حرف الحاء
حازم سرور عزيز
من أيامه الأولى نشأ عَزوفًا مُتوحِّدًا يقف أمام بيته مُبتعدًا عن إخوته وأبناء عمه يتفرج على الرائح والغادي بين حارات الميدان. لم يدخل بيت عمه عمرو مرةً واحدة، وكان عمرو يقول لسرور ضاحكًا: ابنك حازم عدو للبشر.
وكان وسيمًا كأُمِّه، قصيرًا كبهيجة، وفي عينه اليُسرى ضعف طبيعي بلغ بها العمى، ولم يُرَ ضاحكًا أو منفعلًا قط. وتجلَّت نجابته منذ كان في الكتاب فأوشك أن يُعيد سيرة أخيه الأكبر لبيب، وانحصر في ذاته فلم يَعرف هدفًا في الحياة سوى النجاح والتفوق، وجهل وجوده جميع أهله من آل عطا وآل داود. ولتفوُّقه لم يُكلِّف أباه مليمًا في تعليمه، حتى الهندسة دخلها بالمجَّان بكل جدارةٍ وتبيَّن لأخيه أمير أنه لا يعرف اسم رئيس الوزراء ولا ينظر في الصُّحف ولا تصِل إلى وجدانه أيُّ موجةٍ من بحر الأحداث التي يضطرب بها الوطن. وسأله: أتظنُّ الدنيا مذاكرةً فحسب؟!
ولكن لم يكن بوسع أحد أن يَجُرَّه إلى مناقشةٍ على الإطلاق. ولمَّا رحل أمير ضحيةً لجهاده، ذُهل وصمت ووجم ولم ينبس بكلمة ولم يذرف دمعة، وسرعان ما واصل حياته وتخرج مهندسًا في عام ١٩٣٨، ولم يتَّجِه نحو الحكومة بسبب عجزه، ولكنه وجد وظيفةً أفضل في شركة مقاولات الدكتور محمد سلامة الذي كان أستاذًا له في المدرسة. كان الدكتور المهندس يُعجب به ويُحبه ويرى فيه مثالًا للذكاء والعمل والبُعد عمَّا يُثير المتاعب. وكان يزور أستاذه في ڨيلته بالدقي لإنجاز بعض الأعمال، وهناك عرف كريمته سميحة. كانت على درجةٍ من الجمال مقبولة ولكنها كانت كريمة مُديره وأستاذه، وهو الأهم. ولم يغب عن فطنته أنَّ البك يُشجع تعارفهما، وأدهشه ذلك لِما يعرفه الرجل من بساطة أصله وفقره. وركِبَه الغرور حينًا من الدهر، إلى أن تمَّ الزواج وأقام في شقةٍ بعمارة يملكها الدكتور المهندس وحسِبَ أنه مَلَكَ العالمين. هناك وضحت له الحقيقة وجابهته بوجهٍ مُنذرٍ بالخطر، بأن العروس ذات جهازٍ عصبي لا يخلو من خلل، وسرعان ما أسفرت عن طبيعة لا يُمكن مُداراتها. كانت عاصفةً تهيج وتنتشر لأوهى الأسباب. وربما بلا سبب ألبتة. وكان قد خُلق بجهازٍ مانعٍ للصواعق فِطري اقتبسه من ستِّ زينب أُمِّه، وكان يعيش برأسه لا بقلبه، فقال لنفسه وهو مُلتفٌّ بالروب الحريري الكحلي وغائصٌ في الفوتيل بحجرة المعيشة: ليكن، فهي زيجة على أي حال عادلة.
ضمنت له مُستقبلًا يعزُّ عن الأحلام، وهو يملك من الذكاء والهمَّة ما يجعله قادرًا على استثماره على خير ما يُمكن أن يكون، ولو كانت سميحة عروسًا كاملة أو حتى عادية لاستحقت زوجًا من طبقتها في درجةٍ عالية أو في السلك السياسي، ولقد أهداها أبوها إليه بعد تفكيرٍ وتدبُّر وعليه أن يقبل الهدية بتفكير وتدبُّر كذلك، وقال لنفسه أيضًا: إن تكن مريضةً فأنا الطبيب!
وقد كان.
وتتابعت وفيات آل سرور وعمرو الهامة قُبيل الحرب العظمى الثانية، وفي أثنائها بدأت برحيل عمرو، فسرور، ثُم زينب. وكانت سميحة قد ضاقت بزيارات أُمِّه وأبيه وإخوته فقرَّرت في لحظة جنون ألا تُشارك في العزاء! ونظر إليها بتوسُّل وقال: ولكن.
وضمَّن لهجته كل المعاني المطلوبة ولكنها قالت بحدة: لن أذهب إلى ذلك الميدان المليء بالحشرات، ولا أحبُّ أن يجيئني أحد منه.
ولم يغضب ولم يُنبئ وجهُهُ عن شيء، وسرعان ما انقطعت العلاقة بينه وبين أهله. واندمج في أهلها كظلٍّ لها ونَسِيَ أصله. غير أن طاعته العمياء لم تكفُل له السلامة. فعلى أثر سهرةٍ في شقته شهدتها حماته وأُختها وبعض الأقارب، قالت له لما انفردا بنفسيهما: لم تُعجبني، غلَب عليك الصمت، وبدرت كلماتك القليلة بلا معنًى …!
فقال مُعتذرًا وبأسلوب غاية في الأدب والرقة: الكلام الكثير يُوجع رأسي، ولم يَجْرِ ذِكر لأيِّ موضوع هام.
فصرخت: إن لم يكن الكلام في الهندسة يُصبِح لغوًا؟
فلاطفَها بابتسامةٍ وإذا بها تثور وتهدر بأقسى الألفاظ ثم تقبض على فازة ثمينة وتقذف بها الجدار فتتحطَّم وينهال حطامها على غطاء الكنبة المُطرَّز بالكانافاه. ونظر إليها باسمًا مُشفقًا ثم قال بحنان: لا شيء في الوجود يستحقُّ أن تُجشمي نفسك من أجله هذا الغضب كله … ولكن الشقة شهدت أيضًا العناق والأبوة والأمومة، وقد أنجبت له حُسني وأدهم، وعَلا مركزه بثباتٍ وجدارة في الشركة، وزاد اعتماد محمد بك سلامة عليه مع الأيام حتى حلَّ محلَّه — بعد وفاته — نيابة عن سميحة، وشارك في رأس المال بمُدخَّراته، وازدهرت الشركة في عهده أكثر من ازدهارها الأول، وشيَّد حازم فيلَّا في الدقي انتقلت الأسرة إليها، وقد هضم نزواتها جميعًا ببطولة خارقة، ولكن بعض النزوات بدت عسيرةً في هضمها. مثال ذلك أنَّ محمد بك سلامة كان عضوًا في الهيئة الوفدية، على حين أن حصيلة حازم من السياسة كانت صفرًا، ولكنه بإزاء حماسها أعلن في البيت على الأقل وفديَّته. وهي لم تقنع بالإعلان البارد، فرجع يومًا إلى شقته فرأى صورة النحاس مُعلقة مكان صورة سرور أفندي أبيه. نظر واجمًا دون أن يجرؤ على إبداء أي ملاحظة فقالت: إني أتشاءم من صور الأموات، وهذه صورة زعيم الأمة … ولم يُبدِ أي ملاحظة حتى بعد أن رحل محمد بك سلامة والنحاس وظلَّت صورتاهما بمكانهما! ويوم انتقلت الأسرة إلى الفيلَّا الجديدة ضحكت ضحكتها العالية وقالت: احمد ربنا يا غبي، رفعناك من الحضيض إلى القمة.
