها أمير، وعنَّفها حتى ضاقت به وبكت. وقالت له أُمُّه: تذكَّر أنك أخوها الصغير.
فقال لها: سُمعتنا!
فقالت زينب بهدوئها الذي لا تخرج عنه: إني أعرف بنتي تمامًا وهي مِثال للأدب.
ولما جاوز أمير حدوده قال له سرور أفندي: دع الأمر لي.
وكان سرور أفندي يميل إلى التسامُح المعتدل، وكان في ذلك الوقت يتساءل عما جعل عامر ابن أخيه عمرو يميل إلى عفَّت بنت عبد العظيم داود دون جميلة بنت عمِّه. ويقول لزوجته: الله يخيبه. أليست بنتنا أجمل؟
فتقول زينب ساخرة: أليس هو ابن راضية المجنونة؟!
ويقول سرور بمرارة: أخي يزعم أنه من أهل الطريق، ولكن رغبته في القرب من أهله الأغنياء تفوق رغبته في القرب من الله!
والحق أن جميلة أخافت الأُسَر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها، حتى قيَّض لها حظها ضابط شرطة جديدًا بقسم الجمالية يُدعى إبراهيم الأسواني. كان ممشوق القوام طويلَهُ غامِق السمرة، رآها فأعجبته، ووجد سُمعة البنت طيبة، فخطبها بلا تردُّد. وما يدري قاسم إلا وفاتنته ومُعلمته تتغيَّر بين يومٍ وليلة كتفَّاحة اجتاحها العطب؛ اختفت وحلَّ بها وقار، لا يحلُّ إلا مع الزمن الطويل، وزُفَّت إلى العريس في مسكنه بدرب الجماميز في حفلٍ أحيته الصرافية والمطرب أنور. وما لبثت الأسرة الجديدة أن غادرت القاهرة بحُكم عمل الزوج، فمضت أعوامٌ وأعوام وهي تُشرق وتغرب دون إنجاب، وبعد أن مات سرور أفندي قبل أن يرى أحفاده من جميلة. وفي أثناء ذلك حصلت لإبراهيم الأسواني أمور، فقد كان وفديًّا، وافتضحت عواطفه في تراخيه بالقيام بواجبه في عهود الديكتاتوريات، حتى انتهى الأمر بفصله. وكان قد ورث عشرين فدَّانًا فرحل بأسرته إلى أسوان، وانضم إلى الوفد جهرًا، وانتُخِب عضوًا بمجلس النواب، وثبت عضوًا دائمًا بالهيئة الوفدية. وأنجبت جميلة بعد العلاج من عُقمها خمسة ذكورٍ عاش منهم سرور ومحمد، وكان الزواج قد حوَّلها من الرعونة إلى رزانةٍ عجيبة وجِدِّية فائقة وأمومةٍ سخية، وكأنها قد تمادت في بدانتها إلى درجةٍ يُضرَب بها المثل. ولم يكن إبراهيم الأسواني يخلو من انفعالات وأحوال، ولكنها كانت كالمُحيط الذي يستقبل الأمواج العالية والعواطف الهادرة ثُم يهضمها في صبرٍ وأناة كي يعود إلى هدوئه الشامل وسيادته الكاملة. فهذا يُصدِّق أنها هي التي نصحت أمانة بنت مطرية مرةً فقالت لها: على الزوجة أن تكون مُروِّضة للوحوش!
ولَمَّا قامت ثورة يوليو أيقن إبراهيم الأسواني أن حياته السياسية قد انتهت، فاعتزل في أرضه وتفرغ للزراعة، وكان ابناه سرور ومحمد قد صارا ضابطَين طيَّارَين، وانقرضت هذه الأسرة بقضاء لا رادَّ له. أما إبراهيم الأسواني فقد قُتل في تصادُمٍ بين قطارَين عام ١٩٥٥. كان في الخامسة والخمسين وجميلة في الخمسين. وأصيبت طائرة سرور في حرب ١٩٥٦ ولقِيَ مصرعه، ولحق به أخوه محمد في حرب ١٩٦٧، وأنقذت جميلة من الوحدة والأحزان عام ١٩٧٠ فماتت بسرطان المعدة وهي في الثالثة والستِّين من عمرها. وكانت حين وفاتها كأنها مقطوعة من شجرةٍ لا أهل لها.