من فضلك وإحسانك
اكتشف الحب، أو اكتشفه الحب، أول عهده بالمرحلة الثانوية. في الخامسة عشرة كان، وفي الرابعة عشرة كانت، اتفقَا على خطوبة غير رسمية يحتفظان بها سرًّا بينهما حتى يبلغ المرحلة الجامعية، ثم تُعلَن وتمضي الأمور في طريقها المعهود. وهو وسيمٌ رشيق ذو سمرة صافية، وهي في نفس المستوى في أعين الناس، ولكنَّ جمالها في قلبه يتلألأ بأضواء مسحورة، ومع أن الأسرتَين تُقيمان في عمارة واحدة بشارع مريوط بمنشية البكري، إلا أنهما لم يتعارفَا قط، ولا تبادلَا تحية عابرة، فاستمدَّ معلوماتِه القليلة عن أسرة حبيبته «جميلة» من حديثها. عرَف أن أباها يُدعَى «عبد الرحيم يسري»، من ذوي المعاشات، مترجِم سابق بالخارجية، تركَّز اهتمامُه أخيرًا في العبادة ولعب الطاولة. أما أمُّها «شامة لطف الله» فهي مفتِّشة بالتربية والتعليم، معروفة بالحزم بقدر ما هي مغرمة بالتلفزيون. ولها أيضًا إخوة ثلاثة؛ أكبرُهم ضابطُ جيش استُشهد في حرب ١٩٤٨، ومهندس واقتصادي موظفان في شركتَين. ولم تكن جميلة متفوِّقةً في دراستها، ولكنه كان هو أيضًا يماثِلُها في ذلك. وكان مغرمًا بكرة القدم، ويلعبها بمهارة لا بأس بها، ولا يُبدي أيَّ اهتمام بالحياة العامة، مثله في ذلك مثلُ أبيه وأمِّه، بل مثل شقيقتَيه المهاجرتَين مع زوجَيهما بليبيا والبحرين. لم يرتفع في ذلك المسكن صوتٌ لتأييد رأيٍ أو معارضة رأيٍ أو إعلان موقف ولا حتى كمتفرجين، فلا مشاركة وجدانية، وكأنما ينتمون إلى كوكب آخر. تدور الأحاديث عادة عن المدرسة، المسلسلات التلفزيونية، الكرة، الطعام، أو شركة الأجهزة المنزلية حيث يعمل الأب «إبراهيم الدارجي» مراجعًا للحسابات، والأم «بيسة فضل الله» في قسم الإعلانات. رأى «عبد الفتاح» جميلة أول ما رآها في شارع مريوط الذي يعترض طرفُه الشرقيُّ الشارعَ العموميَّ المتجه إلى «مصر الجديدة»، رآها بعد ذلك في مدخل العمارة، شملهما من بادئ الأمر مناخٌ طيب يجود بالأنس والاستلطاف، وتبادلَا الابتسام والتحية.
وأعقب ذلك اللقاء في الشارع العموميِّ بعيدًا عن الأنظار، انفجرَت في قلبه حياةٌ جديدة بقوة ملهمة … فاعترف، وتم الاتفاق على المستقبل القريب والبعيد، وحمَّلها أمانة كبيرة، وهو يقول لها: لا حياة لي بدونك.
ولأول مرةٍ يجاوز اهتماماته الصغيرة إلى حياة جديدة واعدة بثراء جديد، ويحطم حاجز الانحصار الذاتي واثبًا للغير. عاش عامين سعيدًا، عاش في سعادة حقيقية، ولكنها انسابَت بخفة بلا تركيز أو وعي منه، فلم يعرفها — مثل كثيرين — إلا كذكرى؛ ذلك أن الحب تعرَّض للاغتيال … وهو نفسه قال: «ليس لي قصةُ حُبٍّ، ولكن قصتي تبدأ بعد وفاة الحبِّ.» تلقَّى منها رسالة بيد زميلة عالمة بسرِّهما تُنبئه فيها بأنها خطبت، وأنها عجزت عن إنقاذ حُبِّها، وأنها حزينة أسيفة ولكن لا مناص من قطع العلاقة … قرأ وأعاد القراءة. هل يمكن؟ بلا تمهيدٍ؟ وهذا الأسلوب؟ قال للرسولة، وتُدعى «بثينة»، أو قال على مسمَعٍ منها: أيُّ جفاء … إنها برقية لا رسالة!
فقالت الفتاة معتذرة عن صديقتها: عواطفها أكبر من ذلك، لكنها لا تُحسن الكتابة!
وأخبرَته أنها تألمت، وأنها توسَّلت إلى أمِّها أن تتركها وشأنها، أن تتركها لتنتظره، وأنها راضيةٌ بحظِّها، ولكنها لاقَت موقفًا مصممًا مسلحًا بالحجج الواقعية الصارمة، من تكاليف الزواج الباهظة، وأزمة المساكن، وعجز المرتبات، وأنه لا أمل لشابٍّ في الحياة الزوجية إن لم يكن غنيًّا أو مهاجرًا، وأنَّ الخطيب الجديد «حامد بك مظهر» هو مناسب جدًّا في الظروف الراهنة … أجل إنه في الأربعين من عمره، ولكنه خبيرٌ ذو مرتب ضخم، إلى جانب نشاط خاص يُدِرُّ عليه دخلًا محترمًا، فهو قادر وأهلٌ للحياة الزوجية، وفي كنفه ستحظى بالحياة الكريمة والسعادة الحقيقية، لا السعادة الوهمية التي سرعان ما تتلاشى في خلاء التقشف والضنك، وحذَّرتها من أن تظن بها الطمع، أو تخلط بينها وبين النموذج التليفزيوني للمرأة المادية التي ترفع المادة فوق العاطفة، المسألة بكل بساطة أن الزواج ضروريٌّ لها — لجميلة — وهو غير ميسَّر إلا مع رجلٍ مثل حامد مظهر، ومن حسن الحظ أنه لا تشوبه شبهةٌ من شبهات الانفتاح، فهو قادر وشريف، فلا مفر من التسامح في عمره، وهو على أيِّ حال لم يجاوز السنَّ المناسبة للزواج، ومضَت بثينة تقول إن جميلة لم تستطع أن تقارع الحجة بالحجة، ولعلها لم تتصور أن الأمور معقدة إلى ذلك الحدِّ، فانطلقت تُخاطب قلبَ أُمِّها، وقلب أبيها أيضًا، ولكن الأب قال لها: «مسايرتك تعني التضحية بك، أُقسم لك بصلاتي أنِّي صادق، ليس ما تشعرين به هو الحب، في مثل سنِّك لا تعرف القلوب الحُبَّ الحقيقي، ستعرفين ذلك بنفسك.» وعند ذاك قالت له بثينة: لعله مما ساعدها على الإذعان أنها ستنقطع عن الدراسة، فهو يريدها ستَّ بيت، وأنت تعلم أنها لا تحب المدرسة!
