حرف السين
سرور عزيز يزيد المصري
وُلِد ونشأ في بيت الغورية على مرأًى من بوابة المتولي، مع شقيقه الأكبر عمرو وأختهما الكُبرى رشوانة. وترامى مراح طفولتهم ما بين البوابة وسبيل بين القصرَين حيث يجلس الأب عزيز على عرشه المائي. وكان سرور يُشبه أخاه في طوله ووضوح ملامحه، ولكنَّ وجهه أنبأ عن تناسُقٍ ألطف كما مال جسمه إلى البدانة. وكانت جدَّته نعمة المراكيبي تخصُّه بحبٍّ لا يحظى بمثله عمرو أو رشوانة، وتُدَلِّـلُه رغم احتجاج عزيز وتحذيراته. ونشأ طبعًا مؤمنًا ولكن بلا قيودٍ بخلاف أُسرته جميعًا، فلم يؤدِّ الصلاة، ولا الصيام حتى بلغ الخمسين من عمره، وستنطبع أُسرته الخاصَّة بطابعه فيما بعد، وبدا كسولًا كارهًا للتعلم فتعثرت خطواته … أما في مُعابثة البنات ومطاوعة الغريزة فقد أنذر سلوكه بالمتاعب، وحاول جرَّ أخيه عمرو معه ولكنه لم يجِدْ منه استجابةً تُذكَر، ووجد على العكس صدًّا وملامة. وقد تبادلا حبًّا أخويًّا متينًا وصمد في النهاية أمام ما شاب علاقتهما مع الزمن من خلافات. ومضى في مدرسته الابتدائية بصعوبة، ولم يكن حظُّ عمرو أوفرَ منه؛ ولذلك ما كاد يحصل على الابتدائية حتى ألقى سلاحَه، وسعد بوظيفةٍ في السكك الحديدية. كانت الابتدائية شهادةً ذات شأنٍ فارتاح بال عزيز وحمد الله. أجل تمنَّى المزيد لابنَيه متأثِّرًا بمثال أخيه داود باشا وابنه عبد العظيم، ولكنه قال لنفسه «القناعة كنز». بل راح يُفكر في الخطوة التالية المُهمة وهي الزواج … ولمَّا حادثه أبوه في الأمر وجد منه فتورًا، فصارحه بأنه لا يُبارك سلوكه، وأنه يرى في الزواج خير علاجٍ له … وانضمَّ عمرو إلى رأي والدِه بحماس، وسرعان ما أذعن سرور احترامًا لهما وتطلُّعًا لسحر الزواج أيضًا … ودلَّتهم الخاطبة على بيت زينب، وذهبت قافلة من نعمة ورشوانة وراضية لخطبة زينب. وزُفَّت إليه في البيت المجاور لبيت أخيه بميدان بيت القاضي، وبُهِر سرور بجمال زوجته وطبعها الهادئ وخُلقها الدمث، ووجد بين يدَيها الحُب والشفاء، وأنجبت له في حياةٍ مُوفقةٍ لبيب وجميلة وبهيجة وزينة وأمير وحازم، كان لسرور من وظيفته الرسمية وزوجته الممتازة وذُريته الجميلة ما يُؤهله لطمأنينة النفس، ولكنه كان دائمًا يحوم حول ما يفتقده فخسر كثيرًا من الأحلام، وأحَدَّ الحسد قلبه ولسانه. جمع بينه وبين زينب حال واحدة، توارت عند زوجِهِ وراء طبعها الدمث، وتجلَّت مع فحولته غير المُبالية. عرف — كان لا بدَّ أن يعرف — ماذا كان جدُّه عطا المراكيبي، وماذا صار، وكيف ابتسم له الحظ، كما عرف الأصل الذي صدرت عنه باشوية عمِّه داود، واحتجَّ على ثراء جدِّه وفقر أمِّه، واتَّهم جدَّه بالدناءة والقسوة، ولسعته الغيرة من أخيه المحبوب عمرو، لإغداق الجميع عليه بالحب والهدايا وتجاهله هو كأنه ليس بشقيق عمرو، مُتغافلًا عن حِدة لسانه التي نفَّرَت القلوب