فقال باستسلام: الحمد لله على كل شيء.
فقالت مُقطبة: ولا تنسَ نصيبي من الشُّكر.
فقال ببروده المعهود: أنت الخير والبركة.
ولمَّا قامت ثورة يوليو خاف أن تكون وفديته المزعومة قد جاوزت جدران مَسكنه ولكنه لم يتعرَّض لسوء، ودأب على مدح الثورة في شركته، والحملة عليها في بيته مُجاراةً لسميحة، وهو يُقلِّب عينَيه فيما حوله مُستعيذًا بالله. ولدى كل مناسبة تقول بحنق: هل سمعتم عن بلد تحكمه مجموعة من الكونستبلات؟!
فيهمس في أذنها بتدخل: احذَري الخدَم … والجدران … والهواء.
وشدَّ ما فرحت بالعدوان الثلاثي وشدَّ ما خابت آمالها. وفي ٥ يونيو أغلقت على نفسها حجرتها وراحت ترقُص، وساعة بلغها نبأ وفاة الزعيم زغردت حتى هبَّ حازم واقفًا وهو يصرخ لأول مرة: أنا في عرضك!
وكانت الشركة قد أُمِّمَت، ولكن سائر مُقتنيات الأسرة لم تُمَس، وفي عهد السادات بلغ حازم ذروته الحقيقية، وفتح مكتبًا هندسيًّا وبات في عداد أصحاب الملايين. وقالت سميحة عن الزعيم الجديد: حقيقة أنَّ وجهَهُ أسود، ولكن قلبه أبيض.
ولكن لعل هزيمة سميحة على يد ابنها حسني فاقت هزيمتها السياسية ضراوة. من بادئ الأمر، أرادت أن تُسيطر على الذُّرية كما سيطرت على الأب ولكنها سجلَّت خيبةً كاملة. أما حُسني فقد حطم السدود والقيود، أما أدهم فلم يُخيِّب أحلامها بعد أن صنع حياته بقراره المُستقل عن الجميع. ولم تجد سميحة من تصُبُّ عليه غضبها سوى حازم فقالت له باحتقار: لولا ضعفك وغباؤك لما كان ما كان.
وسقطت في كِبَرِها فريسةً للاكتئاب حتى اضطرت إلى قضاء شهرٍ في مصحة أعصاب بحلوان. وبقي حازم صامدًا رغم إصابته بالسُّكَّر، بل لعلَّه تكيف تمامًا مع مُعاشرة المرأة المريضة. أجل، شدَّ ما تمنَّى موتها فترةً طويلة من عمره خاصة بعد وفاة حميه. كانت تُراوده أحلام غريبة، فيراها مرةً ضحية حادث للسيارة، أو مرَض عضال، أو غريقةً في البحر الأبيض، أو … أو.
ولكنه كفَّ عن أحلامه، واستوحش البيت حين إقامتها بالمصحة، واعتبر نفسه قد حقَّق حُلمَه الأبدي في النجاح والثراء.
حامد عمرو عزيز
منذ نشأته الأولى بدأ نبتًا شاذًّا في أرض أُسرته. ولعلَّ عمرو أفندي لم يتعب في تربية أحدٍ من ذُريته كما تعب في تربيته، أحبَّ اللعب والعراك واكتسب ثروةً من قاموس أوباش الحواري والأزقَّة، وطالما مارس عُنفه مع أخواته برغم أن ترتيبه كان السادس بينهم. ونتيجة لذلك تعثرت خطواته في الكتَّاب والمدرسة، وكثيرًا ما يرجع إلى البيت القديم مُمزَّق الجلباب أو دامِيَ الأنف، فيتعرَّض لمُجابهة أخيه الأكبر عامر، ولم يكن يتورَّع عن ضربه أحيانًا، بخلاف عمرو أفندي الذي كان يقنع بالزجر والنصيحة والتهديد، وتظلُّ راضية من أجله في تعامُل مُتواصل مع الرُّقى والتعاويذ وتنذر النذور لأضرحة الأولياء.
وكان يُضمر أخبث النوايا لبنات الأقارب مثل جميلة وبهيجة ابنتَي عمه. ودنانير بنت عمته رشوانة، لولا سوء سُمعته الذي حمل الأمهات على الحذَر منه. وامتاز أيضًا بين آله بضخامةٍ في الجسم وكبر ووضوح في القسمات أضفت عليه حال رجولةٍ مبكرة. وكان حلمه الأثير أن يقود عصابةً مثل مشاهير الفتوات الذين يهدمون اللذَّات في حيِّه العريق. ولما حصل على شهادة الكفاءة بعد أكثر من محاولةٍ نصح محمود عطا المراكيبي والده بأن يختصر الطريق ويُدخله مدرسة الشرطة، قال: هو الحل الذي وجدتُه لابني حسن.
ورحب عمرو أفندي بالنصيحة فتعهد محمود عطا بتذليل العقبات بشفاعته التي لا تُرد، باعتباره من الأعيان المرموقين. هكذا دخل حامد المدرسة مع حسن ابن خال أبيه في عامٍ واحد. وجاهر محمود برغبته في تزويج حامد من كُبرى بناته شكيرة فسُرَّ عمرو بتلك الرغبة التي تُوثق علاقته بآل المراكيبي، كما وثَّق ابنه عامر علاقته بآل داود. هيَّأ الزواج لفرعه الذابل من أسباب المجد ما لم يكن يحلُم به وعزَّز موقعه في الشجرة الشامخة فشعر بالرفعة والرضا. وسُرَّ حامد أيضًا — رغم منظر خطيبته الذي لا يسُر — لطموحه إلى طيبات الحياة. راضية وحدَها امتعضت وقالت: يا له من اختيار يستحقُّ الرثاء.
فقال لها عمرو: احمدي الله يا وليَّه.
فقالت بحدَّة: الحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه!
فقال الرجل برجاء: البيوت السعيدة تقوم سعادتها على الأصل والأخلاق.
فقالت بسخرية: والمال! … آه يا ناري!