تابعها عبد الفتاح بذهول، ثمَّ ماجَ قلبُه بالغضب والعذاب، وأصرَّ على مقابلتها، فكلَّف بثينة بإتمام ذلك، وجاءته في أصيل اليوم التالي والخريف يقطر مناخًا معتدلًا … جاءت منكسرة الطرف، تتعثر في الخجل، قابضة بأصابع متشنجة على منديلها الأبيض الصغير، حيَّته بغير ابتسام هامسةً: إنِّي آسفة.
حثَّه منظرُها على التمسك بها باستماتة، غير أن نبرة صوته نمَّت عن الغيظ وهو يقول محتجًّا: تقتلينني ثمَّ تأسفين! ماذا أصنع بأسفك؟
فقالت له بحرارة: حزني أشدُّ مما تتصور.
فقال ساخرًا: صدقتِ فيما يتعلق بتصوري.
– لا تظلمني.
– أعلني الرفض وأصرِّي عليه.
صمتَت في حيرة جليَّة، فطفر الغيظ إلى قسمات وجهه وتساءل: ماذا قلت؟
فقالت، وهي تتنهد: لن نستطيع الزواج كما نتمنى.
فقال مستسلمًا لغيظه: أعرف ما قيل وما يقال، ولكن الحب أقوى من ذلك.
فقالت وعيناها تدمعان: الواقع أقوى من أمانينا.
– المسألة أن حبَّكَ ليس بالقوة التي ظننتُها.
– لا تظلمني.
شعر بأنها لا تريد أن تعدل عن قرارها، إنها لم تَعُد تحبُّه، إنها لم تحبَّه قط.
هتف غاضبًا: أكذوبة!
تمتمَت بانزعاج: ماذا؟
– خاب ظني فيكِ.
قالت بتوسل: لا تَزِد في عذابي.
لوَّح بيده غاضبًا، فأصابت أناملُه جبينَها، فتراجعَت مذعورة. أفاق من غضبه. وثَب نحوها قائلًا: معذرة، لم أقصد.
– كفى!
– أُكرِّر الأسف.
فقالت بصوت هادئ: يجب أن أذهب.
فتحوَّل عنها دون تحية. توغَّل في الطريق صوب الشمال والظلام يهبط ودفقات من الهواء الرطب تهبُّ. عجب من فراغ الوجود من كلِّ شيءٍ إلا نبض الألم في أعماقه، ألم وفراغ، فراغ وألم، إن لم يكن الحبُّ مرضًا فلا بد له أن يوجد له دواء. ولكن أين وكيف ومتى؟ وفكَّر في أنه أخطأ في تركها تَفْلت من يده، فاستدار وراح يعدو ليلحق بها، ولكنه لم يعثر لها على أثر. ورجع الفراغ ورجع الألم، وحلم أنه يستطيع أن يقتل أمَّها، فقرر أن يقطع رأسها تحت المقصلة، استحضر بخياله صورة المقصلة كما رآها في فصل الثورة الفرنسية. يا لَلداهية! ما هذا الفراغ وما هذا الألم؟ ولأول مرة يعاني الوحدة وهو وسط أصحابه وهم يقضون الفترة الأخيرة من العطلة الصيفية، رغم أنهم جميعًا على شاكلته، مِمن لا يكترثون للحياة العامة وتستغرقهم الشئون الخاصة. وبدافع من كبرياء لم يَبُح لأحدٍ منهم بسرِّه. أما أكثر اليوم فخلا فيه إلى نفسه في حجرته الخاصة — للنوم والدراسة معًا — غارقًا في التأمل، ولم يخرج من عزلته في سهرة التلفزيون حيث تجتمع الأسرة وكأنها غير مجتمعة. غرق في التأمل حتى وجد نفسه، ولأول مرةٍ، يسأل عن معنى حياته أو معنى الحياة. ومضَت المعاني تتلاشى وتتبخر في الهواء، وقلب عينَيه بين جدران الحجرة وسقفها وكأنما يجول في الكون، ثمَّ سأل: هل يوجد في قلب هذا الكون هدفٌ أو معنًى؟!