منه. وضاعف من تأزُّمه أنَّ عمرو تخطى ابنتَيه وزوج ابنَيه من آل داود وآل المراكيبي. أجل لم تطفُ عواطف السُّخط إلى السطح فيما بين الشقيقَين أو الأسرتَين، وغلب الحبُّ دائمًا، ولكن الباطن ماج كثيرًا بالانفعالات المُتضارِبة. حتى ما بين راضية وزينب، فقد غطَّاه السلام دائمًا وحُسن المعاشرة، وشدَّ ما بكى سرور يوم وفاة عمرو كما احتضرت زينب تحت مظلَّةٍ حانية من تلاوة راضية ودموعها. وكما كان سرور دون أخيه في تقواه كان كذلك في وطنيَّته، ولكن ثورة ١٩١٩. أودعت قلبَه المُتمرِّد قدرًا من الدفء لم يتلاشَ حتى النفس الأخير. وظلَّ يُفاخِر باشتراكه في إضراب المُوظَّفين كما لو كان المضرب الوحيد، وظلَّت ذكريات مظاهراتها عالقةً بخياله كأفتن الطيِّبات التي عشِقَها في حياته. تلك الموجة العاتية الهادرة بأناشيد المجد التي جرفت الآباء والأبناء واقتحمت قلوب النساء وراء المشربيَّات؛ ولذلك وجد في ارتداد آل المراكيبي وآل داود عن زعامتها المُقدَّسة مجالًا يضرب فيه لسانه بغير تحفُّظٍ يقول لأخيه: لنا خال لا يعبد في الدُّنيا إلا مصالحه.
أو يقول: وبيت عمِّنا الجليل المُنضم لعدلي توهمًا أنه حقًّا من العائلات!
ومع الكهولة تفجَّرت ثورة أُخرى في أعماق سرور تمرَّد بها على حبِّ زوجته، وانطلقت عيناه وغرائزه وراء أحلام المُراهقة من جديد. ونشِب الشقاق بينه وبين زينب الوديعة المُحبة الحزينة، وتُعاتبه بصوتها المهموس: ماذا نصنع لو شكتك جارتنا إلى زوجها؟
فيقول بحدَّة: لا يُوجَد أصلًا موضوع للشكوى.
ولمَّا شكَتْه هي إلى عمرو صبَّ غضبه عليها وهدَّدها بأنه سيتزوج ثانيةً وقتما يشاء. وكان الزواج مرةً أخرى أُمنية يعجز عن تحقيقها. والحق أنه لم يخُن زوجته إلا مرَّتَين؛ واحدة في بيتٍ من بيوت البغاء، والأخرى علاقة عابرة لم تدُم أكثرَ من أسبوع. وحنق أكثر على فقره، وأكثر وأكثر على جده الفظ، ودأب على شراء أوراق اليانصيب لعلَّ وعسى، ولكنه لم يَجْنِ من ذلك كله إلَّا العتاب الصامت يلوح في أعْيُن بِكرِيِّه لبيب وبناته، خاصة عندما تدهورت صحة زينب. ولمَّا رحل عمرو دهمه شعور بالوحدة والكآبة، وجاءت الحرب والإظلام والغارات فأعلن أن الحياة صفقة خاسرة، ولم يجد من سلوى في الحياة إلا في عظمة ابنه لبيب الذي تاه بها مع الجميع، الأمر الذي زاده ثقلًا على قلوب الأهل. وفي الفترة الأخيرة من حياته انقطع عن زيارة آل المراكيبي وآل داود، ولكنه كان يزور كثيرًا أبناء عمرو وبناته ويشارك في أفراحهم وأحزانهم، كذلك بيت أخيه، وكانوا يُحبونه منذ صغرهم وتضاعف حبُّهم له عقب وفاة أبيهم، وفي العام الأخير من خدمته الحكومية، أصابته أزمة قلبية وهو جالس في المشربية في ليلة خريف يرنو إلى الظلام الجاثم فوق البيوت والمآذن، مُتوقِّعًا بين ساعةٍ وأخرى نذير الغارة المُعتاد، وقد فارق الحياة في أقلِّ من دقيقةٍ واحدة.