وأفضى سرور أفندي باستيائه إلى شقيقه، وراح يُفسِّر الأمر فيما بينه وبين نفسه برغبة أخيه الجامحة في التعلُّق بأذيال أقاربه الأغنياء، وبأن محمود عطا اختار بنفسه عريسًا لابنته كحامد لشعوره العميق بتفاهة ابنته، وبأنه إذا لم يظفر لها بشخصٍ بسيط مُكبل بأفضاله فلن يتقدَّم لها إلَّا بلطجي ممن يطمعون في مالها واستغلالها ونهبها. ولمَّا اتهمت ست زينب راضية بأنها لا تُحب لهم الخير، قال لها سرور: المسألة أكبر من راضية، إنها صفقة يبدو حامد في ظاهرها هو الرابح، والحقيقة أن الرابح الحقيقي هو المراكيبي وابنته التي ما كانت لتجد عريسًا يجبر الخاطر، وأخي رجل طيب ومُغفل.
ولم تُسَر واحدة من بنات عمرو، وقالت صدرية مُعلقة على الخبر: سيتزوَّج أخي من رجلٍ كامل الرجولة!
ولمَّا قامت ثورة ١٩١٩ كان حامد في السنة النهائية، وقد مال قلبه إليها بمجامعه، واتُّهم بالتحريض على الإضراب، وحُوكم، وأنزل إلى السنة الأولى من جديد، وكان الجميع يستبِقون في بذل التضحيات، فلم يحزن عمرو أفندي كثيرًا، وحمد الله على أنه لم يُفصَل ويُلقَ به في الطريق. ولمَّا تخرَّج ضابطًا، كانت مكانة محمود بك قد ارتفعت بإعلان ولائه للملك، فأمكنه أن يُلحق حامد بالمراكز الرئيسية في الداخلية مع ابنه حسن، وسرعان ما زُفَّت إليه شكيرة دون مُطالبته بأي تكاليف فعلية، فانتقل من البيت القديم ببيت القاضي إلى سراي ميدان خيرت ليحتلَّ هو وعروسه جناحًا صغيرًا في الطابق الأوسط الخاص بآل محمود.
نقلة ثورية بلا شك، ربيب الحواري في زواياها الكاسدة يجد نفسه بين يومٍ وليلة في سراي سامقة، تُحيط بها حديقة غنَّاء، وتُزينها التحف والتماثل والأثاث الفاخر، وتُطربها لغة الهوانم الرفيعة بأعذب ألحانها، وتحفل موائدها بأطيب الأطعمة، وتعبق إلى جانب ذلك بمناخٍ ديني مُهذَّب لا أثر فيه لغيبيات راضية الخارقة. وجد حامد نفسه في قفص يحرسه رجل جبار هو محمود عطا المراكيبي وهانم غاية في العذوبة والجمال هي نازلي هانم، أما شريكة حياته وقريبته فكادت تكون صورةً من أبيها في تكوينه الصلب ونسخةً من أمِّها في التهذيب والورع. ولم يكن بوسعه أن يُغير من طبعه، فقد تعامل في صباه مع البلطجية وها هو يواصل تعامُله معهم كضابط شرطة كلَّما تمادَوا في انحرافهم! ولم يكن من الممكن أن يُولَد حُب في خليته الصغيرة، وما جرَّب في حياته سوى اللذة العابرة، ومنذ الأسابيع الأولى في حياته الزوجية أسفرت طبيعته عن حقيقتها في الكلمة والفعل. أجل لم ينسَ القفص والحارسَين، كان يهاب محمود بك أكثر من أبيه، ويقف أمامه كما يقف أمام رؤسائه العظام بالداخلية، فكبح جماحه، على قدْر استطاعته، وروض نفسه على الرضا بواقعه، لكن العادة قاهرة واللسان خائن. وقد ارتعبت العروس وهمست لأُمِّها: إنه غاية في الابتذال، أكله وشربه وحديثه.
وكانت الهانم ست بيت بالمعنى الكامل؛ طالبتها بالحكمة والصبر، وقالت لها: كل ذلك لا يمنع من أن يكون رجلًا صالحًا.
كانت خير وساطة بين الطرفَين ولم يدر أحد شيئًا عما يدور في الجناح الجديد. سرعان ما اعترضت الهانم مشكلة جديدة نشأت عن الكراهية المتبادلة بين راضية وشكيرة. لم تكن راضية تدري كيف تُداري عواطفها، وكانت شكيرة لا تمارس النفاق. وكانت المودة بين نازلي هانم وراضية كاملة، ولكنها كانت في أعماقها تؤمن بخطورتها، وقالت لابنتها: حذار، حماتك عليمة بفنون السحر وأسرار الأولياء، وأنا أُصدِّق ما يُقال من أنها مؤاخية للعفاريت، أعطيها حقها الكامل من الاحترام والمجاملة.
وكانت تتوسَّل إلى راضية قائلة: من أجل عشرتنا وحُبنا اصفحي عن ابنتي وامسحي أيَّ خطأ منها في وجهي.
في خضمِّ ذلك الاضطراب أنجبت له وحيدة وصالح وحظِيَت من حياتها المتوترة بشيءٍ من العزاء، رغم أنها حياة لم تعرف الحب ولا السلام، كما أن مُنغصاتها انحصرت في أضيق الحدود. ولما وقع الشقاق بين الشقيقَين محمود وأحمد، وتمزَّقت وحدة الأسرة، خشي عمرو أن يجرف ابنه تيار عداوةٍ لا شأن له بها. وكان عمرو يسعى لإصلاح ذات البَين، ويُحافظ على علاقته الطيبة بخالَيه فنصح حامد بأن يلتزم بموقفه هو — عمرو — وألا يقطع صلته بأحمد بك، وسعى لدى محمود حتى انتزع منه مُوافقته على ذلك، وارتاح حامد لذلك إذ كان يميل في أعماقه إلى خاله أحمد ويؤمن بعدالة مطلبه. وفي الفترة السابقة للحرب العظمى الثانية وما تلاها من أعوام، رحل عن الدنيا أحمد وعمرو ومحمود فشعر حامد بتحرُّره من الرُّقباء، وبلغت علاقته بزوجه الغاية من السوء. وقد أشقى ذلك فيمن أشقى وحيدة وصالح فتمزَّقا بين والدَيهما. أجل كانت شكيرة صاحبة الأثر الأكبر في تربيتهما؛ فنشآ نشأة مُهذبة، وعُرفا بالاجتهاد والتديُّن، ولم يَعفيا والدهما قطُّ من الاتهام وأدانا معاملته الفظة لأُمهمها وإن حافظا ما استطاعا أمامه على الحياد والأدب. ولكنه تلقَّى نجواهما من نظرات عينيهما، وشعر بالغربة والغضب. وظل حامد على إيلاء حماته بما تستحقُّه من احترام ومجاملة، ولكنها اضطرت أن تقول له: لقد أدميتَ قلبي بسوء معاملتك لشكيرة.
