حرف الدال
داود يزيد المصري
هو الابن الأصغر ليزيد المصري وفرجة الصياد، وُلِد بعد أخيه عزيز بعامٍ في بيتٍ بالغورية على مبعدة يسيرة من بوابة المتولي، وكانت فرجة الصياد ترقُب الوقت المناسب لإرسالهما إلى أمِّها بالسوق ليتدرَّبا على بيع السمك، ولكن يزيد قال لها: أحبُّ أن يتعلَّما أولًا في الكتَّاب.
فتساءلت مُحتجَّة: ولِمَ نضيع الوقت بلا ثمرة؟
فقال الرجل بثقة: لولا أني أفكُّ الخط وأعرف مبادئ الحساب ما ظفرتُ بعملي في وكالة الوراق.
وكانت المرأة تجِدُ في بيع السمك فوائد لا يحظى بمثلها زوجها في الوكالة، ولكنها لم تستطع ثَنيه عما عزم. ووجد الرجل تشجيعًا من صديقه الشيخ القليوبي المدرس بالأزهر، بل قال له: الكتاب وبعده الأزهر إن شاء الله تعالى.
ولكن تديُّن يزيد — كصديقه الثاني عطا المراكيبي الذي كان يُقيم في نفس البيت — كان قانعًا بأداء الفرائض المُتاحة كالصلاة والصوم لا يتجاوزهما إلى أحلامٍ دينية أعمق، فرسم لولدَيه الكتَّاب كمدخلٍ للحياة العملية، وذات يوم والشقيقان يجولان ما بين الغورية والسكة الجديدة رأيا نفرًا من رجال الشرطة، أما عزيز فبإلهام خفي هرب، وأما داود فقد اعتقله رجل الشرطة وساقوه إلى المجهول. وتحدث الناس بما رأوا، وعرفوا أن الوالي محمد علي يحمل أبناء الناس إلى ما وراء الأسوار ليُلقَّنوا علومًا جديدة، إنه يحبسُهم تحت الحراسة حتى لا يفرُّوا من التعليم. وقال عزيز لأبيه: لولا العناية لسقطتُ في أيديهم.
وشكا يزيد «مصيبته» إلى الشيخ القليوبي فقال له: لا تحزن، ابنك في الحفظ والصون، وربنا يدفع عنه السوء.
وبلغ الحزن بالأسرة مُنتهاه، ودعَتْ فرجة على الوالي بالهلاك، وشدَّدوا في المحافظة على عزيز الذي واصل تعليمه في الكتَّاب، ومضت أعوام فاشتغل عزيز ناظر السبيل بين القصرَين وتزوَّج من نعمة المراكيبي ابنة عطا المراكيبي، وإذا بداود يرجع إلى الغورية وقد أتمَّ تعليمه … وفرحت الأسرة بعودته فرحةً كُبرى، ولكنها لم تدُم، إذ قال داود: سيرسلوننا في بعثةٍ إلى فرنسا.
فصاح يزيد: بلاد الكفَّار!
– لنتعلم الطب.
وصاح عزيز: لولا عنايتك يا رب لكنتُ من الذاهبين!
وسافر داود ليخوض تجربةً ما كانت تجري له في حلم، وفي غيابه تُوفِّي يزيد المصري وفرجة الصياد، وأنجب عزيز رشوانة وعمرو وسرور، ووثب عطا المراكيبي من حضيض الفقر إلى ذروة الثراء، ثم انتقل من الغورية إلى سراي ميدان خيرت، ورجع داود طبيبًا، وقصد مسكنه القديم بالغورية الذي انفرد به عزيز وأُسرته. جمع الحبُّ مرةً أخرى بين الشقيقين، وجعل عزيز يُراقب أخاه باهتمامٍ وتوجُّس، سرَّهُ أن يجده مُحافظًا على صلاته، شغوفًا كالعادة القديمة بزيارة الحسين، وإن تغيَّر زيُّه، وإلى درجةٍ ما لهجته. وبدا له أن يطوي في أعماقه النصف الآخر الذي اكتسبه في بلاد الكفار. سأله: ألم يُحاولوا أن يردُّوك عن دينك؟
فأجاب ضاحكًا: كلَّا ألبتة.
وودَّ أن يُحدِّثه أكثر «عنهم»، ولكنه آثر السلامة، وسأله أيضًا: هل حقًّا تشرحون الجُثَث؟
فأجاب: عند الضرورة ومن أجل خير البشر!