سليم حسين قابيل
آخر ذُرية سميرة عمرو وحسين قابيل، وُلِد ونشأ في شارع ابن خلدون، وتُوفي أبوه وسِنُّه عامٌ واحد، فترعرع في حياةٍ منضبطة غير الحياة الرخية التي تقلَّبَت فيها أُسرته وهو خاطرة في عالم الغيب. وكان وسيمًا كأُمِّه، فارع العود كأبيه، كبير الرأس والعقل كأخيه حكيم. ومنذ صِغره تجلَّت صلابته وعناده كما تجلى تفوُّقه الدراسي. وعدَتْهُ أُخته هنُّومة بتديُّنِها وصرامتها الأخلاقية، وظنَّ عهدًا طويلًا أنه يتلقى حقائق الغيب عن لسان جَدَّتِه راضية. وكان يُحِب كرة القدم ويُجيدها، ويُحب مُخالطة البنات في حديقة الظاهر بيبرس، ويكره الإنجليز، ودائمًا تُداعب خياله أحلام الإصلاح والمدينة الفاضلة. ولم يَمِلْ إلى حزبٍ من الأحزاب، صدَّه عن ذلك أخوه حكيم الذي رفض الجميع بدون استثناء. وسمع حكيم يقول مرة: نُريد شيئًا جديدًا.
فقال بتلقائية: مثل سيدنا عمر بن الخطاب.
واتجه بدافعٍ من مزاجه وبتأثيرٍ من هنُّومة على الكتب الدينية في مكتبة أخيه. كان حلم المدينة الفاضلة يغلب عليه الكُرَة والبنات. ولمَّا قامت ثورة يوليو كان في المرحلة الثانوية فرحَّبَ بها بكلِّ حماس كمُنقذٍ مِن الضياع، وشدَّ من ارتباطه بها الدور الذي لعبه شقيقه حكيم فيها. لأول مرةٍ خُيل إليه أن المدينة الفاضلة تبني حجرًا بعد حجر. وظنَّ أنه بانضمامه إلى الإخوان إنما يندمج أكثر في الثورة، فلمَّا وقع أول تناقُضٍ بين الثورة والإخوان أبقاه قلبه مع الإخوان، ومضى يختلف مع شقيقه. وقال له حكيم: الحذَر.
فقال: الحذَر لا يُنجِّي من القدَر.
والتحق بالحقوق ونشاطه السياسي — أو الديني — في تصاعُد. ولكن أحدًا من أهله لم يتصور أنه سيكون بين المُتَّهمين في قضية الإخوان الكبرى. وتحيَّر حكيم وقال لأُمِّه الجَزِعة: لا حيلةَ لمخلوق!
وحُكِم عليه بعشر سنوات؛ فترنَّحَت سميرة تحت وطأة الضربة، ووجدت أن تألُّق نجم حكيم لا يُعزِّيها شيئًا عن سجن سليم، فأضمرت الكراهية للثورة وراحت راضية تدعو على الثورة ورجالها، وخرج سليم من السجن قبل ٥ يونيو بعام فأتمَّ المُتبقِّي له من الدراسة وحصل على الليسانس، وعمل في مكتب مُحامٍ إخواني كبير. ولَمَّا وقعت الهزيمة الكبرى اعتبرها عقابًا إلهِيًّا على حُكم كافر. ولم تنقطع صِلاته بالزملاء ولكنها مضت في تكتُّمٍ شديد وحذَر، ووجد مُتنفَّسًا في الكتابة فوهب لها سنواتٍ من عمره تمخَّضت عن ثمرةٍ جيدة في كتاب «العصر الذهبي للإسلام» ثُم أتبعه بكتاب «أهل العزم والتقوى». وفي الوقت نفسه أحرز نجاحًا لا بأس به كمحام، وتحسَّنت أحواله المالية من رواج كتابَيه خاصَّة بعد أن ابتاعت السعودية منهما كمية موفورة. ولمَّا رحل زعيم الثورة داخَلَه شيء من الطمأنينة، فقالت له سميرة: آنَ لك أن تُفكِّر في الزواج.