وكان يحقد على شكيرة ويتصور أنها التهمت خير سِني حياته بغير حق. وتَلاحَيا مرةً وتبادلا كالعادة كلماتٍ قاسية، وإذا بها تصرخ في وجهه، وهي تبكي: إني أكرهك أكثر من الموت.
وأقدم على الحلم الذي راوده طويلًا فطلَّقها، وقال مُعتذرًا لقريبه وصديقه وزميله حسن شقيقها: معذرة، لم أعد أحتمِل، وكل شيء بمشيئة الله.
ولم يعُد إلى البيت القديم في بيت القاضي إلا شهرًا واحدًا. ولخَّصت راضية موقفها قائلة: ما كان يجب أن يتمَّ ذلك الزواج، ولكن ما كان يحق لك الطلاق إكرامًا لوحيدة وصالح.
رغم أنها اتُّهِمت في السراي بأن سحرها كان وراء الطلاق كما كان وراء فشل الزواج من أول يوم.
وانتقل حامد إلى شقةٍ في عمارة جديدة بشارع المنيل دلَّه عليها قريبه حليم بن عبد العظيم باشا داود حيث كان يسكن شقةً أخرى بها. وفي الخمسينيات وهو يقترب من الخمسين أعجبته أرملة في الأربعين تُدعى عصمت الأورفلي فتزوَّج منها وجاء بها إلى شقته بادئًا حياة جديدة. ووهنت علاقته بوحيدة وصالح وإن لم تنقطع. ولمَّا قامت ثورة يوليو أحالته إلى المعاش ضمن ضبَّاط الشرطة الذين اعتبرتهم أعداء للشعب، علمًا بأنه حافظ على وفديَّتِه في قلبه دائما، ولكن الثورة عدَّت الوفديين أعداء للشعب أيضًا. وانطوى على نفسه حينًا في مسكنه مع عصمت حتى تبيَّن له أن حكيم ابن شقيقته سميرة من المقربين ومن أصحاب النفوذ، فطلب إليه أن يفعل شيئًا من أجله، وفعلًا تعين مدير علاقات عامة بعمر أفندي بخمسين جنيهًا شهريًّا إلى معاشه. وطابت له الحياة نوعًا ما، ووجد في الزوجة الجديدة امرأة مُحنكة تعاملت بمكرٍ حسَن مع نزواته وابتذالاته وهيأت له حياةً مستقرة … لا انفصام لها فيما بدا. ولم ينقطع أبدًا عن زيارة البيت القديم والتودُّد الصادق لأمِّه وأخيه قاسم، وكان يجد في غرابة أطوارهما ما يسرُّه ولا يكفُّ عن مُمازحتهما. يترك جبينه لأُمِّه تلثمه بحنان، ويسلم رأسه لها لترقيه وتتلو عليه الصمدية وبعض محفوظاتها من الأوراد، ويسأل أخاه عن الطالِع والمُستقبل، ثم يجول في ربوع الصبا ويزور الحُسين قارئًا الفاتحة، وكان ذلك يُمثل الغاية والنهاية في حياته الدينية. وكان أيضًا يزور بيوت أخواته وبيت أخيه عامر وآل داود. وفي تلك الفترة من حياته توثقت علاقته بحليم بن عبد العظيم باشا، وقد جمع بينهما نفس المصير على يد الثورة، كما توثقت صلته أكثر بابن عمِّه لبيب، وكان يشارك الأول في تدخين الحشيش، وكان يشارك الأخير في السُّكر، ثم يؤاخي بين أرواحهم نقد الثورة والسخرية برجالها وتذكُّر أيام العزِّ الماضية. لم ينغص عليه صفوه إلا شعوره المطارد بأن وحيدة وصالح لا يُكِنَّان له من الحُب ربع ما يُكنه لهما منه، وأنهما يؤثِران أمهما عليه بلا حدود. وشهد بكل وجدانه مآسي وطنه. ومآسي أُسرته، وشهد أيضًا وثبة أكتوبر ١٩٧٣، وفي العام التالي شعر بضعف، شُخِّص أولًا بأنه فقر دم، ثم عرفت زوجته من نتيجة التحاليل أنه سرطان دم، وأن النهاية واقفة أمام الباب. ولم يدْرِ ما أصابه، ونقل إلى المستشفى وهو يجهله، وشهد ساعاته الأخيرة المُمزقة بنزع الألم زوجتُه ووحيدة وصالح، وفي اللحظات الأخيرة طلَب رؤية راضية ولكن تعذَّر ذلك بطبيعة الحال لأنها من ناحيةٍ كانت قد جاوزت المائة، ومن ناحيةٍ أخرى لم تعلَم بمرَض ابنها، وظلَّت على جهلها به حتى وفاتها. وأسلم الرجل الروح بعد عذاب، وودَّعته دموع زوجته ووحيدة وصالح. أما شكيرة فلم يُخفِّف الموت من كراهيتها العميقة له.
حبيبة عمرو عزيز
إن يكن لميدان بيت القاضي والحواري التي تصبُّ فيه وأشجار البلخ السامقة أثر في قلوب آل عمرو وآل سرور، إن يكن للمآذن والدراويش والفتوات والأفراح والمآتم أثر، إن يكن للحكايات والأساطير والعفاريت أثر، فهي حياة تجري مع الدم وتكمُن في جذور البسمات والدموع والأحلام في قلب حبيبة — الخامسة في ذُرية عمرو أفندي — لم تُطق مغادرة الحي على سنوح الفُرَص الباهرة، ولم يحب الأب أو الأمَّ أحدٌ كحُبها لهما، ولا الإخوة ولا الأخوات ولا أبناء العم ولا بناته، حتى الجيران والقطط. بكت كلَّ راحلٍ وراحلة حتى عُرفت بالنائحة، وحفظت الذكريات والعهود، وثملت دائما بالماضي وأيامه الحلوة. كادت في الجمال أن تماثل سميرة لولا سحابة تعلو عينها اليسرى، ووقف حظُّها من التعليم عند محو الأمية، وسرعان ما استردَّت أُمِّيتَها لإهمالها. ولم تعرف من الدين إلا دين أُمها الشعبي، ولكنها اقتنعت بأن عشق الحسين هو خير وسيلة إلى الآخرة. وفي سنِّ السادسة عشرة خطبها مدرس لغة عربية يُدعى الشيخ عارف المنياوي من زملاء أخيها عامر وزُفَّت إليه في الدرب الأحمر، وبعد عامٍ من حياة سعيدة أنجبت له «نادر»، وبعد عامٍ ثان سقط الرجل في قبضة السرطان ومضى قبل الأوان. وهتفت راضية من قلبٍ مكلوم: ما أسوأ حظك يا ابنتي!