فيحمد عزيز الله في سِرِّه على إكرامه له بالهرَب في ذلك اليوم البعيد، وقال لأخيه: لولا ظروفك لكنتَ أبًا من زمن.
فقال داود: هذا هو شُغلي الشاغل.
وكانت تُوجَد أسرة تركية بدرب قرمز … «آل رأفت» فأشار إليهم قائلًا: لعلهم يرضَون لبنتِهم بطبيبٍ عائدٍ من فرنسا!
ووجدا في عطا المراكيبي في حاله الجديدة الشخص المناسب للكلام في الموضوع. ولكن داود رُفِض باعتباره فلاحًا حقيرًا، ولم يشفع له علمه ولا زيُّه ولا وظيفته … وتألَّم الشابُّ ونظر إلى أخيه مُسترشدًا فقال عزيز: عندنا أسرة الوراق التي كان أبونا يشتغل في وكالتهم.
أسرة من أصلٍ مصري شامي، ووجدوا ضالتهم في حفيدة الوراق الكبير سنية الوراق، فرحَّبوا بالعريس، وتمَّ الزفاف، ومضى داود بعروسه إلى بيتٍ جديد بالسيدة، وقد أنجب منها ولدًا — عبد العظيم — وثلاث بناتٍ اختطفهن الموت صغارًا. وترقَّى داود في عمله حتى حصل على رُتبة الباشوية ورسخت مكانته الرسمية والعلمية. وقُيِّض له أن يُوفق بين شخصيتيه المتنافرتَين توفيقًا ناجحًا فكان في عمله الطبي خير رسول لحضارةٍ جديدة، له رؤيته المُستقبلية الوطنية التي يُحفزها شعور أليم بما ينقص وطنه في مجاله، وله صداقاته الوطيدة بأقرانه من المصريين والأجانب، وإلى جانب ذلك توافَق مع زوجة — رغم جمالها ودرجتها الاجتماعية وتعليمها الأوَّلي الساذج — لم تكن تختلف اختلافًا جوهريًّا عن أُمِّه فرجة السماك، ولا عن زوجة أخيه الأكبر نعمة المراكيبي … بل إنه لم يتحرَّر من تقاليد الأسرة والبيئة، فكان يزور بيت الغورية بدافع الحب والواجب معًا، وهناك ينسى شخصيته المُكتسبة تمامًا فيجلس إلى الطبلية ويأكل بشراهةٍ السمك والطعمية وثريد العدس والفسيخ والبصل الأخضر، ويتابع بعين العطف والمودة النامية بين عبد العظيم من ناحية وبين رشوانة وعمرو وسرور من ناحية أخرى، ويزور الحُسين ويجول في الباب الأخضر، ويتعرَّف إلى أصهار أخيه عطا المراكيبي ثُم ابنَيه محمود وأحمد، وصديقه الشيخ معاوية القليوبي الذي يصير حمًا لابن أخيه عمرو. في تلك الأوقات كان يرتد إلى داود الأول ابن يزيد المصري وفرجة الصياد، ابن الغورية وروائحها الذكية النافذة ومآذنها السامقة ومشربياتها المُسربلة بالتاريخ، وقد تمنَّى أن يجعل من ابنه عبد العظيم طبيبًا مثله ليُعيد سيرته، ولكن الشابَّ اتجه إلى دراسة الحقوق، مدرسة الصفوة والوزراء، ثم مارس حياةً قانونية فخيمة وناجحة. ولمَّا بلغ الدكتور الباشا الخمسين عشِق جاريةً سوداء، وتزوَّج منها، مُحدِثًا في الأسرة دهشة ومُثيرًا أقوالًا. وقد اختار لها مسكنًا خاصًّا في السيدة، وخصَّص لها قبرًا في حوش الأسرة الذي شيَّده يزيد المصري على كثبٍ من ضريح سيدي نجم الدين عقب حلمٍ رآه. وقد امتدَّ به العمر حتى عصر الاحتلال وعاصَرَ مع أخيه الثورة العرابية، وأيَّداها بالقلب، وتجرَّعا مرارة سقوطها، ورحل الشقيقان في عامَين متعاقبَين في أوائل عهد الاحتلال، ودُفنا جنبًا إلى جنبٍ في القبر الذي افتتحه يزيد المصري، وسرعان ما حلَّت بجناحه الحريمي فرجة الصياد، ونعمة عطا المراكيبي وسنية الورَّاق، والجارية آدم في قبرها الخاص.