فاستجاب لصوتِها استجابة ملهوف فقالت: عليك أن ترى هدية بنت أمانة بنت خالتك مطرية.
هي صُغرى ذُرية أمانة وكانت قد رجعت توًّا من الخليج بعد اشتغالها بالتدريس هناك عامَين واشترت شقَّةً في منشية البكري. وزار بصحبة سميرة بيت عبد الرحمن أمين وأمانة في الأزهر ورأى هدية، مُدرِّسة جميلة في ريعان الشباب تَمُتُّ بجمالها إلى جمال جدَّتِها مطرية قمَّة جمال الأسرة. وخطبَتْها سميرة وزُفَّت إليه واستقرَّ بها في شقتها بمنشية البكري، وحظِيَ سليم بزوجة طيبة وحياة عملية آخِذة في الازدهار، وآنَسَ في حُكم السادات مودةً ورحمة، ولم يُقلقه إلَّا التيارات الدينية الجديدة التي انبثقت من الإخوان، ثم شقَّت لنفسها مجاريَ جديدةً محفوفة بالتطرُّف والغموض. وكان يقول لأخيه حكيم: ثمة صحوة إسلامية شاملة لا شكَّ فيها، ولكنها بعثَتْ فيما بعثَتْ خلافاتٍ قديمة تستنفد قواها فيما لا يُجدي.
ولكن حكيم كان يهيم في وادٍ آخر، وكان رغم عواطفه الشخصية يَعتبِر ما حلَّ بالنظام في ٥ يونيو كارثة مُحقَّقة، وأن الوطن يمضي إلى مجهول. ومضت الأيام فتلقى سليم من ربِّه عهد الأبوة والوفرة في الرزق، والرضوان يوم النصر، ولا شيءَ من ذلك كله يزحم في نفسه إيمانه الراسخ وحلمه الأبدي بالمدينة الإلهية الفاضلة، وجرف معه في تياره العارم هدِّية حتى قالت: كنتُ ضالَّةً فهُديت والحمد لله.
وأصبح سليم من كتَّاب الدعوة في مجلة الإخوان، ودهمه ما دهم زُمرته من غضبٍ لمغامرة السادات الكبرى في سبيل السلام، وارتدَّ مرةً أخرى إلى عنفوان السخط والتمرُّد، حتى صدرت قرارات سبتمبر ١٩٨١، ورُمِي به في السجن من جديد. ولمَّا وقع حادث المنصة قال: عقاب إلهي لحُكم كافر.
وتنفَّس الحُرية في جوٍّ جديد، ولكنه كان قد فقد الثقة في كل شيءٍ إلا حلمه، فمن أجله يعمل ومن أجله يعيش.
سميرة عمرو عزيز
هي الرابعة في ذُرية عمرو والثانية في الجمال بعد مطرية، ومن خلال لَعِبها فوق السطح وتحت شجرة البلخ في الميدان، أو دراستها في الكتَّاب تبلورت لها شخصية رزينة وطبع هادئ وذكاء وقَّاد. نادرًا ما التحمت في «نقار» مع إخوتها، وعند احتدام العنف كانت تنزوي في رُكنٍ قانعةً بمشاهدة ما يجري مما ستُدعى للشهادة عليه فيما بعد. ورغم أنها فاقت أُمَّها بجمالها، إلا أنها كانت تَمُتُّ إليها في الهيئة العامة — عدا الطول — الأمر الذي جعل راضية تخصُّها بإعجابٍ شديد. وبخلاف أخواتها حفظت المبادئ التي لُقِّنَتْها في الكتَّاب ونمَّتْها بالاجتهاد، فكانت الوحيدة بينهن التي تُواظب على قراءة الصُّحف والمجلات في الكبر … وفي زياراتها لآل المراكيبي بسراي ميدان خيرت أو آل داود بالعباسية الشرقية كانت تُسجل في وعيها ما تراه من أناقة الترتيب وآداب المائدة وإيقاع الحديث وجمال الموضة وتُحاول اكتسابه والتطبُّع به ما وسِعتها الحيلة وسمحت الظروف، وكان محمود بك عطا يقول بمزاحه الخشن: أنتم أُسرة بلدي، ولكن فيكم بنت من بنات الفرنجة!