وعاشت حبيبة مع حماتها على دخل دُكَّانَين بالمغربلين، مُكرسة حياتها لوليدها، أرملة دون العشرين من عمرها. وأحبَّت نادر حُب الأمومة المعتاد بالإضافة إلى حب قلبٍ كأنما تخصَّص في الحب. ولمَّا أنهى نادر مرحلة الكتاب في أوائل الثلاثينيات أراد محمود بك عطا أن يزوِّجها من عمدة ببني سويف. وقد رحَّبت الأسرة بذلك، وكان عليها أن تُسلِّم نادر إلى عمه، ولكنها رفضت بقوة، أبت أن تُسلم ابنها كما كرهت أن تغادر الحي. وقال لها حامد أخوها: أنت مجنونة، ولا تدرين ماذا تفعلين!
فقالت: بل أدري ما أفعل تماما.
وحاول عمرو، وحاولت راضية، ولكنها لم تعدل عن قرارها. وتخرج نادر في مدرسة التجارة العُليا في أثناء الحرب العظمى الثانية، وتعين في مصلحة الضرائب، ولكنه عُرِف من أول يومٍ بطموحه الذي لا حدَّ له، وراح يدرس اللغة الإنجليزية في أحد المعاهد الخاصة، وأشفقت أمُّه عليه من انهماكه في العمل ما بين المصلحة والمعهد. وتسأله: لماذا تُكلِّف نفسك هذا التعب كله؟!
ولكنه كان راسمًا هدفًا، ولم تكن قوة هناك لتحيد به عنه. أما حبيبة فقد توَّجت الكهولة حياتها الجافة فبَلِيَت وتبدَّت كالعليل. وراقبت صعود ابنها بسعادة، ولم يكن يضنُّ عليها بمال، ولكنها أبت أن تهجُر الدرب الأحمر إلى مَغانيه الجديدة. ولمَّا تركها إلى بيت الزوجية غاصت في غُربة مُخيفة لم تفلت من قبضتها حتى الموت. وقالت لها راضية: نحن نُربِّيهم لهذا، وعليك أن تفرحي وتحمدي الله.
فقالت بانكسار: شدَّ ما ضحَّيتُ من أجله!
فقالت راضية: هكذا كلُّ أم، وعليك أن تزوري سيدي يحيى بن عقب.
وكانت حبيبة آخر من مات من آل عمرو، فبكت الجميع بحرارتها المعروفة حتى صفَّت عينَيها، ولما ماتت لم تجد من يبكي عليها.
حسن محمود المراكيبي
نشأ في أحضان النعيم ما بين السراي الكبرى بميدان خيرت وسراي العزبة ببني سويف. وكأنما جيء بنازلي هانم إلى آل المراكيبي لتحسين النسل، فتجلى أثرها الطيب في الذكور، ومنهم حسن الذي عُرف بطول قامته ووسامته ومتانة عوده. وبفضل تقاليد تلك الأيام وسماحة القاهرة على عهدها لم يكن يمرُّ أسبوع دون تزاوُر بين ميدان خيرت وميدان بيت القاضي، وأراد محمود بك أن يوجه بِكريِّه لدراسة الزراعة لينتفع به في حينه، ولكن إقباله على الدراسة كان فاترًا كقريبه حامد، فأدخلهما الرجل مدرسة الشرطة معا. وغمرته ثورة ١٩١٩ بعواطفها القوية وإن لم يتعرض بسببها للأذى كما حصل لحامد. وسرعان ما شارك أسرته موقفها من زعيم الثورة وولائها للملك. وكان ذلك أوفق لعمله في الداخلية فلم ينقسم كحامد بين باطن وفدي وظاهر حكومي، وبفضل نفوذ أبيه لم يعرف عناء العمل في الأقاليم، ولم يستجب لرغبة أبيه في الزواج المبكر، ولكنه مارس حياة إباحية مستغلًّا سحر زيِّه الرسمي الملوَّن وما توفر له من نقود مُرتبه والنفحات التي كانت تُكرمه بها أمُّه. ولكنه أذعن أخيرًا فتزوج من عروسٍ تدعى زبيدة من أسرة أُمه؛ فزُفت إليه في شقة بجاردن سيتي، وعاش في مستوًى يحسده عليه وكيل الداخلية نفسه. واشتُهر في عهود الانقلابات السياسية بالعنف في تفريق المظاهرات. وتلقى حملاتٍ مُتتابعات في الصحف الوفدية، بقدْر ما أساءت إلى سُمعته لدى الجماهير فإنها زكته خير تزكيةٍ عند السراي والإنجليز، وأتاحت له ترقيات استثنائية. وقال عمرو أفندي لحامد ابنه: دخلتُما المدرسة في عامٍ واحد وها هو يُرقَّى إلى رُتبة اليوزباشي على حين أنك ما زلت ملازمًا ثانيًا.
وكان سرور أفندي حاضرًا على نفس مائدة الغداء فقال بلسانه الحاد: خائن وابن مراكيبي!
ولكن حامد وحسن كانا صديقَين بالإضافة إلى قرابتهما، وتوثقت العلاقة أكثر بعد زواج حامد من شكيرة، وقد تعرَّض حسن للموت في عهد صدقي فأصابت طوبة رأسه وأخرى عنقه، وقضى في المُستشفى شهرًا كاملًا. وكان أعنف إخوته على آل عمه أحمد عندما فرق الخلاف بين الأخوين، بل قد تصادم مع ابن عمه عدنان واعتدى عليه بالضرب في السراي فكان يومًا مأساويًّا في تاريخ الأسرة. وأنجب حسن ثلاثة من الذكور محمود وشريف وعمر، وضرب بهم المثل في الجمال والذكاء. ولمَّا قامت ثورة يوليو كان لواء، وكان ثريًّا جدًّا بما ورثه وما ورثته زوجته، ولكن الثورة أحالته على المعاش في حركة تطهير الشرطة؛ فخرج مع حامد في قائمةٍ واحدة، وكانت علاقته به قد انقطعت بعد طلاق شكيرة. وقال لزبيدة: علينا أن نبيع الأرض، فقد انقلب الدهر على مُلَّاك الأراضي.