لو عُرِف هذا الهدف الكوني عُرِف بالتالي معنى حياتنا، ولكن ما السبيل إلى معرفة هدف الكون؟ كيف نحمله على البَوح بسرِّه؟ كيف نُنقذ حياتنا من العدم؟! لم يجد نفسه في هذا المقام الحائر نتيجة لثورة أو فكر، ولكنه وجد نفسه في خضمِّه بتلقائية مَن لا يملك ذخيرةً أو تراثًا؛ ذلك أنه نشأ في جوٍّ خاصٍّ غير عادي، جوٍّ خلقه والدان من نوعٍ خاصٍّ أيضًا. «إبراهيم الدارجي»، الأب، مشغول بالحياة لدرجة لم تترك له فراغًا لتساؤل أو تأمُّل … إنه أبعد ما يكون عن الطِّراز المتدين، ولكنه في الوقت نفسه أبعد ما يكون عن النموذج الملحد أو الشاك. لم يتفوَّه طيلة حياته بكلمة مع الدين ولا كلمة ضده. الدِّين بالنسبة إليه غير موجود، أو مختفٍ في ظلٍّ كثيف، ولا يخطر له ببالٍ، ولا يتذكره إلا في المناسبات النادرة، وقد تَرِد في كلامه مصطلحاتٌ دينية يُردِّدها دون أدنى انتباه إلى مغزاها، فيقول أحيانًا «الله أعلم»، ولا تعني عنده أكثر من «لا أدري». وعيد الفطر عنده كحك، وعيد الأضحى عنده «لحمة». والأم «بيسة» لا تختلف كثيرًا عن زوجها في لا مبالاته الفطرية، وإن لم تَخْلُ من إيمان بالشعوذة والسحر. فلم يعبَق البيت بنفحة دينية ولو عابرة. هذا هو الجو الذي نشأ فيه «عبد الفتاح»، ولم تُضِف إليه المدرسة سوى حكايات تُحفظ وتُنسى، وألفاظ تُشرح وتُعرب، وامتحانات يُودِعها محفوظاتِه قبل أن تتلاشى، وفي المدرسة عبرَت أمامه ومن حوله تياراتٌ متضاربة دينية ومادية، فلم يهتمَّ بها، وسخر منها؛ ولذلك لم تتوثق الصلة بينه وبين أحد المنتمين إليها، واختار أصدقاءَه مِمن هم على شاكلته من اللامبالين … ومع ذلك هزَّته الهزيمة، فوجم وتألم، ولكنها لم تعدل به عن طريقه، بل لعله أوغل فيه أكثر وأكثر. من أجل ذلك كلِّه وثب في أزمته إلى الكون يسائله عن معناه وهدفه بتلقائيةٍ ويُسرٍ، دون أن تُعيقَه عن ذلك عقيدة سابقة … تعلَّق بالكون باعتباره الأمل الأخير الذي يمكن أن ينتشله من الفناء الزاحف على قلبه وروحه … تُرى هل يوجد سرُّ ذلك عند أحدٍ من البشر؟ هل تتضمنه حكمة أو علم أو فلسفة؟ وأليس مما يفزع أن ترتفع فجأة من كرة القدم إلى قلب الكون دفعةً واحدة؟! وتوهَّم أن عالمه الداخلي يتوارى عن الأعين القريبة بما يفور فيه من تساؤلات حارة مستميتة، ولكنه لاحظَ في أعين والدَيه محاولاتٍ أبوية قلقة تروم النفاذ إلى أعماقه. وضح ذلك يوم الأحد — يوم العطلة الأسبوعية — عندما دعواه للجلوس معهما في حجرة المعيشة عند الضحى، توقَّع في الحال استجوابًا حميمًا، فضاق به قبل أن يُعلن، وصدَق حدْسُه عندما تساءل أبوه وهو يغوص بروبه الخفيف في الفوتي الأرجواني: ما لك يا عبد الفتاح؟!
فتظاهر بالدهشة لغرابة السؤال … فقالت أمُّه: لست كعادتك، لا خفاء في ذلك.
وقال أبوه: بعد أيام معدودة سيبدأ عام الثانوية العامة، وهو عام يتقرر فيه المصير!
وقالت «بيسة»: ونحن أصدقاء، ولا يجوز أن يحجز بيننا سرٌّ.
قال محاولًا الاحتفاظ بسرِّه الغريب لنفسه: أنتما واهمان.
فقال الأب وأنامله تُناجي حبَّات سبحته القهرمانية التي تلقاها هدية، واستغلها لامتصاص القلق: بل إن صحتك ليست على ما يرام.
– أشعر بتمام الصحة والعافية.
– إنك تمرُّ بفترة من العمر شديدة الحرج.
ضحك ضحكة جافة، تغيَّر موقفُه بغتة، جرفَته موجةُ استهانة كردِّ فعل للسهاد والألم، قال: الحق إنه يشغلني سؤال محيِّر!
– أيُّ سؤال يا بني؟
قال ممهدًا بضحكة كالاعتذار: سؤال عن الهدف الكوني!
تفشَّى صمتٌ ثقيل حتى صار له دويٌّ في الآذان، نظر والداه إليه طويلًا، ثمَّ تبادلَا النظر طويلًا، وتمتم الأب متسائلًا: الهدف الكوني؟!
فتساءل عبد الفتاح: هل أندم على مصارحتكما بالحقيقة؟
فقالت بيسة بسرعة: أبدًا … ولكننا لم نفهم.
فقال بتحدٍّ: إني أسأل … هل في الكون هدف؟!
فتساءل أبوه: الكون دفعة واحدة؟
– الكون دفعة واحدة.
– الكون شيء فوق التصور … ماذا يهمُّك من ذلك؟
– لن أعرف هدف حياتي، إن لم أعرف الجواب.
قال الأب برقَّة وبجهد: إنك كمَن يريد أن ينتقل إلى مصر الجديدة عن طريق مدينة الكاب بجنوب أفريقيا، لِم لا تستعمل هذا الطريق الممهد الذي نراه من نافذتنا؟
فقال بيأس: لا معنى لحياتي إن لم أعرف ذلك الهدف البعيد!
فرمقه «إبراهيم الدراجي» بحنان، وقال: عليك أن تنجح في الثانوية العامة، وأن تُحرز المجموع الذي يفتح لك أبواب الكلية التي تريدها، وأن تعمل، ثم تتزوج وتُنجب ذرية، وتستمر في التقدم حتى تنعمَ بمعاش مستقر سعيد، هل يوجد هدف وراء ذلك؟!