دلال حمادة القناوي
وُلِدت ونشأت في بيت والديها بخان جعفر، وهي صُغرى ذُرية صدرية وحمادة القناوي، ومسكنها على مبعدة يسيرة جدًّا من بيت جدِّها عمرة، وكانت تألف عمرو وراضية كما تألف والدَيها. ومثل جميع الأحفاد تُحِبُّ راضية وتُسحَر بغرائبها، خاصة أن الجدَّة لا تكفُّ أبدًا عن نشر ثقافتها الفطرية المُسربلة بالخوارق في جميع الأجيال. وتقول لابنتها صدرية: دلال جميلة، ولكن كيف تسلَّلت لذُريتك القاهرية هذه النبرة الصعيدية؟
فتقول صدرية ساخرة: من البغل!
مُشيرة إلى زوجها الذي أنفقت حياتها في ترويضه، وتضحك راضية قائلة: إنه غبي كالحجر، ولكنه رجل كريم.
وكعادته لم يسمح لدلال — كنهاد ووردة — بأكثر من عامَين في الكتَّاب ثُم تولَّت صدرية تربيتها وتدريبها. وراحت صدرية تستعرض فتيان الأُسرة من أبناء أخواتها وأخويها وعمِّها وآل المراكيبي وداود. ولكن بنات القناوي كنَّ يجيئهنَّ العرسان من قنا وما حولها باسم آل قناوي، تقدَّم لها عمدة شاب يُدعى زهران المراسيني يملك أرضًا مجاورة لأرض أبيها وأعمامه.
وقالت صدرية: قُضي عليَّ بأن يفرق القطار بيني وبين بناتي.
وأجَّلت مأساة شقيقتها وردة الزواج عامًا، ثم زُفَّت إليه في القاهرة، وبعد أسبوع واحد حملها إلى وطنه، واستقرَّت دلال بالكرنك بصفةٍ نهائية، وأنجبت أربع بنات وثلاثة صبيان، ولم تكن تزور القاهرة إلا في المناسبات.
دنانير صادق بركات
هي الابنة الوحيدة لرشوانة — الشقيقة الكبرى لعمرو وسرور — وصادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش. وُلِدت في بين القصرَين ببيتٍ يملكه أبوها، ونشأت في أحضان نعمةٍ لا بأس بها وتُبشر بالمزيد، ولم تنجِب رشوانة غير وحيدتها لِعيبٍ فيها. ولكن لحُسن حظِّ الأسرة أنَّ صادق بركات كان سبق له الزواج مرَّتَين دون إنجاب، فعَدَّ العيب مُشتركًا. وترعرعت دنانير بين أمٍّ مُتديِّنة لحدِّ المشيخة وأبٍ ينتمي لأسرةٍ تُعتبر رائدةً في تعليم البنات. وكانت على قدْرٍ من الجمال لا بأس به واستعدادٍ للبدانة، وكانت تُعَدُّ من المزايا، وإلى ذلك فقد أبدت نشاطًا يُبشِّر في المدرسة بكلِّ خير. ونالت الشهادة الابتدائية فأُلحِقت بالثانوية، الأمر الذي لفت انتباه خال رشوانة محمود بك عطا المراكيبي فسأل عمرو: أأنت راضٍ عن ذلك؟
فقال عمرو: أبوها راضٍ.
وزار الرجل بين القصرَين واجتمع بالأسرة، وقال: إني لم أسمح لشكيرة بتجاوُز الابتدائية.
فقال صادق بركات: الزمن تقدَّم يا محمود بك والبكالوريا مُناسبة لهذا الزمن.
وقالت رشوانة: إني واثقة من أخلاق ابنتي.
وكان محمود بك لا يخلو من دُعابة ولو بأسلوبه الفظِّ فقال: ربما قالت أمُّ ريا وسكينة، عنهما يومًا، ما تقولين.