والضرر الذي لحقه بيد الثورة لا يُقاس بما دهم غيره من طبقته، منهم ابن عمه عدنان، ولكنه وجد نفسه، في المعسكر المُضاد، ومارس عواطفه كلها نحو الثورة الصاعدة. ومضى يبيع أرضه وأرض زبيدة على دفعات وأنشأ بماله متجرًا في شارع شريف راح يُديره بنفسه فازدادت ثروته، أما أبناؤه محمود وشريف وعمر فقد تربوا في مدارس الثورة وتشبَّعوا بفلسفتها وثملوا ببطولة زعيمها، ولم يأسف حسن على ذلك، بل وجد فيهم وفي أخويه عبده ونادر حماية له من أعاصير تلك الأيام، ولعل أخويه كانا وراء الأسباب الخفية التي جنبت متجره التأميم عام ١٩٦١. ولمَّا وقعت كارثة ٥ يونيو، كان محمود وشريف وعمر قد تخرَّجوا أطباء وعملوا في مستشفيات الحكومة، وأدركتهم النكسة التي زلزلت الجيل الناصري فأذرتْهُ مع رياح الضياع واليأس؛ ولذلك ما كاد الزعيم يرحل ويحل محله السادات حتى هاجر محمود وشريف إلى الولايات المتحدة ليبدآ حياةً علمية جديدة ناجحة، أما عمر فقد فاز بعقد عمل في السعودية. ووجد حسن في السادات وسياسة الانفتاح بغيته وعزاءه عن كافة هزائمه الماضية، فشمَّر للعمل والثراء الخيالي، وشيد له ولزوجته قصرًا في مدينة المهندسين وعاش عيشة الملوك وهو يحلم بعودة أولاده ذات يومٍ ليرثوا ما جمع لهم من ملايين. وانتهت حياته في الثمانينيات في حادثٍ عارض، إذ كان يسوق سيارته المرسيدس في شارع الهرم فانقلبت به واحترقت، واستخرجوا جثته منها متفحِّمةً مُتخليةً عن الدنيا وملايينها.
حسني حازم سرور
هو بِكريُّ حازم وسميحة، وكان ذا جسمٍ رياضي ووجهٍ مليح وذكاء وقَّاد، وقد نشأ في النعيم في فيلَّا الدقي، وتخرج مهندسًا عام ١٩٧٦، ولم يجد — كأخيه — في حياته مشكلةً ما، ولا عرف هموم الانتماء، ومِثل أبيه جرى في طريق النجاح والثراء في مكتب أبيه. وأرادت سميحة أن تُسيطر عليه كما سيطرت على أبيه، ولكنها وجدتْهُ مُستعصيًا على السيطرة، ويثور مِثلها لأتفه الأسباب، ولمست فيه المرأة جموحًا خطرًا فنزعت تُخطط لزواجه ولكنه قال لها بوضوح: لا شأن لك بهذا.
فقالت بحدة: ولكنك طفل.
فضحك عاليًا وهو ينظر نحو أبيه الذي زاغ من عينيه وقال: أنا المالك الوحيد لحياتي.
– ولكنك لا تدري شيئًا عن الزوجة الصالحة.
فسألها بسخرية: وما الزوجة الصالحة؟
فقالت بصوت مُرتفع: الأصل والمال وهما مُترادفان!
فقال مواصلًا سُخريته: شكرًا لا حاجة بي إلى خاطبة!
وكان قد عشق راقصةً بأحد ملاهي الهرم تُدعى عجيبة، تجاوز عشقه لها النزوة العابرة، حتى اقترح عليها فكرة الزواج … وقالت له: لولا الحُب ما قبلتُ قيد الزواج.
وسعد بذلك كل السعادة، غير أنها اشترطت عليه ألا يُطالبها بهجر حياتها الفنية، فتفكَّر مُغتمًّا ثم قال: إذن لنبقَ كما نحن.
فقالت غاضبة: بل يذهب كل مِنَّا إلى حال سبيله.
فقبل مُرغمًا وعقد زواجه عليها. وكان أخوه أدهم أول من علم. وكان أبوه الثاني. ولمَّا حُمِل الخبر إلى سميحة ثارت ثورة وجَمَ لها الخدَم وتساءل الجيران. أما حسني فانتقل إلى شقة تملكها زوجته بشارع الهرم. وهناك قالت له: لم أهجر حياتي الفنية لأن السينما بدأت تعترف بأهميتي.
ولكن الظاهر أن طريق ذلك الاعتراف لم يكن مُمهَّدًا، وأن الأمر احتاج إلى أن يُنشئ حسني شركة إنتاج سينمائي من أجل عبقرية زوجته. وشعر بأن أباه لا يُوليه الثقة التي كان يحظى بها فطالب بنصيبه من رأس المال على أن يتفرَّغ لعمله الجديد. وحقَّق له أبوه رغبته وهو يقول له: ليكن ذلك سرًّا بيننا.
بذلك انفصل حسني تماما عن أُمِّه، بل عن أُسرته … وأنتج لعجيبة فيلمَين لم يستطيعا أن يَخلُقا منها شيئًا يذكر. وترامت إليه أنباء عن علاقةٍ مُريبة بينها وبين مُمثل أدوار ثانوية يُدعى رشاد الجميل، فرصد لهما العيون حتى ضبطهما في شقةٍ مفروشة بالعجوزة. واعتدى عليها بالضرب حتى قتلها، وحُوكم، وقُضِيَ عليه بخمسة عشر عاما. وعرف أقرباؤه خبرَه مما نشرته الصحف وما كانوا قد سمعوا به من قبل. وأكثر من شخصٍ منهم هتف: يا ألطاف الله، إنه ابن حازم بن سرور أفندي رحمه الله.
حكيم حسين قابيل
الناظر في عينَيه الواسعتَين العسليتَين يُبهره حُسن تكوينهما، وقوة إشعاعهما، ورأسه الكبير غزير الشعر يُضفي عليه مهابة. وهو الثالث في ترتيب ذُرية سميرة بنت عمرو أفندي وزوجها حسين قابيل تاجر التُّحف بخان الخليلي. وكان شارع ابن خلدون مَدرج طفولته وصِباه حيث تُقيم الأسرة بعمارة به، كما كانت حديقة الظاهر بيبرس ملعبه. وعلى ذكائه وتفوُّقه ولع منذ الصغر بالمُقامرة؛ مارسها أولًا في الدومينو والطاولة، وأخيرًا في البوكر والكنكان.
كما عرف بصداقته الحميمية لجارٍ من جيرانه تلازَما في المرحلتَين الابتدائية والثانوية، ثم اتَّجه حكيم إلى مدرسة التجارة على حين التحق الآخر بالكلية الحربية. وقد عرف حكيم أهل أُمِّه جميعًا، عمرو وسرور والمراكيبي وداود كما عرف أهل أبيه، وأدهش خالَيه عامر وحامد بآرائه السياسية الرافضة أو شبه الرافضة للوضع كله. قال له حامد: إني أعتبر المعاهدة إنجازًا مُشرِّفًا للوفد!
فقال حكيم: لا حصر لسلبياتها، ثم إني لا أومن بالأحزاب.
– الإخوان تجَّار دين، ومصر الفتاة عملاء فاشيست!
– ولا هؤلاء جميعًا!
– إذن، بماذا تؤمن؟
– لا شيء.
وضحك عامر ضحكةً خفيفةً فقال حامد: هذه نغمة نشاز في أُسرتنا.