فتساءل بامتعاض: وماذا بعد المعاش المستقر السعيد؟!
فقال الرجل وهو يكظم غيظَه: يجري علينا ما جرى على الناس منذ آدم!
فقال «عبد الفتاح» بعصبية: معنى ذلك أنه لا يوجد معنًى يستحق أن نعيشَ من أجله!
فتساءل الأب ضاحكًا: لا بد من معرفة هدف الكون؟!
– وإلا فلا معنى لشيء على الإطلاق.
ونمَّت نبرة الرجل عن غيظ مكتوم، وهو يقول: وكيف تعرف هذا الهدف؟ كيف تتابعت الأجيال دون أن تعرفه؟ وهل تؤجل امتحان الثانوية العامة حتى تعرفه؟!
فقال الشاب في حزن: أعرف أنه سؤال مثير للسخرية، ولكني وقعتُ في قبضته.
فقالت «بيسة» بجزع: لا تَقُل ذلك، عليك أن تُنقذَ نفسك.
وقال أبوه بحرارة مدافعًا اليأس: حتى لو وُجد جواب، فهو لن يجيء بين يوم وليلة.
فصمت «عبد الفتاح» فواصل الرجل برجاء: لا خلاف في ذلك، فلنبدأ بالممكن.
قالت الأم، وهي في غاية من القلق: لنبدأ بالممكن.
فواصل الأب: بوسعنا أن نخلق هدفًا لحياتنا وأن نحققه، ولك ألا تكف عن التفكير في الآخر، ومن يدري، فربما عرفته بعد عمر طويل!
وتنهَّدت الأم في ارتياح قائلة: حلٌّ موفق، أليس كذلك يا «عبد الفتاح»؟!
وقال الأب برجاءٍ حارٍّ: أَعْلن موافقتَك أرجوك!
ابتسم ابتسامةً شاحبة في استسلام، اقتنعتُ الأم بأنه اقتنع … قالت بفرحة طفولية: سنسهر الليلة في الميري لاند، لم نسهر معًا منذ مدة، أمامنا عشاءٌ ساهر وشراب منعش.
وعند العشاء شرب قدحَين من النبيذ، فتلقَّى نشوة فرَّجَت كرْبَه، وأشعلَت ضوءَ الابتسام في ثغرِه وعينَيه … حتى قال الأب لنفسه مستوهبًا العزاء: سحابة وانقشعت.
ووجد الشابُّ نفسَه تُرحِّب بالحل الموفَّق، ربما هربًا من المأزق الخانق الذي يُهدِّد بالشلل، وحمَّل والدَيه مسئوليةَ تراجعِه السريع تفاديًا من الاعتراف بالهزيمة. رأى أن يطويَ اليأس في ركن من نفسه، وأن يرسم لحياته خطةً كالآخرين، ومَن يدري، فقد يدهمه الجواب من أعماق الحياة نفسها. وما الهدف الذي يختاره؟ كلية الطب، حياة ثرية من الناحيتَين العلمية والمادية، زواج وإنجاب، وإن يكن الناس يتساوَون في الموت، فإنهم لا يتساوَون في الحياة ولا في الذكاء … المهم الآن أن يمحق من قلبه جميلة وخيانتها، وأن يقتلعَ الحُبَّ من جذوره ليستعيدَ توازنه، وتمنَّى أن تُزفَّ إلى «حامد مظهر» سريعًا لعله يداوي الألم باليأس … وحدث ذلك في الأسبوع الأول من العام الدراسي. وقف عند ملتقى شارع مريوط بالشارع العمومي ليُلقيَ نظرةً على موكبها الصغير وهو يميل نحو مصر الجديدة، وبالرغم من توقُّعِه لذلك وتعجُّلِه له، فقد أصابَته هزَّةٌ عنيفة فاقَت تقديرَه وتخيُّلَه. سَهِر ليلتَها في حجرته حتى الصباح على ضوء بطارية صغيرة، قضى أكثرَ الوقت واقفًا أو ذارعًا الحجرة أو مُرسلًا طرفَه من النافذة إلى الليل الشامل. ومن خلال تجربة طارئة التحَمَ بأثاث حجرته التحامًا غريبًا جنونيًّا، ومضى في التجربة على رغمه كأنما يؤدي طقوسًا لأوثان وقع تحت سيطرتها بقوة سحرية. جذبَ الفراشُ عينَيه بدعوة نابعة من الصميم، وكأنه يكتشف لأول مرة الفراش الخشبي ذا اللونِ البُنيِّ الغامق، والملاءَة البيضاء، والغطاء البنفسجي المطوي للنصف. وبإدامة النظر إلى الفراش ومحتوياته دبَّت فيه — الفراش — حياةٌ من نوع ما، فتبدَّت الوسادتان لعينَيه ترنوان إليه، وشملت الملاءة والغطاء أُلْفة قديمة لا تكون إلا بين الأصحاب. ونفذ بصرُه إلى الأعماق، فرأى القطن المكدَّس في الحشية، وراح يعدُّ خيوطَه الملتفَّة المضغوطة وهو يشعر بأنه سيختم الإحصاء بوثبة في المجهول قد لا يرجع منها. وتفرَّس في مكتبه في الجانب المقابل من الحجرة وهو يحمل صفَّين من الكتب يفصل بينهما السومان، فرآه يُبادله النظر داعيًا إياه إلى سماع حوارٍ حارٍّ دائرٍ بين الكتب لم يكَد يُلاحقه من سرعته وحيويته وما يُنذر من خطورة متعددة العواقب، ومدَّ بصرَه إلى مرآة الدولاب القائم بين المكتب والفراش فعكست له صورته على ضوء البطارية الخافت، جسمًا بلا رأس، ومن عجب أنه لم يُدهش لذلك ولم ينزعج، ولكنه فتح الدولاب كأنما لَيبحث عن رأسه في داخله، فرأى بدلة مشتبكة في معركة بالأيدي والأرجل، فتراجع