وغادرهما ساخطًا. وفرحت دنانير بقرار أبيها، ستصير بالبكالوريا قريبةً من مستوى فهيمة وعفَّت ابنتي عبد العظيم داود. وسترتفع درجات على جميع بنات خالَيها عمرو وسرور، ولها أن تحلم بعد ذلك بعريسٍ لائق. وكانت رشوانة تستصحِبها لزيارة الأصول والفروع فترى الشجرة مُثقلة بالثمار، عامر وحامد ولبيب وحسن وغسان وحليم، وهي في نظر نفسها على الأقل لا تقلُّ جمالًا عن أجمل بنات الأسرة. ولمَّا قاربت الختام حدث شيء كالمصادفة أقنعها بأن المصادفة مأساة المآسي في حياة البشر. سقط أبوها في الدكان مشلولًا وحُمِل إلى البيت ليرقُد على فِراشه بلا حولٍ حتى النهاية. صُفِّيت التجارة بإشراف عمرو وسرور ومحمود بك، وقبض الرجل خمسمائة جنيه هي كل ما بقي له للعلاج وحياة الأسرة. ورأت دنانير أنه لم يعُد أمامها إلَّا مواصلة التعليم والتطلُّع إلى العمل. لم يكن مُتاحًا لها إلَّا مدرسة المُعلمات وكان على المُعلمات وقتذاك أن يُمضينَ حياتهنَّ بلا زواجٍ ما أردن الاحتفاظ بالوظيفة. وتوكدت هذه الخطة عقب وفاة صادق بركات. أجل رأى محمود بك رأيًا آخر، قال: لتتزوَّج دنانير … وأنا أتكفَّل بك يا رشوانة.
ومالت رشوانة للموافقة، ولكن دنانير — وبدافع من كبريائها — أبَتْ ذلك وأصرَّت على اختيار مصيرها. لم تكن سعيدةً باختيارها، زهدت فجأةً في حلم الزواج الذي صاحبها منذ الصبا، كانت أتعس أهل الأرض ولكنها اختارت تعاستها بنفسها. وقالت لها رشوانة: إنك تُضحِّين بنفسك من أجلي.
فقالت بثبات: بل اخترتُ ما يُسعدني.
وأصبحت مُعلمةً وعانسًا إلى الأبد. تعزَّت عن خيبتها بإتقان العمل والإفراط في الطعام. وتمضي في الحياة مُتسائلة أين كان يَختبئ لي هذا الحظ الأسود؟! ما أكثر الأعيُن التي ترمقها بنهَم، من شباب الأُسرة والأغراب، كأنهم يتساءلون! هذه الفتاة الممنوعة من الزواج ألا تحلم بالحُب؟! جميع قريباتها مُستقرَّات في بيوت الزوجية، حتى الدميمة المُذكَّرة، وهي لا تَعبُرُها النظرات دون أثرٍ يبقى ويستفحل. وما تأوي إلى فراشها بعد يومٍ مليءٍ بالسُّخرة إلا وتتأبط معها خيالًا ليؤنِس وحدتها. إنها دائبة على تعويض لهفاتها وحسراتها بالأخيلة المحمومة الفاجِرة والسقوط الوهمي، والصداقات الحميمية العقيمة مع الزميلات المحرومات في مجال عملِها الرهباني. مكاتب حياة سِرِّية في عالم الحلم تتناقض تمامًا مع حياتها الظاهرة القائمة على عملٍ جادٍّ استوجب الثناء، والتزام بالفرائض الدينية استحقَّ الاحترام، وسلوك رصين أيأس منها الطامِعين وحاز تقديرهم. وفي تلك الفترة الصاعدة من شبابها ونشاطها عرض لها ابن خالها لبيب بشبابه وجماله ووظيفته القضائية اللامعة، وكان سبيل الغزو له مُمهدًا لولا أنانيته القبيحة. دعاها إلى حديقة الأسماك الهادئة ليعرض عليها علاقة سرِّية تُناسب في تصوُّره حالهما. قال: أنت ممنوعة من الزواج وأنا مُضرب عنه.
وقالت لنفسها حانقةً أنه يُريدها خليلةً ولا يراها أهلًا للزوجية. وقالت بامتعاضٍ وازدراء: عرض جدير بامرأة ساقطة!