وتخرج حكيم في إبان الحرب العُظمى الثانية، بعد وفاة والده بقليل، وتعين في مصلحة الضرائب، وما لبث أن أحبَّ زميلةً له تُدعى سنية كرم فتزوَّج منها وأقاما في شقة بالعباسية الغربية، وأنجب منها حسين وعمرو، ووعدت الحياة بخطٍّ روتيني معروف الأول والآخر. ولكن قامت ثورة يوليو وإذا بصديق عمره نجم من نجومها، وبذلك تفتَّق المستقبل عن أبعادٍ جديدة لم تجْرِ لأحدٍ في خاطر. وفي الوقت المناسب اختير حكيم في وظيفةٍ إشرافية في إدارة التوزيع بإحدى الصحف الكبرى، ووثب مُرتبه بجرة قلم من العشرات إلى المئات. ودوَّى مقامه في شجرة الأسرة من أسفلها إلى أعلاها. تاهت به أسرة سميرة، وسعد به آل عمرو رغم وفديتهم المَهيضة، أما المُعارضون من آل المراكيبي وداود فقد قالوا ساخرين: ذهب فسادٌ مُتواضِع وجاء فساد شَرِه.
ولصلته بصديقه الحميم هابه حتى الوزراء وداهنه الأعداء والأصدقاء، وسرعان ما انتقل إلى شقةٍ جديدة بالعباسية الشرقية، واقتنى سيارة وأصبح حقيقةً من رجال العهد. وكان وفيًّا لأسرته ولأصدقائه، فمدَّ يدَ المعاونة لخاله حامد ولابن خالته نادر، وبفضله عُومل أخوه الأصغر سليم معاملة لم تخلُ من إنسانيةٍ عند التحقيق معه قبل سجنه، كما كان الوساطة الناجعة وراء تعيين كثيرين من أصدقائه حراسًا عقب فرض الحراسة على مَن فُرضت عليهم من الأسر. وظلَّت علاقته بصديقه الحميم كما كانت رغم استوائه قائدًا بين القادة الجُدد، فلا يمرُّ أسبوع دون لقاءٍ عائلي في قصر القائد يتبادلان فيه نجوى الحب والذكريات. وفي إحدى هذه المرات سأله بلا كُلفة: أما آن الأوان لتُرشحني وزيرًا؟
فقال الرجل: وما قيمة الوزير؟ سينقص دخلك إلى النصف.
– ولو.
فقال الآخر ضاحكًا: أُصارحك بأني فعلت.
ورمقه بنظرةٍ باسمة ذات معنى، فقال حكيم: أعدك بأن أُقلِع عن القمار.
فقال واجمًا: ومسألة أخيك سليم أيضًا!
وعدل عن التفكير في الوزارة ولكن نجمه استمرَّ في الصعود فانتُخِب عضوًا في مجلس الأمة، وما زال نوره يتألق حتى ٥ يونيو، فابتلعت الظلمات صديقه فيمن ابتلعت، وتلاشى نفوذه بضربةٍ واحدة وإن بقِيَت له وظيفته. جاء السقوط هزيمةً شخصية فوق الهزيمة العامة ومضغ مرارة الهوان بعد حلاوة العزة، وشقَّ عليه تنكُّر الكثيرين له حتى الذين انتشلهم من التفاهة بوفائه، ولم يبقَ له من عزاءٍ في الدنيا إلا في ابنَيه حسين وعمرو اللذَين صارا ضابطَين في سلاح الفرسان. وفي تلك الآونة تجلَّت به أعراض ضغط الدم الخبيث وقاسى منها ما قاسى، ثم دهمته داهية كثيرًا ما ناوشته في أحلام يقظته السوداء، عندما بُلِّغ باستشهاد عمرو في حرب الاستنزاف وكان — بخلاف سنية — يُحب ضبط النفس، والتظاهُر بالشجاعة، والرضا والقدَر، تاركًا أحزانه تنعقد في أعماقه كالعكارة في جوف الوعاء. وواصل وجوده حتى رحل زعيم وخلفه آخر، وعاصر ٦ أكتوبر فهزَّته نشوة لم يشعُر بمِثلها منذ الأيام السعيدة قبل ٥ يونيو، ولكن سرعان ما خمدت شعلتها عندما تلقَّى نبأ استشهاد ابنه الباقي حسين في الميدان. وانفجر الضغط صاعدًا بلا ضابط فوق ضبط النفس والتظاهر بالشجاعة والرِّضا بالقدَر فقتله، وتحدُث تلك الأمور وراضية تهيم في ذروة شيخوختها، وتُضاحك الملائكة في البيت القديم!
حليم عبد العظيم داود
وُلد ونشأ في فيلَّا أنيقة بالعباسية الشرقية، وهو الابن الثالث لعبد العظيم باشا داود. مقبول الوجه رياضي الجسم مُدمن منذ صغره للهو واللعب والمزاح والعربدة، لا تصدُر عنه كلمة جدٍّ واحدة. أخواه اللذان سبقاه كانا غايةً في الجد والاجتهاد؛ لذلك قال: خلقت لأحدث التوازُن الضروري في الأسرة.
ويتابع عبد العظيم باشا عثراته المدرسية بمرارةٍ ويقول له: ستكون عارًا على نفسك وأسرتك.
ولكنه لم يكن يكترث لملامةٍ، ولم يحتفظ من سجايا أُسرته إلَّا بالكبرياء والغرور والنظرة إلى الآخرين من علٍ، حتى أهله كمال وعمرو وسرور أضمر لهم الازدراء، وحنق على المُتفوقين منهم، ولم يَسلم من لسانه إلا عامر الذي تزوَّج من شقيقته عفَّت، أما آل المراكيبي فكان يضعهم — رغم ثرائهم — في الدرجة التي كرَّستها لهم أُسرة داود باعتبارهم أشباه أُمِيِّين ومن صُلب رجل كان يبيع المراكيب. ولم يكن يتورَّع عن إغواء قريباته الجميلات اللاتي يُقاربن سنه مثل جميلة وبهيجة ابنتَي سرور أفندي أو دنانير بنت رشوانة … لولا ثقل التقاليد ويقظة الأمَّهات. ولعلَّ حامد كان الوحيد الذي يعمل له ألف حساب لقوَّته واستعداده الفطري للعُنف، فحقد عليه، ولم يصْفُ ما بينهما إلا حين جمع بينهما سوء المصير في أواخر العمر وفي صباه ومُراهقته — وبتدليل أُمِّه له — أتقن السباحة والكرة والقمار والخمر والعشق والمزاح، وامتاز أيضًا بصوتٍ عذب فكان يقول بغروره المعهود: لولا تقاليد الأُسرة لكنتُ مطرب العصر.
وبعد صراعٍ طويل مع المدرسة قرَّر الالتحاق بمدرسة الشرطة، واستاءت الأُسرة رجالًا ونساء وقال له أبوه: نحن أُسرة قانون وطب.
فاعترف له قائلًا: لا صبر لي على المذاكرة.