إلى فوتي يتوسَّط الجدار المواجه للدولاب، وانحطَّ عليه وأغمض عينَيه، فانفجرَت في رأسه خواطرُ مضطربةٌ متلاطمة لم يستطع أن يُمسكَ بواحدة منها متكاملة؛ إذ سرعان ما تتلاشى في أخرى، مؤججة رغبة متصاعدة في الإمساك بأي شيء ذي شكل سليم واضح، وظل فريسة الأطياف حتى نضحَت النوافذ بضوء الصباح المترَع بالخريف، انطوت الليلة ولم تتكرر، وعزم على أن يُنفِّذ خطته المرسومة، غير أن الكون لم يَغِب عنه تمامًا، فكان يزوره من حين لآخر مذكِّرًا إياه بحزنه المخزون المؤجل. وبالمثل كانت تَهبُّ عليه نفحاتٌ من صحراء الحب المهجور، ولكنه مارسَ حياةً ناجحة فيما عدا ذلك، وبشَّرَت حالُه ببلوغ المرام، ولما أُعلنَت نتيجةُ الثانوية العامة جاءَت مخيبةً للآمال، آمال آل الدارجي، ومن خلال التنسيق ضاعَت الطب والهندسة والعلوم، فلم يَجِد إلا الحقوق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت تَقبل عددًا محدودًا من الثانوية علمي. جاءت النتيجة صدمةً لإبراهيم الدارجي، وقال وكأنه يدافع عن كرامته الشخصية: هذه النتيجة تقطع بأنك لم تكن في أحسن أحوالك.
وقالت الأم: رأيي أن تُعيد السنة.
ولما كان أدرى بذاته، فقد قال بتسليم نهائي: لتكن الحقوق!
ولم يشَأْ أحدٌ أن يضغطَ عليه، فقال الأب: على أيِّ حال أمامك فرصة للعمل في النيابة.
أما هو فقال لنفسه بمرارة «فشلت الخطة»، واعتمد في عمله على إرادته وحدها، وبلا دافع حقيقي. أجل شُفيَ من الحب وتحرَّر من قبضة الكون، ولكنه لم يقهر الفتورَ المستقر في همَّته، ومضى في طريق النجاح الذي لا يُبشِّر بأيِّ تفوق أو امتياز، حتى حصل على ليسانس بلا تهانٍ، وعن طريق توزيع القوى العاملة أُلحق كاتبًا بالنيابة العمومية. حزن الأبُ إبراهيم والأم بيسة لذلك حزنًا شديدًا، إنه الابن الوحيد، والحلم الكبير، وها هي النهاية تتجسَّد أمام عينَيهما كتمثال للخيبة، وفاق حزنُه حزنَ والدَيه، ولكنه لم يَدْرِ بأيِّ لسان يحتجُّ على مصيرٍ صنعَه بيدَيه، بل ذكر بكآبة أنه لم يمارس التفوق في حياته أبدًا … وأن الأرجح أنه لا يستطيع أن يخلق لحياته هدفًا خيرًا من هذا، وقال لأبيه: أكثرنا الحديث يومًا عن الحياة والهدف، ولكننا نسينا أمرًا هامًّا، خبِّرني الآن … هل تعرف أحدًا من الكبراء القادرين على تحديد الأهداف؟!
فقال إبراهيم الدارجي بامتعاض: نشاطي يجري في مجال آخر، ولكن صبرًا، ستهاجر ذات يوم لعمل مثمر في الخارج.
تمثَّل له «الخارج» في صورة منارة تشعُّ نورًا من بعيد، وراح يوازن بين مرتبه الجديد وبين مصروفاته التي تعود عليها في كنف والدَيه، ثم تساءل … كيف يواجه الحياة لو غاب والداه؟! ولأول مرة يشعر شعورًا ذاتيًّا كم أنه فقير، وكم أن الغلاء وحشٌ مفترس، وتذكَّر في الوقت نفسه الفارقَ الهائل بينه وبين رئيسه المباشر؛ رغم أنهما متخرِّجان في كلية واحدة. ما هو إلا ذرَّة رمل في صحراء التفاهة، وسيمضي من سيِّئ إلى أسوأ، وما الراحة التي ينعم بها إلا هدية مهداة من والدَيه العاملَين، عليه ألَّا يركنَ إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكِّر في المستقبل بجدية. تلزمه وثبةٌ قوية غير معقولة، طفرة غير متوقعة وغير منطقية، بأيِّ ثمن يجب ألا تضيعَ الحياةُ هباءً. ونحن في زمن الخوارق، ولكنه لا يحب أيضًا المغامرة ولا يحب السجن، ولا يجوز انتظار المعجزة من «الخارج» وحده فقد يطول الانتظار، وخبرتُه لا يحتاج إليها «الخارج» مثل الخبرات الأخرى. الطريق شبه مسدود، ولكن اليأس يعني الموت، وحامَ خيالُه المحموم حول حياة النجوم من الممثلين الذين يمرقون إلى الهدف بسرعة الضوء، وربما من خلال فيلم واحد، لا وقتَ للطريق الطويل ولا قلب للمغامرة المحفوفة بالخطر، وغطَّى عملُه الجديد على أحلامه المؤرقة، فكشف له عن عالم من التجارب الطاحنة، إنه يجلس إلى يسار المحقق باسطًا أوراقَه على المكتب، متطلِّعًا إلى المتهمين الواقفين أمام المكتب، يرى ويسمع ويسجِّل، وتنهمر فوقه عوالم الأسرار، تراخَى التحامُه بأحلامه أمام المهربين والمختلسين والمرتشين واللصوص. إنهم أناس لا يختلفون عن الآخرين في أشكالهم وأصواتهم، لا سمات تقليدية لهم مثل أشرار السينما، ووراء كلِّ واحد منهم حلمٌ يُذكِّره بأحلامه، كلُّهم ينجذبون إلى أضواء الحياة كما تهيم الفراشات حول المصباح، وهم يذكِّرونه بنفسه، ويذكِّرونه بأبيه وأمه أيضًا، وعجب لذلك بقدر ما انزعج له، لِم يُذكِّرونه بوالدَيه؟! ربما لتشابهٍ في الوظيفة، أو الاهتمامات، أو المحركات العارضة. ووجد نفسه يتساءل لأول مرة … هل يتناسب دخْلُ والدَيه مع مصروفاتهما؟ إنهما في الواقع لا يكترثان للغلاء، ولا يخلو أسبوع من وليمة تُقام للأصدقاء، وفي العامين الأخيرَين جدَّدَا أثاث الشقة واقتنيَا عددًا من التُّحَف والسجاجيد والنجف لا يستهان به، حقًّا إنهما لم يشتريَا شيئًا ذا قيمة ثابتة كعقار أو سندات، ولكنهما يُنفقان عن سعة باتَت تُثير في نفسه الخوف والكآبة. شك في والدَيه، وغزاه همٌّ جديدٌ انضاف إلى همومه الشخصية، وتعملقت همومُه عندما أدلى إليه زميلُه «عبد اللطيف محمود» — كاتب يسبقه بأقدمية خمس سنوات — برأيه في طبقات المجرمين. وكان عبد الفتاح قد تلقَّى تدريبه في العمل على يدَيه، ولما آنس إليه همس له برأيه، وهو أن القانون لا يُطبَّق إلا على العاديِّين من الناس، أما الأقوياء فيسبحون فوق القانون، إلا فيما ندر ولا يقاس عليه … لم يُصدِّق ولم يُكذِّب ولكنه مالَ إلى سوء الظن، كما مالَ إلى اتهام والدَيه … وتساءل كيف يُجنبهما المصير الأسود؟! وطرح السؤال يعني فيما يعنيه أن شكَّه فيهما انقلب حقيقةً من حقائق حياته المرة؛ ولذلك دارى رعْبَه بضحكة لا معنى لها، واهتدى إلى خير وسيلة لتحذيرهما، وهي أن يقصَّ عليهما لدى كلِّ مناسبة طرفًا من أخبار المنحرفين الذين يسجل اعترافاتهم يومًا بعد يوم، ويشهد عن كثَبٍ دموعُ البعض وهي تنعَى آمالهم الخائبة. تصوَّر ببدن مقشعر والدَيه وهما يزحمان مع الآخرين طرقاتِ المجمع القضائي مثل حبات البن المتدافعة في وعاء الطاحونة، وجعل يرقب الاثنين بإمعان ويتفحَّص ضيوفهما من الرجال والنساء … جميعهم أناسٌ أذكياء وبلا مبادئ، المال معبودهم والنجاح دينهم، والمغامرون هداتهم، يشوهون الأسماء الرنانة دفاعًا عن أنفسهم وتبريرًا لسلوكهم الخفي، ويقول لنفسه: برح الخفاء!
وازداد صدرُه انقباضًا، ترى كيف يتحمل المصيبة إذا وقعت؟! إنها خليقة بتدمير أيِّ شخص حتى ولو لم يكن من التافهين، وتنهَّد وهمس لنفسه: «إلا شخصًا واحدًا»، ورجع يحوم حول النجم ونجاحه وكيف يتألق ويواصل التألق، ولو تسربل بالفضائح! شدَّ ما تُداعبه هذه الفكرة، وتحفر سراديبها في وجدانه برشاقة وإغراء، غير أنه نحَّاها إلى حينٍ ليُجريَ مع ذاته تحقيقًا فريدًا … هل يُقدم على الانحراف إن وعدَه بتحقيق الآمال؟! وراح يتفحص أعماقه بصدق وصراحة، وتبيَّن له أنه لا يملك مناعة ضد الانحراف في ذاته، ولكنه جبان يُؤثِر السلامة! على ذلك ترك الموضوع دون حسم. وإذا بمكتب التحقيقات يسوق إليه تجارب جديدة ومثيرة، فيكشف له التاريخ عن وجهه ويُريه من آياته ما جهل، حقًّا عرف الكثير من خلال قضية اتُّهم فيها بعضُ رجال العهد الماضي بالتآمر على قلب نظام الحكم. رأى وسَمِع وسجل ورجع إلى شارع مريوط بمعلومات جديدة عن ماضي بلده القريب، واستسلم لأحلام اليقظة، فتخيل نفسه بطلًا من أبطال العهد البائد، فخاض المعارك المنقضية، وأحرز انتصارات لم يَعُد أحدٌ يذكرها بالخير، وتساءل وهو منفرد بنفسه في حجرته: لماذا أتعاطف دائمًا من المتهمين؟!
وزوَّدَتْه أحلام اليقظة بوقود جديد بظهور متهمين معاصرين على المسرح، من ذوي العقائد الدينية، وذوي العقائد المادية … أذهلَتْه جرأتُهم، واستهانَتهم بالعواقب، وتحدِّيهم التحقيق والمحقق. لأول مرة يتلقَّى تلك المبادئ كتجارب حية ممثلة في أحياء، كحجج تفوح برائحة اللحم والدم، كتضحيات تستهين بكل غال، فيمَ يختلف عن هؤلاء الشبان؟! كيف افترقت الهويات والمصائر؟! وركب الخيال؛ فجرَّد سيفه حينًا، وقبض على المطرقة حينًا آخر، وهامَ في وديان المجد المخمور … هامَ طويلًا حتى أدركَه الإرهاقُ والملل، وعاد يتساءل: كيف أستخلص نفسي من مستنقع التفاهة؟!