وأدركتها المراهقة ولكنها لم تُعاشِر طويلًا أحلام العواطف الدفينة، إذ سرعان ما تقدَّم لخطبتها صديق لأخيها عامر يُدعى حسين قابيل صاحب دكَّان تُحَف في خان الخليلي. زامل أخاها حتى البكالوريا ثم خلَفَ أباه في الدكان عقب وفاته، وكان رغم شبابه ذا سمات فحلَةٍ وثبَتْ به إلى الرجولة قبل الأوان، ضخم الجسم، كبير الرأس، حادُّ البصر. وعلى خُلق كريم وثراء لا بأس به، وبخلاف صدرية ومطرية زُفَّت سميرة إلى زوجها في حي الظاهر، بشقَّةٍ في عمارة جديدة بشارع ابن خلدون، وجاء ذلك مناسبًا لها تمامًا، فصادفت كثرةً من الأُسَر اليهودية، وتعلَّمت العزف على البيانو، وربَّت كلبة لُولي كانت تصحبها في نُزهاتها بحديقة الظاهر بيبرس. ولمَّا علم عمرو بذلك قال مُحتجًّا ومسلِّمًا بالأمر الواقع في آن … ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان حسين قابيل ميسور الحال وكريمًا، فتفجَّرت ينابيع الحياة الرغيدة في مسكنه، وأشبعت سميرة هواها الكامن إلى الموضة والمعيشة الأنيقة، وضاعف من سرورها ما طُبع عليه زوجها من جميل المعاشرة وأدب المعاملة، وأمام الآخرين كان يُخاطبها بقوله: «يا سميرة هانم.» وتُناديه بقولها: «يا حسين بك.» وكان الرجل يجمع في قلبه بين الوطنية الصادقة والتديُّن العميق، وينشرهما فيمن حوله؛ لذلك نفَذَت ثورة ١٩١٩ إلى عمق قلب سميرة لم تصِل إلى مثله في قلب أيٍّ من أخواتها، كذلك كان تديُّنها أسْلَمَ من الشوائب إذ كانت أقل أخواتها تأثُّرًا بغيبيات راضية. وقد أنجبت له بدرية وصفاء وحكيم وفاروق وهنومة وسليم، وجميعهم حظوا بنصيبٍ موفورٍ من الجمال والذكاء، وتعاون الوالدان على تربيتهم تربيةً سليمة في كنف الدِّين والمبادئ. ومن أول يوم قالت له: سنُعلِّم البنات كالصبيان.
فوافق بحماس، واستطاعت سميرة بتألُّقها أن تُحرك شيئًا من الغيرة عند آل المراكيبي وآل داود أنفسهم، غير أن حياتها لم تخلُ من أحزانٍ كثيرة ففقدت بدرية وحكيم وأُسرته، وانشقَّ قلبها قلقًا على سليم في شتَّى أطوار حياته. ومن العجيب أنها كانت تلقى المصائب بإرادةٍ مؤمنة صابرة قوية، قادرة على تلقِّي المصائب وهضمها، ومُعايشة الحزن الباقي بحكمةٍ جعلتها غرضًا سهلًا للاتهام بالبرود. وتقول لها راضية: إنك لا تؤمنين كما يجِب بالحجاب والرُّقى والبخور والأضرحة، ولا عِلم إلَّا عِلم الأوَّلِين.
وتتساءل سميرة في نفسها دون أن تُبيِّن: هل أجدَتْ هذه الوسائل في دفع المصائب عن صدرية ومطرية؟! وحُمَّ القضاء فتُوفِّي حسين قابيل بعد مَولد سليم بعامٍ واحد وأربعة أعوام خلت على وفاة أبيها. ولم ترِثْ عنه إلا مخزنًا من التحف، دبَّرت أمورها على عوائد بيعها عند الحاجة، وقد رحل الأب، وذُريته ماضية في مراحل التعليم ما بين الثانوية والجامعة.
وسألتها راضية: ماذا تبقَّى لك يا سميرة؟
فأجابت: مخزن من التحف.
فقالت المرأة: بل يبقى لك خالق السماوات والأرض.