ولمَّا التحق بالمدرسة وجد حسن محمود عطا المراكيبي بالسنة النهائية وحامد بالمرحلة الوسطى، فكان عليه أن يؤدي لهما في نطاق التقاليد المدرسية فروض الذلِّ والطاعة، وكان أهونَ على نفسه أن يؤدي ذلك لأي جُندي … ومرة تناول الثلاثة الغداء عند راضية، وهناك تحرَّر من واجباته والتزاماته، وخاضوا ثلاثتهم حديث الأصل، في مُفاخرة ساخرة، فذكَّرهما بأصلِهما وعيَّروه بأصله. قال له حامد: أنتم باشوات حقًّا ولكنكم من طين الأرض خرجتم.
وتابعت راضية حديثهم باسمةً ثم قالت: الكل في النهاية من صلب آدم وحواء، وليس في الأسرة كلها من بطلٍ إلَّا أبي الشيخ معاوية.
وكان حليم يعتبر راضية من عجائب هذه الدنيا بدروشتها وسِحرها وأورادها وعفاريتها، ويقول لأمِّه: لولا الحظ لاتَّخذت مكانها الطبيعي بين مجذوبات الباب الأخضر.
وتهتف به أمُّه: إيَّاك أن تمسَّ بسوءٍ أحب الناس إليَّ.
كانت تؤمن بها، وعند كل لقاءٍ تدعوها لقراءة فنجانها، وعندما حدست قُرب نهايتها في كبرها أوصت بأن تشهد راضية غُسلها دون غيرها من أهلها أو أهل زوجها.
وتخرَّج حليم ضابطًا بعد حامد بعام، وبفضل أبيه عُيِّن في المراكز الخاصة بالداخلية فقضى أكثر خدمته في حراسة الأميرات والوزراء، وقد مرَّت به ثورة ١٩١٩ وكأنها فيلم مُثير يُشاهده في إحدى دُور العرض لم يعرف طيلة حياته انتماءَ إلَّا إلى اللهو والعربدة والمزاح والطرب … كان أبوه وأخواه من دراويش الأحرار الدستوريين، أما هو فكان درويش الحانات والملاهي الليلية ونوادي القمار، ولم يُفكر أبدًا في تكوين أسرة أو الالتزام بأي قيد. وقد اختار لنفسه شقة في عمارة بشارع النيل — هي التي دلَّ عليها حامد بعد طلاقه — وزيَّنها بهدايا الأميرات والوزراء، وشهدت من بنات الليل والفنانات أشكالًا وألوانًا. ولم يكن يتورَّع، حتى عندما ارتفعت رُتبته، أن يقضي سهرةً في عوَّامة مونولوجست، يسكر ويُعربد ويُغني، ثم يرجع عند الفجر إلى مأواه وهو يترنح. وقد ساءت العلاقة بينه وبين والده، وبينه وبين أخويه، وبُذلت محاولات عقيمة لتزويجه. ومع الأيام غلبهم بروحه المرحة فغزا قلوبهم وبيوتهم حتى سلَّموا به كشَرٍّ لا بدَّ منه، بل لعلَّه كان أمتع شرٍّ في أُسرتهم. ولما قامت ثورة يوليو نُقل إلى التفتيش. أجل كان أحسن حظًّا من حامد وحسن ولكنه عانى العمل الجاد لأول مرةٍ على كبر. إلى هذا فقد أظهر للثورة حنقًا من أول يوم، وتساءل كيف يسرق الحُكم أناس لا ميزة لهم إلا استحواذهم على السلاح؟ وهل يحقُّ قياسًا على ذلك أن يتحول قُطَّاع الطرق إلى ملوك؟ وما هذا الذي يحدث للأُسَر الكريمة؟ وكيف تُلغى الباشوية بجرة قلم؟ وكيف يُخاطب بعد اليوم أباه وشقيقه الأكبر؟ وكيف يؤدي هو سلام التعظيم لضابطٍ يُماثله في الرتبة أو يقلُّ عنه؟ والأدهى من ذلك كله، أنه يُوجَد من آل المراكيبي ضابطان يُعتبران من الصف الثاني من الحُكام؟ وإن حكيم ابن سميرة يلحق أيضًا بهيئة الحُكام! حقًّا لقد انقلب العالم فصار عاليه أسفله وصار أسفله عاليه، اضطرمت في قلبه نيران الغيرة والحنق وتجهَّم بكل غضب للعالم الجديد الذي تجهَّمه.
وشدَّ ما فرح بالعدوان الثلاثي فظنَّ أن الستار سيُسدل على المهزلة ويستقيم حال الدنيا، ولكن الحوادث خيَّبت أملَه، واستقبل الزعيم حياة جديدة كلها فتوة وبطولة. وفي الستينيات تُوفي أبوه، وتبعه شقيقه الأكبر بعد عامَين؛ فتضاعفت غربته وأساه وأفرط وأفرط بلا حرصٍ في لهوه وعربدته. وكان يقضي ليلةً في شقةٍ فاخرة تُدار للقمار السرِّي عندما كبسها البوليس. وأظهر شخصيته لرئيس القوة ولكنَّه تعامى عن ذلك وساقَه مع الآخرين إلى قِسم شرطة قصر النيل، ولم تنتَهِ المسألة إلى خيرٍ فأرسل إليه وزير الداخلية يُطالبه بتقديم استقالته تفادِيًا لما هو أسوأ، فقدَّمها على رغمه، ووجد نفسه على المعاش. وقرَّر في ظُلمة اليأس أن يقصر خطوطه. وعرض عليه حامد أن يُوسِّط حكيم ليجد له عملا كما نفعه ولكنه رفض شاكرًا. فضَّل أن يعيش في نطاق معاشه على أن يذلَّ نفسه أمام حكيم، ووجد في المعاش ما يكفي لمعيشته، واستبدل بالويسكي الحشيش لرخصه النِّسبي وأثره المناسب، وتفرَّغ بكليته للحِقد على العهد ورجاله والسخرية منهم في غُرزته الخاصة الحافلة بالحاقدين. ولمَّا وقعت كارثة ٥ يونيو، قرَّر أن يحجَّ لبيت الله الحرام. ولم يكن له من الدِّين إلَّا الاسم كغالبية أُسرته، ولكنه حج، ورجع إلى حياته لم يُغير منها شيئًا، وسكنت انفعالاته بعضَ الشيء، ولكنه أُصيب بالسُّكَّر، ولم يكن يملك من الإرادة ما يُواجِه به مُتطلباته من الرجيم فاستفحل معه، وحصلت له مضاعفات مُتلاحقة. وذات مساء اتَّصل تليفونيا بجاره وقربيه حامد وقال له: تعالَ أنت وعصمت هانم … إني أحتضِر.
وفعلًا أسلم الروح تلك الليلة بين حامد وزوجه.