الهجرة؟ النجومية؟ الانحراف؟ الماضي؟ الله؟ الثورة؟ … المهم أن ينجوَ من الواقع الكئيب، واتفق في ذلك الوقت أن أهداه الأب إبراهيم حجرةً جديدة عصرية بطاقمها المكوَّن من الفراش والدولاب والشيفونيرة والتواليت وسجادة فرنسية. قال له: تغيير الجو يجب أن يساير تغيير الشخصية.
فغمغم: أيُّ شخصية؟!
وفكَّر في ثمن الحجرة، فاستعاد شكوكَه بمرارة جديدة، وقرأ الأب صفحةَ وجهِه فاستشفَّ معانيَ أخرى، فقال: الهجرة آتية فاصبر قليلًا.
الصبر جميل لكنه مرٌّ، ولم ينقطع عن التفكير في البدائل المتاحة، وسَمِع زميله «عبد اللطيف محمود» ينصح ضيفًا بالانضمام إلى حزب الأغلبية، ولم يكن يُفرق بين جدِّه ومزاحِه، ولكنه أنصت إليه وهو يقول للرجل: الانضمام يضمن لك التمتع بحقوق الإنسان!
فكَّر أنه بوسعه أن ينضمَّ ولو إلى لجنة الحي، ولكنه حزب ضخم يحوي الملايين وهيهات أن ينتشلَه من ضياعه، أو يُخرجَه من شرنقة التفاهة، فرقٌ كبير بين أن تركب سيارة ولو صغيرة، وبين أن تنحشر في أتوبيس … في الوقت ذاته فإنه من الجنون أن يسعى إلى أهل الدين أو أهل المادة فيُعرِّض نفسه للهلاك! كلًّا … إنه لم يُخلق لذلك، ولم يبقَ أمامه إلا الهجرة أو الفن! وانبعثت في نفسه وثبةٌ متحدية ذات مساء وهو يحتسي قليلًا من النبيذ في تافرنا … رقصت النشوة في رأسه فانساب طموحُه الحائر، فقرر أن ينفلت من قبضة الأحلام وأن يفعل شيئًا، سعى إلى مقابلة بعض المخرجين وعرض عليهم نفسه كقانوني يهوَى التمثيل، مستمدًّا من شكله وحجمه ثقةً وأملًا. قال له المخرج: لا يمكن تشغيلك إلا إذا كنت متخرجًا في المعهد.
فقال بثبات: يمكن كوجهٍ جديد مرشَّح للبطولة!
ودُعي إلى الاختبار، ولولا اليأس ما تغلَّب على ارتباكه … وكان يترك عنوانه ويذهب، وينتظر ثملًا بأحلام اليقظة بعد أن حلَّ البلاتوه محلَّ الجهاد والفردوس الأرضي، ولكنه لم يردَّه خطاب … وطال انتظارُه حتى شطب فِرَق الفن في سجلِّ آماله المتهاوية أسوةً بالنشاط السياسي كله، فلم يبقَ إلا «الخارج» كأمل أخير، وسأل أباه ذات مساء: لا أخبار عن الهجرة؟
فأجابه بوجوم: انتظر الوقت المناسب!
التقط إحساسُه المشحوذ بسوء الظن نبرةً جديدة في صوت أبيه، نبرة تُوحي بالهزيمة، انظر جيدًا، ليس الرجل كعادته، ولا أمه … إنهما يعانيان قهرًا مجهولًا تبدَّى في نظرة العين، وشهيَّة الطعام، والحديث. وقال لنفسه: «هل يتلاشى الأمل الأخير؟ سيقع شيء غير سار.» وصدَق حدْسُه، فأعلن أبوه أنه طلب إحالته على المعاش لسوء حالته الصحية، ولحقَت به أمُّه في نفس الأسبوع معتلةً بنفس العلة! ذهل عبد الفتاح، وهمس له سوءُ ظنِّه بالحقيقة الخفية، لا شك أنهما اضطرَّا إلى ذلك اضطرارًا وتفاديًا من عاقبة أسوأ … الصحة بريئة تمامًا، كانَا من أحسن الناس عافيةً ومرحًا، وجاراهما فتظاهر بالقلق على صحتهما، واستمع إلى حديث طويل عن الضغط والطبيب، وقال بحرارة مصطنعة: الصحة أهم من العمل والمال.
وتوقَّفت حياة الترف المعهودة، انطفأت الشعلة، وبدَوا كئيبين واجمين، وانتهت ليالي الولائم، وخيَّم على البيت جوٌّ غريب من الإثم والعقوبة، واختفى أصحاب المنفعة والانتهازية، فخلا المسكن إلا من المنبوذين … وأمسى للنقود قيمة جديدة، فلم تَعُد تُنفَق إلا بحساب، وتردَّد ذكر الغلاء مصحوبًا بلعنِ الانفتاح وذمِّ المتاجرين بأرزاق الشعب! ولم يُخدَع عبد الفتاح بهذا الصوت الوطني الطارئ وعرَف سرَّه … إنه يكتسب كلَّ يوم خبرة في مكتب التحقيقات أثْرَت رؤيتَه وأفعمَتْه بسوء الظن، لن يخدعَه نقدُ المنحرفين إذا حيل بينهم وبين الانحراف … وامتنعت المعونات التي كان يحظى بها من والدَيه، وتضاعف قلقه عندما سمع أباه، وهو يقول: لا مفر من بيع بعض التحف لمواجهة الغلاء!
فمضت الدائرة تضيق حول عنقِه ويدَيه، وتخلَّقت في حياته أزمة جديدة؛ هي الأزمة الجنسية التي لم يشعر بوطأتها من قبل، وقال لوالده: إني أعجب للذين لم ينحرفوا في هذه الظروف الطاحنة.