وتلقَّى اللطمة ببروده الطبيعي الموروث عن ست زينب أمِّه، ورجعت هي إلى بين القصرَين مُفعمة حنقًا على آلها جميعًا … إنهم حقراء، أغنياؤهم وفقراؤهم على السواء؛ يبيعون أنفسهم بلا كرامة، من أجل ذلك تزوَّج عامر من عفَّت بنت عبد العظيم، وتزوَّج حامد من شكيرة رغم قُبحها. وعندما ترنو عين شابٍّ من آل المراكيبي أو آل داود إلى بنتٍ من بنات عمرو أو سرور تقوم القيامة وتثور الكرامة. حُقراء حُقراء … آل المراكيبي باعوا أنفسهم للملك ضمانًا للمصالح، وآل داود انضمُّوا للأحرار الدستوريين مُتوهِّمين أنهم يتبعون طريق الأُسَر الكريمة وأصلهم الحقيقي نابع من التراب، وما كان داود باشا إلا الشقيق الأصغر لعزيز ناظر السبيل! ما من شابٍّ منهم من سنِّها أو أكثر إلا وطمع في عِرضها، ولم يُفكر أحدهم في الزواج منها، وأطيبهم جميعًا مجذوب من مجاذيب الحُسين. على أن فترة الشباب الخضراء لم تخلُ من فرصة عريقة، أتاحها لها ناظر المدرسة الذي اقترح عليها الاستقالة والزواج منه، ولكنها بقدْر ما سعدت باقتراحه لم تتردَّد في رفضه حفاظًا على أُمِّها أن تعيش تحت رحمة أحدٍ من هذه الأسرة الحقيرة التي تعبُد المال والجاه وتستبيح في سبيلهما كل جليل. وواصلت حياتها الشاقة القاحلة، تُربي بنات الناس وتُعِدُّهن للأزواج، مُنقسمة بين سلوكٍ خيالي فاجر، وواقع مُتَّسِم بالجدية والتقوى والاحترام. وهامت شجرة الشباب في ربيع تعلوه كآبة الوحدة وآلام الحرمان وعبث الأخْيِلة المحرومة، ثم مضت أوراقها تتساقط ورقةً بعد ورقة، تاركةً آثارها في بدانةٍ تتمادى وقسمات تغلُظ، وعضلات تترهَّل، ومرارة تستفحِل. وفي أثناء ذلك رحل عمرو وسرور وأحمد ومحمود، وتنكَّرت أشياء كثيرة، ثم مرضت أُمُّها بداء القلب ولزمت الفراش. وكانت تقول لها: لن أغفر لنفسي ما حل بك.
فتُجيبها باسمةً مُتظاهرة بالمرح: لقد اخترتُ ما يُناسبني.
فتتوسَّل إليها قائلة: تزوَّجي عند أول فرصة.
فتكذب قائلة: سيحدُث ذلك قريبًا جدًّا.
رغم أنها لم تعُد تلفت نظر أحد. واحتضرت رشوانة وهي تُقدِّم لها تفاحةً للعشاء. وأدركت دنانير الموقف على عدم خبرتها به فهتفت: لا تتركيني وحدي.
ولفظت المرأة أنفاسها الأخيرة وهي تسندها إلى حضنها. وأجهشت في البكاء، وأرسلت الخادم العجوز لإحضار راضية من بيت القاضي. وبرحيل الأم … عانت وحدة مُطْلقة في بين القصرين. وباتت مثالًا للبدانة والكآبة. ولمَّا قامت ثورة يوليو وجدت فيها انتقامًا أيضًا من الجبَّارين والمُنحلِّين والانتهازيين، وعاشرتها بارتياحٍ فاتر، وكان الفتور قد أدرك كل شيء حتى حياتها السِّرية وعبثها العقيم، وبفضل الراديو ثم التليفزيون اقتحمت أعاصير الثورة وأحداثها وحدتها، ونفخت قبسات من الروح في فتورها، ولكن ذلك عبَرَها بسرعة، حتى أُحيلت على المعاش وأوت إلى ظلمة ظلمات الوحدة. ولم يعُد لها من عزاءٍ في هذه الدنيا سوى العبادة وتلاوة القرآن. ومات زعيم وتولى زعيم، وانفجرت أحداثٌ جديدة، ثم جاء الانفتاح، وبدأت تُعاني مع الوحدة والكبر الغلاء المُتصاعد، وأخذت تُعيد حسابها وتتساءل: أكُتِب عليَّ أن أقاسي متاعب المعيشة من جديد؟! … وهل حقًّا يُخفي الغد ما هو أسوأ؟!