فقال أبوه بيقين ساخر: هم الذين لا حاجة بهم إلى الانحراف.
فوافقه الشابُّ، قائلًا: صدقت، فلكي يعيش فردٌ بلا نقود كافية يجب أن يكون صاحب معجزة.
فقال إبراهيم الدارجي ساخرًا: وقد انتهى عصر المعجزات.
فتنهَّد الشابُّ قائلًا: الهجرة إلى الخارج هي الأمل الأخير.
فقال الرجل بلا حماس: انتظر واصبر ولا تيأس!
ولكن إلى متى؟ وإن وَسِعه أن يصبر مع التفاهة … فكيف يُروِّض وحش الجنس؟ حقًّا كانت أمُّ حبيبته الغادرة بعيدةَ النظر، ولو أن الفتاة انتظرَته لخيَّب أملَها وفضح نفسه، وسأل زميله عبد اللطيف محمود: ألم تفكِّر في الزواج؟
فأجاب ساخرًا: أفكِّر فيه عدد شعر رأسي.
– وهل استعددت له؟
فأجاب بعظمة: سأكون مستعدًّا عام ٢٠٠٠.
فابتسم، فسأله عبد اللطيف: وأنت؟
فأجاب باقتضاب: حالي حالك.
فقال ضاحكًا: احلمْ بأن امرأة غنية وقعَت في هواك …
ولكن الأحلام أرهقَته حتى الملل، وإنه على أتمِّ الاستعداد للتخلِّي عن طموحه كلِّه على شرط أن يتزوج ويُنجب قانعًا كلَّ القناعة بتفاهته، وقال لنفسه: «رضينا بالحد الأدنى ولكنه لا يرضى بنا.» وهبط عليه إلهامٌ غريب في تافرنا وهو يحتسي النبيذ، أن يُعلن حربًا على الدولة! أن يكتب منشورات سرية، دينية تارة ومادية تارة أخرى، ويُرسلها إلى شتى الجهات ذات الخطورة، فينشر بذلك القلق والرعب، ويستمتع بالنصر والعبث … ما عليه إلا أن ينقل الآلة الكاتبة الخاصة بوالدته إلى حجرته بحجة أنه سيكتب عليها المتأخر من أعماله الحكومية، استجاب للإلهام وعزم على تنفيذه، وبذلك يُنقذ نفسه من عذاب الانتظار والملل والتفاهة! وراح ينفِّذ مشروعه بحماس وسرور وشيطنة، ويودع المنشورات في مظاريف ويُرسلها لشخصيات رسمية وغير رسمية، ورغم أنه استلهم مضامينها من منشورات اطلع عليها خلال التحقيقات، إلا أنه زاد نقدها حدة وتهديداتها عنفًا، ولم يركز على صندوق بريد أكثر مما يجب، فنوَّع الشوارع والأحياء، وانهمك في العمل بقوة كأنما هو هدف حياته، وانتظر أن يتلقَّى أصداء عمله الخفي طويلًا حتى أوشك أن ييأس، وإذا بعبد اللطيف محمود يهمس في أُذنِه ذات صباح: يتحدثون عن نشاط دبَّ في القوى الهدَّامة!
فخفق قلب عبد الفتاح واندفع متسائلًا: المنشورات؟!
وأدرك للتوِّ تسرُّعَه ففزع، وسأله الآخر: متى عرفت؟
فأنقذ نفسه قائلًا: في المقهى يتحدثون.
ووصَّى نفسَه بالحرص والحذر، فقال عبد اللطيف: أجهزة الأمن في غاية من النشاط.
فتراوح بين السرور والخوف، وتساءل: كيف؟
– المراقبة والتفتيش!
غضَّ بصره إخفاءً لانفعالاته، لم يكن هذا مقصدَه … تصوَّر ما يتعرض له الأبرياء بسبب عبثِه، فغاص قلبُه في صدره، وأمضى اليوم قلقًا منزعجًا كئيبًا … لم يجلس إلى الآلة الكاتبة مرةً أخرى، وتساءل هل يجيئون بهم ليسجل أقوالهم؟ وفي اليوم التالي دسَّ إليه زميله عبد اللطيف ورقة، قائلًا: إليك منشورًا.
تلقَّى المنشور بقلب خافق، ولكنَّ قلبَه توقَّف عن الخفقان عندما تبيَّن له أنه منشور آخر حقيقي لا علاقة له بعبثه! الجد والعبث يسيران جنبًا إلى جنب، ولكن ذلك لن يُبرِّئَه من الذنب، فلا شك أن منشوراته تعتبر أيضًا مسئولة عما يجرى من تفتيش وتحقيق، ودار رأسُه، فشعر بأن إصبعًا ستشير إليه بالاتهام. وفي صباح اليوم التالي لم يجد عبد اللطيف محمود على مكتبه، وسرعان ما علم بأنه أُلقيَ القبض عليه فيمن أُلقيَ القبض عليهم … قال له رئيس المكتب: كان منهم ونحن لا ندري!
أغمض عبد الفتاح عينَيه مغالبًا انفعالاته التي تموج بإعصار همجي، ولم يترك طويلًا للتأمل إذ دُعي لمكالمة تليفونية لأول مرة مذ التحق بالعمل، وجد أن المتكلم هو والده … قال له: فُرِجت، استعدَّ للسفر، والتفاصيل وقت الغداء!
فُرجت حقًّا! الثروة في الطريق ولن تستعصيَ مشكلةٌ عن حلٍّ طيب. وقال لنفسه ساخرًا! إنها نهاية سعيدة جديرة بمنحرف من صلب منحرفين! واستحضر صورة الكون ممثلة في السماء والأرض، قال: خبرني عن الهدف من فضلك وإحسانك!